يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
عندنا اليوم أحاديث أربعة:
الحديث الأول: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )، رواه أبو داود بإسناد صحيح، كما يقول المؤلف.
وإسناد الحديث كما ذكر المؤلف صحيح، رجاله رجال الصحيح، فكلهم ثقات، وقد صححه جماعة من العلماء، منهم: المؤلف، كما قال هنا: وإسناده صحيح، ومنهم النووي، فإنه صححه في المجموع، وصححه أيضاً في كتابه الخلاصة، وهو مخطوط.
وممن صححه أيضاً: عبد الحق الإشبيلي في كتاب الأحكام، وصححه أيضاً ابن عبد الهادي في كتابه المحرر في أحاديث الأحكام، وصححه أيضاً الشيخ ناصر الدين الألباني، فالحديث إسناده صحيح لا مطعن فيه.
ولكن جاء في بعض نسخ أبي داود، ذكر: ( وبركاته ) في التسليمة الأولى فحسب، وفي بعضها في التسليمتين كما ذكر المصنف هنا، ففي بعض نسخ أبي داود : (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عن يمينه، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) وفي بعضها كما ذكر المصنف بذكر: (وبركاته) في التسليمتين.
وحديث ابن مسعود هذا: أخرجه أبو داود أيضاً، والنسائي والترمذي وأبو عوانة والدارمي وابن ماجه والبيهقي وأحمد .. وغيرهم، وحديث ابن مسعود حديث صحيح، بل أصله في صحيح مسلم رحمه الله: ( أن ابن مسعود ابن مسعود
وقال الترمذي عقب رواية حديث ابن مسعود قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي حديث ابن مسعود أيضاً وهو شاهد لحديث وائل في بعض طرقه: ذكر زيادة: (وبركاته) في التسليمة الأولى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن يمينه، أما عن يساره فيقول: (السلام عليكم ورحمة الله) فحسب، ولكن هذه الزيادة ضعيفة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنها واردة؛ ولهذا تعجب الحافظ ابن حجر رحمه الله من الإمام ابن الصلاح، حيث أنكر ورود هذه الزيادة، وقال: إنه لم يقف عليها في شيء من كتب الحديث، وهي واردة في حديث وائل بن حجر، وواردة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، لكن كلمة ابن الصلاح هذه، وجدت النووي نقلها في المجموع، وأضاف ابن الصلاح : أنه قال: إنه لم يقف عليها في شيء من كتب السنة، إلا من حديث ابن مسعود وهي ضعيفة، ثم استطرد في ذكر تخريجها، فلا أدري ما هي الكلمة التي نقلها ابن حجر رحمه الله عن ابن الصلاح .
فعلى أي حال هذه الرواية واردة في كتب السنة، وإن كانت ضعيفة.
إذاً: الصيغة الثانية في اليمين يقول: (وبركاته) أما في الشمال (ورحمة الله) فحسب، لا يزيد عليها.
وهذا الحديث هو حديث ابن عمر : رواه أحمد وغيره وسنده صحيح، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها في المسند أيضاً بنحو حديث ابن عمر وسنده أيضاً صحيح، بل أصله في صحيح مسلم، ولكن بدل قوله: (تسليمة) قال في مسلم : ( تسليماً يسمعنا ) وإلا فأصل الحديث في مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها.
وقد جاء عن عائشة أيضاً حديث آخر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا )، يعني: شيئًا قليلاً.
فهذا الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها رواه الترمذي في سننه، والحاكم، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً ابن الملقن في الخلاصة، وضعفه جماعة من أهل العلم وأعلوه، من أشهرهم: ابن عبد البر فقد ضعف الحديث، وأطال الحديث عليه، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكذلك ضعفه النووي كما سوف يأتي، بل قال: إنه لا يثبت في التسليمة الواحدة حديث، وكذلك ضعفه البغوي والترمذي .. وغيرهم.
هذا حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، ينصرف إلى الشق الأيمن شيئًا، أو يميل إلى الشق الأيمن شيئًا ).
وثمة للحديث شاهد آخر عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة )، وقد أخرجه البيهقي، والضياء المقدسي في أحاديثه المختارة التي اشترط فيها: ألا يخرج إلا الصحيح، فهو صحيح على شرط الضياء المقدسي في أحاديثه المختارة، ورواه البيهقي أيضاً، وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الدراية في تخريج أحاديث الهداية قال: رجاله ثقات، يعني: حديث أنس رضي الله عنه.
منهم النووي قال: ليس في الاقتصار على تسليمة واحدة حديث صحيح، أو شيء يثبت، هذا كلام النووي كما في كتاب المجموع، ونحوه أيضًا قال في كتاب الخلاصة.
وقريب من ذلك ذكر ابن عبد البر : فإنه ضعف أحاديث التسليمة الواحدة.
ولكن بتأمل ما سبق من الأحاديث وغيرها أيضاً مما لم أذكره، وقد أطال بذكره صاحب نصب الراية الزيلعي، فاستطرد في آخر الجزء الأول في ذكر أحاديث التسليمة الواحدة، يتبين أن أحاديث التسليمة الواحدة قد وردت عن جماعة من الصحابة، نذكر منهم من سبق الآن، من ذكرت حديثهم وهم: ابن عمر ، عائشة ، أنس بن مالك.
هؤلاء ذكرنا أحاديثهم: ابن عمر، عائشة .. عائشة كم لها من حديث؟ حديثان، لها حديث بمعنى حديث ابن عمر في الفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، ولها حديث آخر: ( كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا )، فلـعائشة حديثان.
الرابع: هو حديث أنس رضي الله عنه، وقد جاء أيضاً معنى هذه الأحاديث عن سهل بن سعد الساعدي، وسلمة بن الأكوع، وسمرة بن جندب .. وغيرهم، ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن للتسليمة الواحدة أصلاً يعتمد عليه، وإن كان غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم التسليمتان.
إذاً: جاءت التسليمة الواحدة عن عائشة وأنس وابن عمر وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع، وأيضاً سمرة بن جندب، ومجموع هذه الأحاديث الستة، بل هي سبعة إذا اعتبرنا لـعائشة حديثين، وهذا يدل على أن التسليمة الواحدة ثابتة من حيث الأصل، وإن كان غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقتصر على تسليمة واحدة، بل يسلم تسليمتين: الأولى عن يمينه، والأخرى عن شماله.
وقد رأيت مزج أقوال العلماء وآرائهم اختصارًا وتوضيحًا أيضًا في ثلاثة أقوال؛ بحيث نستطيع ندمج مسألتين في مسألة واحدة، ونقتصر على أهم الأقوال في ذلك، بما لا يخل بالناحية العلمية المنهجية في ذلك.
فأقول: مسألة التسليم من الصلاة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:
واستدل لهذا المذهب الذي لا يرى السلام واجباً في الصلاة أصلاً، استدل له بأدلة منها: (حديث المسيء صلاته) وقد سبق الجواب عليه.
الدليل الثاني: أنهم قالوا: إن إحدى التسليمتين ليست واجبة، وهي التسليمة الثانية عند جماهير أهل العلم، بل بإجماعهم كما نقل بعضهم، وسوف يأتي الكلام عنها، قالوا: فواجب أن تكون التسليمة الأولى أيضاً ليست واجبة كالتسليمة الثانية، فما دامت الثانية ليست بواجبة، فالأولى أيضاً مثلها ليست بواجبة، فقاسوا الأولى على الثانية، وهذا أولاً ليس بواجب، فقد تكون الأولى واجبة؛ لأنه يتم بها الانصراف من الصلاة، والثانية ليست بواجبة، ثم إن القول بأن التسليمة الثانية ليست بواجبة ليس ثابتاً بدليل شرعي قاطع، بحيث يمكن أن يقاس عليه، بل هو موضع خلاف كما سوف يأتي، المهم أنهم استدلوا ثانياً بأن التسليمة الأولى ليست واجبة، فكذلك الثانية.
الدليل الثالث: حديث عبد الله بن عمرو وقد سبق معنا: ( .. ثم أحدث قبل أن يسلم -وفي رواية: قبل أن يتشهد- فقد تمت صلاته )، فقالوا: هذا دليل على عدم وجوب التسليم، كما استدلوا به على عدم وجوب التشهد.
والجواب على هذا الحديث أنه ضعيف، فيه ثلاث علل: مضطرب، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه انقطاع.
إذاً: فالحديث ضعيف من ثلاثة أوجه ولا يحتج به، هذا هو الدليل الثالث لهم، حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
الدليل الرابع: أيضاً سبق معنا: قول ابن مسعود لما ذكر التشهد قال: ( إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ) ولم يذكر السلام، فقالوا: هذا دليل على أن السلام ليس بواجب، وأن الصلاة تتم بدونه، وهذا أيضاً نقول: هو من كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو يحتمل وجهاً آخر، فلا دلالة فيه، وليس صريحًا في عدم وجوب السلام.
وقد يحتمل أن يكون معناه: فقد تمت صلاتك، وبقي عليك التسليم، يعني: قد تمت صلاتك فسلم، ولم يبقَ عليك شيء من الذكر يلزمك الانتظار له.
الدليل الخامس: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التشهد أقبل علينا بوجهه -لاحظ لفظ الحديث- وقال: من أحدث حدثاً بعدما يفرغ من التشهد، فقد تمت صلاته )، وهذا الحديث لو صح كان دليلاً صريحًا على عدم وجوب السلام؛ لأنه اعتبر أن من أحدث بعدما يتشهد تمت صلاته، ولو لم يسلم، وهذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية وقال: غريب تفرد به أبو مسعود الزجاج، ورواه غيره مرسلاً.
والغالب من كلام أبي نعيم في الحلية : أنه إذا أطلق على حديث ما أنه غريب أن هذا الحديث ضعيف، كما هو أيضاً اصطلاح الترمذي وجماعة الأئمة المتقدمين، إذا أطلقوا على حديث أنه غريب فهو ضعيف عندهم، إلا إذا قرنوا مع الغريب وصفًا آخر، كأن يقولوا: حسن غريب، أو صحيح غريب.
فالحديث إذاً ضعيف.
والدليل السادس عندهم: أثر علي رضي الله عنه وأرضاه، وقد سبق أن ذكرته في المسألة في الدرس الماضي، فأثر علي رضي الله عنه يقول: [ إذا جلس الإمام في الرابعة ثم أحدث، فقد تمت صلاته، فليقم حيث شاء ]، فظاهر أثر علي رضي الله عنه أن السلام ليس بواجب؛ لأنه رأى أن الإمام أو المأموم إذا جلس في الرابعة -يعني: في التشهد- ثم أحدث، فقد تمت صلاته، وهذا الأثر عن علي رواه ابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي والطحاوي والدارقطني والبيهقي .. وغيرهم، وفيه: عاصم بن ضمرة ضعيف، وتابعه في بعض الطرق الحارث الأعور وهو أشد ضعفًا، فالحديث بذلك ضعيف، وقد أسند البيهقي -كما أسلفت- عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث لا يصح، وربما تعزز مذاهبهم وأقوالهم بما أسلفته عن جماعة من السلف، أنهم سلموا تسليمة واحدة، كما نقل ابن أبي شيبة هذا عن الحسن البصري وابن المسيب والنخعي وعطاء .
فهذه أهم الأدلة التي استدلوا بها على أن التسليم ليس بلازم، وبعرضها تبين أنه ليس شيء من هذه الأدلة يثبت للاستدلال، فهي ما بين ضعيف، ولو كان صريحًا فهو ضعيف، وما بين صحيح، لكنهم لا يستدل لهم به، كحديث المسيء صلاته .. وغير ذلك.
قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة صحيحة، وهذا من ابن المنذر دليل على أنه يرى نقل الإجماع من العلماء على أنهم يرون من اقتصر على تسليمة واحدة في صلاته أن صلاته صحيحة، ولو كانت التسليمة الثانية واجبة لكان تاركها عمدًا لا تصح صلاته، والله تعالى أعلم، فهذا منهم مصير إلى أن التسليمة الثانية سنة وليست بواجبة، وهو على أي حال وإن لم يكن إجماعًا كما سوف يتبين بعد قليل، إلا أنه مذهب الجماهير من العلماء، فهو المشهور في المذاهب الأربعة.. وغيرها.
ومن أدلة من اقتصروا على تسليمة واحدة:
أولاً: حديث عائشة كما سبق، أو حديثا عائشة رضي الله عنها وسبقا، أما أحدهما: فبنحو حديث ابن عمر : ( أنه يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها ).
وأما الحديث الثاني فهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا )، هذان دليلان.
الدليل الثالث: حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة ).
الرابع: حديث عبد الله بن عمر .
الخامس: حديث سلمة بن الأكوع .
السادس: حديث سهل بن سعد .
السابع: سمرة بن جندب .
الثامن: سلمة بن الأكوع، هذه ثمانية أدلة فيها الاقتصار على تسليمة واحدة.
ومن أدلتهم: حديث: ( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) وكذلك حديث عائشة : ( كان يختم الصلاة بالتسليم ) قالوا: هذا مطلق، يحصل ويتم بقوله: (السلام عليكم ورحمة الله) ولو مرة واحدة. هذه تسعة أدلة.
وأيضًا من أدلتهم: صلاة الجنازة، كم تسلم مرة في صلاة الجنازة؟ مرة واحدة، وقد أجمع على هذا أهل العلم، حتى الذين خالفوا في غير الجنازة، وافقوا في الجنازة على الأقل، يعني: على جواز الاقتصار على تسليمة واحدة في صلاة الجنازة، فهو إجماع، كما نقله ابن قدامة في المغني وغيره، وكذلك في سجود التلاوة، فإنهم أجمعوا على جواز الاقتصار على تسليمة واحدة في سجود التلاوة، هذا على قول من قالوا بالتسليم فيها، كما نقله أيضاً ابن قدامة وغيره، فقالوا: غيرها مثلها في جواز الاقتصار على تسليمة واحدة.
الدليل الحادي عشر: قالوا لم يقم دليل على وجوب التسليمة الثانية، وأما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يدل على الوجوب، بل غالب أفعاله صلى الله عليه وسلم تحمل على السنية لا على الوجوب، خاصة وقد ورد في بعض الأحاديث الاقتصار على تسليمة واحدة.
ومن أدلتهم وهو الدليل الثاني عشر: أنهم قالوا: إن التسليمة الأولى يخرج بها الإنسان من الصلاة، بدليل أنه يشرع له أن يلتفت، وأنه يقول: السلام عليكم، وهذا خطاب لمن؟ للمخلوقين، سواء للملائكة أو للذين عن يمينه، ولو أنه كان يخاطب في صلب صلاته أحدًا لبطلت صلاته، فقالوا: إنه بتسليمة خرج من صلاته، فلا يجب عليه بعد خروجه شيء.
الدليل الأخير: ما نقله ابن قدامة عن عمار بن أبي عمار قال: كان المهاجرون يسلمون تسليمة واحدة، وكان الأنصار يسلمون تسليمتين، وذكر هذا غيره أيضاً، ولم يعزه لأحد، فهذا إن ثبت دل على أن المهاجرين كانوا يقتصرون على تسليمة واحدة، وهذه أهم أدلتهم.
الآن تسلسل منطقي، القول الأول يقول: لا يشترط التسليم كله أصلاً ولا يلزم.
القول الثاني يقول: لابد من تسليمة واحدة.
إذاً: هي رواية عن أحمد، ومذهب الحسن بن صالح، وقال بها بعض المالكية أنه لابد من تسليمتين.
من أدلة من قالوا باشتراط التسليمتين: حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله )، والحديث رواه مسلم في باب الأمر بالسكون في الصلاة، فقوله: (يكفي أحدكم)، دليل على أنه لا يكفيه أقل من ذلك، (أن يسلم عن يمينه وعن شماله) فهذا دليل على وجوب التسليمتين.
الدليل الثاني: حديث وائل بن حجر، وأيضاً فيه التسليم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله).
الدليل الثالث: حديث: ( تحليلها التسليم )، فقالوا: المقصود بالتسليم، التسليم المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: ( وكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله )، هذا وجه استدلالهم بالحديث.
الدليل الرابع: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ذكرناه ضمن شواهد حديث وائل بن حجر.
فهذه أربعة أدلة، ثلاثة منها تقريباً سبقت معنا.
ومن الأدلة: حديث جابر بن سمرة أيضاً رضي الله عنه قال: ( كنا نقول خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلمنا: السلام عليكم، السلام عليكم -يعني: عن اليمين: السلام عليكم وعن الشمال: السلام عليكم- ويشيرون بأيديهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شمس )، والحديث أيضاً رواه مسلم .
ففيه: الإشارة إلى السلام عن اليمين وعن الشمال، وهذا مما يمكن أن يلحق بما ذكرته قبل في صيغ التسليم، فقد ذكرت أن صيغ التسليم الواردة أربع.
فيمكن أن نضيف إليها الآن صيغة خامسة، وهي الاقتصار على قوله: (السلام عليكم)، دون قوله: (ورحمة الله)؛ لأنه هكذا جاء في حديث جابر في صحيح مسلم : ( السلام عليكم )، ولم يزد قوله: ( ورحمة الله )، وحديث وائل بن حجر ذكرناه.
الدليل السادس: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ( صلى بنا
تعجب أبو موسى من صلاة علي رضي الله عنه؛ لأنه سلم تسليمتين، سلم عن يمينه، وسلم عن شماله، ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا حديث سبق معنا قبل قليل، وهو حديث ابن مسعود : ( لما رأى أميرًا بـمكة يسلم عن يمينه وعن شماله قال: أنى علقها، وذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ).
ومما يعزز هذين الحديثين ما ذكرناه قبل قليل عن عمار بن أبي عمار : [ أن المهاجرين كانوا يسلمون تسليمة واحدة ] فهذا يعزز أن هذا الأمر كان مشهوراً معروفاً عند الصحابة والتابعين، ولو كان هذا الأمر واجباً كان يبعد أن ينتشر العمل بتركه بينهم إلى هذا الحد، والله تعالى أعلم.
على أي حال المهم الآن عندنا حديث أبي موسى الأشعري في تعليقه على صلاة علي رضي الله عنه يوم الجمل، وأن صلاته أذكرته بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سلم عن يمينه، وسلم عن شماله، وهذا الأثر عن أبي موسى سنده صحيح كما قال الزيلعي في نصب الراية، وقد رواه ابن ماجه والطحاوي وأحمد .. وغيرهم.
هذه الأدلة تدل على أنه لابد من تسليمتين، ولو تأملنا هذه الأدلة لم نجد فيها شيئًا يدل صراحة على وجوب التسليم، فغالبها أفعال من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا تدل على الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول، وإنما غايتها الدلالة على الاستحباب.
وأما قوله: ( إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه ) كما في حديث جابر بن سمرة، فهو ليس دليلاً، هو دليل على أن هذا يكفي، ولكنه ليس دليلاً على أن غيره لا يكفي، فإن الأحاديث الأخرى السابقة تدل على أنه يكفي أيضاً أن يسلم الإنسان تسليمة واحدة فحسب.
ولذلك أقول: لتلخيص هذه المسألة في موضوع التسليم: عندنا ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التسليم كله ليس بواجب، بل لو أن الإنسان انصرف من صلاته بأي شيء ينافي الصلاة جاز ذلك، وأجزأته صلاته.
القول الثاني: أنه لابد من تسليمة واحدة، أما التسليمة الثانية فهي سنة.
القول الثالث: أنه لابد من تسليمتين.
ولكن ينبغي للإنسان أن يلتزم بالسنة في أكمل صورها، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله، وإن زاد: (وبركاته) أحياناً فهذا حسن؛ لأنه ثبت في حديث وائل بن حجر، وفي حديث ابن مسعود، سواء اقتصر على التسليمة الأولى، أو أضاف (وبركاته) في التسليمتين معاً بعض الأحيان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أحياناً، ونجزم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله دائماً؛ لأنه لو كان يفعله دائماً، لنقله لنا كل من روى لنا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر لنا التسليم، فلما كان أحياناً يقتصر على قول: (السلام عليكم) وأحياناً على قوله: (ورحمة الله) وأحياناً يضيف (وبركاته) نقل هذا وهذا وهذا.
وهل لو قال: (سلام عليكم) بالتنكير يجزئه ذلك؟
وهل لو نكس فقال: (عليكم السلام) أو (عليكم سلام) هل يجزئه ذلك، أم أنه لابد أن يأتي بالصيغة الواردة فيقول: (السلام عليكم)؟
وهل لابد من الالتفات؟
كل هذه المسائل الجزئية تفريعية لا داعي للوقوف عندها، ولكن أحيلكم إلى الجزء الثاني من المغني لـابن قدامة وإلى المجموع في الجزء الثالث، فإنهما قد بحثا هذه المسائل بحثاً مستفيضاً.
... هذه ذكرها بعض الفقهاء جمعاً بين الأحاديث، وأخذوا من قول ابن عمر وقول عائشة : (يسمعنا) قالوا: إنه يسن الجهر بالتسليمة الأولى ويخفي الثانية، وهذا معنى قوله: (يسمعنا) أنه ينصرف أن التسليمة الواحدة مقصود فيها الإسماع، والثانية أيضاً تحصل، لكن لم يرد في هذا حديث يعتمد عليه، إنما هذا من استنباطهم في محاولة الجمع بين بعض النصوص وبعض، ومثل أيضاً: كلامهم في حذف السلام، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وسنده صحيح أيضاً أنه قال: (حذف السلام سنة) والمقصود: (بحذف السلام) عدم مده، كما ذكر ذلك ابن المبارك .. وغيره.
على كل حال في السلام مسائل طويلة، إنما أخذنا أبرز مسألة وهي ما ذكرت.
يقول: حكي أن عبد الملك بن مروان جلس يوماً، وعنده جماعة من خواصه ومن أهل مسامرته، فقال: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه -يعني: يسمي أعضاءه على حروف المعجم- وله عليّ ما يتمناه؟ فقام إليه سويد بن غفلة فقال: أنا لها يا أمير المؤمنين، فقال: هات؟
قال: أنف، بطن، ترقوة، ثغر، جمجمة، حلق، خد، دماغ، ذقن، رقبة، زند، ساق، شفة، صدر، ضلع، طحال، ظهر، عين، غبب -وهو: اللحم المتدلي تحت الحنك- فم، قفا، كف، لسان، منخر، نغنغ -وهو لحمة في الحلق- هامة، وجه، يد، وهذه آخر حروف المعجم، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فضحك عبد الملك وأنعم عليه وبالغ في إحسانه.
ومن طرائفهم أيضاً يقولون:
قال رجل لـهشام القرطبي: كم تعد؟ قال: أعد من واحد إلى ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، كم تعد من السن -هو يريد أن يقول: كم عمرك؟! يعني- كم تعد من السن؟ قال: اثنتين وثلاثين: ست عشرة في الأعلى، وست عشرة في الأسفل، قال: لم أرد هذا، وإنما أريد أن أسألك كم لك من السنين؟ قال: ليس لي منها شيء، السنون كلها لله عز وجل، قال: يا هذا ما سنك؟! قال: عظم، قال: أبن لي ابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين: رجل وامرأة، قال: ليس عن هذا أسألك؟ وإنما أريد أن أقول: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليّ شيء قتلني، قال: إذاً كيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟
ومما يذكر: أنه كان لبعض الأدباء ابن أحمق، وكان كثير الكلام مع ذلك، فقال له أبوه يوماً: يا بني! لو اختصرت كلامك لكنت تأتي بالصواب، قال: نعم، أفعل إن شاء الله، فأتاه يوماً، فقال: من أين أقبلت يا بني؟ قال: من سوق -يريد أن ينفذ الوصية في الاختصار- قال له أبوه: لا، هاهنا لا تختصر، زد الألف واللام، قال (من سوقال) -زاد الألف واللام في الأخير- قال: قدم الألف واللام، قال: من (ألف لام سوق!).
ونختم أيضاً بهذه الأبيات، هذا شاعر حداد يشتغل في الحدادة، وابتلي بأن يقول شعراً، فقال بيتين تسمع منهما أصوات المطارق، يقول:
مطارق الشوق في قلبي لها أثر يطرقن سندان قلب حشوه الفكر
ونار كير الهوى في الجسم موقدة ومبرد الشوق لا يبقي ولا يذر
والله أعلم.
فمنها: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، والحديث متفق عليه.
وأخرجه مسلم أيضاً في صحيحه، كتاب المساجد، باب فضل الذكر بعد الصلاة.
إما آخر الشيء المتصل به، كما يقال: (دبر الدابة) يعني: آخرها.
وإما أن يكون المقصود (بالدبر) هو ما بعد الشيء، ما يليه مباشرة، كلاهما يحتمله المعنى.
أما المقصود بهذه الأحاديث، فالله أعلم أن المقصود بها ما بعد التسليم، يعني: ما يلي الصلاة مباشرة، كما سوف يأتي في الأحاديث التي بعده؛ وذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) مما تواتر واشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بعد السلام، فضلاً عن أن كون المغيرة بن شعبة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقوله دليلاً على أنه كان يجهر به ويرفع صوته، وإنما كان يرفع صلى الله عليه وسلم صوته بالذكر عقب الصلاة.
وكما سوف يأتي أيضاً في حديث ابن الزبير أنه قال بعدما ذكر: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) يعني: من الدعاء من أوله إلى آخره، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان يهل أو يهلل بهن دبر كل صلاة، والإهلال هو رفع الصوت بالذكر: أهل يهل، يعني: رفع صوته، ومنه: الإهلال بالتلبية، ومنه: قوله: (استهل المولود صارخاً) يعني: رفع صوته بالصراخ عند ولادته، فدل هذا على أنه يرفع صوته بها، وإنما يحدث هذا بعد السلام.
إذاً: فالمقصود في حديث المغيرة في قوله: (دبر كل صلاة) يعني: بعد السلام لا قبله، وأما هذا الذكر فهو واضح المعنى.
وقوله: ( لا ينفع ذا الجد منك الجد ) سبق شرحه في أكثر من موضع، ما معنى قوله: (لا ينفع ذا الجد منك الجد)؟ سبق أن شرحناه، ومعناه: لا ينفع صاحب الحظ والغنى والجاه منك حظه وغناه وجاهه، لا ينفعه ذلك، وإنما ينفعه عمله الصالح.
فالمقصود به: أن يصير الإنسان إلى آخر العمر، بعد ما تضعف قواه، ويضيع عقله، ويصبح محتاجاً إلى الناس في كل أموره.
وأما قوله: ( من فتنة الدنيا ) وقوله: ( من عذاب القبر ) فقد سبق شرحهما في الجلسة الماضية.
وهو شاهد لحديث ثوبان، كما أنه دليل على أن قوله: (إذا انصرف) ليس المعنى: إذا انصرف إلى المأمومين وأقبل عليهم بوجهه، بل المعنى قبل أن يقبل على المأمومين بوجهه، إذا سلم من الصلاة، قال هذا، ثم انصرف إلى المأمومين بعد ذلك.
وقوله: (استغفر) يعني: طلب المغفرة.
وقد سئل عنها الأوزاعي؟ فقال: (يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله).
هذه الأحاديث الثلاثة وما بعدها كلها تدل على مشروعية الذكر بعد الصلاة، وقد أجمع العلماء -كما ذكر النووي في كتاب الأذكار - على مشروعية الذكر بعد الصلاة.
وسوف نبحث هذه المسألة وغيرها في الجلسة القادمة إن شاء الله، في الأسبوع القادم عندنا حديث أبي هريرة ومعاذ بن جبل وأبي أمامة رضي الله عنهم.
الجواب: (من عذاب القبر) وأيضاً جاء: (من فتنة القبر)، واستعاذ منهما، وسبق أن بينا الفرق بين العذاب وبين الفتنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر