أما بعد:
لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى المواقف المخزية في غزوة أحد، هذه الغزوة التي تعتبر من أجلّ الغزوات وأعظمها، وقد جاء ذكرها في عشرات الآيات من سورة آل عمران، ودرسنا ما شاء الله منها وانتهينا إلى مواقف مشرفة، فعرفناها ولا بأس أن نشير إليها على عجل لننتقل إلى المواقف المخزية.
إذاً: كان هناك مواقف مشرفة هنيئاً لأهلها، ومواقف مخزية فيا حسرة أهلها، وهذا كله للعظة والعبرة. اللهم لا تحرمنا العظات ولا العبر!
أولاً: من المواقف المشرفة موقف أبي طلحة الأنصاري ، إذ وقف موقفاً لا يزال يذكر له ما بقي الإسلام والمسلمون، قال أنس رضي الله عنه: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مُجوّب عليه بجحفة له، وكان أبو طلحة رامياً، كسر يوم أحد قوسين أو ثلاثة، فإذا مر الرجل بجعبة من النبل يقول له: انثرها لـأبي طلحة ، ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم على القوم فيقول له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك!!
وكذلك موقف عائشة بنت أبي بكر الصديق فقد كانت تعالج المرضى، وموقف طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وموقف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومواقفه كلها مشرفة، وموقف أنس بن النضر الأنصاري الذي استشهد وكان يقاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقف آخر للحبيب صلى الله عليه وسلم وحياته كلها مواقف، وموقف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تغسل جراح أبيها مع علي رضي الله عنه، وموقف عبد الله بن عمرو بن حرام الذي استشهد في هذه المعركة، وموقف حنظلة غسيل الملائكة، وموقف أم عمارة نسيبة ، فقد خرجت أول النهار تنظر ما يصنع الناس ومعها سقاء فيه ماء، فانتهت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله وباشرت القتال تذب بالسيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باختصار هذه مواقف مشرفة، وقد مرت بنا، والآن مع مواقف ضدها محزنة مخزية.
وتذكرون أنه نقم لأنه كان يرى أن على المسلمين ألا يخرجوا إلى المشركين خارج المدينة، ووافق موقفه موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استجاب الرسول للأنصار والمهاجرين ولم يستجب له غضب، فحمل الحقد وأصبح ينفخ نفخة السوء والشر، فرجع من الطريق بثلاثمائة مقاتل.
وهذا لتعرفوا البشرية يا أبناء الإسلام وأحوالها! فالبشر هم البشر، منهم الطيب ومنهم الخبيث، منهم الأعمى ومنهم البصير، منهم المحق ومنهم المبطل، وكل هذا تهيئة وإعداداً للنزول الأخير، إما في الملكوت الأعلى، وإما في الدركات السفلى، وتنطوي صفحة الحياة كلها، فلا بد من الطيب والخبيث.
مداخلة: أين عمر منه؟
الشيخ: عمر في صفوف المقاتلين. وصفوف المقاتلين ليست كصفوف الصلاة، فالمجاهدون كانوا على سفح أحد والمشركون بمسافة أمامهم، وهذا الفاسق وقف في الوسط رافعاً صوته ليبلغ الأنصار من أهل المدينة ما يريد، فليس لـعمر أن يخرج بدون إذن القائد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هناك مبارزة فإنها لا تكون إلا باسم القائد وإذنه. وعلى كل حال! سنبلغ عمر إن شاء الله إذا التقينا.
إذاً: هذه المواقف مخزية حقاً، وهي شر المواقف، وتقابلها المواقف المشرفة، وهكذا الناس منهم الصالح والطالح، فهذا يقف موقفاً يُسعد ويشرّف، وهذا يقف موقفاً يُخزي ويذل ويهين، والأمر يرجع إلى الله عز وجل.
مات هؤلاء كلهم ونحن ماذا ننتظر؟ هل عندنا صكوك بأن لا نموت؟ لا. سوف نموت. وما الذي سيقابلنا؟ يقابلنا أعمالنا فقط. فمن استطاع أن يصلح عمله فليفعل، وإلا فالموقف فوق ما نتصور، فاعملوا على تزكية أنفسكم وتطهيرها بمواد التطهير، بهذه العبادات المقننة تقنيناً كيماوياً، فهي أدوات التزكية والتطهير، واحذروا أدوات التخبيث والتلويث والتدمير، وهي كل معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها تحول النفس البشرية إلى أنتن من أرواح الشياطين، وحكم الله الصادر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
والشاهد عندنا: لِم نُحرم العيش على هدي النبوة المحمدية، ونعيش على فهوم وأفكار وأباطيل ودعاوى هابطة لاصقة بالأرض؟ بكم يشترى هذا الحديث؟! وأنا أقول: قولوا لعلماء الاقتصاد أن ينقضوا هذا: ( ما عال من اقتصد ) وهو حديث واحد من آلاف الأحاديث، كل هذا تركه المسلمون وهجروه وما سمعوا به ولا عرفوه، وليس فيهم من يقول: أنا والحمد لله وفقت للاقتصاد، فما استقرضت ولا استلفت ولا سرقت ولا كذبت ولا طالبت أحداً، وما أعطانيه الله عشت عليه عشرات السنين، هل فيهم أحد وقف هذا الموقف؟! لكن أنا والحمد لله ما استلفت من أحد طوال حياتي، إلا مرة واحدة حاولت فيها ولم أنجح، هذا وأنا صاحب أسرة، وراتبي أقل الرواتب من بدايته، فالحمد لله، عرفنا هذا المبدأ ونحن أطفال بعد أن تعلمناه في المسجد، كنا نعيش على التمر والناس يطلبون ويهرجون ونحن نكتفي بتمرنا، كان الناس يطلبون اللبن ونحن عنزتنا تكفينا، لا نطلب لبناً من غيرها، وهكذا.. بينما نرى المسلمين من حولنا يتخبطون.
لقد بلغني أن أحد الأبناء اشترى ثلاث سيارات أو أربعاً ليبيعها مرة أخرى ببخس! ما حملك على هذا يا عبد الله! جع كما جاع رسول الله واصبر، لف جسمك في خرقة واصبر حتى يفرج الله، لكنه لم يفهم الاتجاه الإسلامي الحقيقي أبداً.
قال: [إذ استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في قتال المشركين خارج المدينة أو داخلها وأخذ برأي الأغلبية] والقصة مرت [وسجل حكمة انتفع بها كل من أخذ بها من مؤمن وكافر وهي قوله: ( ما كان لنبي أن يضع لأمته على رأسه، ثم يضعها قبل أن يحكم الله بينه وبين عدوه ) إنها آية العزم والحزم والصدق] وقد انتفع الكفار بهذا.
ذكر الشيخ رشيد رضا عن شيخه محمد عبده رحمة الله عليهما: أن ثورة قامت في السودان -سودان النيل- تريد الحكم، فبلغ الأمر بريطانيا فتحركت وهي الحاكمة المسيطرة على مصر والسودان وغيرها، فلما علم الشيخ محمد عبده تغمده الله برحمته تحرك بريطانيا خاف على إخوانه في السودان -لا أقل ولا أكثر- فأبرق ببرقية يسترحم ويستعطف فيها رئيسة الحكومة أو رئيس الحكومة البريطانية متعهداً هو بإطفاء هذه النار، ولا حاجة إلى أن تبحر بريطانيا وتأتي بجيشها لتدمر المسلمين، فاعتذرت الحكومة وردت عليه بأن بريطانيا إذا أبحرت بجيوشها لا ترجع حتى تنفذ مأموريتها!
وليست هذه الأولى، فما ارتقت بريطانيا ولا فرنسا ولا العالم الأوروبي إلا على هداية محمد وأنوار الإسلام -والله العظيم- وإن كانوا يصوغون صياغة ثم ينسبونها إلى رجالاتهم، فالقانون الفرنسي الاجتماعي السياسي أخذ (75%) منه من خليل المالكي وهذا باعترافهم، فالفقه المالكي فقه محترم، وكتاب خليل بن إسحاق يعتبر أعظم كتاب في الفقه المالكي، ثم نسب بعد ذلك هذا العمل إلى رجالاتهم، ولا تقل كيف، فقد كانوا أمة هابطة كالبهائم والحيوانات، ما عرفوا النور ولا سمعوا به حتى لاح في العالم، وخاصة لما انتقل الإسلام إلى غرب أوروبا وشرقها، ومن ثم أخذوا يتمنطقون بالشورى والديمقراطية وكأننا لا نعرفها!!
والآن نطالب المسئولين في بلادنا -وهي أطهر بلاد برحمة الله- فإذا بلغهم خبر أو رفعت لهم قضية عليهم أن لا يقبلوها سجالاً، بل لا بد من التثبت وسؤال أهل البصيرة والمعرفة، حتى لا يقعوا في الخطأ ثم يتأسفون بعد ذلك.
وأقول: حتى أنت في بيتك استشر زوجتك قبل أن تشتري شيئاً أو ترده، والأخ يستشير أخاه في أي عمل؛ لأن كل إنسان في حاجة إلى نور قد يوجد عند غيره، وما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، وكم من أخطاء نقع فيها؛ لأننا نستقل برأينا أو بفهمنا، أو يأتي لنا شخص برأي هابط ويغشنا فنأخذ به ونتورط.
[فقد تجلت في مواقف عديدة له صلى الله عليه وسلم منها: أنه لم يثن عزمه رجوع ابن أبي بثلث الجيش] ووالله لولا شجاعته القلبية والعقلية لقال: هيا نرجع! لقد قلنا لكم: علينا أن نقاتل في المدينة، فقلتم: نخرج وها هو نصف جيشكم راح!!. ولو كنت أنا -والله- لقلت هذا؛ لأنه طالبهم صلى الله عليه وسلم بأن يقاتلوا العدو في المدينة، فيرجمه النساء والأطفال من أسطح البيوت بالحجارة، ويتوزعون فيها فلا ينفعون بشيء، وأنه أولى من أن يخرج إليهم لكن الجماعة الموجودين رفضوا، فقال لهم النبي: تفضلوا، فلما خرجوا وفي أثناء الطريق رجع ابن أبي بثلاثمائة معه وهو ثلث الجيش تقريباً.
إذاً: لو كان غير الرسول ممن لا شجاعة عقلية عنده ولا قلبية لقال: الحمد لله، الآن عرفتم؟! هاهو ثلث الجيش قد رجع، فهيا نرجع ونقاتل في المدينة. لكنه صبر صلى الله عليه وسلم ومضى في طريقه إلى أحد.
[وثباته صلى الله عليه وسلم في المعركة أيضاً بعد أن فر الكثير من أصحابه] هربوا وهو ثبت، حتى قال شجعانهم كـعلي والزبير : كنا إذا حمي الوطيس والتهبت نار الحرب نحتمي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
فالشجاعة العقلية في عدم رجوعه، والقلبية في كونه يقف في وجه الأعداء وهم يضربونه ومن ورائه الأبطال يحميهم، وما هرب كما هرب أصحابه بل ثبت صلى الله عليه وسلم.
قال: [وانتفاضته وهو مثقل بجراحاته وطعنه أبي بن خلف طعنة خار لها كالثور وسقط منها كالجبل ومات في طريقه] جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر المعركة مع أصحابه أبو بكر عمر على سفح الجبل على صخرة، فجاء الطاغية أبي بن خلف يريد أن يشفي صدره بقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فالصحابة خافوا واندهشوا، بينما قام الرسول وانتفض انتفاضة الأسد وأخذ حربة وضربه بها في ترقوته فخار كما يخور الثور. وهذا موقف شجاع منه صلى الله عليه وسلم!
قال: [ويتجلى ذلك بوضوح في اختياره مكان المعركة وزمانها، وفي وضعه الرماة على جبل الرماة، ووصيته لهم بعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت الحال ولو رأوا الموت يتخطف إخوانهم في المعركة، ويدل على هذا أن الهزيمة النكراء التي أصابت الأصحاب كانت نتيجة تخلي الرماة عن مراكزهم كما مر في عرض المعركة وتسجيل أحداثها].
أما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرماة: ( الزموا أماكنكم سواء كانت لنا أو علينا )، ولو بقوا في أماكنهم لما وقع شيء أبداً من الهزيمة، ولَما جرح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا قتل فلان وفلان من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن أول المعركة كانت لأصحاب رسول الله، وفر المشركون بصورة عجيبة، وفر بعدهم نساؤهم، فلما رأى خالد بن الوليد نزول الرماة عن الجبل وأنه قد خلا إلا من قليل احتله وكانت الهزيمة.
قال: [وفي إرساله -أيضاً- علياً رضي الله عنه يتتبع آثار الغزاة للتعرف على وجهتهم إلى المدينة أو إلى مكة ليتحرك بحسب ما يتطلبه الموقف] أي أية سياسة أعظم من هذه؟ لما مشى المشركون وما عرف الرسول وجهتهم، فلعلهم يعودون إلى المدينة لأخذ الأموال وقتل النساء والأطفال -وإن كان العرب لا يقتلون النساء والأطفال- كلف علياً بأن يتبعهم، ليرى هل يعودوا إلى المدينة لإتمام المسلمين أم أنهم اكتفوا بذلك وهم في طريقهم إلى مكة. وهذه حنكة وقيادة وبصيرة.
قال: [وفي قوله -وهو يجفف الدم السائل من وجهه الكريم الشريف-: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )] كان يمسح الدماء صلى الله عليه وسلم وهي تسيل من وجنتيه ورأسه قائلاً: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ). أي رحمة أعظم من هذه؟
تعالوا إلى الجزائر الآن، وانظروا كيف يأكل بعضهم بعضاً، وباسم الإسلام أيضاً، والإيمان والجهاد!! أتجاهدون المسلمين؟ من أذن بالجهاد في بلاد المسلمين؟ إلا اليهود فقط، إن الجهاد هو قتال الكفار بعد خطوات لا بد منها، فبعد أن نرسو بسفننا على شواطئهم نعرض عليهم ثلاثة أمور: إما الدخول في الإسلام، وإما السماح لنا بالدخول إلى ديارهم لتعليم الأمة وإنقاذها وإرشادها من جهلها وكفرها، وإما أن نقاتلهم ليس أن نقتلهم فقط.
والآن تخرج جماعات في بلاد المسلمين تسمى كتائب الإيمان يقاتلون المسلمين، ويقولون: هذا جهاد؟! أتقاتل المسلمين وتسميه جهاداً؟ وأمس لامني بعض الغافلين وقالوا: كيف تقول كتائب الكفر وهم كتائب الإيمان؟ آه! ماذا نصنع؟ ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تعلمنا الهدى من آبائنا وأمهاتنا!
قال: [وفي بكائه صلى الله عليه وسلم على عمه عندما وضع بين يديه ليصلي عليه حتى أغمي عليه من شدة الوجد والبكاء] لما وضع حمزة بين يديه ليصلي عليه بكى وبكى حتى أغمي عليه صلى الله عليه وسلم. أية رحمة أعظم من هذه؟!
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر