إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [19]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ورد في السنة النبوية ما يدل على أن الشيطان يأكل ويشرب حقيقة، ولذلك فقد أمرنا بأن نأخذ ما يسقط من الطعام وأن نميط عنه الأذى ونأكله ولا ندعه للشيطان، وكذلك أمرنا أن نلعق أصابعنا والصحفة التي نأكل فيها فنحرم الشيطان من بركة طعامنا.

    1.   

    حقيقة أكل الشيطان وتحصين طعامنا منه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    إخوتي الكرام! إن الشيطان يأكل أكلاً حقيقياً، وهو يأكل أيضاً بصفة ممتهنة ونفسه خسيسة مهينة، ويأكل بالشمال، ويلعق القصعة ويأكل اللقمة التي تسقط على الأرض، فهذا كله يقرر أكل الشيطان أكلاً حقيقياً عن طريق مضغ، وذلك كما هو فينا، وليس المراد من أكله التسنم والاسترواء كما تقدم، أو أنه يعجبه أن يأكل الإنسان بشماله فنسب ذلك إليه، فكل هذا كما قلت بعيد وباطل لا قيمة له.

    ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر فيما نقله عنه الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة واحد وثلاثين والإمام السيوطي في لفظ المرجان صفحة سبعٍ وعشرين، قال شيخ الإسلام أبو عمر ابن عبد البر : في هذه الأحاديث حديث أبي هريرة وما سبقه دليل على أن الشياطين يأكلون ويشربون، وقد حمله قوم على المجاز، يأكل بشماله يعني: يحب أن يأكل الإنسان بشماله فنسب ذلك إليه، وقال أبو عمر : وهذا عندي ليس بشيء ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت الحقيقة بوجه ما، وهكذا من قال: إنهم يتسنمون ويستريحون الطعام من جهة الشمال، وهذا أيضاً من جملة التأويلات الباطلة التي تقدمت معنا، وقلت مراراً: إذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فلا يجوز إخراجه عن ذلك، وقلت: ما يتعلق بأمر الغيب حق على الوجه الذي يعلمه الله ولا نعلمه، فلا يجوز أن ندخل عقولنا فيه، وقلت: من أشنع العيب إدخال العقل في أمر الغيب فنقف عند هذا الأمر إننا نهينا عن الأكل بالشمال؛ لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله فنحن نهينا عن الأكل بالشمال؛ لأننا نتفق مع من غضب الله عليه، فدائماً ينبغي أن يختلف أولياء الله عن أعداء الله في صفاتهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، وأولئك لهم هدي في هذه الحياة ونحن لنا هدي في هذه الحياة، إذا كان هو يأكل بالشمال فنحن نأكل باليمين، فلو قدر أنه أكل هو أو الكفار باليمين فنقول: الفضيلة لنا أصالة وهم من ورائنا، فإذا وافقونا فليس معنى هذا أننا نخالفهم ونأكل بالشمال كما يقول بعض السفهاء من ضُلاَّل العلماء في هذه الأيام حول اللحية، قال: اللحية في هذه الأيام ينبغي أن تحلق؛ لأننا نتشبه بالقسس والرهبان، ويقول: كان المجوس في العصر الأول يحلقون اللحى ويوفرون الشوارب فأمر المسلمون بمخالفتهم بإعفاء اللحى وقص الشوارب، وأصبح الآن القسس والرهبان يوفرون اللحى، فينبغي أن نحلق اللحية.

    وليته حلقها فقط، بل قال: لا يعني كلامي أن نرتكب مخالفة ورحمة الله واسعة، لكن أقول: هذه هي السنة، ومن يعفي اللحية في هذا الوقت يتشبه بالكفار. يقلب الأمر حقيقة هذا من الضالين، وبعضهم يعمل أيضاً في قسم السنة بمجمع البحوث، فناقش مرة بعض إخواننا في موضوع اللحية وقال له: الإمام ابن تيمية يقرر هذا، قال: في أي كتاب؟ قال: في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم قال: الآن أصحاب الجحيم يعفون اللحى فنحن نحلق اللحى، فقال له أخونا: أين قرر الإمام ابن تيمية أن حلق اللحى مطلوب؟ قال: عنوان الكتاب يدل على هذا، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فيقتضي منا إذا كنا من حزب الله أن نخالف أعداء الله.

    إذاً: ما وجدت إلا القسس والرهبان يعفون، فالكفار الذين يحلقون لحاهم أضعاف أضعاف أضعاف الذين يعفون لحاهم من الكفار، يعني القسس والرهبان لعلهم واحد من مائة ألف أو من مليون من نسبة الكفار.

    ثم إذا قدر أن الكفار عن بكرة أبيهم أعفوا لحاهم، فالفضيلة لنا ثابتة باتباع أمر نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن خصالهم الرذيلة عدم إعفاء اللحى، ونحن لا يجوز أن نتشبه بهم عندما نحلق، فهذا هو الحكم الشرعي.

    فكذلك إخوتي الكرام! نهينا عن الأكل بالشمال لئلا نتشبه بالشيطان، مما يدل على أن الشيطان يأكل بشماله، وكما قلت: إذا أمكن حمل الأمر على حقيقته فلا يجوز أن يؤول بما يخرجه عن حقيقته وظاهره، والعلم عند الله جل وعلا.

    ذكر بعض الروايات في لعق القصعة والأصابع وأكل ما سقط من الطعام

    لا زلنا ضمن هذا المبحث: ألا وهو الأمر الرابع في أمور الافتراق بيننا وبين الشيطان، طعامهم يختلف عن طعامنا، كما قلت: فالشيطان يأكل حقيقة، ويأكل بصورة ممتهنة مزرية، فيأكل بالشمال، ويأكل الفضلات التي تفضلها إن كانت في القصعة وإن وقعت منك لقمة، ولذلك أمرنا أن نلعق القصعة وألا نترك فيها شيئا، وأن نلعق الأصابع وألا نغسلها وفيها شيء من الطعام، من أجل ألا تذهب هذه البركة في المجاري وإلى الحمام، وهكذا القصعة لا نتركها للشيطان ليلعقها، فإن القصعة تخاصمك أمام الله إذا تركت فيها شيئاً من الطعام ولحسه الشيطان فتقول: أنت مكنت الشيطان مني، ولذلك إذا لحستها تستغفر لك حتى يوضع فيها طعام آخر؛ لأنك صنتها من هذا الخسيس الخبيث.

    فإذاً: نلعق القصعة والأصابع كذلك، وإذا وقعت لقمة نأخذها ونميط ما بها من أذى ثم نأكلها، فإن عاب هذا بعض الناس فهذا من قصر عقولهم، ويكفينا أننا نطيع ربنا عز وجل سبحانه وتعالى.

    والأحاديث في ذلك كثيرة، فإليكم بعض هذه الأحاديث التي تقرر هذه المعاني والآداب الشرعية التي أعرض عنها كثير من الناس.

    رواية جابر بن عبد الله في لعق الصحفة والأصابع بعد الأكل

    في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد ، ورواه الإمام الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة ) وهي: القصعة أو الصحن الذي يوضع فيه الطعام، وقال: ( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) يعني: قد تكون هذه البركة التي تلتعق فيما بقي من لقيمات أو من طعام في القصعة، فتتركها للشيطان ولا تنتفع بها أنت.

    وفي رواية: ( إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، وليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ) لأنه يأكل حقيقة، وهذه اللقمة -كما قلت- يأتي ويأكلها ولا يتركها: ( وليأكلها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ) قد تكون البركة في هذا الجزء الذي تركته لأخبث الأعداء.

    وفي رواية أخرى: ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق ) واللعق هو: اللحس والمص، ( فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )، وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم .

    وفي رواية للترمذي أن النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( إذا أكل أحدكم طعاماً فسقطت لقمته ) لقمة من لقمته التي يرفعها إلى فيه، ( فسقطت لقمته فليمط ما بها من أذى ثم ليطعمها -أي: ليأكلها- ولا يدعها للشيطان ).

    هذه الرواية الأولى من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: هي في صحيح مسلم وغيره فلا تحتاج للتنصيص على صحتها، وقد رواها الحاكم وقال: على شرط مسلم، وتلك الرواية في صحيح مسلم .

    رواية أنس بن مالك في لعق الأصابع وأكل ما سقط من الطعام

    الرواية الثانية: رواها الإمام أحمد في المسند ومسلم في صحيحه أيضاً والترمذي وأبو داود وابن حبان أيضاً في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه ) ولعق يلعق من باب فهم يفهم، ( إذا أكل طعاماً لعق أصابعه وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها فلا يدعها للشيطان، وأمرنا أن نسلت القصعة -يعني: أن نمسحها بأصابعنا أو نلحسها- وقال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ).

    وكما قلت: الحديث في صحيح مسلم وغيره، زاد رزين في روايته وسيأتينا لهذه الزيادة التي ذكرها رزين العبدري شواهد ثابتة في سنن الترمذي وغيرها، وسأتكلم على درجتها إن شاء الله ضمن خطوات البحث، زاد رزين في روايته كما في جامع الأصول في الجزء السابع صفحة أربعمائة: ( إن آنية الطعام لتستغفر للذي يلعقها ويغسلها ) لعقها ثم غسلها وما يترك فيها أثراً من الآثار، فالعق ثم اغسل حتى لا يأتي الشيطان يلعقها بعدك أيضاً، لأنك مهما لعقت سيبقى فيها آثار دسومة وآثار طعام، فلا تتركها لهذا الشيطان اللعين ( إن آنية الطعام لتستغفر للذي يلعقها ويغسلها، وتقول: أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان ).

    وسيأتينا أن القصعة تستغفر للاعقها، وهذا ثابتٌ في سنن الترمذي وغيره، وسأذكره ضمن خطوات البحث بإذن الله، وهو الحديث الآتي بعون الله.

    رواية نبيشة في استغفار الصحفة لمن يلعقها بعد الأكل

    رواية رزين هذه إخوتي الكرام! كما قلت: ورد ما يشهد لها، ورد ذلك في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي من رواية لبيثة الخير، وهو لبيثة الخير بن عمر بن عوف وكناه النبي عليه الصلاة والسلام بـلبيثة الخير، وقد ذكر أئمتنا في تراجم كتب الصحابة كما في أسد الغابة والإصابة أن لبيثة دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده أسرى فقال لبيثة للنبي عليه وعلى وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: (يا رسول الله! إما أن تمن عليهم وتطلق سراحهم، وإما أن تأخذ الفدية منهم)، يعني: ارفق بهم إما فدية وإما مَنٌ بالسراح والعتق، ولا تسترقهم ولا تقتلهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (من صدقك أنت لبيثة الخير )، فهو مشهور بما فيه من رفق ويسر وسهولة نحو عباد الله.

    إذاً لفظ الحديث -كما قلت- من رواية لبيثة الخير، وروت الحديث عنه أم عاصم، وهي أم ولد لـسنان بن سلمة قالت: (دخل علينا لبيثة الخير ونحن نأكل في قصعة فحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة ).

    قال الإمام ابن الأثير في جامع الأصول الجزء السابع صفحة اثنتين وأربع مائة قال: وذكر رزين في أخرى: ( تقول له القصعة: أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان ).

    هذه الرواية التي رواها الإمام الترمذي وقال عقبها: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد ، وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هذا الحديث، والمعلى بن راشد وهو الراوي عنه من أجلهما حكم الإمام الترمذي على هذا الحديث بأنه غريب.

    والمعلى بن راشد عندكم في التقريب ترجمه الحافظ ابن حجر فقال: إنه مقبول، وهو أبو اليمان النبال البصري ، وعليه يقبل حديثه عند المتابعة، ثم أشار إلى أنه من رجال الترمذي وابن ماجه.

    وقلت: والحديث هنا خرجه من أهل الكتب الستة الترمذي وابن ماجه ، وهو من رجال الترمذي وابن ماجه وليس له إلا هذا الحديث في سنن الترمذي وابن ماجه .

    إذاً: المعلى بن راشد الهذلي أبو اليمان النبال البصري مقبول من رجال الترمذي وسنن ابن ماجه ، لكن الإمام الذهبي في الكاشف قال: إنه صدوق.

    وهكذا أم عاصم وهي الراوية عن لبيثة حكم عليها الحافظ في التقريب بأنها مقبولة، ولو رجع الإنسان إلى التهذيب في ترجمة هذين العبدين الصالحين المرأة الراوية وهي أم عاصم أم ولد لـسنان بن سلمة بن المحبق، وهكذا المعلى بن راشد لوجد ما يقوي أمرهما، وأن حالهما إن شاء الله حسن وما يعلم فيهما جرح، وانتبه مثلاً لترجمة المعلى بن راشد في تهذيب التهذيب في الجزء العاشر صفحة سبعٍ وثلاثين ومائتين، يقول الحافظ في ترجمة معلى بن راشد : الهذلي أبو اليمان النبال البصري روى عن جدته أم عاصم ، وميمون بن سيار ، والحسن البصري ، وزياد بن ميمون الثقفي ، وعنه يزيد بن هارون ، وعبد الله بن صالح العدلي وروح بن عبد المؤمن ، وأبو بشر بكر بن خلف ونصر بن علي الجهضمي وغيرهم.

    قال أبو حاتم : شيخ يعرف بحديث حدث به عن جدته عن لبيثة الخير في لعق الصحفة، وعليه فإن المعلى بن راشد تكون هذه المرأة أم عاصم جدته، روى عن جدته عن لبيثة الخير ، وقال النسائي : ليس به ضعف، وذكره ابن حبان في الثقات، وله في السنن الحديث الذي أشار إليه أبو حاتم ، فهنا الجهالة منتفية عنه، فقد روى عنه أكثر من واحد، وهو هنا في الرواية روى عن جدته، وابن حبان وثقه وما علم فيه جرح، والنسائي قال: ليس به بأس، فالذي يظهر -والأمر عند الله- أن أمره محمول على القبول، وأن الحديث إن شاء الله في درجة الحسن بإذن الله.

    وأما جدته وهي أم عاصم التي هي أم ولد لـسنان التي روت عن لبيثة الخير ، ستنظرونها في الكنى في التقريب في تراجم النساء في الكنى، أم عاصم يقول: مقبولة، كما قلت لكم، لكن لم حكم عليها بذلك؟ لا أدري، فانظر في التهذيب يقول: أم عاصم في الكنى من النساء جدة المعلى بن راشد والعلاء بن راشد وكانت أم ولد لـسنان بن سلمة بن المحبق روت عن سلمة بن المحبق ، ولبيثة الهذلي ، وعائشة أم المؤمنين ، والسوداء امرأة لها صحبة، وروى عنها المعلى بن راشد أبو اليمان النبال والحسن بن عمارة ، ونائلة الأزدية ، يعني أنها روت عن جمع وروى عنها جمع ولا يعلم فيها جرح وهي تابعية، وقلت لكم مراراً لاسيما في طبقة التابعين: من لم يعلم فيه جرح، وحتى لو لم يرو عنه إلا راوٍ واحد وما علم فيه جرح فأئمتنا قبلوا حالهم، فوجدتها في الكنى يقول: مقبولة، الذي يظهر والعلم عند الله -كما قلت- أن الحديث لا ينزل عن درجة الصحة، وهنا لفظه: ( من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة ) الحديث في الترمذي ، وسنن ابن ماجه ، وهو في المسند أيضاً والدارمي من طريق المعلى بن راشد ، عن جدته أم عاصم ، وهي أم ولد لـسنان بن سلمة عن لبيثة الخير رضي الله عنهم أجمعين.

    وخلاصة الكلام من لعق القصعة استغفرت له، وفي رواية رزين العبدري التي لم أقف على إسنادها، أنها تقول له: ( أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان )، وعليه؛ يستحب لك أن تلعقها، فإذا فرغت لا تتركها وتؤخر غسلها فتجعل فيها للشيطان نصيباً.

    ورواية أبي هريرة في الراجح رواها الإمام مسلم في صحيحه والترمذي في سننه، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة ) في الرواية التي تقدمت معنا زيادة، وهي أنه لا يترك شيئاً في الصحفة فليلعقها أيضاً لئلا يدعها للشيطان، وهنا فقط (ليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أيتهن البركة).

    والحديث -كما قلت- في صحيح مسلم وسنن الترمذي وغيرهما.

    رواية معقل بن يسار في أكل ما سقط من الطعام

    آخر الروايات رواها الإمام ابن ماجه في سننه، وإسنادها صحيح إلا أن فيها انقطاعاً، فـالحسن البصري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لم يسمع هذه الرواية من الصحابي وهو معقل بن يسار رضي الله عنهم أجمعين، وهي -كما قلت- في سنن ابن ماجه ، وبوب عليها الإمام ابن ماجه في كتاب الأطعمة كتاباً فقال: باب اللقمة إذا سقطت.

    عن الحسن البصري عن معقل بن يسار ، والحسن ثقة فقيه فاضل، عدل رضا، لا خلاف في إمامته وتوثيقه، وإذا عنعن فالرواية لا يحكم باتصالها إلا أن يتبين لنا ثبوت السماع، وهو لم يرو الحسن عن معقل وروى هذه الرواية عنه بصورة العنعنة: الحسن عن معقل بن يسار . معقل بن يسار من الصحابة الأبرار، وممن شهد بيعة الرضوان، بل الحسن البصري عنده تدليس غريب، وكان أئمتنا أيضاً يحذرون منه فكان أحياناً يطلق التحديث، لكن لما علم هذا من عادته لا يعتبر جرحاً فيه أنه يكذب.

    يقول: حدثنا ممن لم يسمع منه، ويقصد أنه حدث أهل البصرة التي هو ينتمي إليها، كما رجح ذلك الإمام البزار كما نقله الحافظ ابن حجر في كتابه التهذيب، فقال: يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيقول: حدثنا وخطبنا فلان، ثم هو ما سمعه ولا حضره، وإنما حدث قومه يعني أهل البصرة الذي هو من جملتهم، وهذا تدليس. والأصل أنه إذا صرح المدلس بالتحديث ولم يسمع، يعتبر هذا فسقاً فيه وترد روايته.

    وأما مسلك الحسن البصري في هذا -كما قلت- فله طريقةٌ خاصة علمها أئمتنا، فله حكم خاص بما يتعلق بروايته رضي الله عنه وأرضاه.

    ولفظ الحديث عن معقل بن يسار قال: ( بينما هو يتغدى إذ سقطت منه لقمة، فتناولها فأماط ما كان فيها من أذىً فأكلها ) ومعقل بن يسار من الصحابة الكرام، ومن الأمراء الذين يسكنون في البصرة وله شأن، يعني تسقط منه لقمة فيأكلها أمام الناس، فكأنهم يتأسفون منه، تأخذ هذه اللقمة وتميط ما أصابها من أذى ثم تأكلها، قال: فتغامض به الدهقي، جمع دُهقان ودِهقان، بالضم والكسر، وهو رئيس القرية والمقدم على أصحاب المزارع يقال له دهقان، (فغمض به الدهقي فقيل: أصلح الله الأمير، إن هؤلاء الدهقيين يتغامزون من أخذك اللقمة وبين يديك هذا الطعام، فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأعاجم)، فهل تترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام لأجل أناس من العجم لا يفقهون ولا يعلمون (إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها، فيميط ما كان فيها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان).

    وقوله: (كنا نأمر أحدنا) أي: نتواصى بذلك بناءً على تعليم النبي عليه الصلاة والسلام.

    والحديث -كما قلت- في سنن ابن ماجه ، ورجال إسناده ثقات أثبات إلا أن فيه انقطاعاً، فـالحسن البصري لم يسمع هذا من معقل بن يسار والعلم عند الله جل وعلا.

    وهذا يقرر ما تقدم معنا أن الجن يأكلون ويشربون كما نأكل ونشرب والعلم عند الله تعالى.

    1.   

    نقاط الاتفاق بين أكل الإنس والجن ونقاط الافتراق

    والنقطة الثانية من خطوات هذا البحث: فيما ذكرته أن الجن يأكلون كما نأكل، ومن الطعام الذي نأكله، فكيف أدخلت أكلهم ضمن نقاط الافتراق بيننا وبينهم؟

    والجواب: أكل الجن له حالتان:

    حالة يوافقوننا فيها فيأكلون كما نأكل، وكما تقدم معنا هم مأمورون بما أمرنا به، فما أحل لنا أحل لهم، وما حرم علينا حرم عليهم.

    طعامهم كطعامنا، لكن خصوا بشيء زائد علينا وهو ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام ( فإنه زاد إخوانكم من الجن ) أي: في العظام وفي الروث.

    أما العظام فتكسى أوفر ما كانت لحماً بإذن الرحمن، إن سمي عليها تكون طعاماً لمؤمني الجن، وإن لم يسم عليها تكون طعاماً للعصاة من الجن، وأما الروث فيعود كما كان أوفر ما كان شعيراً بإذن الله علفاً لدوابهم بكيفية يعلمها الله ولا نعلهما، وعليه هم يزيدون علينا في هذا الأمر، وهو أن العظام تعود مكسوة لحماً بإذن ذي الجلال والإكرام، وهذا النوع من الطعام يختلف عن طعامنا، وما عدا هذا يشابهوننا في الطعام.

    وكما يوجد من عصاة الإنس من يأكل طعاماً خبيثاً يوجد من عصاة الجن من الكفرة من يأكل طعاماً خبيثاً، ويأكل بصفة خبيثة، لكن ليس في وسع أحدٍ من الإنس صالحاً أو عاصياً أن يعيد العظم إلى ما كان عليه مكسواً لحماً، إنما هذا خص الله به الجن، فهذه العظام تكسى لحماً بإذن الرحمن إن سمي عليها أو لم يسم، فإن سمي صارت غذاء للمسلمين والموحدين من الجن، وإلا فهي غذاء ٌ للكافرين كما تقدم معنا في الجمع بين الروايتين، وأما الروث فيعود شعيراً بإذن الله، كيف يتم هذا؟ نقول: إذا تعلق الأمر بقدرة الله فلا داعي لإيراد هذا السؤال، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    فأوردت أكلهم ضمن نقاط الافتراق بيننا وبينهم لأقرر هذه القضية وهي أن لهم نوعاً من الطعام يختلفون به عن نوع طعامنا والعلم عند ربنا، ونكون بذلك قد انتهينا من هذه الأمور الأربعة التي هي أوجه الافتراق بين الإنس والجن.

    1.   

    مواضع تسخير الجن لنبي الله سليمان عليه السلام في ضوء القرآن الكريم

    الصلة بعد ذلك بين الإنس والجن، في صلتنا بهم كما قلت سنتدارس أربعة أمور:

    أولها: الاستعانة بهم، أي: استعانة الإنس بالجن في هذه الحياة في قضاء الحاجات هل يجوز أم لا؟

    إخوتي الكرام! أخبرنا ربنا الرحمن في آيات القرآن أنه سخر الجن لنبيه سليمان على نبينا وآله وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه، وقد ورد هذا في عدد من آيات القرآن، فلابد من الكلام عليها في البداية، لنبين ما اختص به نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام نحو هذا الأمر من تسخير الجن له، وما يجوز في حق الجن وما لا يجوز في حق غيره من استعمال الجن.

    أما الجن في عهد نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكانوا مسخرين مذللين منقادين رغم أنوفهم، لا يخرجون عن طاعته كما تبين الآيات الدالة على ذلك.

    فهل ينقاد الجني لك إذا أردت مساعدة؟ طبعاً باختياره، سيساعدك في أمر من الأمور إذا طلبت منه ذلك، فهذا إذا وقع في المباح مباح، وفي المستحب مستحب، وفي الخيرات مطلوب، وفي المحرمات ممنوع كما سيأتينا تقرير هذا.

    ذكر تسخير الجن لسليمان في سورة الأنبياء

    فلنتدارس الأمر الأول الذي قرره الله في كتابه من تسخير الجن لنبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا في سورة الأنبياء: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:81-82].

    فقول الله جل وعلا: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [الأنبياء:81] الريح هواء متحرك وهو جسم لطيف يمتنع بنفسه كما قال أئمتنا من القبض عليه، ولكن نحن نحس بحركته غير أنه ليس بإمكانك أن تقبض عليه، تشعر به وتحس به عن طريق الصوت الذي يحصل له عند تحركه وهبوبه، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [الأنبياء:81]. والريح تذكر وتؤنث، فتقول: هبت الريح وهب الريح، هذه ريح وهذا ريح.

    وقول الله جل وعلا: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً [الأنبياء:81] عاصفة أي شديدة في الهبوب، تهب هبوباً قوياً بحيث يصبح لها صوتٌ ودوي كصوت الطائرة، وقوله: (عاصفة) وصفها الله جلا وعلا في آيات أخرى سنذكرها لاحقاً.

    وقوله: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81] إشارة إلى أنه خص سليمان بهذا الأمر؛ لعلم الله جل وعلا باستحقاقه لذلك، فهو الذي يضع الأمر في موضعه سبحانه وتعالى ولا يتصرف إلا عن علم وحكمة سبحانه وتعالى.

    وهذه الريح التي وصفت هنا بأنها عاصفة، فقد وصفت بسورة (ص) بأنها رخاء كما قال تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]. والرخاء هي: الريح اللينة الهادئة التي لا يحس ولا يتعب بها، فهنا عاصفة تزمجر وهناك رخاء، فما التوثيق بين هذين الوصفين؟

    لا تعارض كما قرر أئمتنا، وذكروا ثلاثة أوجه من أوجه الجمع كلها معتبرة والله أعلم، فقيل: إن العاصفة في بداية أمرها عندما تحمل البساط الذي يكون عليه هو وجنده وجيشه، فإذا ارتفع البساط في الجو صارت رخاءً لينة لا يسمع إنسان حسها ولا يشعر بها، فحالها كحال الطائرة تماماً عندما تقلع تخرج هذا الصوت القوي، فإذا صارت في الفضاء لا تسمع لها صوتاً ولا حساً، هذا قول، وهذا ذكره أئمتنا المتقدمون قبل وجود الطائرات، والعلم عند رب الأرض والسماوات.

    فقالوا: هي عاصفة باعتبار البداية عندما تحمل البساط تخرج هذا الصوت، فإذا صار البساط الذي يكون عليه هو وجنده وجيشه، غدوها شهر ورواحها شهر كما قرر الله هذا في سورة سبأ، فتحملهم هذه الريح وتوصلهم إلى مسافة شهر سيراً على الخيل المسرعة في وقت من الصباح وهو الغدو، وتعيدهم بعد ذلك في العشي بوقت قصير لو أرادوا أن يقطعوه على الخيل المسرعة لأخذ معهم شهراً كاملاً غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12].

    إذاً هذا الجمع الأول.

    والجمع الثاني: قيل: إن الريح فيها وقتان، ونبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يختار أي الوقتين فيها عندما يريد أن تسخر له في حمل بساطه للتنقل من جهة إلى جهة، فإذا أراد أن تكون عاصفة صارت عاصفة، وإذا أراد أن تكون لينة صارت لينة هادئة، وهذا على حسب ما يريده سليمان عليه السلام، والله وكل الأمر إليه، إذا أراد أن تخرج الريح صوتاً أخرجت، وهذا يكون من أجل الهيبة والأبهة وإظهار عظمة النبوة، فيأمرها أن تصوت عندما يمر على الأقوام من أجل أن يشعروا بعظمة هذا النبي الصالح المبارك على نبينا وعليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلواته وسلامه، وإذا أراد أن تكون هادئة صارت هادئة، وهذا أيضاً -كما قلت- وجه معتبر.

    والجمع الثالث: إنها في نفسها هادئة منقادة رخاء مذللة تطير حيث شاء هذا النبي الصالح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لكن هي في سرعة الريح التي لها هبوب شديد، وأن الريح إذا هبت أسرعت، فإذا كانت رخاءً فحركتها بطيئة. فهي في سرعة الريح ذات الهبوب، لكنها في نفسها لينة منقادة لنبي الله سليمان على نبينا وعليه والصلاة والسلام، فإن أراد أن تصوت صوتت، وإن أراد أن تكون هادئة هدأت، في بداية أمرها لها هبوب ثم بعد ذلك ينقطع هبوبها عندما تكون في طبقات الجو والعلم عند الله جل وعلا.

    أوجه ثلاثة قالها أئمتنا في الجمع بين قول الله جل وعلا: (عاصفة) وقوله: (رخاءً حيث أصاب)، وقوله: (حيث أصاب) أي: حيث أراد، ويقال في اللغة: أصاب الصواب فأخطأ الجواب، وهنا أصاب الصواب أي أراد الصواب، أراد أن يصيب فأخطأ.

    إذاً: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81] هذا التفسير الأول للنعمة الأولى التي من الله بها على نبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    النعمة الثانية: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:82] قوله: (ومن الشياطين) جمع شيطان، غالب ظني تقدم معنا اشتقاق الشيطان وقلت: إنه مأخوذٌ من شطن بمعنى بعد، فهو بعيدٌ بفسقه عن كل خير، وبعيد بطبعه عن طباع البشر، وليس مأخوذ من شاط يشيط إذا أحرق، كما قال بعض علماء اللغة، قال: لأنه خلق من نار وإليها يئول، فقيل له شيطان من شاط يشيط، وهذا خطأ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: شاطط، وهنا يقال: شيطان، وقال أمية بن أبي الصلت في بيان ما أوتي نبي الله سليمان على نبيا وعليه الصلاة والسلام من خوارق العادات:

    أيما شاطن عصاه عفاه ثم يلقى في السجن والأغلال

    قوله: (أيما شاطن) لو كان من شاط يشيط لقال: أيما شائط كما تقدم معنا.

    وتقدم معنا معنى كلام سيبويه يقال: تشيطن فلان إذا عمل عمل الشياطين، ولا يقال: تشيط، فالنون أصلية، شطن بمعنى: بعد بفسقه عن كل خير وبطبعه عن طباع البشر.

    إذاً: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ [الأنبياء:82] الغوص هو النزول تحت الماء لاستخراج اللؤلؤ وغير ذلك وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82] أي: من البناء وغيره كما سيأتينا أنه سخرهم في بناء بيت المقدس.

    ثم قال: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:82] وحفظ الشيء مراقبته وضبطه، فضبطناهم وراقبناهم وسخرناهم، وسلطنا هذا النبي المبارك عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه عليهم فلا يخرجون عن قبضته ولا عن إرادته.

    إذاً: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:82] فسخر الله الشياطين وعتاة الجن لهذا النبي الكريم سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذا تسخير وهذا استعمال من الإنس للجن، ونص الله عليه في كتابه، ووقع هذا التسخير بإذن من الله وبتسخير منه لهذا النبي المبارك على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

    ذكر تسخير الجن لسليمان في سورة النمل

    الموطن الثاني الذي أشار الله فيه إلى هذا الأمر، إلى تصرف نبي الله سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بالجن، في سورة النمل، وفيها يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15] تابعوا معي إخوتي الكرام الآيات ولنصل إلى استعمال نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام للجن في كثيرٍ من الأعمال.

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:15-16] أي: ورثه في الملك والنبوة بين سائر إخوته، وليس المراد من الملك الإرث للمال وعرض الدنيا، فالأنبياء لا يورثون كما تقدم معنا تقرير هذا في مبحث الفرائض، ولو كان المراد منه الإرث المالي لما خص الله سليمان بذلك دون إخوته، إنما ورثه أي صار حاكماً ونبياً بعده، وكان نبياً معه على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، وارثه العلوم.

    قال: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16] وهذا من كلام نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تبشيراً بما من الله به عليه من الفضل (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا) لنون التعظيم وهو واحد للدلالة على التعظيم الذي كان عليه؛ لأنه ملك ونبي، ولا يراد من ذلك التكبر ولا التجبر، إنما هذا على عادة الملوك وقد أخبر الله بذلك عن نبيه بهذا الأمر ولا حرج في ذلك.

    وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16] ومحل الشاهد الآية التي ستأتينا فيما بعد: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17] أي: يجمعون ويساقون حسب ما يريد هذا النبي الصالح منهم، على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

    فهم يجمعون ويساقون كما يساق أفراد الجيش، فقال تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل:18] والنملة مذكر ومؤنث، كالطير مذكرٌ ومؤنث، هذه طيرة، وهذا طيرة، فالمراد في النملة هنا مؤنث؛ لأن الفعل يوضحها قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18] وأمروا بهذا الأمر لا يَحْطِمَنَّكُمْ [النمل:18] للتحذير سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] للاعتذار، أمرٌ وتحذيرٌ واعتذار. تأمرهم بدخول مسا كنهم، وتحذرهم بعد ذلك من عدم الالتزام بهذا الأمر فيترتب عليه الهلاك، ثم تعتذر لهذا النبي الصالح ولجنوده بأنهم يطئونكم بأقدامهم دون شعور فأنتم نمل صغار.

    قالت: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا [النمل:18-19] ضاحكاً: حال مؤكدة كما قال أئمتنا؛ لأن تبسم بمعنى ضحك، وغالب ضحك الأنبياء التبسم، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل:19]، أما والده فكان نبياً، وأما والدته فكانت صديقة، وكانت تقول له: يا سليمان! لا تنم في الليل كثيراً، فإن من ينام في الليل كثيراً يلقى الله فقيراً. كما في سنن ابن ماجه.

    إذاً: هذه نعمة عظيمة أن يمن الله على الولد بصلاح الأبوين، وأن ينشأ في بيت عفاف وطهر ونورٌ وفضيلة، وليس كالذي يعني يأتيه الصلاح بعد ذلك، ولذلك: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:19-21].

    إذاً: إن جاء هذا الهدهد بحجة نجا من الأمرين: إما من العذاب الشديد أو الذبح، وإذا لم يأت بحجة فنبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام توعده، إما أن يعذبه عذاباً شديداً أو أن يذبحه.

    أن يعذبه عذاباً شديداً بنتف ريشه لإلقائه إلى النمل، أو بوضعه في قفص لئلا يصبح طليقاً من أجل أن يتأذى، وهذا من العقوبات، ومن باب التعزير له وكان هذا الهدهد يقال: هو المسئول عن استخراج الماء لنبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    ويقال: إنه يبصر الماء تحت تخوم الأرض، فإذا نزل نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام في مكان وليس فيه ماء استدعى الهدهد وقال: حدد لنا مكان الماء، فإذا حدد استخرجه بعد ذلك جنوده ومنهم عفاريت الجن بسرعة، ومع ذلك فالهدهد أحياناً يقع في الفخ ولا يرى الحبة، فقيل له: كيف تبصر الماء تحت الثرى ولا تبصر الحبة في المصيدة؟ فقال: أما بلغكم أنه إذا جاء القدر عمي البصر، فهذه الحبة لا حيلة لي فيها.

    فيقول الله حاكياً عن نبيه سليمان: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]. كيف غاب من غير استئذان؟ وحقيقة هذا تقصير من الهدهد -وتقدم معنا أن جيش سليمان من الجن والإنس والطيرة-، فما ينبغي لهذا الجندي أن يغيب حتى يستأذن من القائد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل:21] إما بإلقائه لمن يأكله أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21] أي: بحجة ظاهرة بينة في سبب تغيبه، أو بإفادة يفيدني بها عند تغيبه بحيث تكافئ تقصيره.

    قال: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22] يقال: إن نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما هو في أخبار أهل الكتاب أرسل بعد ذلك ملك الطيور ليبحث عنه وسأل عنه وهو النسر، فملك الطيور وهو النسر كلف العقاب وهذا من الحيوانات المفترسة الجارحة، ولما رأى الهدهد وبحث عنه وأراد أن ينقض عليه قال له: عندي خبر سأعلم به نبي الله سيلمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فرفق به ولما جاء إلى نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، بدأه بهذا الأمر: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] وأنت نبي عظيم، وليس عندك خبر عما يجري في بعض بلاد الدنيا وأنا عندي علم. أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، قال أئمتنا في تفسير هذه الآية: في هذا رد على الشيعة الرافضة الذين يقولون: إن الإمام ينبغي أن يكون معصوماً فلا يخفى عليه شيء في الأرض، وهذا نبيٌ عظيم سخر له الإنس والجن والطير، وخفي عليه حال أمة من الناس يعبدون الأصنام وهو لا يدري أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ في بلاد اليمن بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22] (من سبأ بنبأ) هذا المحسن اللفظي ولو قال: بخبر لصح الأمر ولكن لذهبت حلاوة الكلام.

    فما هذا النبأ؟ قال تعالى لسان الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، امرأة ملكة هذا أمر يستغرب يعني: امرأة تحكم الرجال، فلن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ثم هذه المرأة عندها ما عند الملك من متاع الدنيا وأبهة الملك أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم.

    قال تعالى على لسان الهدهد: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24] يزاولون هذا الشرك أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ [النمل:25] وهو المخبوء من كنوز الأرض الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:25-33].

    فكانت أرجح عقلاً منهم فقالت: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:34-35] أي: هل هذا ملك يريد عرض الدنيا، ويقنع بمغانمها ونستريح منه، أو هو صاحب دعوة لا تسكته الدنيا فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:36-37].

    انتبه لاستعمال الجن في هذه الآيات أيضاً: قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38] هذا العرش الذي هو في بلاد سبأ في اليمن، فمن يأت به إلى بيت المقدس في فلسطين قبل أن يأتوني مسلمين؟ فهم الآن سيتوجهون إلي منقادين مسلمين عندما تحققوا أني رسول كريم ولا أريد الدنيا، فمن يأتيني بهذا العرش؟

    قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ [النمل:39] وهذا هو استعمال الجن أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39] قيل: وكان نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام يجلس في مجلس بين قومه يتفرغ لهم كل يوم من الصباح إلى قبيل الزوال، وهي جلسة قد تأخذ أربع ساعات أو خمس ساعات، فقال العفريت لسليمان: أنا في هذه الجلسة التي أنت تجلس فيها وقبل أن تقوم منها وينقضي هذا الوقت الذي تجلسه كل يوم بمقدار أربع ساعات يأتيك هذا العرش من سبأ إلى بيت المقدس قبل أن تنصرف من هذا المجلس، واعلم أني عليه أيضاً لقوي أمين، فلا يحصل فيه تغيير ولا خدش، يأتيك كما هو، ينتزع وأحضره.

    قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39] وذكرت إخوتي الكرام! كما سيأتينا في استعمال الإنس للجن، أن الله أقدر الجن على ما لا يقدر عليه الإنس، فبإمكانه أن يقطع المسافات البعيدة الشاسعة الواسعة في وقت قصير، ولذلك بإمكانه أن يحمل الإنسي وهو مثلاً في قطر ليوصله إلى مصر في لمح البصر، وهذا ليس بإمكان الإنسان، وحتى بهذه المراكب التي اخترعها المتأخرون، وهذا أقدر الله عليه الجن بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها.

    وهذا وقع لكثير من الناس ممن استعلموا الجن لنقلهم إلى مسافات.

    وهنا هذه مسافة عظيمة، فسيذهب العفريت إلى سبأ ويحضر هذا العرش كما هو قبل أن يقوم نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام من مقامه.

    لكن إذا كانت هذه قوة عفاريت الجن، فالله يكرم أولياءه بخوارق العادات التي تزيد على ما عند الجن من قوة، بمشيئة رب الأرض والسموات فقال الله تعالى: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ [النمل:40]. وهو رجل صالح من قوم نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قيل اسمه: آصف والعلم عند الله، وقيل في هذه الآية: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ [النمل:40] يعني: سليمان فيكون المعنى: قال سليمان: أنت تأتي به يا عفريت في هذا الوقت القصير، أنا آتي به قبل ذلك؛ لأني نبي كريم وأيدني الله بالمعجزات، فهذا فيما يظهر أيضاً بعيد عن سياق الآيات، وأئمتنا -كما قلت- قالوا: إن المراد من ذلك رجلٌ صالح من قومه، وقد أورد أئمتنا هذه الآية في كتب التوحيد ضمن كرامات الأولياء.

    فقال الإمام الذهبي في كتاب العلو للعلي الغفار صفحة ستٍ وخمسين: سبحان الله! لا ينكر كرامات الأولياء إلا جاهل، فما بعد هذه الكرامة كرامة، يحضر هذا الذي عنده علم من الكتاب وهو رجل صالح، وقيل: آتاه الله الاسم الأعظم وعرفه به، وكان إذا سأل شيئاً أعطاه وإذا دعا أجابه، فحصل إحضار العرش من سبأ إلى بيت المقدس قبل أن يرتد طرف نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40] أي: انظر ملياً إلى الجهة التي تنظر إليها، تأمل الجدار قبل أن يرتد إليك الطرف، بعد أن تنظر إلى الجدار ترى العرش عندك يعني: إذا نظرت إلى شيء فقبل أن ينكسر هذا البصر ويطرف يكون العرش حضر، وأنت لا زلت تنظر إلى الجدار يكون العرش حاضراً عندك، فلما رآه مستقراً عنده قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40] .

    وكرامات الأولياء ثابتة، وهي بمشيئة رب الأرض والسماوات، وهي لا تدخل تحت عقول المخلوقات، بمعنى: لا يمكن للمخلوقات أن تقف على حقيقتها، ليس عندها ما ينكرها ولا ما يردها، لكن لا يمكن أن تحيط خبراً بكيفية ما حصل؛ لأنه أمرٌ خارق للعادة، كأن يأتي العرش من الصين إلى قطر بلمح البصر بمشيئة خالق القوى والقدر، فهذا أمرٌ يسير لا ينكره العقل، لكن العقل يستغرب عند وقوع هذا، وهنا في قصة سليمان كذلك فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].. إلى آخر الآيات.

    إذاً: عندنا هنا في هذه الآيات التي في سورة النمل، إشارتان ودلالتان على استعمال نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام الجان:

    الدلالة الأولى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17].

    الدلالة الثانية: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39] .

    ذكر تسخير الجن لسليمان في سورة سبأ

    والمكان الثالث الذي ذكر الله تسخير الجان لنبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام في سورة سبأ وفيها يقول الله جل وعلا: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ:12] وهي عين النحاس المذاب وكانت تسيل في الشهر ثلاثة أيام، عين نحاس يسيل كما تسيل الماء، فيأخذه ويصنع منه ما شاء والله على كل شيء قدير وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سبأ:12] أي: بأمر الله فهو الذي سخرهم له.

    ثم قال: (وَمَنْ يَزِغْ) ينحرف ويبتعد وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12]. وتقدم معنا: إما من عذاب السعير في الآخرة، أو من عذاب السعير في الدنيا، وقلت: وكل الله مع نبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ملكاً معه سوط من نار، فمن عصاه من الجن الفجار ضربه بهذا السوط، والجمع بين الأمرين أنهم يعذبون عذاباً فظيعاً شديداً في الدنيا إذا خرجوا عن طاعته، كما يعذبون في الآخرة: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12].

    ثم قال: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] جمع محراب، ومعنى المحراب في اللغة الغرفة العالية، وهي العلية وكل بناء مرتفع يصعد إليه بدرج يقال له: محراب، ويطلق المحراب على صدر المجلس، وهذا هو المراد يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13]: أي: من بيوت عالية شامخة وغرف مرتفعة يصعد إليها بدرج، وليس المراد من المحاريب محاريب المساجد لا ثم لا، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] من بيوت مرتفعة شاهقة شامخة، ولذلك فسرت هذه المحاريب قيل بالمساجد العالية، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] من قصور مرتفعة كما قال قتادة ، والقول الأول قاله مجاهد من قصور: من مساجد.

    وأما المحاريب التي في المساجد فسأتكلم عليها إن شاء الله بعد الانتهاء من بيان هذه الآيات وبيان الشاهد منها من تسخير الجن لنبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    قال: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ [سبأ:13] جمع تمثال مما لا روح له: فيأمرهم أن يمثلوا ويصوروا الأشجار والورود وغير ذلك من التماثيل لما لا روح له، أو مما لها روح وكان هذا جائزاً في شريعتهم والعلم عند الله جل وعلا، ولا نص يحدد هذا أو هذا، فإذا قيل: المراد من التماثيل مما لا روح فيه فهذا جائز في شريعتهم وفي شريعتنا، وإذا كان هذا من التماثيل التي لها أرواح فمنعنا عنه في هذه الشريعة المباركة المطهرة، وكان هذا جائزاً عندهم والعلم عند الله.

    إذاً: مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ [سبأ:13] جمع جفنه، وهي: القصعة الكبيرة التي يجلس عليها ألف رجل، فهذه يقال لها: جفنه كبيرة، قال: وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13] جمع جابية وهي القلل الواسعة الكبيرة، وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ [سبأ:13] أي: قدور يطبخ عليها الطعام لكن لا تتحرك، كأنها عمارات شاهقة وكأنها جبال ثابتة؛ لأن القصعة يأكل منها ألف رجل فكيف يكون حجم القدر وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] .

    وهذا النبي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مع ما أعطاه الله من سعة الملك أراد الهدهد مرة أن يضيفه هو وجنوده فقال لنبي الله سليمان: أنتم في ضيافتي، قال: كيف تكفينا؟ يعني: تكفيني أنا ومن معي من جنود وأنت حيوان صغير، قال: أنا سأضيفكم، والطعام على شاطئ البحر، فاصطاد جرادة ثم ألقاها في البحر وقال: كلوا فمن وجد اللحم فبها ونعمت وإلا فاشربوا من المرق، فضحك نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من فعله، فإذا كانت جفنته يأكل منها ألف وقدوره راسيات، فهل هدهد صغير سيطعم هؤلاء؟ رحم الله امرأً عرف قدره ووقف عنده.

    إخوتي الكرام! بقية الآيات التي فيها تسخير الجن لنبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام سنذكرها فيما يأتي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لمشائخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لمن جاوره من المؤمنين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767957376