الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فهذا يوم الأربعاء ليلة الخميس السابع عشر من شهر الله المحرم من سنة ألف وأربعمائة وأربع وعشرين للهجرة.
وفي هذه الليلة عندنا موضوع الخيار من الفقه.
لا شك أنكم تتابعون وتعرفون وتقرءون وتسمعون هذه الأخبار التي تدع الحليم حيران، وترفع الضغط، وتجعل الإنسان في حالة صعبة، لكن عزاؤنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نشرح الآن في الفقه والخيار بينما الناس في ضيق وليس أمامهم خيارات كثيرة، خصوصاً لما تتأمل هذا الشعب المضطهد المظلوم في العراق، ربما من عشرات السنين لم ينعم بهناءة العيش ولا بالسرور ولا بالرضا, فضلاً عن عدم قدرته على ممارسة تدينه بشكل صحيح عبر هذه السنين الطويلة, ثم هو يواجه الآن خيارات ربما كانت أصعب, بل هي بالتأكيد أصعب وأصعب مما مضى، لكن عزاؤنا -كما قلت- قول رسولنا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي كررناه مراراً: ( إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ). ليس مطلوباً منا ونحن نواجه هذه الأزمات الصعبة أن نتوقف عن مشاريعنا الشخصية والفردية والأسرية والجماعية وغيرها، بل المطلوب منا أن نضاعفها, وأن ندري أن أمامنا في المستقبل أزمات أخرى تتطلب أن نكون هيأنا أنفسنا وأجيالنا وشبابنا لمواجهة تلك الأزمات التي ستقع بعد عشر سنوات .. عشرين سنة, وتحتاج إلى من تذرعوا بالعلم النافع والأدب الفاضل والتقوى والإيمان؛ ليكونوا مصابيح لهذه الأمة.
الخيار هو كما يقولون: اسم مصدر، وليس مصدراً، فإن مصدر (اختار) هو (اختيار) بعدد الحروف، بينما (الخيار) ناقصة الحروف, فهو مثل السلام, ومثل الكلام, يسميه العلماء واللغويون: اسم مصدر، وليس مصدراً.
و المقصود بالخيار في باب البيوع: هو أن يكون الإنسان بين خيارين، أو بخير الأمرين, أو بأحد الأمرين. أن يكون الإنسان مخيراً بين أمرين، هذا معنى الخيار، إما أن نقول: بخير وأفضل الأمرين أو بأحدهما؛ لأنه قد يختار ما يظنه الأفضل ويكون مفضولاً، ولا باع أحد شيئاً إلا وهو يظن أن البيع خير له، ولا اشترى إلا وهو يظن أن الشراء خير له، فالمقصود إذاً بالخيار: هو أن يكون البائع أو المشتري أو كلاهما مخير بين إمضاء البيع وبين فسخه أو رده. هذا معنى الخيار.
والخيار ثابت في الجملة كما سوف يتضح بعد قليل، والفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم إذا وضعوا باب الخيار، غالباً ما يدخلون معه مسألة الإقالة ومسألة الفسخ ونحوها؛ لأن لها تعلقاً بموضوع الخيار.
أما النوع الثاني: فيسمونه خيار شهوة، وهو أن يكون الإنسان مخيراً بمزاجه وبقناعته، مثل: خيار المجلس، كونهم أثناء المجلس بالخيار، إن شاء أمضى البيع وإن شاء نقضه، ومثل: خيار الشرط، أنه بعدما يشتري يقول: لي الخيار لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، يمكنني خلالها أن أرد السلعة، فهذا يسمى خيار الشرط، ومثل: خيار الرؤية عند من يجوز بيع الغائب، فيقول مثلاً: أشتري منك سيارة ليكسز مثلاً، موديل كذا، لون كذا, مواصفاتها كذا، ولكن هذا مبني على الرؤية، فإذا رأى مثلاً هذا الأمر الغائب كان بالخيار أن يمضي البيع أو يرده.
فإذاً: الخيار ينقسم إلى أقسام وأنواع.
و الحنابلة ربما من أكثر الفقهاء تقسيماً للخيار، حتى إن منهم من أوصل أقسام الخيار إلى اثني عشر قسماً، أو اثني عشر نوعاً.
فهؤلاء يقولون: بأن المتبايعين بالخيار ما داموا في مجلس العقد وفي مجلس البيع.
بمعنى أوسع نقول: كل عقود المعاوضات اللازمة فإنه يقع فيها الخيار، فعقود المعاوضات مثل البيع كما ذكرنا، أو الإجارة أو نحوها.
فهذه عقود معاوضة، أخذ وعطاء، وأيضاً هي عقود لازمة؛ لأن العقد إذا مضى ونفذ وجب على الطرفين كلاهما الالتزام به، بخلاف العقود الجائزة، هل تحتاج العقود الجائزة إلى خيار؟ لا، لماذا لا تحتاج إلى خيار؟ لأنه يستطيع أن يتخلص من العقد في أي وقت شاء.
مثل ماذا العقود الجائزة؟ أقرب مثال: الوكالة، ممكن أذهب أنا الآن إلى كتابة العدل وأخرج توكيلاً بأني وكلتك على استخراج شيء حتى بدون موافقتك, لماذا؟ لأن كل ما في الأمر أنه إذا وصلتك الوكالة تقول أنت: لا أقبلها، وقد تقبلها اليوم وترفضها غداً، إذاً: هذا عقد جائز، فلا يحتاج إلى خيار، سواء كان هذا عقد المعاوضة عقداً على العين، مثل بيع، أو صلحاً على عوض, أو كان عقداً على منفعة، مثل ماذا العقد على المنفعة؟ مثل الإجارة، أجرتك مثلاً هذا البيت بخمسين ألف ريال لمدة سنة، فهذا عقد عوض، لكن ما هو على العين، وإنما على منفعة السكنى، وبعد نهاية المدة تخرج منه، فهذا عقد لازم، عقد الإجارة, ولذلك يمضي فيه الخيار ما داموا في مجلس العقد على قول الأكثرين كما ذكرنا، وهو مذهب الجمهور.
استدلوا بأدلة كثيرة من أشهرها حديثان وكلاهما في الصحيحين، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن تفرقا أو خير أحدهما الآخر فقد وجب البيع ). فهذا دليل على أن البائع والمشتري، البيعان يعني: البائع والمشتري، وكلاهما يسمى بائعاً.
( فهما بالخيار, ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ), يعني: ما لم يتفرقا وقد كانا جميعاً، ولا شك أنهم عند البيع جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر.
وقوله: ( وكانا جميعاً ) لا يلزم منه أن يكونا جميعاً بأجسادهما، فإن العصر الحاضر تفتق عن أنماط جديدة من البيوع، ذكرنا منها مثلاً البيع عن طريق الهاتف، أو البيع عن طريق الإنترنت، أو البيع عن طرق اتصال مباشرة، تجعل المتبايعين يرى أحدهما الآخر ويفاوضه أو يستمع إليه، فهنا نقول: يستمر الخيار لهما إلى أن تنتهي -مثلاً- المكالمة، أو ينفض المجلس, أو يقفل الاتصال بينهما، فبناءً على ذلك يجب البيع، أما أثناء المكالمة فبإمكانه بعد نصف ساعة من المكالمة يقول له: تراجعت عن الصفقة, ولهذا قال: ( وكانا جميعاً ), يعني: كل بائعين فهما جميع في البداية؛ لأن البيع لم يكن, ولذلك الشافعية وغيرهم من الفقهاء نصوا على أنه لو باع أحدهما على الآخر وهو بعيد عن طريق الصوت, يعني: ما هم في مجلس واحد، وإنما باع عليه عن طريق الصوت، فهل يقع الخيار أو لا يقع؟
فالقول الصحيح عندهم كما ذكره الجويني وغيره: أن له الخيار، ما داموا في المكان الذي كانوا فيه، لكن نحن نقول: إن الوسائل الحديثة الآن مثل الهاتف أو الإنترنت أو غيرها هي أقوى مما كان عليه الصوت في الماضي، بل ربما كانت مثل ما لو كانوا في مجلس واحد.
طيب! حديث ابن عمر : ( ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ).
ومثله حديث حكيم بن حزام أيضاً: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ). وهو أيضاً في الصحيحين.
وحديث حبان بن منقذ وأصله في البخاري ومسلم عن ابن عمر , وله تفاصيل عند أهل السنن والبيهقي : أنه كان رجل أصابته في رأسه آمة أو ضربة، ففقد بعض ذاكرته أو بعض فهمه، فكان يغلب ولا يصبر عن البيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بايعت فقل: لا خلابة ). وكان عنده لثغة في لسانه, فكان يقول: لا خيابة، أو لا خذابة، ما يستطيع أن يقولها جيداً.
وكان الصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الفرصة، وفي بعض الروايات أنه نص على أن له الخيار ثلاثة أيام، فخلالها إذا غلب أو غبن في البيع أن يخدع، كان يخدع في البيع، فكان يرجع المبيع ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني تفويضاً بالشيء هذا، وهذا طبعاً لا يخصه هو، وإنما لكل أحد كما سوف يأتي ممن يحتاج إلى الخيار، المهم: أن هذه الأدلة تدل على أصل جواز الخيار، والدليلان الأولان على خيار المجلس.
والدليل الثالث: حديث حبان يدل على خيار الغبن, كما سوف تأتي الإشارة إليه. وهذا القول لا شك أنه قول صحيح ظاهر الرجحان، أولاً: لأدلته القوية الصحيحة - كما ذكرنا- التي لم تتعرض لنسخ ولا لتخصيص.
وثانياً: لأنه مقتضى المصلحة والله أعلم, أنه ما دام المتبايعان في المجلس, لأنه قد يقول: اشتريت، ثم يبدو له بغير تأنٍ، فيكون عنده فرصة أن يراجع نفسه، البائع والمشتري على حد سواء.
والشيء الطريف: أن مالكاً هو راوي حديث الخيار، فقد رواه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ).
ومن هنا أخذ عليه بعض العلماء أنه كيف تروي الحديث ثم تخالفه. فطبعاً هو روى الحديث كما ذكرنا، وتأول الأمر فيه، قد يكون تأوله بالنسخ كما ذكر ذلك عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد يكون فهم أو حمل التفرق (ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال، يعني: أن هذا اشترى وهذا باع. هذه حجة الإمام مالك رحمه الله.
المهم: أن مالكاً ممن يقول بعدم خيار المجلس، وتعرض بسبب ذلك لمشكلة، وابن أبي ذئب من فقهاء المدينة سخط على الإمام مالك، وقال فيه كلمة شديدة, رأيت من المصلحة أني أقولها لكم الآن، قال ابن أبي ذئب : يستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه, وهذه كلمة فضيعة في نظري، وكنت أشعر بقشعريرة أن عالماً مهما كان قدره يطلقها على رجل كالإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ممن له من الفضل والنبل والمكانة الشيء العظيم، وحقيقة مثل هذه الكلمات ومثل هذه الأقوال وددنا أنها طويت وما رويت، وما سمعت؛ لئلا يتشبث بها الناس، ووجدنا أن الإمام أحمد رحمه الله لما قال هذه الكلمة نقلها عن مالك .. قال الإمام أحمد : هو أورع وأقول بالحق من مالك , يعني: ابن أبي ذئب . فالإمام أحمد يقول: إن ابن أبي ذئب فيه قوة ونوعاً من الشدة، ولذلك قال ما قال، وهذه أيضاً فيها شيء، ولذلك أعجبني جداً وشفى غليلي الإمام الذهبي في السير، فقد علق على كلام ابن أبي ذئب وعلى كلام الإمام أحمد وقال: لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فـمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخاً.
وقيل: عمل به وحمل قوله: (حتى يتفرقا) على التلفظ بالإيجاب والقبول، يعني: التفرق بالأقوال، مثل حديث: ( افترقت هذه الأمة ). قال: فـمالك في هذا الحديث -ولا يزال الكلام للذهبي - وفي كل حديث له أجر ولابد، فإن أصاب ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية . فهذا الكلام الذي يتشبث به، والذهبي مربي، يقول: وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية , الخوارج هم الذين حملوا السيف على المسلمين، قال: وبكل حال فكلام الأقران بعضه في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه, ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته تلك، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح.
وأقول: خطر في بالي وأنا أقرأ كلمة الإمام أحمد يقول: هو أورع وأقول بالحق من مالك , قلت: لعلها: هو أورع وأقول بالحق من ذلك، يمكن يكون فيها أيضاً نوع من التحريف, وأن الإمام أحمد يشكك في صحة هذه الكلمة ونسبتها إليه. والله أعلم. ويحتمل الوجه الثاني أنه معروف ابن أبي ذئب كان فيه نوع من القوة، ولعلنا ذكرنا لكم سابقاً أن ابن أبي ذئب جاءه مرة أعرابي، وكان طلق زوجته وأراد منه أن يردها إليه، فقال له ابن أبي ذئب : طلقت زوجتك منك بالثلاث ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، فولى الأعرابي وهو يقول:
أتيت ابن ذئب أبتغي رد زوجتي فطلقها بتاً فبتت أنامله
فطلقها بتاً، يعني: ألبتة.
أتترك في فتوى ابن ذئب حليلتي وعند ابن ذئب أهله وحلائله
يعني: يطلق زوجتي وزوجاته عنده. فهذه مما يستطرف في خبر ابن أبي ذئب رحمه الله وغفر له، والمقصود: أن مثل هذه اللغة - يعني: القبيحة- كما عبر الذهبي من الأشياء التي ينبغي أن تبعد عن طلبة العلم، وأن ينأى بها خصوصاً في مجال الاختلاف في مسائل لها وجه.
الإمام مالك رحمه الله لم ينفرد بهذا القول، وأيضاً لا أنسى أن الشافعي ممن عاب على مالك هذا المذهب، وقال: لا أدري هل يتهم مالك نفسه، أو يتهم نافعاً ؟ قال: وأعظم أن أقول: يتهم ابن عمر، بينما مالك رحمه الله كما قلنا: قد لا يكون اتهم أحداً أصلاً، وإنما إما أن يقول: بأن الحديث منسوخ، أو يحمله على أحد الوجوه, وله حجة كما سوف نذكر.
المهم: أن الإمام مالكاً ممن قال بهذا، ونقل هذا القول عن شريح وعن النخعي وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , وهو من شيوخ الإمام مالك، وهو مذهب أصحاب الرأي: أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة وطائفة من أهل الظاهر، قالوا: بأنه ليس هناك خيار للمجلس.
وكذلك قالوا: إن ذلك مثل عقد النكاح أو عقد الخلع، فإنه لا يجوز مثلاً في النكاح أن يكون للعاقد خيار، فقالوا: كذلك عقد البيع.
إضافة إلى أنهم رووا عن عمر رضي الله عنه كما ذكره ابن قدامة في المغني لهم: أنه كان يقول: (إنما البيع صفقة أو خيار) فقالوا: معنى قول عمر : (صفقة أو خيار), يعني: إما بيع بصفقة مباشرة، أو خيار يعني: خيار الشرط، أنه يشترط أن لي الخيار، ولم يذكر خيار المجلس. وما أشبه ذلك من الأقوال والحجج.
وأجابوا عن الحديث بمثل ما ذكرنا، أن المراد التفرق بالأقوال, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( افترقت هذه الأمة ). وقيل: بأن ذلك منسوخ. ومالك أيضاً يحتج بعمل أهل المدينة ؛ لأنه يقول: إنه وجد أهل المدينة لا يعملون بخيار المجلس، ولا شك أن الصواب: أن خيار المجلس باق وصحيح؛ لقوة أدلته.
وبعضهم قال: إذا ابتعد عنه بحيث لا يسمع صوته المعتاد.
وبعضهم قال: إذا خرج من المجلس إن كانوا في مجلس.
ولذلك أحياناً يكون الخيار مستمراً مثل ما لو كانوا في سفينة كما قلنا، أو في طائرة صغيرة، أو سيارة صغيرة, وربما يستغرق المسير بضعة أيام أحياناً، فهنا متى ينقضي خيار المجلس؟
نقول: يظل الخيار معهم إلى أن يتفرقوا، وهذه من حجج أبي حنيفة، قال: أرأيت إن كان في سفينة، فنقول: حتى لو كان في سفينة يظل الخيار باقياً.
هل يستطيعون هم أن يتخلصوا من خيار المجلس في الحالة هذه؟
نعم، أن يتفقا على إلغائه، والصواب: أنهم إذا اتفقوا على إلغاء الخيار سقط، يعني: لو قال: بعت وقال هذا: اشتريت، قال: طيب ما رأيك خيار المجلس نلغيه، ما يكون لي خيار ولا لك خيار، يعتبر البيع نافذ وواجب، قلنا: اتفقنا على إلغاء خيار المجلس. في هذه الحالة يلغى الخيار ويكون العقد صحيحاً وإن طال بهم المجلس. طيب.
في المسألة هذه ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أقوال للشافعية وغيرهم.
قيل: إن السلعة للمشتري؛ لأن البيع وقع ومضى، والبائع هذا هو الضامن لو حصل فيها تلف، والنبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول؟ ( الخراج بالضمان ). نعم حديث: ( الخراج بالضمان ) لا بأس بإسناده, وقد صححه جماعة من أهل العلم كما سوف نذكره بعد قليل.
فالمقصود: أنهم قالوا: إن السلعة تكون لمن؟
تكون للمشتري، للأدلة التي ذكرناها؛ لأنه هو الضامن، ولأن البيع عقد أجري وانتقلت السلعة إليه, كما انتقل الثمن إلى البائع, فتكون السلعة للمشتري، إذا اشتريت منك مثلاً، لنفترض هذه الدابة بعير أو فرس، وجرى عقد البيع والشراء في هذا المجلس، فخلال المجلس سواء كان خيار مجلس أو خيار شرط تكون هذه الدابة في ملكي، ولو تلفت لكنت ضامناً, ولذلك نماء هذه لي, مثلاً: لو كانت شجرة كمثال وأثمرت أليس يأخذ ثمرها، لو حلب مثلاً هذه الناقة أو الشاة أليس له لبنها وحليبها، فقالوا: يكون هو الضامن، ويكون ملكها له، كما أن الثمن ملك للبائع.
وهذا القول هو قول كثير من الحنابلة أيضاً, وهو الراجح, أنه خلال مدة الخيار يكون ملك السلعة للمشتري، وأن ملك الثمن للبائع، بمعنى: أننا نعتبر أن البيع كما لو كان لا خيار فيه، ماض.
القول الثاني: العكس، قالوا: السلعة تكون للبائع؛ لأنه لم يتم البيع بشكل تام ولم ينفذ، والثمن يكون للمشتري أيضاً.
والقول الثالث: قالوا: إنها موقوفة أو منظورة أو مرجئة، متربص فيها, لا تكون لهذا ولا لهذا، والأقوى هو الأول، ومما يدل على قوته -أن السلعة للمشتري- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في مسلم : ( من بائع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع ). فدل هذا على أنه بمجرد عقد البيع يصبح العبد للمشتري، ويصبح الثمن -ثمن العبد- للبائع فدل هذا على أنه بمجرد عقد البيع تنتقل ملكية السلعة إلى المشتري وثمنها إلى البائع.
مداخلة: ما هو باستلام النقود يا شيخ! انتهى.
الشيخ: لا، ما هو باستلام النقود، بإمضاء العقد، بمضي العقد بينهم؛ لأنه قد يكون البيع بيعاً بالتقسيط مثلاً أو بالآجل.
قالوا: مثل الكتابة، عقد الكتابة لما كان هناك عبيد أرقاء، الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]. فقالوا: الكتابة، كونك تكاتب العبد الرقيق، فإذا كاتبته فإنه ليس لك الخيار, لماذا؟ قالوا: هذا رغبة من الشريعة في تحرير الأرقاء والمكاتبين وإمضاء ذلك, فإذا أمضى العقد فإنه يتم.
كذلك قالوا: لو كان الشخص هو الذي تولى طرفي العقد، مثل ما لو وكلتك أن تشتري لي مزرعة أو استراحة، ووكلك آخر أن تبيع له استراحة، فأنت وكيل عن البائع ووكيل عن المشتري، ففي هذه الحالة لا يكون ثمة خيار؛ لأن الشخص واحد فلا يتصور أن ينفصل أو يتفرق، الواحد ما يتفرق، إلا إذا مات فإنها تتفرق أجزاؤه في قبره، فإذا كان الشخص يتولى طرفي العقد لم يكن له خيار.
كذلك الصورة الثالثة: شراء من يعتق عليه، يعني: لما كان هناك عبيد أرقاء، لو اشترى أباه مثلاً بمجرد الشراء، فإن الأب يصبح حراً عتيقاً بمجرد الشراء, فإذا شتراه عتق, فلا يكون له خيار حينئذٍ.
لو أسقط أحدهما الخيار، هل يسقط عن الآخر أو يبقى له؟ يبقى له، نعم، الصواب: أنه لو أسقط أحدهما الخيار فإنه يبقى له، ولهذا المصنف هنا قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما) ودل قوله: (بأبدانهما) ليخرج التفرق بالأقوال، وإلا فإنه لا يقصد بالأبدان حقيقة البدن، فإنه كما ذكرنا قد يكون البيع بين متباعدين، فيحمل على التفرق الحسي بالأبدان أو بغيرها، وليس التفرق بالأقوال.
وإلا فإن التفرق بالأقوال كون هذا اشترى وهذا باع هل يصح أن يسمى هذا تفرقاً أو اتفاقاً؟
اتفاقاً وليس تفرقاً، حقيقة أنا بعت وأنت اشتريت، لكن هذا هو الاتفاق الذي بموجبه يقع عقد البيع، فلا يصح أن يسمى تفرقاً.
قال: [فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع]. هذا الآن هو النوع الأول من الخيار، وهو ما يسمى بخيار المجلس.
طبعاً من الممكن أن يشترط الاثنان الخيار، فنشترط أن لنا الخيار مثلاً مدة ثلاثة أيام نتراجع ونستشير أهل الصنف والرأي والخبرة، ونستخير, ثم بعد ذلك إذا مضت المدة ولم يرجع أحد منا فقد وجب البيع، ومن الممكن أن يطلب الخيار أحدهما فقط، ولا يكون للآخر خيار، فيقول: أعطني مهلة لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، فقد يكون الشرط لهما معاً أو لأحدهما، أو قد يكون الشرط أيضاً لشخص آخر ثالث غيرهما، ولا بأس بذلك أن يوكل فلاناً أن فلاناً له الخيار، فإذا مضت المدة ولم يرجع فالبيع صحيح، وإن رجع فلان فهو وكيلي في نقض البيع.
إذاً: الخيار يمكن أن يكون لهما أو لأحدهما أو لطرف ثالث يوكلانه ويفوضانه في ذلك.
والدليل على خيار الشرط:
أولاً: الإجماع، فقد ذكر النووي وابن المنذر وغيرهما الإجماع على خيار الشرط، والواقع أنه لا إجماع، وإنما هو قول الأكثرين وقول الجماهير، وفي كلام ابن رشد وجماعة من أهل العلم ما يدل على أن ثمة خلافاً لـابن شبرمة وبعض أهل الظاهر والثوري في خيار الشرط وفي غيره، ولكن نقول: إن خيار الشرط هو مذهب الجمهور، وعلى الأقل هو مذهب الأئمة الأربعة على خلافات وتفاصيل بينهم في هذا الموضوع.
إذاً: هذا دليل، وهو الإجماع.
الدليل الثاني أيضاً على خيار الشرط وجوازه: حديث: ( المسلمون على شروطهم ) كما ذكرناه قبل قليل. والحديث رواه أبو داود وغيره: ( المسلمون على شروطهم, إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ). وقد رواه أيضاً جماعة كـابن حبان والدارقطني والبيهقي , وذكره البخاري في صحيحه أو استشهد به, مما يدل على قوته عنده، وله طرق كثيرة يصلح بمجموعها أن نقول: إن أقل أحواله أنه حديث حسن، ثم تشهد له عمومات الشريعة, ( المسلمون على شروطهم ). ولهذا فإن هذا الحديث يقوم مقام القاعدة في كل شيء, يقوم مقام القاعدة الفقهية، سواء في مجال البيوع أو في مجال النكاح أو سائر العقود, أن الأصل أن الشروط نافذة بين المسلمين، وإذا تراضوا عليها فهي ماضية, إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً.
ومن الأدلة أيضاً على صحة خيار الشرط: حديث حبان بن منقذ الذي ذكرناه قبل قليل وأصله في الصحيحين عن ابن عمر : ( أنه كان يبايع، وإذا بايع قال: لا خلابة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثة أيام ). فهذا خيار الشرط.
طيب, إذاً: خيار الشرط ثابت وصحيح.
هل نقول مثلاً: إن له مدة معلومة، أو نقول: إنه ليس له مدة معلومة؟ وهل يجوز أو يقع خيار الشرط مطلقاً؟
هذه أسئلة لابد من التنبه لها.
السؤال الأول منها قضية: كم مدة خيار الشرط؟ يعني: هل يجوز أن أبيع وأشتري وأشترط مثلاً خيار سنة أو سنتين أو لابد من تحديد مدة معقولة أو مناسبة، أو لابد من تحديد مدة معينة؟ هذه ثلاثة أقوال للعلماء:
واستدلوا بحديث حبان بن منقذ أنه جعل له الخيار ثلاثاً، واستدلوا بأحاديث كثيرة, وحتى آيات, تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65]. وأشياء من هذا النوع. فقالوا: أقصى مدة للخيار هي ثلاثة أيام، وهذا لا شك أنه فيه شيء؛ لأن حديث حبان الذي في اشتراط ثلاثة أيام أولاً: قد يكون خاصاً به، وأيضاً لا يلزم منه أن لا يجوز الخيار أكثر من ذلك، حتى مع عمومه، مع أن هناك من يضعف حديث حبان , خصوصاً هذه الزيادة التي فيها المدة, وإلا فإن أصل الحديث متفق عليه كما ذكرنا.
إذاً: الأول قالوا: مدة الخيار ثلاثة أيام, وهذا للأحناف والشافعية.
مداخلة: طيب، يا شيخ! ما يكون على حسب الاتفاق بين الطرفين البائع والمشتري، إذا اتفقا على مدة معينة خلاص؟
الشيخ: مدة معينة، هذا صحيح، المهم: أن يتفقا على مدة معينة، يعني: على هذا القول أن يتفقا على مدة معلومة, ولا يكون الخيار مطلقاً.
إذاً: هذه ثلاثة أقوال الآن، إما أن يكون الخيار ثلاثة أيام، أو يكون غير محدد، ولكنه يتناسب مع قدر السلعة واختلاف المبيع، وهذا لـمالك، أو يكون الخيار أي مدة اتفقا عليها، وهو مذهب الإمام أحمد وبعض الحنفية، ولا شك أن القول الثالث هو الراجح، وهو أن أي مدة اتفق عليها فإنه يجري فيها الخيار ما دام الأمر باتفاقهما؛ للآية الكريمة: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]. فقد تراضيا هما على مدة الخيار, فيكون لهما الخيار هذه المدة.
لا، هذا تقريباً ما ذكرناه في هذه الجزئية، ما ذكرنا فيها الاختلاف حتى الآن.
وبالمناسبة الذي معه النسخة هذه، نسخة العمدة التي معي موجود فيها كلمة (لحديث).. على روايتين: إحداهما لا يفسد لحديث بريدة (وطبعاً هنا صفحة (318))، وكتب هنا المعلق: لم يذكر المصنف حديث بريدة هذا, ولم أقف عليه.
وما هو حديث بريدة ؟ هنا تحريف بسيط في الكلمة، والصواب: لحديث؟
بريرة، وحديث بريرة مشهور, لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ). وقصد المصنف بحديث بريرة هنا: أن الشرط الفاسد لا يبطل العقد، أن فيه شرطاً فاسداً وهو اشتراط الولاء، ومع ذلك العقد لم يبطل، فهذا المقصود من هذه الكلمة, فيعلق هذا التصحيح.
المقصود إذاً: أنه فيما إذا كان الخيار مطلقاً غير محدد -خيار إلى الأبد أو مدة حياتهما- فإن الجمهور يرون أن الخيار فاسد, وأن العقد فاسد أيضاً، هذا قول، ويحتمل أن لا يفسد كما قال المصنف, روايتان في المذهب.
والأقرب أن هذا يعتمد على حسب جهة الاختصاص كما ذكرنا، فالجهة المختصة مثلاً أياً كانت، وزارة أو مؤسسة أو غرفة أو غيرها تقوم بتحديد المدة، إما أن تحدد ثلاثة أيام, أو تحدد مدة تناسب المبيع وهو أجود، كما ذكرناه قبل قليل، يعتمد بحسب نوع السلعة وقيمة الشراء والحاجة إلى دراسة الجدوى كم تستغرق، وبناءً عليه يحددون له مدة الخيار.
مداخلة: الوقت المحدد ما يفرض على البائع أو المشتري مدة معينة, يعني: هل له أن يفسخ البيع في المدة المحددة، أما إذا كان التراضي عنه كان البيع خيار تراض عن الطرفين.
الشيخ: نعم، هو تراض, هذا صحيح, لكن نحن الآن نتكلم عن أنهم تراضوا على خيار ليس له مدة، لابد من تحديد هذه المدة.
[إلا أن يقطعاه]، يعني: يقطعا خيار الشرط، وهذا أيضاً راجع لهما؛ لأن هذا شرطهما، فلو اتفقا على أنه لا داعٍ لشهر، خلاص اتفقنا الآن على أن البيع أنجز وألغينا المدة الباقية في الخيار، أو قطعه أحدهما فقال: أنا لا أحتاج إلى خيار وليكن الخيار من نصيبك أنت، فهذا أيضاً جائز.
النوع الثالث من أنواع الخيار ما ذكره المصنف بقوله: [وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيباً لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب]. وهذا النوع الثالث من الخيار نسميه ماذا؟ خيار العيب، كما هو واضح، خيار العيب قال: [وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيباً لم يكن علمه].
لو كان الجيران سيئين هل يعتبر هذا عيباً في المبيع؟
جداً, مثل لو باعوا في حي شعبي, والحي هذا معروف بالمخدرات، والشرطة دائماً تأتي فيه، وفي الشوارع ألوان من الفوضى، هذا عيب كبير في المبيع, وهكذا كل الأشياء التي تباع تعرض لها العيوب، فإذا باعه وفيه عيب خفي، أما لو كان العيب ظاهراً واطلع عليه ذهب ودخل البيت ورأى مثلاً ما حوله وليس فيه شيء، هذا يدل على رضاه، لكن لو كان هذا العيب خفياً وكتمه عنه فهنا يكون له الخيار إذا عرف العيب, يكون له الخيار في الإمضاء أو الرد، فهذا هو خيار العيب, وهو من التدليس.
ومن التدليس أيضاً ما ذكروه بزيادة الصفة مثلاً، أن يظهر المبيع بصورة ليست دائمة، مثل التحفيل أو المصراة, يعني: يأتي بالبقرة أو بالشاة وهي مليئة الضرع فيظن المشتري أنها دائماً هكذا, بينما الواقع أنه قد حفلها وترك حلبها أياماً حتى يظهر في ثديها هذا اللبن. فهذا نوع من الخداع.
ومثله لو وقع زيادة الصفة في أي شيء، فهذا يوجب خيار العيب.
قالوا: ليس من العيب في المصحف، إذا اشترى مصحفاً، ليس من العيب أن يجد فيه آيات ساقطة، هل ترون هذا عيباً أو لا؟
عيب، طيب, لماذا الفقهاء المتقدمون قالوا: إنه ليس عيباً؟
تقريباً؛ لأنه في الماضي قالوا: قل أن يوجد مصحف؛ لأن المصحف كان يتم عن طريق الكتابة، فهم يتبادلون ويشترون مخطوطات أصلية، ما كان هناك مطابع ولا دقة ولا تصحيح، ففي وقتهم لا شك أن وجود نقص كلمات أو شيء من هذا القبيل أمر مألوف, لا يكاد يخلو منه كثير من المصاحف, فجرت العادة أن هذا لا يعد عيباً ما دام المصحف في الجملة سليماً. أما الآن فهل نعد هذا عيباً أو لا نعده؟
بل نعده عيباً، أنا أرى لو كان فيه كلمة واحدة مختلة فإن هذا يعد عيباً؛ لأنه الآن ولله الحمد صارت طباعة المصاحف وتصحيحها ومتابعتها بأدق ما يكون، لكن نعم انتبه! لا تشتر مصحفاً ثم ترجعه تظن أن فيه عيباً، والسبب هو أن المصحف مطبوع بناءً على قراءة أخرى.
أنا أذكر مرة واحد جاءني في الحرم مبهوتاً منفعلاً، قال لي: انظر, في أخطاء كتابة (ق) في جميع المصحف خطأ, مكتوبة (ف) في كل المصحف، حتى القرآن الكريم مكتوب فوقه نقطة واحدة, صارت (الفرآن) وهكذا, بينما هذه عبارة عن كتابة معينة لبعض أهل المغرب، ومصاحف طبعت سواء في مطبعة المدينة أو غيرها, تطبع أصلاً على هذا الأساس.
أو قد يكون فيه نوع قراءات أخرى، هذه القراءات التي في المصاحف قراءات سبعية متواترة, كلها قرآن، لكن المقصود إذا وجد فيه خلل في كتابة -مثلاً- أو في شكل المصحف، يعني: الضمة والفتحة والكسرة ونحوها، فإن هذا يجب رده.
أيضاً من الأشياء التي قالوا لا توجب الرد: لو سقطت كلمات من الكتاب، بعت عليك هذا الكتاب وبعدما أخذته وجدت أن فيه سقطاً، كلمات ومسحاً، هل يعتبر هذا عيباً الآن أو لا يعتبر؟
يعني، إذا كانت كلمات يسيرة قد لا يعتبر، لكن إذا كان سقطاً واضحاً ومسحاً، فإنه يعد عيباً؛ لأنه مع تقدم الطباعة الآن أصبحت المطابع تأتي بجميع الملازم التي يكون فيها مسح أو يكون فيها خلل، أو ما أشبه ذلك فتقوم بإعادتها؛ ولذلك إذا وجد فيه مسح أو حتى يوجد في بعض الكتب أحياناً صفحة تكون مثنية ومطوية وبالتالي التي تحتها لم يطبع، ويكون فيها نقص، ففي هذه الحالة يعتبر هذا عيباً؛ لأن الأمر عرفي، لا يوجد نص، وإنما هو أمر عرفي, ففي عرف الناس مع تقدم وسائل الطباعة والتقنية والمراقبة الآن أن هذه تعتبر عيوباً وتعاد بها السلعة.
لا يكون له الخيار، لماذا؟ لأنه أقدم على معرفة وعلى بصيرة فليس له خيار.
إذا حدث العيب بعد العقد، نقول: الأصل أنه ليس له الخيار؛ لأن السلعة وجدت بحوزته سليمة، إلا في حالة واحدة إذا كان ذلك من ضمان البائع، مثل لو حدث العيب قبل القبض، قبل ما يقبضه وهو عند البائع لم يسلمه له بعد، فهو حينئذٍ يكون من ضمان البائع.
فنقول: إذا وقع العيب قبل أن يقبضه وقبل أن يضمنه فله ذلك، وإن وقع بعد قبضه فإنه ليس له الرجوع فيه.
يعني: وجد العيب مثلاً في البيت هذا، وهو قد سكنه فتركه شهرين وثلاثة وأربعة؛ لأنه يقول: البيع حصل، والرد من حقي، وسوف أكمل السكنى في هذا البيت إلى نهاية السنة، ثم بعد ذلك أقوم بمخاطبة المشتري، ورد البيت عليه، أو أخذ الأرش، هل يجب أن يكون الرد متراخٍ أو يكون فورياً؟
الحنابلة وكثير من الفقهاء يقولون: هو على التراخي، ما دام أنه ما علم بالعيب إلا بعد الشراء، فيكون الأمر على التراخي، ولكن الواقع أن هذا فيه أحياناً إضرار بمن؟
بالبائع؛ لأنك ربما تفوت عليه فرصاً كثيرة, ثم ترد عليه السلعة بعد سنة أو أقل, ثم تقول له: هذا عيب موجود، فيقولون: إن الأمر على التراخي، والواقع أن الصواب والعدل يقتضي أن نقول: إن خيار الرد بالعيب يجب أن لا يكون على التراخي، بل أن يكون على الفور، وإن كنا لا ندري أصلاً متى اكتشف المشتري العيب، ربما يقول: أنا ما اكتشفته, هذا أمر بينه وبين الله يتدين به، لكننا نقول: يلزمه ديناً إذا علم بالعيب أن لا يتراخى، يعني: يقول: متى ما لقيته، بل أن يخبره بذلك من غير إبطاء ولا تأخير، وأيضاً يجب أن لا يظهر منه ما يدل على الرضا بالسلعة كما هي، فإنه إن رضي بالسلعة كما هي، سقط حقه بالخيار، مثل ماذا الدليل على الرضا بالسلعة كما هي؟
الدليل على الرضا مثل ما لو باع البيت، أليس بيعه دليلاً على الرضا؟ فإذا باعه نقول: إنه قد رضيه.
المشتري الجديد إذا اكتشف العيب يعود على من؟
يعود على البائع.
وهل يعود البائع على صاحبه الأول؟
لا يعود، يقول: أنت بعت البيت، فدل هذا على رضاك بالبيت كما هو، وإن كان فيه عيب فلا تعد، لكن المشتري الجديد بمجرد ما اكتشف العيب رجع عليك، فلا شك أن هذا دليل على الرضا.
فنقول: الإنسان إذا عرف العيب فهو بالخيار بين أمرين: إما أن يرد السلعة ويلغي البيع، وإما أن يمسكها ويكون هناك نوع من الأرش.
والأرش: هو عبارة عن تعويض قيمة ما بين الصحيح وما بين المعيب، يقدر بمثله من الثمن ثم يعطى له.
وإذا تنازل طبعاً لا شك في هذا. طيب.
أما بالنسبة للنماء المتصل، مثل: السمن، إذا اشترى نحيفة أو عجفاء ثم سمنت، هل يكون له أو يكون للبائع الأصلي؟
يقولون: للبائع؛ لأن هذا لا يمكن عزله, ولا يمكن أن تفصل الزيادة وتردها للأول.
فيقولون: تكون للبائع الأصلي، وهناك قول للإمام أحمد واختاره ابن تيمية رحمه الله: أنها لا تكن للبائع، وإنما تكون له هو؛ لأنها من ثمرته ومن عمله، فيعوض ثمنها، ما ترد له, وإنما يعوض مقابلها.
إذا تلفت السلعة عند المشتري مثلاً، أو عتق العبد كما قلنا، لو عتق عليه أو تعذر رده لسبب فله أرش العيب، يعني: لا يمكن الرد الآن فلم يبق إلا الأرش, وهو التعويض كما ذكرنا.
ذكرنا طبعاً خيار التدليس هو أوسع من خيار العيب؛ لأن خيار العيب للعيب فقط، لكن التدليس قد يكون بالعيب, أو بوصف المبيع بما لا ينطبق مع الواقع .
كذلك هناك خيار الغبن، أن يبيع له السلعة بسعر أكثر مما تستحق، والغبن هنا يختلف من سلعة إلى أخرى؛ ولذلك مرد الغبن إلى العرف, مثلاً لو باع عليه سيارة تساوي مائة ألف بمائة وعشرة آلاف، هذا فيه بيع غبن أو ما فيه؟ فيه غبن، عشرة آلاف عند السيارة ليست سهلة، لكن (10%) اعتبرت غبناً هنا، لكن هذا القلم لو باعه مثلاً بنصف ريال وباعه له بريال هل يكون غبناً؟ قد لا يكون كذلك؛ لأنه أمر تافه عادي مثلاً، فهذا يختلف بحسب السلعة واتباعه عرف الناس.
فنقول: المقصود بالغبن هو الزيادة، وبعضهم حدد الزيادة بالثلث, كما هو مذهب المالكية, وبعضهم قال: الربع، والواقع أن الغبن لا يتحدد, وإنما مرده إلى العرف . والدليل على موضوع الغبن، طبعاً الحنابلة خصوه بحالات, وهي ثلاث، والأقرب أنه لا يخص بشيء، بل كل غبن فله فيه حق الرد، مثل تلقي الركبان، إذا تلقوا الركبان, وإذا أتى صاحب السوق فهو بالخيار، هذا سبق معنا الحديث.
كذلك النجش من الغبن, أن يزيد في السلعة وهو لا ينوي الشراء, فهذا غبن وخداع للمشتري.
ومن الغبن الذي يقع أحياناً في موضوع النجش: رفع السعر ثم التنزيل، وبعضهم يخدعون، مثلاً السلعة التي تساوي مائة ريال يطلب مائتين, من أجل أنه إذا جاء الزبون يقول: خلها أنا أدفع لك فيها مائة وخمسين، يقول: طيب! على شان خاطرك بمائة وخمسين، بينما هي لا تساوي أصلاً إلا مائة ريال, فيزيدها حتى ينزل للمشتري.
كذلك زيادة المسترسل: وهو الإنسان الذي لا يحسن المماكسة، كثير من الناس يستحي، بمجرد ما يأتي إلى السوق -مثلاً- افترض أنه أتى إلى متجر للملابس، فيأتيه البائع ويكون متدرباً وآخذ دورات على طريق توريط الناس، فيقول: هذه بكذا، ويفلها له، ويقول: هذه سلعة مثلاً، هذه بضاعة إيطالية ممتازة، فيها كذا، ويطويها ويحطها له في كيس، فيستحي أن يقول: ما أبغاها، وضعه أمام الأمر الواقع، ويضع له معها هدية بسيطة، فكثير من الناس يرتبك، فهذا يسمونه المسترسل, ما عنده شجاعة، أنه ممكن يقول له: طيب، خلها عندك أنا أريد أشوف السوق ويمكن أرجع لك مرة ثانية، يعني: فيه مخرج، ما هو لازم تقول له: أنا ما أبغاها، فهذا المسترسل أيضاً إذا اشترى وهو لا يحسن المماكسة، هذا كله يتعلق بخيار الغبن.
وهذا يقع في كل ألوان البيوع التي ذكرناها سابقاً, مثل بيع التولية والشركة والمرابحة والمواضعة.
بيع التولية ما معناه؟ هذه اعتبروها مراجعة، بيع التولية ما هو؟ أن أبيع عليك السلعة برأس المال، يعني: تدخل مدخلي في قيمتها، هذا يسمى تولية, كأني وليتك السلعة بقيمتها. هذا يسمى بيع التولية، أن تبيع عليه السلعة برأس ماله، تقول: خذ هذا برأس ماله، قال لك: كم رأس ماله؟ تقول: عشرة ملايين، وتبين أن الأمر غير صحيح.
لا ربح ولا خسارة، ففي هذه الحالة، هذا يسمى بيع التولية، له الرجوع.
النوع الثاني: بيع الشركة، أن تقول: ادخل معي في هذه الأرض برأس المال، لك نصفها ولي نصفها، قال لك: كم؟ قلت: عشرة ملايين، لك خمسة، وتبين أنه كذب، فله الحق في الرجوع.
النوع الثالث: خيار المرابحة أو بيع المرابحة، يقول: هذه مثلاً بمائة وأبيعها عليك بمائة وعشرة, يعني: ربح عليك.
النوع الرابع: بيع المواضعة، والمواضعة هو أن يبيعها عليك بخسارة، بأقل مما اشتراها، ففي كل هذه الأنواع من البيوع إذا تبين أنه كاذب في إخبارك برأس المال فلك الرجوع ولك الخيار.
كذلك لو اختلفوا في قدر المبيع، مثلاً: قدر المبيع من هذه الأرض أو من هذه السلعة ولا دليل، أو لو اختلفوا في عين المبيع، قال له: أنت بعت علي هذه الأرض التي بالمكان الشرقي، قلت: لا، أنا أقصد التي في المكان الغربي، فاتفقوا فيما وقع عليه البيع ولم يوجد بينة لأحدهما، فهنا يكون لهما الخيار.
الجواب: ليس عليها شيء، إذا كانت ناسية أو جاهلة, فليس عليها شيء، لكن الناسية إذا ذكرت فإنها تزيله.
الجواب: أرى أنه لا يرده لها، وإنما عليه أن يتصدق به؛ لأن هذا مهر البغي، و( مهر البغي خبيث ) كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر