الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد! إخوتي الكرام: كنا نتدارس الأمور التي يتحصن بها أهل الإيمان من الجان، وتقدم معنا أن هذه الأمور منها ما ينبغي أن نحذره وأن نبتعد عنه وأن نحصن أنفسنا منه، ومنها ما ينبغي أن نفعله وأن نقوم به.
والأمر الأول يدور على سبعة أمور كما تقدم معنا، والأمر الثاني على ثمانية أمور، وعليه مجموع الأمور كما تقدم معنا خمسة عشر أمراً، وقلت جاء حصرها في هذا العدد اتفاقاً بتقدير الله دون قصد، ووافق هذان العددان كما تقدم معنا عدد أبواب النار وأبواب الجنة.
أما الأمور التي ينبغي أن نصون أنفسنا منها وأن نحترس وأن لا نجعل للشيطان منفذاً منها؛ قلت أولها: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، ومن ضبطها فهو صديق كما تقدم معنا، والخامس: حفظ السمع الذي هو آلة الأصوات، والسادس: حفظ البطن، وهذه الأمور الستة مر الكلام عليها ووصلنا إلى السابع ألا وهو: حفظ الفرج.
وأما الثمانية التي ينبغي أن نتحلى بها؛ قلت: الاستعانة بالرحمن، والاستعاذة من الشيطان، وقراءة القرآن، وذكر الرحمن، وكثرة الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام، والمحافظة على الجماعة، وأن يحافظ على الطاعة، وأن يكتب العلم ويحرص عليه فهو أربح بضاعة، وأن يكثر من الصوم فهو حصن حصين لنا من كل آفة.
إخوتي الكرام! كما قلت وصلنا إلى الأمر السابع من الأمور التي ينبغي أن نحصن أنفسنا نحوها، وأن لا يدخل الشيطان منها، وهو حفظ الفرج.
ويراد بالحفظ إخوتي الكرام الحفظ مطلقاً، لا يجوز أن نظهر هذا العضو ولا أن نستعمله إلا فيما أذن فيه ربنا سبحانه وتعالى، وورد فيه نص يدل على الإباحة، فالأصل فيه الحظر والمنع، وتقدم معنا في المواعظ السابقة أن الله عندما قرن بين البصر والفرج فرق بينهما، فقال ربنا العزيز الغفور في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، قلت: أدخل (من) في حفظ البصر؛ لأن الأصل فيه الإباحة، وحذفت من الفرج: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]؛ لأن الأصل فيه الحظر الا ما استثني وقام عليه دليل الإباحة، ولذلك ينبغي أن نستره ولا يجوز أن نكشفه عمن لا يحل له أن ينظر إليه، وهكذا لا يجوز أن نستعمله إلا فيما قام الدليل على جواز استعمال الفرج فيه، وعليه ينبغي أن نصون فروجنا عن الزنا، وعن اللواط، وينبغي أيضاً أن يصون النساء فروجهن عن السحاق، وينبغي أن نصون فروجنا كذلك عن الوطء الذي حرمه علينا ربنا وإن كان في الأصل حلالاً لنا كإتيان الزوجة أو السرية في حالة الحيض أو في حالة النفاس، وهكذا ينبغي أن نحذر الوطء في الأدبار مع زوجة أو سرية، وهكذا ينبغي أن نصون فروجنا من الاستعمال المحرم مع البهائم سواء كان الإنسان ذكراً أو أنثى، فلا تمكن الأنثى بهيمة من نفسها كما انتشر في هذا العصر الهابط، ولا يفعل الذكر ببهيمة، وهكذا الاستمناء محرم على الذكور وعلى الإناث.
هذه الأمور إخوتي الكرام ينبغي أن نصون الفروج عنها، ولا أريد أن أستعرضها على التفصيل، كان في نيتي أن أذكر أمرين اثنين منها ثم ننتقل إلى الأمور الثمانية، لكن بعد هذين الأمرين بدا لي أن أضيف أمراً آخر أبين سببه -إن شاء الله- عندما نصل إليه بعد التحذير من أمرين هما أشنع ما يقع الإنسان فيه عند التفريط في الفرج، وهما الزنا واللواط، نسأل الله العافية.
نعم، روي الحديث أيضاً من رواية سيدنا طلحة رضي الله عنه وأرضاه، كما في المجمع في الجزء الرابع صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وعزى الرواية إلى مسند أبي يعلى، لكن إسناد الحديث فيه انقطاع، قال الإمام الهيثمي : منقطع وفيه من لم أعرفه، ولفظ رواية أبي طلحة : ( يا شباب قريش: لا تزنوا، من سلم شبابه فله الجنة )، الحديث مع ضعفه بانقطاع وجهالة في رواة إسناده، فإن الرواية المتقدمة تغني عنه وتشهد له، وهي صحيحة ثابتة، وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه يخاف خوفاً شديدا على هذه الأمة المباركة من التفريط في فروجهم والوقوع في جريمة الزنا، نسأل الله العافية.
ولفظ الحديث من رواية الصحابي الجليل عبد الله بن زيد المازني ، يكنى أبا محمد ويعرف بـابن أم عمارة ، وهو الذي شارك وحشياً رضي الله عنهم أجمعين في قتل اللعين مسيلمة الكذاب، رماه وحشي بحربة له فصرعه، ثم تقدم عبد الله بن زيد المازني فحز رقبته وضربه، ومسيلمة هو الذي قتل أخا عبد الله بن زيد المازني -وهو حبيب بن زيد المازني - عندما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة وقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمعك، فأعاد مسيلمة عليه ثلاثاً: أتشهد أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وفي كل مرة يقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فبعد الثالثة قطعه عضواً عضواً، فعجل الله له العقوبة في هذه الحياة مع ما يدخر له بعد الممات، فقتله ربنا جل وعلا على يد أخي حبيب وهو راوي الحديث عبد الله بن زيد المازني ، والحديث كما قلت إسناده صحيح، ولفظه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( يا نعايا العرب ) (يا نعايا). ضبطت في كتاب الترغيب والترهيب بدل النون الموحدة من فوق باء من تحت لتصبح أشنع توصيف: ( يا بغايا العرب )، ( يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية )، ولفظ النعايا شرحه أئمتنا في كتب اللغة والغريب كما في الفائق لـالزمخشري في الجزء الرابع صفحة أربعة، واللسان لـابن منظور في الجزء العشرين صفحة سبع ومائتين، وفي النهاية للإمام ابن الأثير في غريب الحديث في الجزء الخامس صفحة خمس وثمانين، وفي غريب الحديث للإمام ابن الجوزي في الجزء الثاني صفحة واحدة وعشرين وأربعمائة، والخلاصة أن (نعايا) تحتمل ثلاثة أمور: إما أن تكون جمع نعي مصدر نعى الميت نعيا، أي: يا من ينعون ويصيحون، نادوا على العرب بهذا إذا وقعوا في الزنا، فهذه أعظم مصيبة يقعون فيها، ( يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية )، وإما أن تكون اسم جمع كأخايا جمع آخي، ونعايا جمع ناعي.
والثالث: إما أن تكون النعايا جمع نعاء، اسم فعل على صيغة فعال المؤنثة، والتقدير: (يا نعايا العرب)، جئن فهذا وقتكن، اصرخن على العرب، على الإسلام، نادين عليهم بهذا الأمر، ( إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية ).
الزنا بالزاي والنون، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: وضبط بالراء والياء: ( إن أخوف ما أخاف عليكما الريا والشهوة الخفية )، لكن الإمام الهيثمي يرى أن الضبط الوحيد لهذا الحديث الزنا، ولذلك أورده في المجمع في باب ذم الزنا.
والشهوة الخفية: هي كل شيء من المعاصي يضمره الإنسان ويصر عليه، فإذا رأى مثلاً جارية حسناء مرت غض طرفه ثم بدأ يحدث نفسه بها ففُتن، فكم من إنسان -نسأل الله العافية-، يمر به ما حرم عليه ربنا الرحمن فيغض طرفه عنه لكن يفكر فيه بقلبه بشهوة خفية، وهذا لا يجوز، بل كما ينبغي أن تصون الجوارح الظاهرة ينبغي أيضاً أن تصون القلب من باب أولى؛ لأن الشهوة الخفية التي تعشعش في هذا القلب الخفي الداخلي أمر لا يصلح.
ثم بعد أن ذكر الإمام الذهبي لـعبد الواحد بن زيد -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- ذكر بعض الملاحظات مع أنه نفى عنه تهمة الاعتزال التي كانت تعج بها البصرة، قال: لكن كان يتوقف في نسبة الإضلال إلى الله، فيقول: لا يجوز أن نقول: إن الله يضل أحداً، لكن يثبت الكسب على خلاف قول المعتزلة قال: وهذه بدعة لا شك؛ لأن الله جل وعلا يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال ربنا جل وعلا في سورة النحل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:93]، سبحانه وتعالى هو الهادي، لا إله غيره ولا رب سواه، وأئمتنا عندما بحثوا في أنواع الهدايات كما تقدم معنا في محاضرات التفسير، وذكرنا في آخر محاضرة أنواع الهدايات، وهي نوعان في الأصل، ولكل نوع قسمان:
الأولى: هداية عامة كما تقدم معنا، وهي هداية كل مخلوق لما ركب فيه من استعدادات كما في قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، سواء كان من الإنس أو الجن أو الحيوان كالنمل والنحل وغير ذلك فتتصرف حسبما ألهمها الله جل وعلا، وحسبما جعلها مستعدة له، وحسبما هداها ربنا الآمر.
والثانية: هداية إيضاح للحق بإذن الله جل وعلا، فأنزل الكتب وأرسل الرسل ليقيم على الناس الحجة والبينة، وليهديهم إلى صراط مستقيم.
قلت: هذان النوعان يدخلان تحت قسم واحد ألا وهو هداية الإرشاد والبيان، والقسم الثاني هداية التوفيق والامتنان، وهي الأرفع شأناً، كما أنها نوعان:
النوع الأول: أن يلهم الله من رضي عنهم وأنعم عليهم بفعل الطاعات وترك المنكرات، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
والنوع الثاني: وهي الهداية التي هي أكمل من الأولى حين يهديهم في عرصات الموقف إلى دخول الجنة: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6]، إذاً هو الذي يهدي سبحانه وتعالى، هدى من شاء من عباد كرماً وفضلا، وخذل من شاء علماً وعدلا، فـعبد الواحد بن زيد يقول: عن هذه أنها بدعة، وقد ذكر الإمام الذهبي هذا فقال: وبالجملة فـعبد الواحد بن زيد من كبار العباد والكمال عزيز، أي: له شأن لكن لا يسلم بشر من خطأ وتقصير.
إخوتي من الذي يسلم من الملاحظات؟ ولو أحصى إنسان علينا ما نفعله كل يوم في حياتنا لملأ دفتراً كبيرا من التخبطات التي تجري منا في كل يوم.
قال في التقريب الحارث المحاسبي مات سنة ثلاث وأربعين بعد المائتين، وميز بينه وبين الراوي الذي قبله، واسمه الحارث بن أسد ، فهو الزاهد المشهور صاحب التصانيف وهو مقبول، والمقبول كما قلت روايته تقبل عند المتابعة على اصطلاح الحافظ ابن حجر ، لكن ديانته لا ينال فيها، وأنا أعجب ممن يدعي بعد ذلك في هذا الوقت أنه محدث ديار كذا، هذا محدث الديار اليمنية، وهذا محدث الديار الشامية، وخذ ما شئت من المصطلحات، ولا يعلم ماذا يوجد في التقريب، يعني محدث الديار اليمنية لا يعرف ماذا يوجد في تقريب التهذيب، رحمة الله على الإمام الذهبي عندما يقول عن علم الحديث: ليبكه من كان باكياً، ما في التقريب لا تعلمه، وأنت تقول جرح وتعديل ألا تتقي الله، أليس هذا كتاب الجرح والتعديل؟!
حقيقة أنا سمعت الكلام وقلت: سبحانك ربي صار الإنسان إذا نقل كلاماً عن الحارث المحاسبي أو عبد الله بن زيد يعمل عليه محاضرة، لذلك فصلت ما يتعلق بشيء من حالهم، حتى ما يأتي أحد ويقول: كيف تستدل بكلام عبد الواحد بن زيد وهذا أول من بنى داراً للصوفية، أي هذا الآن أشد من الحارث المحاسبي .
إخوتي الكرام عبد الواحد بن زيد من رجال الإسناد، ويأتي معنا كما قلت في المستدرك، وروى له كما قلت الإمام أحمد .
قال الإمام المنذري عليه رحمة الله: عامر بن عبد الله لا يعرف، نعم، حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه مجهول، ورمز له (ق) أي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج له.
أما رواد إخوتي الكرام! فهو رواد بن الجراح العسقلاني ، تكلم عليه الإمام المنذري في آخر كتابه الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة سبعين وخمس مائة فقال: قال عنه الدارقطني : متروك، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الناس، وقال النسائي : ليس بقوي، وقال الإمام أحمد : لا بأس به صاحب سنة إلا أنه حدث عن سفيان -يعني سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله- بمناكير، ثم نقل عن ابن معين أيضاً أنه قال: إنه ثقة مأمون، وقال أيضاً: إنه لا يغلط، وإنما غلط في حديثه عن سفيان ، وقال أبو حاتم: محله الصدق وتغير حفظه، هذا ما ذكره الإمام المنذري في آخر الترغيب والترهيب، وأما الحافظ فقد ترجمه في التقريب فقال: صدوق اختلط بآخر فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد، ثم رمز له (ق) أي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج له.
وانظروا -إخوتي الكرام- أيضاً الكلام على حديث سنن ابن ماجه في مصباح الزجاجة في الجزء الثالث صفحة سبع وتسعين ومائتين، والعلم عند الله جل وعلا.
ثبت في مسند الإمام احمد ومسند البزار والحديث رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة، كما في المجمع في الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين ومائة، ورواه أيضاً في المجمع في الجزء السابع صفحة ستٍ وثلاثمائة، وقال رجاله رجال الصحيح، والحديث من رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى )، ( إنما أخشى عليكم )، الشهوات في البطون وفي الفروج، ومضلات الهوى في العقول وفي القلوب، وهذان المرضان يجمعان سائر الآفات والآثام، شبهات وشهوات، مضلات الهوى شبهات، شهوات البطون والفروج شهوات، وكيف لا يخشى علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من شهوة الفرج والوقوع في الزنا، وإذا وقع الإنسان فيها نزع منه الإيمان -نسأل الله العافية والسلامة من سخطه وغضبه- كما ثبت الحديث بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه من قوله: ينزع منه نور الإيمان في الزنا، وقد علقه الإمام البخاري عن سيدنا عبد الله بن عباس ، ووصله الإمام ابن أبي شيبة في كتابه الإيمان بلفظ: كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يدعو غلمانه غلاماً غلاماً، أولاده وأرقاءه، فيقول لكل واحد منهم عندما يدعوه فرداً فردا: ألا أزيدك؟ فما من عبد يزني إلا نزع منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده الله إليه رده.
إخوتي الكرام هذا الأثر الموقوف على سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال عنه الحافظ في الفتح: له شاهد من حديث أبي هريرة، وحديث أبي هريرة رواه الإمام أبو داود في السنن، والحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الترمذي في سننه معلقاً عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه ).
وانظروا كلام الحافظ -إخوتي الكرام- في الفتح في الجزء الثاني عشر صفحة تسع وخمسين، والحديث كذلك صححه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة ثلاث وسبعين ومائتين.
قال الإمام الترمذي في السنن بعد أن روى هذا الحديث: قال الإمام الباقر -ونعم ما قال رضي الله عنه وعن آل البيت الطيبين الطاهرين أجمعين- في هذا الحديث: ( خرج منه الإيمان ): خرج من الإيمان إلى الإسلام، لئلا يفتح باباً للخوارج والمعتزلة ولأهل الضلال والبدع، يعني تمام الدين خرج منه، وبقي معه أصل الدين وهو الإسلام دين رب العالمين سبحانه وتعالى.
إذاً تقدم معنا ثلاث روايات بمعنى أن من زنى نزع منه الإيمان.
فكان عليه كالظلة: الأولى والثانية من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والثالثة أيضاً من رواية أبي هريرة ، فله في هذا المعنى روايتان.
روي الحديث أيضا من رواية عبد الله بن أبي أوفى في مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبراني الكبير، ومصنف عبد الرزاق ، ومسند عبد بن حميد، والحديث رواه أبو داود الطيالسي والحكيم الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان، فصارت معنا رواية ثالثة على أن رواية أبي هريرة الثالثة التي ذكرناها تدخل في الأولى، باعتباره حديث صحابي واحد بروايات مختلفة.
الرواية الرابعة: عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، روى الحديث عنها الخطيب في تاريخ بغداد، والطبراني في معجمه الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والحكيم الترمذي ، وهذه الثلاثة الروايات رواية ابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى ورواية أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، أشار إليها الإمام الترمذي عقيب رواية أبي هريرة الأولى، كما قلنا في الكتب الستة، قال: وفي الباب عن ابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وبهذا إذا وصلنا إلى حديث عائشة يعتبر انتهينا من تخريج هذه الروايات، إذاً صار معنا أربع روايات.
والخامسة: من رواية أبي سعيد الخدري في مسند البزار ، والأحاديث الجياد المختارة للإمام الضياء المقدسي .
السادسة: من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين في مسند البزار، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد، والطبراني في معجمه الكبير.
والرواية السابعة: من رواية سيدنا عبد الله بن مغفل رضي الله عنهم أجمعين في معجم الطبراني الكبير.
والرواية الثامنة: من رواية سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في معجم الطبراني الأوسط وتاريخ بغداد.
والرواية التاسعة: معضلة من رواية الفضيل بن عياض، في حلية الأولياء في الجزء الثاني صفحة مائة وسبعة عشرة، وفي هذا الرواية زيادة: ( ثم التوبة معروضة بعد ) أي، ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ثم التوبة معروضة بعد )، أي: إذا تاب عاد إليه الإيمان.
والرواية العاشرة: وهي آخرها مرسلة من رواية محمد بن شهاب الزهري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في الحلية أيضاً في الجزء الثالث صفحة تسع وستين وثلاثمائة.
إخوتي الكرام! عندنا أثران في هذه الروايات منقولان مع هذه الرواية فانتبهوا لها:
الأثر الأول عن سيدنا علي رضي الله عنه في تاريخ بغداد في الجزء الخامس صفحة ثمان وثمانين ومائة، وتقدم معنا أنه من رواة حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين فهو كافر إذاً؟ فقال: لا، ولم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحدثكم بالرخص، أي: ليس بكافر وهذا الحديث له تأويل وله معنى لكن ما أمرنا أن نحدثكم بالرخص؛ لأن مقصود الحديث أن يخاف القلب كي يبتعد الإنسان عن معصية الرب، أما أن نقول معنى الحديث كذا يخف الوعيد على القلب ما أمرنا أن نحدثكم بالرفض بالخرص، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن إذا قال: هو لي حلال )، هذا أحد التأويلات الخمس وستأتينا، ومعنى: ( إذا قال هو لي حلال )، أي: إذا استحل معصية ذي العزة والجلال فقد كفر.
ومن بمعلوم ضرورة جحد من ديننا يقتل كفراً ليس حد
ومثل هذا من نفى لمجمع أو استباح كالزنا فلتسمع
فمن استباح محظوراً محرما كفر، كما أن من أنكر مفروضا فقد كفر.
وفي الحلية عند رواية محمد بن شهاب الزهري في الجزء الثالث صفحة تسع وستين وثلاثمائة، قال الأوزاعي فسألت الزهري عن هذا الحديث الذي رواه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فقلت: ما هذا؟ فقال الزهري: (من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام كما جاءت)، وهذا مسلك لجمع غفير من أئمتنا، كانوا يكرهون تأويل أخبار الوعد والوعيد، أخبار الوعد يتركها لتفعل في النفوس أثرها حتى يطير الإنسان شوقاً إلى ربه وتعلقاً به وفرحاً بعظيم رحمته، وأخبار الوعيد النعيم يتركها لتخلع القلوب ولتحول بين الناس وبين معصية علام الغيوب.
إخوتي الكرام: أخبار الوعيد التي تصرح بنفي الإيمان أو بالوقوع في الكفران عند حصول المعصية للرحمن، قال أئمتنا في تأويلها أنها محمولة على عدة أمور.
أولها: ما ثبت عن سيدنا علي رضي الله عنه أنها في المستحل.
الأمر الثاني: إذا لم يستحل بقي كفر دون كفر، أي: كفر النعمة لا كفر المنعم؛ لأنه ما أدى النعم حقها، فهو موحد لله وما جحد الله ولا واستهان بحقه واستخف بشرعه سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: أن هذا يؤدي به إلى الكفر في النهاية، فالمعاصي بريد الكفر وبريد الشرك كما قال أئمتنا، فهو قد يعصي في هذا الوقت وقلبه وجل، ثم بعد فترة يعصي الله عز وجل ولا يبالي، فيصل إلى الاستسلام، ولذلك من البداية نقول له: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )؛ لأن كثيراً من الناس هذا حاله، يعني في أول الأمر يعصي الله وهو خائف، ثم يعصي وهو مستخف؛ لأن المرأة -مثلاً- عندما تسفر في أول الأمر لا تقدر أن تمشي في الشارع من حيائها من ربها ومن الناس، ثم بعد ذلك إذا كلمتها بالتزام وقلت لها: يا أمة الله استحي ولا تسفري، لا تخرجي إلى الشارع تقول: إن الإسلام عندما أمر المرأة بالحجاب ظلمها، فانظر لحالها في أول الأمر ولحالها في آخر الأمر:
الأمر الرابع: أنه شابه الكفار في تلك الخصلة لا في جميع الخصال فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية )، أي: في هذه الخصلة، أما أنك جاهلي فلا, ثم لا.
الأمر الخامس: أنه من التغليظ والزجر بما يقمع القلب، ولا يراد منه الحقيقة، لأن أشنع ما يخاف منه الإنسان أن تنفي عنه الإيمان، وأن تخبر بوقوعه في الكفران.
إخوتي الكرام! في المبحث الماضي كنت ذكرت كلام الإمام ابن حبان وما قدَّر الله أن أذكره، وتقدم معنا: من دخل على أمراء الجور في آخر الزمان فليس من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس النبي منه ولن يرد عليه الحوض، وكل لحم نبت من سحت لا يأذن الله له بدخول الجنة كما تقدم معنا.
يقول الإمام ابن حبان ؛ لأن ذاك المعنى يشبه هذا المعنى، كما في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة ومائة، ليس مني ولست منه، تقول: أي ليس مثلي ولست مثله في ذلك الفعل والعمل، أي: خرج عن هديي في ذلك العمل، قال: وهذه لفظة مستعملة لأهل الفتن، يقول: أنت لست مني وأنا لست منك في هذا الجانب المعين لا مطلقاً، وأنك لست من أتباعي، قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يدخل الجنة )، ( أبى الله أن يدخل الجنة لحماً نبت من سحت النار أولى به )، كما تقدم معنا، قوله: لا يدخل الجنة، يعني -من نبت لحمه من حرام- يريد به جنة دون جنة؛ لأنها جنان كثيرة، هذا تأويل الإمام ابن حبان عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
روى الإمام أحمد في المسند وهو في الجزء السادس من مسنده صفحة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، والحديث رواه الإمام أبو يعلى والطبراني في معجمه الكبير، وقال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء السادس صفحة سبع وخمسين ومائتين، وفي إسناد الحديث عبد الرحمن بن أبي لبيبة ، وأبو لبيبة اسمه عطاء، فهو عبد الرحمن بن عطاء ، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وحديثه لا ينزل -إن شاء الله- عن درجة الحسن، قال عنه الحافظ في التقريب صدوق فيه لين ( د- ت) إلا أنه من رجال سنن أبي داود ، وسنن الإمام الترمذي .
وقد صرح الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة سبع وسبعين ومائتين بتحسين إسناده فقال: إسناده حسن، نعم في الإسناد محمد بن إسحاق بن يسار تقدم معنا ذكره في الموعظة الماضية مع المواعظ المتقدمة، وقلنا روى له البخاري تعليقاً ومسلم وأهل السنن الأربعة، نعم روايته في صحيح مسلم مقرونة.
وفي الإسناد محمد بن إسحاق وهو مدلس، لكنه صرح بالسماع كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، قال: فالحديث صحيح أو حسن، ولا ينزل عن درجة الحسن، وبذلك حكم عليه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب.
ولفظ الحديث من رواية أمنا المباركة سيدتنا ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، والحافظ في الفتح حسن الحديث في الجزء العاشر صفحة ثلاث وتسعين ومائة، ونسبه إلى الإمام أحمد لكن عن أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث لم يرو عنها إنما روي عن أمنا ميمونة ، فهل هذا خطأ في طباعة الفتح، أو وهم من الحافظ؟ العلم عند الله، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذاب )، وفي رواية: ( لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يفش فيهم ولد الزنا )، نعم إذا فشا فيهم ولد الزنا هذه مهلكة قاصمة.
إخوتي الكرام! الزنا معروف لكل أحد، فهو أن تلد المرأة من غير زوج، لكن الزنا الذي انتشر في هذه الأيام أكثر من هذا الزنا، ومنه أن يعاشر الإنسان زوجته عن طريق الزنا وهو وفي الظاهر زواج، وهذا كثير في بيوت المسلمين لكن لا أريد أن أحدد النسبة بالمائة خمسين أو أكثر أو أقل دعوها هذه يعلمها رب العالمين، فبعضهم يطلق زوجته ليس ثلاثاً ولا ثلاثمائة ولا ثلاثة آلاف طلقة، بل طلقات لا يعلمها إلا رب الأرض والسماوات، وآخرها من قريب فقد جاءني بعض الإخوة، وقال: إنه طلق وراجع، ثم طلق وراجع، ثم طلق وراجع، ثم طلق وراجع ليس أربعاً بل أكثر من عشر وفي كل مرة تجلس المرأة بعد الطلاق، قلت: لم تعد حلالاً لك من فترة، قال: سألنا بعض الشيوخ فقالوا: أم الأولاد لا تطلق، قلت: إذاً: لماذا تأتون إليّ؟ قال: فقط لكونك أنت شيخ مطوع انظر لنا مجرى. إخوتي الكرام! هذا لا خلاف فيه في شريعة ربنا أنه زنا، طلقها أكثر من عشر هذا من يقر به. جاء مرة بعض الناس ممن له شأن يريد أن يقول أخوه طلق، قال: أخوه يستحي، طلق طلق طلق طلق طلاق ما ينتهي، قلت: يا عبد الله أريد أن أتحقق، كيف وقع الأمر، يعني هل هذا صحيح؟ قال: أكلم زوجة أخي تكتب لك، قلت: تكتب. كتبت حقيقة ما يقارب من خمس صفحات حالته كذا وكذا وكذا، وتكتب الوقائع بالتواريخ في شهر كذا من سنة كذا طلق ثم راجع، طلق ثم راجع، طلق ثم راجع، قلت: هذه زادت عن العشر في الورقة، كم مرة كانت قبلها ولم تكتب؟ قال: ما ندري سابقاً كان يراجعها، لكن الآن وقع طلاق آخر، قلت: الآن ما يوجد أحد يشك في وقوع هذا الطلاق.
هذه مسألة -إخوتي الكرام- حقيقة ما أكثرها!! فهذا الآن زنا نسأل الله الحفظ، ويخرج من البيوت الذي ظاهراها -كما يقال- الزواج أولاد زنا.
أنا كنت مرة أتحدث في هذا الموضوع فجاءني بعض الناس ممن له شأن يقول: إن عليه طلاقين سابقين، ولم يكن جمعهم حتى يقال: إن هناك مجالاً للتلفيق، بل طلاق ومراجعة بمحكمة، ثم طلاق ومراجعة بمحكمة، ثم طلاق ثالث، قلت: انتهت، قال: يعني ما له مخرج؟ قلت: ما له مخرج، انتهت هذه، قال: يا شيخ هل أدفع كفارة: أصوم أو أطعم؟ قلت: يا أخي هذه ما لها كفارة أنت المسئول عنها، قال: هي تريدني، ولا تريد أن تفارقني، وأنا حقيقة باقي معها ولا أستطيع مفارقتها، فهذا الآن زنا لا خلاف فيه إخوتي الكرام، يعني هذا ليس من الإسلام نسأل الله العافية، فهو كما لو أتى بعشيقة -كما هو الحال في البلاد الغربية والأوروبية- وأنجب منها ذرية وليس بينهما عقد، والآن بينهما عقد لكن هذا العقد قد ألغي وبقيت عنده، فهذا هو الزنا المكتوب، وأما الزنا والمستور الذي من غير زواج فما أكثره! نسأل الله اللطف، فقد قالوا أن الدور التي فيها رعاية الأيتام، في بعض الأماكن لا يمر عليها شهر إلا ويلتقط واحد أو أكثر من الشوارع من أولاد الزنا -نسأل الله العافية- ويحضر إليها.
الزنا له شأن فضيع ينبغي أن نصون فروجنا عنه، فمن أهمل فرجه، ووقع في هذا المحظور سيتخبطه الشيطان بلا شك، ومن أهمل فرجه وما اتقى ربه في معاشرة أهله وعاشرها عن طريق الحرام سيتخبطه الشيطان، ويتخبط أولاده بلا شك، وبعد ذلك يصبح قلبه مسكناً للشيطان ولا يجد فيه نوراً.
فعليك بملاحظة قلبك -يا عبد الله- فإنك فتحت أبواباً -لا يعلم تحديدها إلا الله- للشياطين يدخلون منها إلى قلبك ثم تقول بعد ذلك أصابني الجنون ومسني الشيطان.
وقد ورد في صحيح ابن حبان حديث حقيقة يبين شناعة الزنا، وكم يمحوا من آثار صالحة؛ لأن الحسنات تتقابل فإذا عظمت الحسنات أبعدت السيئات، وإذا عظمت السيئات أطفأت نور الحسنات.
ثم نقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال هذا أشبه، يعني أن الحديث من رواية مغيث بن سمي مقطوعا، وليس هو من رواية أبي ذر عن نبينا عليه الصلاة والسلام متصلاً مرفوعا ومغيث بن سمي تابعي أخذ عن كعب الأحبار وغيره كما في جمع الجوامع، ومغيث ثقة، وهو من رجال سنن ابن ماجه (ق)، ومترجم في التاريخ الكبير للإمام البخاري في الجزء الثامن صفحة أربع وعشرين، وقد سمع من ابن عمر كما سمع من كعب الأحبار، وقال: أدركت ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، مغيث بن سمي لو تتحققون من ترجمته في التقريب هل هو مغيث بن سمي أو ابن موسى أخشى أن يكون هناك شيء من الوهم.
إخوتي الكرام! وفي اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى للحافظ ابن رجب، تقدم معنا ذكره صفحة اثنتين وخمسين، فقد نسب أثراً إلى سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، وما رأيته مخرجاً في كتب السنة فارجعوا إليه إن أحد عثر عليه فليخبرني، يقول: قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه لبنيه رضي الله عنهم أجمعين: اذكروا صاحب الرغيف، اذكروا صاحب الرغيف، قالوا: ومن صاحب الرغيف يا أبا موسى ؟ قال: رجل عبد الله سبعين سنة، فراودته بغي فبقي معها سبعة أيام فلم تف عبادته بجريمة الزنا في هذه الأيام السبعة، يقول: ثم خرج يغتسل فمر عليه إنسان فتصدق عليه، -المتصدق واحد آخر- فأعطى لهذا العابد رغيفاً أو رغيفين وهو يغتسل، قال: فرأى كلباً جائعاً فنبذ إليه هذا الرغيف أو هذين الرغيفين، فشكر الله له عندما أطعم الكلب فغفر له.
نعم -إخوتي الكرام- هذه الأخبار -أن إنساناً سقى كلباً فغفر له، أو أطعم كلباً فغفر له، أو أن إنساناً عبد الله ستين، أو سبعين سنة ثم زنى زنية -نسأل الله العافية- فما وفت عبادته بتلك الزنية التي وقع فيها- ينبغي أن نعيها، وما ينبغي أن يعجب أحد بعمله فما يعلم بأي ذنب سيدخل النار، وما ينبغي للإنسان أن يقنط من رحمة ربه فما يدري بأي طاعة سيقبله العزيز الغفار سبحانه وتعالى، المسألة ما بين الخوف والرجاء، ورحمة الله واسعة.
إخوتي الكرام! الشكر هنا مضاف إلى ذي الجلال والإكرام، كنت سابقاً ذكرت الحديث في بعض المواعظ السابقة في مسجد من المساجد، وكأن بعض الإخوة الحاضرين قال لي: يعني ينبغي أن يكون لفظ الجلالة منصوبا، قلت: لمَ؟ قال: فشكر الله: يعني الكلب شكر الله ودعا لمن سقاه فغفر اللهُ لساقي الكلب بواسطة شكر وثناء ودعاء هذا الكلب، قلت: حقيقة هناك مجال للاحتمال، لكن الذي أحفظه: فشكر اللهُ، الله هو الذي شكر سعي هذا الإنسان، ومع ذلك قلت له مرد الأمر إلى الرواية، ويحتاج إلى تحقق منها فأخشى أن يكون بعضكم الآن يستذكر، فبعد التحقق من ضبطها، وجدنا أن الذي شكر هو ربنا سبحانه وتعالى، فهو الشكور الذي يشكر عباده على ما يصدر منهم من طاعات كرماً منه سبحانه وتعالى وإحساناً إليهم.
ثبت الحديث بذلك في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث في الصحيحين والأدب المفرد من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض )، أي: من حشراتها وهوامها التي تسير عليها، لا أطعمتها ولا سقتها ولا خلت سبيلها، قال الإمام الزهري كما في رواية ابن ماجه : لئلا يتكل رجل ولئلا ييأس رجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر