أما بعد:
نحن ذكرنا في المبحث الماضي الكلام على إسناد حديث أبي هريرة رضي الله عنه ونذكر هنا لفظه، ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد -يعني الذي يموت في قتال الكفار- فقال عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) تحصرون هذه الشهادة فيمن يموت فقط في قتال الكفار، لقد حجرتم الواسع والله أعطى لهذه الأمة ثواب الشهادة في غير تلك الصورة، وقد جمعها الحافظ ابن حجر فزادت على عشرين صورة إذا مات الإنسان في واحدة منها ينال ثواب الشهادة، (قالوا: فمن هم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد)، أي: دون أن يقتل في المعركة لكنه خرج للقتال ومات، (ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)، حصل له إسهال شديد بحيث خرجت أمعاؤه ومغص، وهذا كان يموت بسببه أناس كثيرون من المتقدمين. نسأل الله العافية.
وعلى كل حال الأمراض المعدية كثيرة، ومنها الإسهال المستمر.
قال ابن مقسم : أشهد على أبيك -يعني: أبا صالح - أنه قال: (والغريق شهيد)، والمعنى: أنقل هذه في الرواية الغريق شهيد، وهذا وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام في من يموت بغرق، أو حرق، وسيأتينا بعض الأحاديث في ذلك.
وفي رواية الموطأ، والترمذي ، وصحيح البخاري وما أشار إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء خمسة: المطعون) عن طريق وخز الجن، (والمبطون) يموت بسبب داء في بطنه وإسهال، (والغريق) الذي يموت بسبب الغرق (وصاحب الهدم) يسقط عليه جدار، (والشهيد في سبيل الله)، هؤلاء كلهم كما أشار نبينا عليه الصلاة والسلام شهداء عند الله جل وعلا.
أراد بعض الصحابة أن يضيق بكلامه وأن الشهيد هو الذي يموت في المعركة، والأمر أوسع من ذلك بكثير، ورحمة الله واسعة، ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والحديث رواه أحمد في المسند، وهو في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وأورده في مسند ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا ليس له علاقة بالأحاديث التي في الطاعون، وهذا من باب الاستطراد، قلت: وهو في مسند عبد الله بن مسعود في المسند، في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وإنما قلت: في مسند عبد الله بن مسعود لأمر سأذكره اختلف فيه الحافظان: الهيثمي ، مع ابن حجر في تعليل إيراد هذا الحديث في المسند، وهل هو متصل، أو مرسل كما سنذكر إن شاء الله، قال الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة اثنتين وثلاثمائة رواه إبراهيم بن عبيد بن رفاعة : أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود : أنه حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).
قال الهيثمي : هكذا رواه أحمد ، ولم أره ذكر ابن مسعود ، إنما قال: إن أبا محمد من أصحاب عبد الله بن مسعود حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: قال: وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن وفيه ضعف، والظاهر أنه مرسل، ورجاله ثقات، يعني: رفعه أبو محمد صاحب عبد الله بن مسعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يروه عن عبد الله بن مسعود فهو مرسل، وإلى هذا ذهب الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الجزء الخامس صفحة تسعين ومائتين فقال: الحديث ضعيف للإرسال، جميع الرجال ثقات، وهو كما قلت لكم مراراً: حديث ابن لهيعة الشيخ أحمد شاكر يصححه، ولا إشكال عنده حول ابن لهيعة لكن يقول: مرسل، والحافظ ابن حجر في الفتح يخالفهم في ذلك، وكلامه في الجزء العاشر، صفحة أربع وتسعين ومائة.
يقول: أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والدليل في قوله: إنه حدثه لـابن مسعود ، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ، ورجال سنده موثقون، وعليه هو متصل وليس بمرسل، وإذا كان متصلاً فالحديث رجاله ثقات.
وقبل أن نبدأ بالرواية التاسعة أقول: بعض الإخوة سألوا سؤالاً:
فقالوا: إذا كان الطاعون بوخز الجن وتسلط الجن على الإنس، فكيف يكون للجن تسلط على أولياء الله؟ وقد قال تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42].
الجواب: فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا لا تعارض بين الأمرين، لا سلطان للشيطان الرجيم، ولا لأتباعه على عباد الله المؤمنين الموحدين، فإن قيل: كيف تسلط عليهم عن طريق وخزهم وقتلهم؟
قلنا: إن المنفي غير المثبت، فالمنفي لا سلطان له عليهم بمعنى أنه يظلهم، ويحملهم على الفسوق والعصيان، والانحراف عن الإسلام فلا يستطيع هذا، وهذا كالسبيل المنفي في حق الكفار وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، لا يمكن أن يتغلب كافر على مؤمن بالحجة والبينة والبرهان، وهم على باطل، ونحن على حق، والواحد منا على بينة من أمره وبينة من ربه لو اجتمع أهل الأرض وكفروا لقال الله لهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67]، هذه قضية واضحة، لكن قد يتسلط الكافر على بدني، قد يقتلني، وقد يتسلط هنا الجني على البدن فيقتله، فهذه مصيبة ليست معيبة، والمصيبة أنت تثاب عليها، والمعيبة أنت تأثم بسببها، فلو تسلط عدو من الإنس أو عدو من الجن على هذا البدن فقتله مت شهيداً، وتقدم معنا الطعن من الإنس هذا ظاهره، والطعن من قبل الجن أيضاً شهادة، وسيأتينا الآن ضمن الأحاديث أنه يأتي المطعون يوم القيامة، والذي قتل في ساحة المعركة وهذا خاصة له ( جرحهما يثعب دماً ) بلون واحد، ويختلف عن سائر أنواع الشهادة ممن يموت في حرق أو غرق، هذا مات شهيداً، وذاك مات شهيداً، أي: الشهيد الذي قتل بواسطة طعن من عدوه، ولذلك جرحهما يأتي يوم القيامة بلون واحد ورائحة واحدة، وهذا سيأتينا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فهنا مصيبة.
وعليه عندما تسلط مثلاً الجن على أبي عبيدة رضي الله عنه وأصابوه بالطاعون وهو أمين هذه الأمة، ليس معنى ذلك أنهم تسلطوا على أولياء الله، والله يقول: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وهنا حصل له سلطان؛ السلطان المنفي أن يقودهم بالإغواء والإضلال إلى حيثما يريد، وهذا ما حصل، ولذلك لا حرج في أن يصاب الولي بالطاعون، على أن الطاعون كما سيأتينا سببه في الجملة حصول معصية في الرحمة، لا بد وأنه حصل معصية من الناس تعجل الله لهم بها العقوبة، وجعل الله عقوبة هذه الأمة في دنياها، وكلما اشتد صلاح الإنسان، إذا حصل منه أدنى شائبة عجلت له العقوبة، وأحياناً تنزل عقوبة عامة ولكن سببها أخطاء للبعض ومعاصي في الجملة، فالبلاء ينزل عاماً، وكل واحد بعد ذلك يأخذ جزاءه على هذا البلاء، فمثلاً العاصي يطهره، والمطيع يرفع درجته، إذا لم يكن عاصياً وأصيب بسبب معصية ذاك، وسيأتينا أن سبب الطاعون انتشار المنكرات، فمتى ما ظهرت يظهر الطاعون، أي: يسلط الله هؤلاء على الإنس، فينخزونهم ويقتلونهم فيموتون، لكن يكون هذا تطهيراً لهم بفضل الله ورحمته، فلا يمكن أن يحصل إلا إذا سبقه انتشار للمعاصي وتحلل، فالله يطهر هذه الأمة فيسلط عليهم هؤلاء ليكون طهارةً لهم وتكفيراً لذنوبهم، هذا كما أنه أحياناً المؤمنون يخذلون أمام أعدائهم بما كسبت أيديهم، والله ليس بظلام للعبيد سبحانه وتعالى.
هذا الذي يظهر جواباً على هذا والعلم عند الله جل وعلا، يعني: مثلاً كما قلت لكم العدو الإنسي الظاهر السبيل المنفي في حقه علينا أنه يغوينا، أو يضلنا، أو يغلبنا بالحجة هذا لا يتمكن منه، لكن قد يتمكن من قطع الرقبة، وكثير من أنبياء الله ورسله، فضلاً عن الصديقين والصالحين قتلوا من قبل الكفرة، وكان بنو إسرائيل يقتلون النبيين بغير الحق، والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، أي سبيل أكثر من القتل؟ نقول: لا، إن السبيل بالظهور والغلبة والحجة لا يمكن، أما أن الإنسان يصاب من قبل هؤلاء ليزداد أجره عند الله فلا حرج، إن شاء الله.
وعلى كل حال الضعف ينجبر بالروايات التي شهدت له مما تقدم ومما سيأتينا إن شاء الله.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة: إسناده حسن، وقد استشهد به الحافظ في الفتح، وهو على شرطه لا ينزل عن درجة الحسن في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين، من رواية راشد بن حبيش رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على
الرواية الثانية عشرة: رواية راشد بن حبيش والقصة وقعت مع عبادة وهنا عبادة دخل مع النبي عليه الصلاة والسلام في مرضٍ لـعبد الله بن رواحة رواية أخرى، وهو راوي الحديث هنا، رواها أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، كما في المجمع في الجزء الخامس صفحة ثلاثمائة، ورواها أيضاً من طريق آخر كما سيأتينا في المسند، ومعجم الطبراني الأوسط، والبزار كما في مجمع الزوائد في صفحة تسع وتسعين ومائتين.
عن عبادة بن الصامت قال: (دخلنا على
وكما قلت: هذا إسناد مروي من طريق آخر فيه المغيرة بن زياد ، وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله ثقات.
ولفظ الحديث: عن ربيع الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد ابن أخي
واسمه ذات الجنب، فهل الزائدة يقال لها: ذات جنب؟ على كل حال المقصود أنه شيء من الورم والالتفاف يكون في داخل الإنسان ينفجر إلى الداخل ولا يظهر له أثر في الخارج، من أصيب به فهو أيضاً شهيد بإذن الله فما تقوله يدخل فيه إن شاء الله من هذه الصور.
والرواية كما قلت عن ربيع الأنصاري وإسنادها صحيح.
رواية ربيع مروية أيضاً من طريق أخرى رواها ابن قانع بلفظ: (الطعن، والطاعون، والهدم، والغرق، وأكل السبع)، إذا أكل سبع إنساناً: افترسه، (والغرق، والحرق، والبطن، وذات الجنب شهادة)، الآن صارت كثيرة (الطعن والطاعون، والهدم، وأكل السبع من أكله سبع فهو شهيد، والغرق، والحرق، والبطن، وذات الجنب)، هذه كلها ينال الإنسان بها ثواب الشهادة، الشاهد من جميع هذه الروايات نحن نريد لفظ الطاعون في كل واحدة منها، ولفظ الطاعون وارد في كل رواية تقدمت.
إذاً: المقتول في سبيل الله، والغريق في سبيل الله، والمبطون في سبيل الله، والمطعون في سبيل الله، والنفساء في سبيل الله، كلها فيها في سبيل الله حتى الرواية التي هنا في أصل سنن النسائي ، فالذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا إما أن يقال: هؤلاء إذا خرجوا للقتال في سبيل الله بإحدى هذه الأوصاف وماتوا فهم شهيداء، أو أن المراد هنا أن من أصيب بذلك واحتسب هذا عند الله جل وعلا فله أجر الشهادة، الشاهد الذي نريده نحن هنا المطعون في سبيل الله شهيد.
هذه الأحاديث كلها جمعتها من كتب السنة، ولو وقفنا على كتاب الحافظ ابن حجر هل سيجمع أكثر من هذا؟ لا أعلم؛ لأن له كتاب بعنوان بذل الماعون في فضل الطاعون، وما عندي خبر عنه، والكتاب ألف عليه السيوطي كتاباً آخر سماه (ما رواه الواعون في فضل الطاعون)، والكتابان ما عندي خبر عنهما، ولو وقف الإنسان عليهما في تقديري أن فيهما من الأحاديث زيادة على ما سنذكره، والعلم عند الله جل وعلا.
وعليه؛ يختصم الشهداء وأصحاب الفرش فيهم، الشهداء يريدون أن يكون هؤلاء معهم، وأهل الفرش يقولون: كيف يتميزون علينا؟ اجعلهم معنا ولا تعطهم ثواب الشهادة، فيقول الله: (انظروا إلى جراحهم -جراح المطعونين بأي شيء يعني طعنوا وبأي شيء تنزف جراحهم- فيرون جراح المطعون تشبه جراح الشهيد في سبيل الله فيلحقهم الله بهم، ويجعلهم معهم، والشهيد يأتي يوم القيامة جرحه يثعب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك).
الشاهد فيه أن الذي مات مطعوناً من قبل الجن له ثواب الشهادة وأجر الشهادة.
على كل حال الحديث كما قلت حسن، ولفظ الحديث -وهو موجود في الترغيب والترهيب- عن عتبة بن عبد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشهداء، والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقول: انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك)، رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، وفيه: إسماعيل بن عياش ، روايته عن الشاميين مقبولة وهذا منها، ويشهد له حديث العرباض قبله، وهذا كله كلام المنذري في الترغيب والترهيب عليهم جميعاً رحمة الله.
عن أبي عسيب رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي) هذا محل الشاهد، (فالطاعون شهادة لأمتي، ورجز على الكافر)، رواه أحمد ، والطبراني في الكبير، ورواة أحمد ثقات مشهورون، والرجز هو العذاب، وانظر الحديث في ترتيب المسند للشيخ البنا في الجزء الثاني عشر، صفحة أربع ومائتين.
قال: سمعته يحدث عن عائشة رضي الله عنها، وعليه هذه الرواية العشرون لو ألحقت برواية أمنا عائشة لكان أولى؛ لأنها تدخل في مسندها، لكن لا مانع أن نذكرها إن شاء الله، يحدث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (الطعين، والمجنون، والنفساء، والبطن شهادة)، فقال له موسى بن تليدان يقول: فقال له والده تليدان إلى آخره: حدثتك عائشة بهذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: هكذا حدثتني وهكذا حفظت.
قوله هنا: شهادة، الطعين فيما يظهر والعلم عند الله إن كان المراد منه الطعين الذي يصاب بوخز الجن عن طريق الطاعون دخل في بحثنا واستشهادنا، وإذا كان المراد من الطعين الذي يطعن عن طريق الإنس فلا يوجد في الحديث شاهد؛ لأنه لم يأت معنا ذكره إلا في هذا اللفظ (الطعين، والمجنون، والنفساء، والبطن، شهادة)، والحديث رواه عن أمنا عائشة رضي الله عنها ولم يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قيل له: حدثتك عائشة هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: هكذا حدثتني وهكذا حفظت.
إذاً: هذه الرواية لا يصح أن تكون مكملة للعشرين، لا زال معنا تسع عشرة رواية، وتقدم معنا عند تعريف الطاعون أنه يقال: طعن فهو: مطعون وطعين، وإذا طعن بالرمح فهو مطعون فقط، وعليه فلفظ الطعين هنا في الحديث الشريف يراد به من أصيب بمرض الطاعون، والعلم عند الحي القيوم، وإذا كانت الرواية موقوفةً على أمنا عائشة رضي الله عنها فلها حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن راوية الحديث هي أمنا عائشة رضي الله عنها، وتتبع روايتها هذه روايتها المتقدمة سابقاً.
الرواية الأولى: رواية أمنا عائشة ، والرواية: الثانية رواية أبي موسى الأشعري ، والرواية الثالثة: رواية أبي بردة ، والرواية الرابعة: رواية ابن عمر ، والرواية الخامسة: رواية أنس ، والرواية السادسة: رواية جابر ، الرواية السابعة: رواية أبو هريرة ، الرواية الثامنة: رواية عبد الله بن بشر ، الرواية التاسعة: رواية سلمان الفارسي ، الرواية العاشرة: رواية سعد بن أبي وقاص ، والرواية الحادية عشرة: راويها راشد بن حبيش ، والرواية الثانية عشرة: راويها عبادة بن الصامت ، والرواية الثالثة عشرة: راويها ربيع الأنصاري ، والرواية الرابعة عشرة: راويها عقبة بن عامر ، والرواية الخامسة عشرة: راويها صفوان بن أمية ، والرواية السادسة عشرة: رواية جابر بن عتيك ، والرواية السابعة عشرة: رواية العرباض بن سارية ، والرواية الثامنة عشرة: رواية عتبة بن عبد السلمي ، والرواية التاسعة عشرة: رواية أبو عسيب مولى نبينا عليه الصلاة والسلام.
والرواية العشرون: تقدم معنا أن رواية أمنا عائشة رضي الله عنها تتبع روايتها السابقة، وتكون رواية أبي بكر رضي الله عنه هي الرواية الأخيرة معنا والعلم عند الله جل وعلا، وهذه الروايات كلها مصرحة بحصول ثواب الشهادة لمن يصاب بالطاعون، ونجزم ونقطع بأن هذا الكلام قاله نبينا عليه الصلاة والسلام: وأن المطعون من قبل الجن له أجر الشهادة عند الله جل وعلا.
أئمتنا يقسمون الشهداء الذين لهم منزلة عند الله إلى قسمين، وهناك قسم ثالث بئس القسم.
القسم الأول وهو أعلى الصنفين: الذي يموت في ساحة القتال لإعلاء راية ذي العزة والجلال، وهذا يقال له: شهيد الدنيا والآخرة، أي: يعامل في هذه الحياة معاملة الشهيد الذي وردت له أحكام معينة فلا يغسل، ولا يكفن، إنما يدفن بملابسه وجروحه ودمائه، ثم بعد ذلك هل يصلى عليه أو لا؟ قولان لأئمتنا ذهب الشافعي ومعه جم غفير من أئمة المسلمين إلى أنه لا يصلى على الشهيد؛ لأنه استغنى عن الشفاعة، وغفر له بأول قطرة قطرت من دمه، فلا داعي للصلاة عليه، وأيد هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام ما صلى على شهداء أحد.
وبهذا قال مالك وهو إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله.
أما أبو حنيفة ومن معه رحمهم الله فيقولون: الشهيد يصلى عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد، وبهذا قال أحمد في إحدى الروايات عنه رحمة الله عليهم أجمعين، والذي يظهر أن كلاً من الأمرين مشروع، فإن صلى المسلمون على الشهيد فهو جائز، وإن تركوا الصلاة عليه فهو جائز، والأمران فعلهما نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا القول هو أيضاً رواية ثالثة عن الإمام أحمد ، مال إلى هذه الرواية ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، لكن الأكمل بما أن الأمرين مشروعان أن نصلي على الشهيد، وأما قول من قال: إنه قد استغنى عن الشفاعة فلا داعي إذاً لأن نصلي عليه، نقول: لا نريد أن نشفع له ليغفر الله له ذنبه، وليرفع في درجاته، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعلى درجةً من الشهيد يصلى عليه، ونسأل له المقام المحمود، فنسأل للشهيد أن يرفع الله في درجاته فوق ما يستحق، بما أن كلاً من الأمرين مشروع فالأحسن الصلاة عليه لننال ثواب صلاة الجنازة على هذا الذي بذل نفسه في سبيل الله جل وعلا ولندعوا له، هذه أعلى الشهادات: شهادة الذي يموت في ساحة المعركة.
القسم الثاني: يليه من ورد النص بأن له ثواب الشهادة، من المطعون، والمبطون، والغريق، والحريق وغير ذلك، ممن مات في مصيبة من المصائب التي ورد ذكرها، وقد أحصاها الحافظ ابن حجر كما قلت فبلغت عشرين خصلة، هؤلاء كلهم ماتوا ووجدوا فيها شدة على أنفسهم فكتب الله لهم ثواب الشهادة.
كنت مرةً أدرس مادة التربية الإسلامية ولعله كان عمري بحدود العشرين سنة في بعض المدارس في السنة الثالثة المتوسط الإعدادية، وكان معنا بحث الجهاد في سبيل الله، ومن أجل الضوابط قلت: شرف الشهادة في سبيل الله لا يناله الإنسان إلا إذا وجد فيه شرطان:
الشرط الأول: أنه مؤمن بالله.
والشرط الثاني: أن يقاتل لإعلاء راية الله، وكلمة الله.
فإذا لم يكن مؤمناً فهو في النار، وإذا كان مؤمنا وما قاتل من أجل الله فهو في النار، فليس واحد منهم في سبيل الله، فأحد الطلاب رفع إصبعه، وقال: يا شيخ! ماذا تقول في الذي فجر -على تعبيره- نفسه من أجل ضرب العدوان الثلاثي الذي يقولون: على مصر، هل هذا شهيد أم لا؟ قلت: هذا شهيد الوطن والوطنية والقومية، لكنه ليس شهيداً عند الله، هذا إلى جهنم حطباً؛ لأنه نصراني كافر بالله جل وعلا، ونحن قلنا: ينبغي أن يكون مؤمناً، ويريد وجه الله، ولو كان مؤمناً نقول: شهيد لما نرى، ونيته لا يعلمها إلا الله، فلا نجزم بالشهادة لمعين، وليس معنى هذا أننا ننفي الشهادة عمن قاتل في سبيل الله، لكن نقول: شهيد فيما نرجو، أو فيما نأمل، أو فيما نرى، أو فيما نظن، أما أننا نجزم فلا؛ لأن ما في قلبه لا يعلمه إلا الله جل وعلا.
يعلم الله قبل أن أخرج من الفصل يمكن أن تقول بأمتار، وقبل أن أخرج إلى الساحة وإذا بي استدعى إلى الإدارة، فذهبت وكان المدير اسمه كمال الدين قال أنت تقول يا أستاذ: جنودنا في النار؟ قلت: أنت تقول: في الجنة؟ قال: أنا أسألك، قلت: وأنا أسألك، النصراني في الجنة؟ قال: أنت تقول: ليس بشهيد، قلت: أنا قلت: هذا شهيد وطن وشهيد قومية، ماذا تريد أكثر من هذا؟ ليس شهيداً في سبيل الله، قال: أنا ما أسمح لك أن تقول هذا الكلام، قلت: إذا استأذنتك لا تسمح لي، لكن أنا ما استأذنتك ولا استأذنت من هو أكبر منك، أنا ماذا أدرس، أدرس تربية إسلامية، دين الله ماذا تريد أن نجعل فيه؟ قال: يا شيخ! يفرق بين الناس في الوطنية وبين غيرهم، ولماذا أنت تقول هذا في مدرسة نظامية؟ قلت: يا أستاذ أنت تصلي أم لا؟ قال: أنا أصلي من قبل أن تولد، وكان يزيد عمره في ذلك الوقت على ستين سنة، فقلت: يا مسكين! تصلي هذه الفترة وما عرفت شيئاً من صلاتك، أنت تقرأ الفاتحة أم لا؟ نحن في كل صلاة نلعن اليهود والنصارى، ونتبرأ منهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] ، والضالون هم النصارى، والمغضوب عليهم هم اليهود صحيح؟ قال: يا شيخ! هذا في الصلاة، أما في المدرسة فلا نقول هذا عندنا مفاهيم وطنية وتعليمات رسمية، قلت: أنت ما الذي أغاظك الآن؟ يا عبد الله! الجنة التي تعود إلى الله وهو مالكها لن يدخلها نصراني ولا أمثاله، إذا بإمكانك أنت وأهل الوطن أن تبنوا جنةً أخرى وتدخلوه، فلا أحد يمنعكم، فبدأ يغتاظ، فقلت: يا عبد الله! لم أقل إنكم لن تدخلوا الجنة، أنا قلت: لن تُدخلوا الجنة من أردتم؛ لأن جنة الله وعد بها الأبرار في الآخرة، فلن يدخلها هذا الفاجر، ولا غيره من الكفار، فهمت أم لا؟ ثم أنتم في وسعكم أن تبنوا جنة وتدخلوا إليها من شئتم، تدخلوا بيجن ، أو كارتر ما لنا ولكم، نحن نتكلم عن جنة الله الجنة الإسلامية ليست الجنة الوطنية.
فإذاً معنا: الأول: شهيد دنيا وآخرة، والثاني: شهيد آخرة، أي: له ثواب الشهادة في الآخرة، لكن لا يعامل معاملة الشهيد في الدنيا، والثالث: شهيد دنيا فقط، وما أكثر هؤلاء في هذه الأيام، وقد تكلم الحافظ ابن حجر على أقسام الشهادة وذكر القسمين المتقدمين: شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الآخرة، وأما الثالث هذا فلا داعي لذكره، قال في الفتح في الجزء السادس، صفحة أربع وأربعين: النوع الأول: شهيد الدنيا والآخرة، من يقتل في حرب الكفار مقبلاً غير مدبر مخلصاً لله عز وجل، والصنف الثاني: شهيد الآخرة أقول: وكل من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا، قال ابن التين : هذه الشهادات كلها فيها شدة تفضل الله على أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن جعلها تمحيصاً لذنوبهم، وزيادةً في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء.
ثم قال الحافظ ابن حجر في الفتح: اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، من اتصف بشيء منها فله ثواب الشهادة في الآخرة، والذي يظهر لي -لا زال الكلام لـإسحاق - أن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم أمته بالقليل، ثم أعلمهم بالزيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك.
أولها: قيل: إن الشهيد يسمى شهيداً؛ لأن أرواحهم شاهدةً على حالهم، ليس حالهم كحال غيرهم، فلهم مزية في الحياة البرزخية على غيرهم، وقيل: لسقوطهم على الأرض عند استشهادهم في سبيل الله، والأرض تسمى بالشاهدة، وهي التي تشهد على بني آدم بما عملوا على ظهرها من خير وشر، وقيل: لأنه عند خروج روحه من بدنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة، وقيل: لأنه يشهد للرسل يوم القيامة بالبلاغ، فيأتي الشهداء ويشهدون للرسل بأنهم بلغوا، وقيل: عليه شاهد لكونه شهيداً بهذه الدماء التي تلطخ بها ودفن فيها، وقيل: لأن ملائكة الله تشهد احتضاره عند خروج روحه، وهذا القول السادس، وقيل: لأنه قام بشهادة الحق في هذه الحياة، واتصف بأعلى أنواع الصدق حتى قدم رقبته في سبيل ربه، وقيل: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأن الله شهد بحسن نيته عندما بذل نفسه في سبيله، وقيل: لأنه لا يشهد موته إلا ملائكة الرحمة فقط، وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة، وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النيران، وقيل: لأنه يشهد له الأنبياء بحسن الاتباع، فيشهدون للشهداء أنهم اتبعوهم على أتم وجه، وأن الشهداء بذلوا أنفسهم اتباعاً لأنبيائهم على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.
وهذه الأقوال في زاد المسير في الجزء الثاني، صفحة اثنتين وسبعين ومائة، وفي فتح الباري في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين.
ونقف في هذا المبحث عند سبب وقوع الطاعون، وهذا آخر شيء معنا مع الأدب الذي يتعلق بالطاعون أذكره في المباحث الآتية إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر