إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. شرح مقدمة الترمذي
  6. شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [1]

شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الآداب النبوية عند قضاء الحاجة أن يستر المسلم عورته ما استطاع عن الناس فلا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ولا يمس ذكره بيمينه عند الاستنجاء، ولا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، ولا يستنجي برجيع أو عظم.

    1.   

    بيان طرق حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة...)

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فقد وصلنا إلى الباب العاشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله، وسنتدارس في هذا المبحث ثلاثة أبواب بإذن الله، وهي الباب العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر.

    أما الباب العاشر: فهو باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة. ويريد بالحاجة هنا قضاء حاجة البول أو الغائط، أي: إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته فينبغي أن يستر -ما استطاع- عورته، كما سيأتينا هذا في فقه الحديث إن شاء الله، وأنه يكشف من عورته ما يكشفه بمقدار الضرورة عند الكشف ووقت الكشف ولا يتوسع.

    قال أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله: حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي ، عن الأعمش ، عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).

    قال أبو عيسى : وروي عن محمد بن ربيعة عن الأعمش ، عن أنس هذا الحديث.

    إذاً الراوي عن الأعمش عبد السلام بن حرب ، وهذا سيأتينا إن شاء الله ضمن تخريج الحديث؛ لأنه يقول: إن هناك طريقاً آخر رواه محمد بن ربيعة ، عن الأعمش ، يعني: كأنه يريد أن يقول: تابع محمد بن ربيعة، عبد السلام بن حرب في روايته عن الأعمش ، وروى وكيع ، وأبو يحيى الحماني عن الأعمش ، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما أجمعين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).

    إذاً: عندنا راويان عن الأعمش : عبد السلام بن حرب الملائي ، ومحمد بن ربيعة ، عن الأعمش ، عن أنس رضي الله عنه.

    وعندنا راويان عن الأعمش ، وهما وكيع ، وأبو يحيى الحماني ، عن الأعمش، عن ابن عمر ، فالحديث من مسند صحابيين، ورواه في كل طريق راويان عن الأعمش ، فمصدر الحديث الأعمش في روايته عن أنس ، وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

    قال الترمذي : وكلا الحديثين مرسل، يعني: منقطع كما سيأتينا في شرح كلامه؛ لأنه لا ينطبق عليه شرح المرسل الاصطلاحي، وهو: ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يوجد هنا؛ لأنه قد ذكر الصحابة في الإسناد، لكن الإرسال هنا يعني به الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع أحداً من الصحابة، فروايته عنهم منقطعة ولا سيما وهو مدلس.

    قال الترمذي : وكلا الحديثين مرسل، يعني: منقطع، ويقال: لم يسمع الأعمش من أنس ، ولا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نظر -يعني: الأعمش - إلى أنس بن مالك قال: رأيته يصلي فذكر عنه حكايةً في الصلاة، ستأتينا إن شاء الله، وهذه الحكاية نقلها عنه عندما رآه يصلي في مكة المكرمة في مسجد الله الحرام.

    والأعمش اسمه: سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلي ، وهو مولى لهم، قال الأعمش : كان أبي حميلاً فورثه مسروق ، وسيأتينا اختلاف أئمتنا في إرث الحميل إن شاء الله، والحميل: هو الذي يحمل مع أحد من أقاربه من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ثم يدعي الحامل ثبوت نسب بينه وبين من حمله، فأم الأعمش من بلاد الشرك وجاءت به إلى بلاد الإسلام، وقالت: هذا ولدي، فعندما ماتت ورثه مسروق ؛ لأنه يرى أن الحميل يرث ممن ادعى نسبه، وسيأتينا خلاف العلماء في ذلك، هل يثبت النسب لهذا الأمر أم لا؟ واتفقوا على أنه لو ادعى الأب النسب وصدقه الابن يثبت، وما عدا هذا فلا، وسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله.

    سنذكر البابين الآخرين، ثم نتدارس مباحث الحديث على الترتيب إن شاء الله.

    1.   

    ما جاء عند الترمذي في النهي عن مس الذكر باليمين في الاستنجاء

    الباب الحادي عشر: باب ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين.

    قال الترمذي عليه رحمة رب العالمين: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه يعني: أبا قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه).

    وفي هذا الباب عن عائشة ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وسهل بن حنيف ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وأبو قتادة الأنصاري اسمه الحارث بن ربعي ، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم؛ كرهوا الاستنجاء باليمين.

    1.   

    ما جاء عند الترمذي في الاستنجاء بالحجارة

    الباب الثاني عشر: باب الاستنجاء بالحجارة.

    قال أبو عيسى الترمذي رحمة الله عليه: حدثنا هناد ، قال: حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال: (قيل لـسلمان -يعني: سلمان الفارسي رضي الله عنه كما سيأتينا- قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ -يعني حتى أحكام قضاء الحاجة والذهاب إلى الغائط- فقال سلمان : أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم)، والرجيع هو: الروث، وسيأتينا شرح هذا في فقه الحديث، والحكمة من النهي عن الاستنجاء وهو الاستجمار هنا بالرجيع الذي هو الروث ويقال له: رجيع؛ لأنه رجع عن حالته التي كان عليها وتغير من طهارة إلى نجاسة، (برجيع أو عظم)، والعظم معروف.

    قال أبو عيسى : وفي الباب عن عائشة ، وخزيمة بن ثابت ، وجابر ، وخلاد بن السائب ، عن أبيه وهو: السائب بن يزيد رضي الله عنهم أجمعين. قال أبو عيسى: وحديث سلمان في هذا الباب حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: رأوا أن الاستنجاء بالحجارة يجزئ ويريد بالاستنجاء هنا الاستجمار، ولا خلاف بين أئمتنا في إجزاء هذا كما سيأتينا، لكن استعمال الماء أفضل، فهو مروءة آدمية ووظيفة شرعية، والحجارة تزيل العين ولا تذهب الأثر، وأما الماء يزيل العين ويذهب الأثر، ولذلك يصبح الإنسان طيباً مطيباً، إنما لو قدر أنه لا يوجد ماء أو شق عليه استعماله، أو أراد أن يترخص أحياناً وأن يستنجي بالحجارة، أو بالورق، أو بغير ذلك فالأمر فيه سعة.

    إذاً: أكثر أهل العلم على أن الاستنجاء بالحجارة يجزئ وإن لم يستنج بالماء إذا أنقى أثر الغائط والبول، وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق.

    1.   

    تراجم رجال باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة

    نتدارس الآن في المبحث الأول: رجال الأسانيد لهذه الأحاديث، ثم بعد ذلك ندخل في فقه الحديث وفي بيان درجة الأحاديث ومن خرجها، وتخريج الروايات التي أشير إليها في نهاية كل باب.

    الراوي الأول: قتيبة بن سعيد وهو شيخ الترمذي تقدم معنا مراراً وورد معنا ذكره في أول حديث ذكره الترمذي من جامعه.

    ترجمة عبد السلام بن حرب الملائي

    الراوي الثاني: قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي هذا أول مكان يرد معنا ذكره فيه، وترجمته كما في التقريب عبد السلام بن حرب بن سلم النهدي الملائي بضم الميم وتخفيف اللام، فلا تشدد اللام الملّائي، أبو بكر الكوفي وأصله بصري، ثقة حافظ له مناكير، وهذا إذا خالف من هو أوثق منه، فلذلك نص أهل العلم على أن له مناكير ينفرد بها ويخالف من هو أوثق، من صغار الثانية، توفي سنة سبع وثمانين يعني: بعد المائة، مائة وسبع وثمانين، حديثه مخرج في الكتب الستة.

    وقوله: توفي سنة سبع وثمانين، يعني بعد المائة فلا يصلح أن يكون بعد المائتين! وهذا اصطلاح الحافظ ابن حجر ، فقد قال: إنه إلى نهاية الثامنة هم دون المائتين، وليس بعد المائتين.

    قال: عن الأعمش تقدم معنا، وهو: سليمان بن مهران ويعيد الإمام الترمذي ذكره والإشارة إلى ترجمته وإلى عدم روايته عن الصحابة أتكلم عليه في آخر هذا الباب إن شاء الله، عن أنس رضي الله عنه تقدمت معنا ترجمته.

    ترجمة محمد بن ربيعة

    الراوي الثاني في هذا الباب: هو محمد بن ربيعة ، ولم ترد معنا ترجمته ولم يقع لنا ذكره فيما مضى، وهو محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي الكوفي ، وهو ابن عم وكيع ، صدوق من التاسعة، توفي بعد التسعين، يعني: مائتين وتسعين.

    وفي الكتاب عندكم في الطباعة غلط؛ لأن هذا الراوي من رجال الترمذي وأين رمز الترمذي ، سقط من التقريب، وقد ذكر رمز بخ أي أنه: روى له البخاري في الأدب المفرد، وهو من رجال أهل السنن الأربعة، وهذا سقط في الطباعة، فيضاف إليها.

    وهذا هو الذي رمزه به في التهذيبين بخ أي: البخاري في الأدب المفرد، و4 أي: أهل السنن الأربعة، وقد ذكر ذلك الذهبي في كتابه الكشاف وغيره أنه من رجال السنن الأربعة، وعلى كل حال الرقم أربعة إما سقط، وإما اشتبه على المحقق، هل هو كذلك أو لا! فأشار إلى التهذيبين.

    وهو صدوق من التاسعة.

    ترجمة أبي يحيى عبد الحميد الحماني

    يقول: وروى وكيع تقدمت معنا ترجمة وكيع عند أول حديث أيضاً.

    قال: وأبو يحيى الحماني عن الأعمش ، أبو يحيى هذا أول مكان يأتي معنا فيه ذكره، وهو عبد الحميد ، وإذا أردتم أن تخرجوا ترجمته فانظروا في الكنى: أبو يحيى الحماني يقول: وهو: عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني الكوفي ، لقبه بَشمين ، صدوق يخطئ، ورمي بالإرجاء، من التاسعة توفي سنة اثنتين ومائتين، وحديثه في الكتب الستة، إلا سنن النسائي ، أما الإرجاء فقد تقدم معنا الكلام عليه موسعاً ومفصلاً في المباحث الماضية.

    وخلاصة الكلام: أن الإرجاء يطلق على أمرين اثنين: الإطلاق الأول: على أمر محظور، والمتصل به ضال ولا خلاف في ذلك، ولم يخرج أحد في كتب السنة والحديث لمن اتصف بهذا الإرجاء الذي هو محظور، وهم الذين يقولون: العمل ليس من الإيمان، ولا ينفع وجوده، كما لا يضر عدمه، وقلنا: إن هذا القول باطل قطعاً وجزماً.

    الإطلاق الثاني يطلق على ثلاثة أمور: على إرجاء هدى، وعلى إرجاء احتياط، وعلى إرجاء خطأ، فإرجاء الهدى قلنا: إن أهل السنة كلهم مرجئة عند المعتزلة كالخوارج، وإرجاء احتياط قلنا: إن بعض أئمتنا توقفوا في الحكم على الذين اختلفوا بعد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، والإرجاء الخطأ هو ما قاله أبو حنيفة وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، أن العمل ليس من مسمى الإيمان، لكن وجوده ينفع الإنسان فيجعله من الصادقين الصالحين الراسخين، وضياعه يجعل الإنسان من الأتقياء الفاسقين، مع أنه ليس من مسمى الإيمان، وقلنا: إن هذا خطأ، وليس بينهم وبين أهل السنة إلا خلاف في العبارة لا في الحكم فالحكم متفق عليه وهو أن من فعل الكبيرة فهو فاسق.

    أبو يحيى الحماني عن الأعمش ، عن ابن عمر ، وترجمة ابن عمر تقدمت معنا.

    ترجمة الأعمش

    الذي نريد أن نتكلم عليه الآن هو الأعمش ، العلماء يقول: لم يسمع الأعمش من أنس ، ولا من أحد من الصحابة، وروايته عن الصحابة منقطعة، فلذلك حكم الترمذي على روايته بالانقطاع، فقال: فكلا الحديثين مرسل أي: منقطع؛ لأن الأعمش لم يسمع عن أحد من الصحابة، فهو يقول هناك: عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، وينقل هذا الأعمش ، عن أنس ولم يسمع منه، وينقل أيضاً مثل هذا عن عبد الله بن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، ولم يسمع من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

    الأعمش: هو شيخ الإسلام، وشيخ المقرئين والمحدثين في زمنه، وقد رأى أنس بن مالك وهو تابعي ولا شك في ذلك، وحكى وروى عنه، وعن عبد الله بن أبي أوفى ، لكنه روى عنه عن طريق التدليس لا عن طريق السماع والتحديث، فهو يروي عنه بواسطة، ولو أراد أن يروي عنه لأمكنه، لكنه ترك الرواية عنه لبعض الأسباب التي ذكرها الأعمش ثم ندم غفر الله لنا وله.

    إذاً: روى عن أنس ، وعن عبد الله بن أبي أوفى على معنى التدليس، فيقول: عن أنس ، وقال أنس ، وقال ابن عمر ، وعن ابن عمر دون أن يقول: سمعت أو حدثني، على معنى التدليس، فإنه مع إمامته كان مدلساً، وهذا هو نص كلام الذهبي في السير، فإن الرجل مع إمامته كان مدلساً، والتدليس تقدم معنا الكلام عليه وعلى أقسامه، وقلت: إن تدليس الإسناد: يراد منه أن يروي الراوي عمن عاصره ولقيه ما لم يسمعه منه بعبارة تحتمل السماع، بلفظة عن، أو قال، أو ما شاكل هذا.

    وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التذهيب في الجزء الرابع، صفحة اثنتين وعشرين ومائتين: روى الأعمش عن أنس ، ولم يثبت له منه سماع، والسبب الأول: أنه قال الأعمش : رأيت أنساً رضي الله عنه وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي، غفر الله لك، يقول: إن عنده أصحاب يحدثهم وينشر العلم بينهم، فهذا الذي منعه من سماعه من أنس بن مالك خادم النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا السبب انضاف إليه، السبب الثاني: وهو قوله لـأنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت إلى الحجاج حتى ولاك، والله لا أسمع منك شيئاً، يقول: أنت خدمت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم ابتليت بـالحجاج فبدأت تتصل به حتى جعل لك شيئاً من الولاية، أنا لا أروي عنك شيئاً، وغفر الله للأعمش ما جرى منه، فـأنس رضي الله عنه لقي من الظلم ما لقي من الحجاج، وكان يصبر ويحتسب، ثم في نهاية الأمر شد رحله إلى عبد الملك بن مروان في بلاد الشام يشكو إليه الحجاج وقال له: لو أن النصارى أدركوا من خدم عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لأكرموه وأحبوه، فكيف بمن خدم النبي عليه الصلاة والسلام، فأكرمه عبد الملك بن مروان ، ثم كتب للحجاج: لا إمرة لك على أنس ، والمعنى لا تتدخل في شئونه ولا تتطاول عليه، فإذاً: ابتلي أنس رضي الله عنه بـالحجاج وهذا ذكرته عند ترجمة أنس وكيف كان يعامله الحجاج، وكان يقول: له أصم الله سمعك أيها الشيخ الخرب، وقلت: إن الحجاج ظلوم غشوم، نسبه ولا نحبه، والحب في الله، والبغض في الله أوثق عرى الإيمان وهذا نص كلام الذهبي فيما تقدم معنا في ترجمة أنس رضي الله عنه عند مدارستنا لأول سنن الترمذي .

    ثم بعد أن مات أنس رضي الله عنه، كان الأعمش يتحسر، وهكذا حال أكثر الناس لا يبالون بالإنسان إذا كان حياً، فإذا مات شعروا بفقده.

    المرء ما دام حياً يستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد

    وهذا أنس رضي الله عنه رؤيته عبادة ونور، فضلاً عن سماع الحديث منه عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    يقول الأعمش متندماً ومتحسراً: ثم ندمت فصرت أروي عن الرجل عنه، وليتني أخذت الرواية منه مباشرةً؛ لأنني صرت الآن أروي عن أنس رغم أنفي لكن بواسطة، فلو رويت عنه بلا واسطة لكان أولى؛ لأن الحديث كلما قلَّ رجاله علا، وكلما كثر رجاله نزل، وكلما قل الرجال كلما قل احتمال الخطأ في الإسناد؛ لأن كل رجل منهم يتصور عليه أن يخطئ، فتصور الخطأ في ثلاثة أيسر من تصور الخطأ في أربعة، أو خمسة، أو ستة، ولذلك الحديث العالي عندنا هو الذي قلت رجاله قال عنه البيقوني:

    وكلما قلت رجاله علا وضده ذاك الذي قد نزلا

    الأعمش رأى أنساً رضي الله عنه كما أشار إلى ذلك الترمذي ، فقال: وقد نظر إلى أنس بن مالك وقال: رأيته يصلي، وهذا حصل منه في بيت الله الحرام، يقول الأعمش كما في حلية الأولياء في الجزء الخامس، صفحة خمس: رأيت أنساً يصلي في المسجد الحرام إذا رفع رأسه من الركوع رفع كله حتى يستوي بطنه، وهذه هي القصة التي أشار إليها الترمذي .

    قال ابن حجر في التهذيب في المكان المشار إليه سابقاً: قال ابن حبان : رأى الأعمش أنساً بمكة وواسط، وروى عنه شبيهاً بخمسين حديثاً، ولم يسمع منه إلا أحرفاً معدودة، وفي تاريخ بغداد في الجزء التاسع صفحة أربع، والأثر قال عنه الذهبي في السير في الجزء السادس صفحة تسع وثلاثين ومائتين: صالح الإسناد، لكن في إسناده أحمد بن عبد الجبار العقاربي حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وتوفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين للهجرة، يقول الأعمش كما في تاريخ بغداد: رأيت أنساً رضي الله عنه بال فغسل ذكره غسلاً شديداً، ثم توضأ ومسح على خفيه، فصلى بنا وحدثنا في بيته.

    وهذا يثبت للأعمش سماعاً من أنس ، لكن هذا لو ثبتت الرواية فكما قلت: فيها أحمد بن عبد الجبار العقاربي وهو ضعيف، ولو ثبت له السماع فالأمر كما قال ابن حبان : سمع منه أحرفاً معدودةً، أما بقية الروايات فروى عنه بواسطة.

    وثبت في تاريخ بغداد في الجزء التاسع صفحة أربع، قال الأعمش : سمعت أنس بن مالك يقرأ قول الله جل وعلا: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] ، فقرأها: إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأصوب قيلاً، فقيل له: يا أبا حمزة ! (وأقوم قيلاً)؟ فقال: كلاهما واحد!

    وفي إسناد هذا الأثر الحماني وتقدم معنا هنا وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، وقلت: إنه صدوق يخطئ رمي بالإرجاء، والأثر رواه أيضاً الطبري في تفسيره ولفظه: عن الأعمش قال: قرأ أنس ، وهناك ماذا يقول: سمعت، وسمعت هذه لا تدليس فيها بل فيها التصريح بالسماع، وأما هنا فقال صيغة تحتمل أنه سمع وتحتمل أنه لم يسمع، بلفظ قال: قرأ أنس ، والأثر رواه أبو يعلى ، والبزار ، عن الأعمش أن أنساً قرأ، قال الهيثمي في المجمع: ولم يقل الأعمش : سمعت أنساً ، وهذا مما يدل على أن الرواية المتقدمة يوجد فيها شيء من الوهم فلعله من أبي يحيى الحماني الذي هو صدوق يخطئ، وأن الرواية في تفسير الطبري ، وفي مسند أبي يعلى ، والبزار أرجح، وهي قوله: أن أنساً قرأ.

    وقول أنس رضي الله عنه: كلاهما واحد، في قوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] وقوله: (وأصوب قيلاً) قوله: كلاهما واحد يريد من حيث المعنى، فكأن أنساً رضي الله عنه يقول: أنا أخطأت القراءة لكن ما أخطأت في المعنى، كأنه يريد أن يقول: هذا خطأ يسير الخطب، فهو خطأ في التلاوة لكنني بينت به المعنى، وليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يقرأ اللفظ بما يرادفه أو بمعناه! لا، إنما الخطأ حتماً يكون أخف، يعني لو قال بدل قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الفرقان:37]: واعتدنا للكافرين عذاباً أليماً، تقول له: أخطأت، فيقول: كلاهما واحد! لكن لو قال: وأعتدنا للمؤمنين، نقول له: هذا الآن خطأ في التلاوة وفي المعنى! فقوله هنا: كلاهما واحد، أي من حيث المعنى، هذا الذي يريده أنس فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا، أن هذا واحد من حيث المعنى، وهذا الذي قاله أبو بكر الباقلاني عليه رحمة الله في كتاب الانتصار في نقل القرآن إلى الأنصار، وأنه لا يقصد أنه يجوز أن يقرأ اللفظ بما يرادفه أو بمعناه الذي يدل عليه، وأن يغير ألفاظ القرآن، فهذا لا يجوز! فإن من غير حرفاً واحداً أو نقطةً واحدة من القرآن متعمداً فقد كفر.

    والقرآن يتبع السماع لا القياس، ولذلك هناك اختلاف كبير بين قراءة القراء وفقه الفقهاء، فقراءة القراء متواترة لا خطأ فيها، ومن طعن في قراءة فهو مرتد، ومن خطأ قراءةً فهو كافر؛ لأنه يرد على الله، والقراءة هي كلام الله، أما فقه الفقهاء فمبناه على الاستنباط والاجتهاد، والإنسان قد يخطئ ويصيب، ولذلك أنت عندما تبحث في القراءات تجد أن مبناها على السماع المحض الذي يتبع النزول لا القياس، فمثلاً قول الله جل وعلا في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] ، وفي قراءة: ملك يوم الدين فهاتان قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن لا يجوز أن تقرأ بهذا اللفظ في سورة الناس لأنها نزلت مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2] فلا تقرأ مالك الناس مع أن الرسم واحد في السورتين، ملك الناس وملك يوم الدين، فلو أراد أحدهم أن يقيس تلك على هذه وقال: أستعمل القياس! نقول له: توقف، وإن قال: إنه لا يتغير المعنى! فنقول له: هذا كلام الله متعبد بتلاوته، ومعجز بلفظه، لا يجوز أن تغير منه حرفاً لا بتقديم ولا بتأخير، ولا بمرادف ولا غيرها، فجواز القراءة يتبع اللزوم، ولا دخل للقياس ولا لإعمال الرأي فيه أبداً.

    فما قاله أنس هنا لا يأتي أحد الزنادقة ويفتح باباً ويقول: وأقوم قيلاً وأصوب قيلاً كلاهما واحد! يعني إذاً: بدل من أن نقول: (تبت يدا أبي لهب) نقول: هلكت يدا أبي لهب ، وشقيت يدا أبي لهب ، أو خسرت يدا أبي لهب ، فكلها بمعنىً واحد! لأن أنساً رضي الله عنه أراد أن يقول: الصواب ما ذكرتموني به، لكن اعلموا أنه مع هذا الخطأ فأنا ما أخطأت خطأً فاحشاً، بمعنى أنني غيرت المعنى، وهذا هو الذي يقصده، يعني (أقوم قيلاً) بمعنى أصوب قيلاً، المعنى واحد، لكن لا يجوز أن نقرأ بذلك، فانتبه لهذا المعنى هذا الذي يقصده أنس رضي الله عنه.

    فالقراءات مبناها على السماع المتواتر، والفقه مبناه على الاجتهاد والاستنباط، ولذلك عندك في الفقه صواب وخطأ، وراجح ومرجوح، وأجر وأجران، وأما في القراءات فليس عندك إلا صواب فقط، ولا يجوز أن تفاضل فتقول: قراءة حمزة أفضل أو أرجح أو أظهر أو أبرك من قراءة عاصم ، ولو فعلت هذا لكنت كافراً! وما ترخص به بعض النحاة من استعمال هذا وأعملوا الأقيسة النحوية في القراءات باطل، ولذلك يقول ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد: عمل النحاة في القراءات يشبه عمل الجهمية نحو نصوص الصفات، فهؤلاء حكموا القراءات بأقيستهم، والقرآن ما نزل لا بقواعد الكوفة ولا بقواعد البصرة، نزل بلسان عربي مبين، وإذا ما أثبت القرآن قاعدة من قواعد الكوفة فلا يعني هذا تقرير قواعد الكوفيين، ورد قواعد البصريين ألبتة، والعكس كذلك، فينبغي أن يصحح النحاة قواعدهم على حسب القراءات، ولذلك قراءة حمزة في أول سورة النساء، تسفه عليها كثير من علماء اللغة وقولهم باطل، ولولا عذرهم بجهلهم لحكم بردتهم، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فقرأ حمزة (الأرحام) بالخفض مع أن التسعة قرءوا بالنصب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، فانفرد حمزة وقال: (والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)، والأرحام بالخفض، وهنا عطف الاسم الظاهر على الضمير المكني المجرور دون إعادة حرف الجر، والنحاة يعتبرون هذا معيباً في الشعر فكيف في النثر، فكيف بكلام القرآن! يقولون: هذه القراءة قبيحة! قال هذا كثير من النحويين، وكلامهم يرد عليهم، ووصل الشطط ببعض النحاة أن قال: لعل حمزة قرأ بناءً على قواعد الكوفة، وأنه قرأ باجتهاده، ثم قالوا: ولا نسلم بتواتر القراءات السبع، ومن أنتم حتى تسلموا أو لا تسلموا؟! إن هذه القراءة متواترة شئت أم أبيت! ومن نشر هذا فهو كافر مرتد، لكن الناس أعداء ما جهلوا فانتبه لهذا.

    إذاً: قول أنس رضي الله عنه فيما حكاه عنه الأعمش : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] ، وأصوب قيلاً، وقوله: كلاهما واحد، أي: في المعنى؛ لأنه يقول: أنا أخطأت التلاوة لكن ما أخطت المعنى، ولا حرج فيه، وكلام الله جل وعلا محفوظ من التغيير والتبديل، لكن هو يريد أن يقول: خطأ يسير، يعني أبدلت اللفظ بما يدل على معناه، وإن كنت أخطأت في التلاوة، هذا هو مراد أنس من كلامه رضي الله عنه.

    إذاً: الأعمش يحكي أنه سمع أنساً يقرأ في الروايات الأولى، لكن في هذه الرواية صدوق يخطئ، ورواية الطبري ، وأبي يعلى ، والبزار فيها أن أنساً قرأ، وهذه هي الصيغة التي صدرت من المدلس، وهي لا تدل على السماع، وأما في الرواية الأخرى فقد صرح على كل حال بالسماع فيمكن أن يقال والعلم عند الله: إن الأعمش سمع من أنس أحرفاً يسيرة، وبقية الروايات عنه بواسطة، وهو كما تقدم معنا مدلس مع رسوخ قدمه في الدين، وقلنا: إن التدليس المعتمد مذهب للرواة، فنعامل الراوي المدلس على حسب مذهبه دون أن نطعن فيه أو نطعن في عرضه، فإن صرح بالسماع روايته مقبولة؛ لأنه ثقة، وإذا لم يصرح نتوقف في روايته؛ لأنها محمولة على الانقطاع، وهذا ما أشار إليه الترمذي بقوله: وكلا الحديثين مرسل، أي: فيه انقطاع؛ لأنه لا يوجد إرسال، فقد ذكر الصحابي وهو أنس ، وابن عمر ، لكن الراوي عنهما وهو الأعمش مدلس، وما صرح بالسماع ولا بالتحديث، هنا يقول: عن أنس قال، وهناك يقول: قال: قال ابن عمر ، والصيغتان إذا صدرتا من المدلس لا تدلان على سماعه من شيخه، وعليه فالصيغة منقطعة.

    ترجمة مسروق بن الأجدع

    ثم ذكر مسروقاً وهو من رجال الترمذي وسنذكر ترجمته.

    مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبو عائشة الكوفي ، ثقة فقيه عابد، شيخ أهل اليمن، مخضرم يعني أدرك الجاهلية والإسلام، ولم تثبت رؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام، من الطبقة الثانية، توفي سنة اثنتين أو ثلاث وستين للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة، أخرج حديثه الجماعة.

    قال الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الرابع صفحة ثلاث وستين: عداده في كبار التابعين المخضرمين، سمي مسروقاً لأنه سُرِقَ وهو صغير، كما قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، ثم وجد فقيل له: مسروق ، سرق ووجد، فسمي بهذا الاسم، فصار اسماً له يعرف به، قال أنس بن سيرين فيما يرويه عن امرأة مسروق تقول: كان مسروق يصلي في الليل حتى تتورم قدماه، من العباد الخاشعين المخبتين، تقول امرأته: فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه، ولما حج لم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع، فمن اليمن إلى مكة لم يضع جنبه على أرض، فإذا جاءه النوم ينام وهو ساجد، حتى عندما كان يركب على الناقة في رحلته لا ينام إلا وهو ساجد، وكان يقول: لأن أفتي يوماً بعدل وحق أحب إلي من أن أغزو سنة، وهذه هي منزلة العلماء لذا أخلفهم جل وعلا.

    وأما اسم أبيه الأجدع فقد غير عمر بن الخطاب اسم والد مسروق إلى عبد الرحمن، وكان لا يعرف مسروق إلا أنه ابن عبد الرحمن ، مسروق بن عبد الرحمن ، وكان اسمه في الديوان كذلك، وإذا خرج عطاؤه قيل: هذا عطاء مسروق بن عبد الرحمن الوادعي الهمداني ، أما الأجدع هذا فحذف، وليت الحافظ ابن حجر حذفه من التقريب، وقال: مسروق بن عبد الرحمن .

    جاء في المسند، وسنن أبي داود ، وابن ماجه ، ورواه الحاكم في المستدرك: ( أن عمر لقي مسروقاً وأعجب به، ورآه يقيم الصلاة والعبادة، فقال له: ما اسمك؟ قال: مسروق بن الأجدع ، فقال له عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأجدع شيطان )، هذا من أسماء الشيطان، فأنت كأنما سميت نفسك شيطاناً أو إبليساً ويقال: إنه اسم للشيطان وأن أبو مرة كنية له، قال: (الأجدع شيطان)، أنت مسروق بن عبد الرحمن ، وكان اسمه في الديوان كذلك، وهذا الحديث في إسناده مجالد بن سعيد الهمداني أبو عمرو الكوفي ، وليس بالقوي؛ لأنه تغير في آخر عمره، وقد توفي سنة أربع وأربعين ومائة للهجرة، وهو من رجال مسلم ، والسنن الأربعة رحمة الله عليهم جميعاً، والإمام مسلم إنما أخرج له مقروناً بغيره ولم يخرج لـمجالد بن سعيد في الأصول، والحديث لو سلم من مجالد لكان له من القوة ما يفوق درجة الصحة.

    1.   

    تراجم رجال باب ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين

    أما ما يتعلق بترجمة رجال الحديث الأول في الباب الثاني باب ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين.

    ترجمة محمد بن أبي عمر المكي

    محمد بن أبي عمر المكي ، وهو شيخ الترمذي لم يرد هذا الإمام معنا فيما مضى، وهو محمد بن أبي عمر ، محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى ، فـأبو عمر إما أن يكون هذا كنية لـيحيى والد محمد ، وإما أن يكون أبو عمر كنية لوالد يحيى ، أي لجد محمد ، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر نزيل مكة، وعليه لو كان أبو عمر كنية لوالد يحيى فمحمد بن أبي عمر نسب إلى جده، فحذف الأب الذي هو يحيى ، وقيل: أبو عمر كنية لـيحيى ، وعليه يسمى بـيحيى ويكنى بـأبي عمر والعلم عند الله.

    وهو من رجال الترمذي فترجمته موجودة في التقريب قطعاً، فلا يوجد رجل من رجال الكتب الستة إلا وله ترجمة في هذا الكتاب المبارك، وقد يعترض بعض الحاضرين على هذه اللفظة: المبارك، أخبرني بعض الإخوة الكرام أنه تكلم مرة عن بعض الكتب التي يقرأها المسلمين فقال: سنقرأ في هذا الكتاب المبارك وهو كتاب زاد المعاد، فلما انتهى قال له بعض الحاضرين: كيف تقول: هذا الكتاب مبارك، لا يجوز أن تقول: هذا كتاب مبارك! وعندما تنحط الأمة إلى هذا الحد لا تعلم هل هؤلاء الآن في مستوى البشر، أو نزلوا إلى دركة البقر؟! كتب أئمتنا التي هي كتب الحديث، والتفسير، والفقه، وشروح السنة، هذه يقال عنها: مباركة أو مشئومة؟! مباركة.

    الإمام ابن قدامة في أول المغني في المقدمة يقول: هذا كتاب مبارك مختصر، ونحن نريد أن نشرحه على مذهب الإمام أحمد ، ونذكر أقوال أئمة الإسلام مع مذهب الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله، لنتبرك بأقوالهم، وهذا كتاب مبارك.

    يعلق المعلق، نقول: هذه مجاوزة وهذا تساهل من الإمام ابن قدامة لأن الكتاب المبارك هو القرآن؛ لأن الله يقول: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء:50]؟! هذا سوء فهم، وإلا فهل معنى الآية أن القرآن هو المبارك وما عداه ليس فيه بركة؟ كتب التفسير التي تشرح القرآن فيها بركة، نعم البركة التامة الكاملة في كلام الله هذا لا شك فيه، لكن هل معنى هذا أن كتب الفقه وغيرها من الكتب ليست مباركة؟ حسناً ماذا تقول عنها لو قيل لك: هذا كتاب مبارك، ونحن نعني أن فيها نفعاً وفائدة وخيراً ونوراً وبركة، هل تريد أن نقول: هذا كتاب مشئوم؟ هل التنطع يصل ببعض الناس إلى أن يفتري الكذب، وهذا تنطع مثل تنطع الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)، هذا الذي يقول لك: لا يجوز، ولو ذهبت إلى بيته لرأيت التلفاز الخبيث، وعجباً أنت الآن جئت للفظ كتاب مبارك فعملت لنا مشكلة وقلت: هذه بدعة! حسناً والتلفاز، هل التلفاز سنة مستحبة؟ وقلت لبعض من أعمى الله قلوبهم لما رأيت الشغالات في منزله وقلت له: إن دخولها إلى البيت ظلم وظلمات، أتدري ماذا قال؟ قال: ما أعلم أن أحداً سبقك إلى هذا القول! فإذا جئت إلى هذه الألفاظ فتراهم يضللون في هذه الألفاظ التي يقولها أئمتنا، والله إذا كان ابن قدامة الذي توفي سنة عشرين وستمائة مخرفاً فلنبحث عن دين جديد، بل ينبغي أن نبحث عن دين جديد إذا كان هذا الإمام المبارك صاحب الكتب في التوحيد وفي الفقه ومن شهد له بالخير، وأن له لسان صدق في هذه الأمة، يعلق أحد منهم على عباراته هذه في المقدمة ويقول: هذا تجاوز وتساهل ورحمه الله وهذا لا يجوز، نحن سنستدرك على أئمتنا الآن في ألفاظ العقيدة! وليتنا نستدرك كما قلت وعندنا ثقة، ألا يكفي ما نحن فيه من معاصي في حق أنفسنا، حتى نريد أن نتطاول على أئمة الإسلام؟! هذا تنطع بل منتهى التنطع، بل حاله كما قيل:

    عجبت من شيخ ومن جهده وذكره النار وأهوالها

    يكره أن يشرب في فضة ويسرق الفضة إن نالها

    كان من تقدمنا يعتذرون من جهلهم، فصرنا نعتذر من علمنا، وإذا أردت أن تخبر الناس بقضية شرعية ثابتة يقول لك أحدهم: اعتذر، وذاك يقول: هذا منكر، وهذا تنطع في كل شيء، مع أنه في جانب يفتح الباب على مصراعيه ويتحلل، وبجانب آخر يضيق ولا يفتح ولا بمقدار الإبرة، عبد الله! رفقاً بنفسك! إما شدة في جميع الأحوال، وإما اقتصاد، وإما ليونة، أما أن تشتد في جهة وتضللنا وأنت تضل وتخرف وتقول: هذا حرام، اتق الله! ولما كنت في ذلك المجلس وطال النقاش حول موضوع الشغالات وقيل لبعض الإخوة: اتق الله، قال: أنا عندي لكن ماذا أعمل؟! فقيل له: لعلك تراها، قال: والله أرى وجهها لكن إن شاء الله ليس باستمرار، وما تدخل معي إلى الحجرة منفردة.

    وعجباً هذه المحرمات تستبيحها وتفعلها ولا يتمعر وجهك! وليتك إذا فعلتها تقول: أنا مخطئ، وهذه الحادثة في مدينة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، والله يقول فيها: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، والمعصية فيها ليست كالمعصية في مصر أو في حلب هذه المدينة المنورة فاتق الله!

    إذاً: هذا فيما يتعلق معنا بترجمة هؤلاء الأئمة المباركين المهتدين، وهذا أول مكان يرد معنا فيه ذكر لـمحمد بن أبي عمر المكي وذكرت لكم أنه صدوق صنف المسند، ولازم ابن عيينة ، لكن قال أبو حاتم : كانت فيه غفلة، من العاشرة، توفي سنة ثلاث وأربعين يعني بعد المائتين بالاتفاق، وحديثه في الكتب الستة إلا البخاري ، وسنن أبي داود ؛ لأن جميع الرموز موجودة في التقريب إلا خ وهي للبخاري ، ود وهي لـأبي داود ، إذاً: أخرج له مسلم ، وأهل السنن الأربعة إلا أبو داود .

    قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الثاني عشر صفحة ست وتسعين: هو الإمام المحدث الحافظ شيخ الحرم، وإنما ذكرت هذا الكلام من السير للطيفة سيذكرها في ترجمته كان يقول بها ويغبط عليها، ونسأل الله أن يتقبلها منه وممن تصدر منه بفضله ورحمته، حج سبعاً وسبعين حجة، ولم يقعد عن الطواف ستين سنة، يعني: مدة ستين سنة لا يفتر ويلازم الطواف رحمه الله.

    قال: حدثنا سفيان بن عيينة تقدمت معنا ترجمته في الحديث الثامن.

    قال: عن معمر. تقدمت معنا ترجمته أيضاً في الحديث الثامن عند سفيان بن عيينة ، وقلت: معمر هو نزيل اليمن، من أهل اليمن مثل مسروق ، وقلت: زوجه أهل اليمن عندما أعجبوا به، فقيدوه بزواجه، لما أحبه أهل اليمن قال لهم شيخ فيهم صاحب رأي وحنكة: إن أردتم ألا يخرج معمر من بلادكم فقيدوه، قالوا: بأي شيء نقيده؟ ظنوا أنه يريدهم أن يقيدوه من رجليه! قال: يعني زوجوه، الزواج قيد، زوجوه فإذا صار له أهل عندكم لم يخرج، فزوجوه فبقي في اليمن حتى لحق بالله الأكرم سبحانه وتعالى.

    إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه قال شيخ: زوجوه ودعوه في عذابه

    لكن الشطر الأخير حتى يوافق المعنى الشرعي، أقول فيه: قال شيخ: زوجوه خلصوه من عذابه؛ لأنه إذا تزوج تخلص، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته -كما تقدم معنا- عن ثابت، والأعمش ، وهشام بن عروة شيئاً، وكذلك فيما حدث بالبصرة، توفي سنة أربعة وخمسين ومائة، حديثه مخرج في الكتب الستة.

    ترجمة يحيى بن أبي كثير

    قال: عن يحيى بن أبي كثير، وهو يحيى بن أبي كثير الطائي ، يكنى بـأبي نصر اليمامي ، ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل، من الخامسة، توفي سنة اثنتين وثلاثين بعد المائة، وقيل: قبل ذلك، واختلف في اسم أبيه، وسماه هنا ابن أبي كثير يعني أبو كثير ، وقيل: صالح، وقيل: يسار، وقيل: نشيط، وقيل دينار، وقد ذكر هذا الذهبي في السير في الجزء السادس صفحة سبع وعشرين. ويحيى بن أبي كثير من عباد الله الصالحين، ومن أقواله النافعة التي ينبغي أن يعتني به طلبة العلم ولا سيما من يحضرون الدروس في وقت الملل، كان يقول: لا يستطاع العلم براحة الجسد، يعني: أنت تطلب العلم وتريد أن تريح جسدك هذا مستحيل، لا بد من جد وجهاد وتعب وعمل.

    تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون

    وليس اكتساب المال دون مشقة تلقيتها فالعلم كيف يكون

    يعني: الذي سيبني بيت دجاج سيحتاج إلى مشقة، مع ما في ذلك من الأمور التي ستحدث، هذا على صغر بيت الدجاج، وأنت ستصبح خليفة للنبي عليه الصلاة والسلام، وستكون مع الرحمن يوم القيامة في فصل القضاء شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، فهل ستأتي يعني هذه الأمور كلها لك بلا تعب؟! هذا لا يمكن أبداً، لذلك إذا رأيت طالب العلم ينام في البيت في النهار فاكتب على جبهته بالخط العريض: لا يفلح ولا يأتي منه خير، هو جيفة في الليل، وفي النهار جوال هنا وهناك، فلا بد من سهر في الليل، ولا بد من صمت في النهار، لا يستطاع العلم براحة الجسد، وكان يقول ونعم ما قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، لكن أريد أن أقول من باب المناصحة: إذا أردت أن تعامل المبتدعة بهذه المعاملة فسوِ بينهم، لا تعامل مبتدعاً بهذا، وإذا رأيته لا تسلم عليه، ثم ترى من هو أكثر بدعةً منه وقد يكون زنديقاً فتسلم عليه، كما هو حال الكثير! لأنك الآن تهجر لهواك لا لمولاك، أعرف بعض الناس، ويعلم الله من فترة أتحين مقابلته لأسلم عليه، وقابلته عدة مرات بعد ما كان يحضر الدروس بانتظام، وهو الآن يتهرب، ماذا في قلبك؟ إذا كان عندك شيء من النصح فتكلم، قلت: وذاك سيعذر لو كان يعامل سائر المبتدعة كذلك إذا كان يراني أنني من المبتدعين.

    إن ميزان الحب والبغض لا بد أن يكون لله، وكثير منا -إلا من رحم ربنا- لا نحب لله ولا نبغض لله، إذا أبغضنا الإنسان نجعل بغضنا الشخصي له ملبساً بثوب الشر، وإذا أحببناه نجعل حبنا الشخصي له ملبساً بثوب الشر، ونحن في الحقيقة بهذا اكتسبنا وزرين: أحببناه لأنفسنا، ثم قلنا: نحبه لربنا، ففي الحالتين نأثم، وذاك أبغضناه لأنفسنا وقلنا: أبغضناه لأنه مبتدع عاص لربنا، ونحن على كذب! ورضي الله عن عمر بن عبد العزيز إذ يقول: لا تكن ممن يقبل الحق إذا وافق هواه ويرده إذا خالف هواه، فإنك تعاقب في الحالتين، يعني: أنت عندما اجتنبت هذا المبتدع لأنه على زعمك أنه مبتدع، لماذا ركنت إلى المبتدع الآخر؟ لماذا ما ساويت بينهم ما دام هذا مبتدع وهذا مبتدع؟ إذاً ليس هجرك ولا حبك لربك، وهذا حالنا، ونسأل الله أن يتوب علينا! إن الهوى يعمي ويصم، نحن أمة حالنا كما ترونا نسأل الله أن يحسن ختامنا لا نبغض في الله، ولا نحب في الله، ونقول: هذا مبتدع ينبغي ألا نسلم عليه، حسناً سوي بين المبتدعة يا عبد الله! وعاملهم معاملةً واحدة، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يحسن ختامنا، وأن يتوب علينا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    يحيى بن أبي كثير صاحب خشوع وعبادة وإخبات، ورد في وصفه أنه إذا شهد جنازةً لا يستطيع أن يتغدى ولا أن يتعشى ولا أن ينام! عندما يشهد حياً صار جثةً هامدة كأنه قطعة خشب، كأنه حجر أصم، طيب ألا يعتبر بهذا، وأنت تكاد أن تكون كذلك، ولا أحد يستبعد هذا، لعلنا لا نخرج من مساجدنا، أو لا نصل إلى بيوتنا، أو لا يصبح علينا الصبح، لابد أن تتوقع هذه الحالة في كل لحظة، ولا بد من الاعتبار، بينهما إنسان يتحرك ويتكلم ويعاشر ويأكل ويشرب يتوقف بعد ذلك عن كل حركة، كأنه قطعة جامدة! ومن الذي يعتبر؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    إذا شهد جنازةً لا يتغدى ولا يتعشى ولا ينام، يبقى في محاسبة نفسه، حقيقةً هذا هو الرجل الصالح يحيى بن أبي كثير ، وحديثه مخرج في الكتب الستة.

    ترجمة عبد الله بن أبي قتادة

    قال: عن عبد الله بن أبي قتادة ، عبد الله هذا أول مكان يرد فيه ذكر اسمه ووالده أبو قتادة الصحابي تقدم كما قلت في الحديث العاشر، وأما الولد فهو عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي تقدم معنا، وأشار إليه الإمام الترمذي هنا، وعليه فهو عبد الله بن الحارث بن ربعي الأنصاري المدني ، ثقة من الثالثة، توفي سنة خمس وتسعين، حديثه مخرج في الكتب الستة.

    بقية الرجال تقدم معنا ذكرهم؛ وفي الباب عن عائشة تقدم معنا ذكرها، سلمان يفضل أن نؤخر ترجمته عند الباب الثالث الذي بعد هذا، وهو الصحابي الذي سنتدارسه في هذه المباحث، وأبو هريرة تقدم معنا عند الحديث الثاني، وسهل بن حنيف تقدم معنا عند الحديث الثامن.

    ترجمة أبي معاوية الضرير

    الباب الثالث وهو الثاني عشر الاستنجاء بالحجارة، حدثنا هناد تقدم معنا عند الحديث الأول، وهذا من الشيوخ الذين أكثر عنهم الإمام الترمذي في جامعه.

    قال: حدثنا أبو معاوية ، هذا أول مكان يرد فيه ذكر أبي معاوية ، ولم يذكر اسمه وهذه كنيته، وترجمته في الكنى أبو معاوية ، ويحيلك بعد ذلك عليه، وهو أبو معاوية محمد بن خازم ، بالخاء المعجمة ليس حازم بالمهملة، أبو معاوية الضرير الكوفي ، عمي وهو صغير، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش ، وقد يهم في غيره، أي: إذا روى عن غير الأعمش قد يهم ويخطئ، وأما روايته عن الأعمش فتقدم على من عداه، من كبار التاسعة توفي سنة خمس وتسعين، بعد المائة، رمي بالإرجاء، وقلت لكم: سيأتينا الرمي بهذا اللقب لكثير من الرواة فانتبهوا الآن، غاية ما نقول في الإرجاء الذي رمي به من رمي أنه إرجاء الخطأ، أخطأوا في اللفظ عندما عرفوا الإيمان، لكن هذا لا ينقص من درجتهم، ومع ذلك لا نتبعهم على ما خالفوا فيه، وخلافهم مع جمهور أهل السنة خلاف لفظي، ورميهم بهذا اللقب لا ينزل من درجتهم، ولا يوصفهم بالإجحاف، حديثه في الكتب الستة، أخرج حديثه الجماعة.

    قال الذهبي في السير: عمي وهو ابن أربع سنين، وقال أبو داود : يقال: عمي وهو ابن ثمان سنين، ولما مات لم يحضر وكيع جنازته كما تقدم معنا أيضاً أن سفيان الثوري لم يحضر جنازة شريك ووكيع أيضاً أو سفيان لم يحضر جنازة ابن أبي رواد عبد المجيد ، ووكيع لم يحضر جنازته لأنه مرجئ، وكما قلت لكم: يعني لا يجوز أن تقابل الشدة بالشدة، والخطأ بالخطأ، فما جرى من أبي معاوية خطأ في اللفظ لكن لا يستحق أن لا يصلى عليه، ومن لم يصل عليه هو يعلم أنه يستحق أن يصلي عليه لكن أراد أن ينفر الناس عنه بهذا، وليته أخبرهم بغير هذا المسلك الشديد.

    كان يقال له: رئيس المرجئة بالكوفة، لأنه بعد أبي حنيفة ، وأبو حنيفة كان يقال له أيضاً: رئيس المرجئة في زمانه، وهذا بعده كما قلنا؛ لأنه توفي في سنة خمس وتسعين ومائة، وأبو حنيفة سنة خمسين ومائة، فهذا في زمانه كان شيخاً للمرجئة يقول: بأن الإيمان اعتقاد وإقرار والعمل ليس من مسماه، لكن إن فعلته صرت صالحاً، وإلا فأنت فاسق شقي.

    قال ابن حبان : كان حافظاً متقناً، لكنه كان مرجئاً خبيثاً، لا يا عبد الله! والله إنه مبارك طاهر علم إمام، وليس كما قلت، وإرجاؤه لا ينقص قدره لا في الدنيا ولا في الآخرة إن شاء الله، مثل هذه الألفاظ التي وقعت من بعض العلماء المتقدمين، أو من بعض اللاحقين في هذا الحين، هذا مما ينبغي أن تصان عنه الألسن، ولذلك من كان يضبط نفسه عن مثل هذه الألفاظ فله منزلة عالية في الدنيا إن شاء الله وفي الآخرة، وكان أكثر من يتحرى في ضبط لسانه الإمام البخاري ، فكان أعف خلق الله لساناً، ما أطلق لفظةً جارحةً على إنسان، وكان عندما يريد أن يطعن فيه ويشنع في جرحه يقول عنه: منكر الحديث، فلا تراه يستعمل تلك العبارات التي منها: دجال، وخبيث، ووضاع، وكذاب، كل هذا كان ينزه لسانه عنه، وينبغي أن نتصف بهذا الخلق الجميل الجليل، وابن حبان يقول: ولكنه كان مرجئاً خبيثاً، أما إنه خبيث والله ليس بخبيث، وحديثه في الكتب الستة، وإذا كان خبيثاً هل تأتي روايته في الصحيحين؟!

    كان أبو معاوية إذا دُعي إلى طعام يسب هارون الرشيد على ندم، ومرة أراد أن يغسل يديه بعد الطعام، فقام هارون وصب على يديه الماء وقال له: يا أبا معاوية ! أتدري من يصب على يديك الماء؟ فقال: لا، قال: هارون ، فقلت: أجلك الله كما أجللت العلم وأهله، هارون الرشيد يصب على يدي أبي معاوية الضرير الماء بعد أن يأكل عنده.

    وكان يقول أبو معاوية كما في سير أعلام النبلاء في الجزء السادس صفحة أربعمائة وواحدة: حب أبي حنيفة من السنة، وأنا كنت ذكرت سابقاً في بعض المباحث: أن حب الإمام أحمد عليه رحمة الله من الدين، وأن ذكره من مجالس الذكر، وقلت: إن المراد من ذكره أن نذكر فضائله وجده واجتهاده والتزامه وصبره ونشره لدين الله رحمه الله، وإذا فعلنا هذا فالله يرضى عنا وينزل علينا الرحمات، فقام بعض السفهاء الذين سمعوا هذا الكلام فتركوا ما بعده وما قبله وصار حاله كحال من قال: إن الله نهانا عن قربان الصلاة؛ لأنه قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43]. وحال من قال: إن الله تهدد المصلين بالعذاب الأليم فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، حسناً يا عبد الله أكمل ما بعدها! وقولي: ذكر أحمد من مجالس الذكر هذا القول قيل عن أئمتنا كيف سنؤوله، وما المراد منه؟ ثم ليته إذا حذف هذا الكلام ونسبه إلى من قاله من أئمتنا الأعلام، قال: أنا أقول: هذا الكلام غير صحيح، وفلان مخطئ، أيضاً ما نسبه إلى ذلك الإمام الذي نسبته إليه، فجاء نسبه إليه، ليته عندما نسبه إليه ما فسره بحيث يتلاعب فيه، ماذا قال: قال: أنا أقول: ذكر أحمد من مجالس الذكر يعني نجلس ونقول: أحمد أحمد أحمد أحمد أحمد كما نقول: بدوي بدوي بدوي بدوي! والله الذي لا إله إلا هو لو أن الشيطان قيل له: ماذا تقول في هذا الكلام؟ لقال: استحوا عباد الله من الافتراء والكذب! يعني ذكر أحمد من مجالس الذكر يعني ذكر أحمد مثل لا إله إلا الله، كما نقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، نقول: أحمد أحمد أحمد أحمد أحمد! هذا لا يقوله إلا من طمس الله على بصيرته.

    يا عبد الله! ينبغي أن تنصف حتى مع الكفار، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، الذين هم كفار وصدوك لا يجوز أن تعتدي، فكيف مع المؤمنين الذين ينقلون الكلام عن أئمة الهدى فتأتي تحذف من نسب إليه الكلام، وتحذف تأويلي للكلام، وتنسب الكلام إلي، وتؤوله لما تريد أنت، هذه ليست ديانة بل هي خيانة، يا عبد الله! انقل ما قيل، ثم إذا عندك اعتراض اذكره ليظهر للناس من المفتري، أما لما تذكر الكلام تقول: عبد الرحيم يقول للناس: ذكر أحمد من مجالس الذكر يعني أحمد أحمد أحمد! لو حتى يقول كل من يسمع هذا: أعوذ بالله من يقول هذا! وهنا حب أبي حنيفة من السنة ومن الدين، وهذا حب العلماء أجمعين وحب المسلمين كذلك.

    هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767957483