فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، والصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والجهاد من الإيمان، وسائر الأعمال من الإيمان.
فمن الأعمال ما هو أصل في الإيمان، ومن الأعمال ما هو واجب في الإيمان، ومن الأعمال ما هو مستحب في الإيمان.
وهذا يعني أن الأعمال التي هي من أصل الإيمان من تركها فقد خرج من الإيمان بالكلية وصار كافراً؛ كالصلاة على المذهب الراجح، ومن ترك الأعمال الواجبة في الإيمان فإنما أخل بالإيمان الواجب، ومن ترك الأعمال التي هي مستحبة في الإيمان فقد ترك ذروة الإيمان وكماله وتمامه المستحب.
ولذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) أي: فلا يبصر إلا بي، ولا يسمع إلا بي، ولا يمشي إلا بي، فإذا حقق العبد هذه الدرجة وهي الكمال المستحب، يكون قد بلغ ذروة الإيمان وكماله وتمامه، وذلك بأن يأتي بالأعمال المستحبة بعد الأعمال الواجبة والأعمال الأصيلة في الإيمان، فالإيمان بالمقارنة إلى العمل على ثلاث مراتب: إيمان أصلي، ثم إيمان واجب، ثم إيمان مستحب.
ولكل مرتبة من مراتب الإيمان أعمال تخصه، فمن فرط في أصل العمل الذي هو أصل الإيمان فلا يكون مؤمناً قط، بل لا يثبت له الإسلام.
وإذا قلنا: الإيمان قول وعمل، فالقول قول اللسان، بمعنى أن من كان قادراً على النطق بالشهادتين ولم ينطق بهما مختاراً؛ فإنه لا يثبت له إسلام، لأن الإيمان قول وهو لم يتلفظ مع القدرة على القول والتلفظ، ولكنه ترك ذلك مختاراً غير مكره.
والعمل عمل القلب من المحبة والرضا والقيام بمقتضيات هذه الكلمة وغير ذلك، ولذلك لو قال إنسان: لا إله إلا الله، فقد حقق القول، أما قول القلب فمحبة هذه الكلمة والرضا بها، والإيمان والتصديق والإقرار الجازم بها.. ولو أن ذلك كله انتفى عنده لا يثبت له الإسلام عند الله، ولذلك فالمنافقون في زمن النبوة قالوا كلمة الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم أبغضوا هذه الكلمة، ومع هذا حققوا العمل، فكانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بل ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم عند الله في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد عذاباً من الكفار، أما في حكم الدنيا فهم مسلمون؛ لأنهم نطقوا بكلمة الإسلام ظاهراً. فالإيمان قول وعمل، هذا القول وهذا العمل هو قول اللسان وعمل القلب وهو يزيد وينقص، فزيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل.
أي: أن سبب زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، ولذلك إذا كان المرء محافظاً على الصلاة في الجماعة، محافظاً على أداء الزكاة، محافظاً على الحج في كل عام إن استطاع ذلك، محافظاً على النوافل وقيام الليل وقراءة القرآن وغير ذلك.. يشعر أن قلبه يحلق في السماء السابعة، ولو أنه فرط في شيء أو فاتته مثلاً صلاة الفجر وهو معتاد عليها في جماعة، فإنه يقوم في النهار وقد حشرج صدره، وضاق جداً، وشعر بالغم والهم طيلة النهار، وظن أن الدنيا قامت ولم تقعد؛ لأنه شعر بنقصان الإيمان في قلبه بفوات الطاعة التي اعتاد عليها، هذا الأمر يشعر به كل إنسان منا، والإيمان يزداد كما قال تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4].
هذه الآية تقول: إن أصل الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان، ولذلك حينما عاب الله تعالى على الأعراب قال: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، هذا الإسلام لا بد أن يكون معه ما يسمى بأصل الإيمان، لأن الإسلام لا يصح للعبد إلا إذا كان معه الإقرار والإذعان والمحبة والرضا.
ولذلك لو أن واحداً نطق بالشهادتين الآن ثم مات بعدها فوراً، نقول إن هذا مسلم معه أصل الإيمان؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بأصل الإيمان، وهي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان، حتى يكون هناك فارق بينه وبين المنافقين؛ لأن المنافق لو شهد بالشهادتين وهو منافق ومات، يكون في النار؛ لأنه قالها نفاقاً.
كما يحدث للروس الآن؛ فهم قد عرفوا أصلاً من أصول الجهاد عند المسلمين، وهو أن واحداً منهم إذا وقع في عداد الأسر في جيش الإسلام نطق بالشهادتين فوراً، فهب أنه نطق بالشهادتين، ولنفترض أنه نطقها نفاقاً، فهو في النار؛ لأنه ما نطق الشهادة عن إيمان، وإنما نطقها نفاقاً، فهناك فرق بينه وبين من نطقها محبة ورضاً واعتقاداً وإقراراً وتصديقاً وغير ذلك، فهذا معه أصل الإيمان فيكون مؤمناً ومسلماً.
لكن شتان ما بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، شتان ما بينه وبين عمر ، شتان ما بينه وبين سائر المسلمين الذين حققوا درجته من الإيمان والإسلام وزادوا عليه العمل.
فالإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وتكلمنا عن أدلة ذلك من كتاب الله عز وجل، أي: أدلة أن الأعمال من الإيمان من كتاب الله عز وجل، وذكرنا نحواً من مائة آية وزيادة، تشهد كلها أن الإيمان أعمال، وأن الأعمال إيمان.
أصل الإيمان لا يتصور فيه النقصان، والفارق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، أن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل التام، أما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان.
وقد قلنا إن الإيمان كالدائرة الصغيرة في وسط دائرة كبيرة هي الإسلام، فمن سقط من دائرة الإيمان لا يزال في دائرة الإسلام، ومثلنا بهذا.
لكن هذه الدائرة الصغيرة من دوائر الإيمان فيها مرتبتان من مراتب الإيمان: مرتبة مطلق الإيمان، ومرتبة الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق هو: الإيمان الزائد المتكامل المتناهي في الزيادة.
أما مطلق الإيمان فهو: أصل الإيمان.
ولا يتصور في مطلق الإيمان النقصان؛ لأن عقيدة أهل السنة أن مطلق الإيمان يزيد، فيبقى نقصان أصل الإيمان محل نزاع، والذي يترجح لي أن مطلق الإيمان لا يقبل النقصان؛ لأنه إذا قبل النقصان فإنما يكون إلى الزوال.
وبعض أهل العلم يقولون: إذا كان الإيمان هو التصديق، والأصل في الإيمان أنه إقرار وإذعان -لكن هذا على مذهب المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق- فيقولون: لا يتصور نقصان الإيمان إلا إلى زوال.
وبعض أهل السنة يردون عليهم كـابن تيمية وغيره ويقول: بل نفسه يزيد وينقص، كما لو دخل علينا واحد وهو من الثقات فقال: هناك حرائق خلف المسجد، فنحن نصدقه لأننا نعلم أنه ثقة، لكن لو دخل ثانٍ وثالث ورابع وعاشر ومائة وكلهم أجمعوا على نفس خبر الثقة الأول، فلا شك أننا نزداد بذلك تصديقاً ويقيناً، وهذا الذي يسمى عند أهل العلم التواتر الذي يفيد العلم اليقيني.
(الإيمان بالله يقين بالقلب) واليقين هذا يسميه بعض العلماء التصديق، لكن لفظ التصديق ليس محل اتفاق، إنما الذي هو محل اتفاق إقرار القلب، وهذا الحديث ضعيف، وكل الأحاديث التي وردت بهذا المعنى في الإيمان ضعيفة، لكن يشهد بعضها لبعض؛ خاصة وأن معناها محل إجماع أهل السنة والجماعة، ولما كان مقتضى هذا الحديث ومعناه محل إجماع ذكرته مع ضعفه، وقد جاء من حديث أنس وعلي بن أبي طالب وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الإيمان بالله يقين القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح والأركان).
مبنى الحديث أو المراد من الحديث إثبات أن أعمال الجوارح من الإيمان؛ لأنه قال: (آمركم بالإيمان أتدرون ما الإيمان؟) ثم عرف الإيمان بما عرف به جبريل عليه السلام الإسلام، حينما قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) فعرف الإسلام في حديث جبريل بالأعمال الظاهرة وهي أعمال الجوارح، وعرف الإيمان بالأعمال الباطنة وهي أعمال القلب؛ لأنه قال له: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه..) كل هذه أعمال قلوب، والإسلام أعمال ظاهرة كما في حديث جبريل، وهذا أمر مقرر عندهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الإيمان هنا بأعمال الجوارح، ليدل على أن أعمال الجوارح من الإيمان.
قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتؤدي الخمس من المغنم)، فكل هذه أعمال جوارح، ومع هذا أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها اسم الإيمان.
والإيمان والإسلام كالفقير والمسكين وغيرها من سائر المصطلحات التي تشبه المترادفات، إذا ذكرا في دليل واحد كان لكل منهما مدلول، أي أنه إذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد فلكل واحد منهما مدلول، كحديث جبريل حينما ذكر الإيمان مع الإسلام، فكان للإيمان معنى وللإسلام معنى آخر، أما إذا ذكر الإيمان وحده فإنه يشمل معه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان.
أما مصطلح الدين فإنه يشمل ذلك كله، ولذلك حينما تكلم جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان وأمارات الساعة وغير ذلك.. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) لم يقل: أتاكم يعلمكم الإيمان والإسلام والإحسان وغير ذلك، وإنما قال: أتاكم يعلمكم دينكم، فمصطلح الدين يشمل كل ذلك.
وفي حديث ضعيف كذلك: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإسلام في القلب، وكلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون)].
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) ولم يقل الإيمان، لكن هل الإسلام إذا ذكر وحده في هذا الدليل شمل معه الإيمان أم لا؟ أنا قلت إنهما إذا ذكرا جميعاً في دليل واحد كان لكل منهما مدلوله، وإذا ذكر واحد اشتمل على الآخر.
ففي حديث [جرير البجلي يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله)]، ولم يذكر شهادة أن محمداً رسول الله للزومها واقترانها؛ لأنه لا يقبل من أحد توحيد إلا إذا آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام [(وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)].
[وعن جرير قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق الشرك) أو كلمة هذا معناها].
وحديث [جرير قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا -أي: يسرع نحونا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأن هذا الراكب إياكم يريد، فانتهى إلينا الرجل فسلم، فرددنا عليه السلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: فأين تريد؟ قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: قد أصبته! قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت قال: قد أنذرت)].
هذا الحديث حديث ضعيف جداً، لكن هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي اتفقت كلمتهم عليها: لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: (لا قول إلا بعمل) فاحتراز من مذهب المرجئة الذين يقولون: لا علاقة للعمل بالإيمان، وقد اضطروا أن يقولوا: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه لا علاقة للأعمال بالإيمان عندهم، فيستوي عندهم من عمل جميع المحرمات وترك جميع المأمورات مع جبريل عليه السلام.
وأنتم تعلمون أن ترك الأمر وارتكاب النهي فسق وليس كفراً، ولو قلنا إن الوقوع في هذه الكبائر والمهلكات كفر، لوافقنا الخوارج في معتقدهم في تكفير مرتكب الكبيرة.
ولذلك فإن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه لا قول إلا بعمل، أي: لا ينفع القول إلا ومعه العمل، ولا ينفع القول والعمل إلا بنية، وهي الإخلاص لله عز وجل.
ولا يمكن لرجل أن يقول قولاً وأن يعمل معه عملاً وأن يخلص نيته، إلا إذا كان ذلك كله على منهاج النبوة، وعلى الصراط المستقيم، وذلك احترازاً من البدع؛ لأن المرء ربما يقول قولاً ويعمل عملاً صالحاً وينوي بذلك إخلاصاً، لكنه يقع في البدع، فيقع في الشرك، أي: أن هؤلاء الذين يطوفون حول المقابر وغيرها.. بلا شك أننا نقول: هؤلاء أناس جاهلون مخلصون، فالواحد منهم يتصور أن عمله هو ذروة الإيمان، وأنه عمل صالح يتقرب به إلى الله، ويأتي بالعجول من الأماكن البعيدة إلى تلك القبور ثم يذبحها، لا شك أن هذا عمل كفري شركي، لكن لا يكفر به! وهناك فارق كبير جداً بين الحكم على العمل بأنه كفر وبين الحكم على العامل، أما العمل فباتفاق، لأن هذا ذبح أو نذر، والذبح والنذر عبادة يجب صرفها لله عز وجل، فإن صرفت لغير الله كانت كفراً وشركاً.
لكن المعطل لقيام هذا الحكم على العامل موانع أخرى، كقيام الجهل، فإذا كان عالماً بأن ما يعمله شرك كان مشركاً، أما إذا كان جاهلاً بذلك وهو يتصور أن هذه عبادة وهذا إخلاص لله وعمل صالح؛ فلا شك أن أحداً لا يجرؤ على إلحاق الكفر به. فالعمل شرك، وهذا أمر مفروغ منه، أما العامل فيتوقف عن إلحاق الحكم به حتى تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع.
هب أنه رجل مجنون عمل هذا، وأنت أطلقت عليه لفظ الكفر، والجنون مانع من إلحاق الحكم؛ لأن المجنون ليس مكلفاً، وكذلك الصغير لا يعرف شيئاً ولا يعقل شيئاً، والإكراه مانع كذلك.
فهذا الحديث المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بإخلاص لله عز وجل) هذا وإن كان حديثاً ضعيفاً إلا أن هذا صمام الأمان فيما يتعلق في الكلام عن الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
وكذلك جاء عن الحسن البصري .
[وقال الحميدي : حدثنا يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان؟]
و سفيان الثوري وسفيان بن عيينة هما من أئمة أهل السنة، أما سفيان بن عيينة ففي مكة والمدينة، وأما الثوري ففي الكوفة.
سئل الثوري عن الإيمان؟ [فقال: قول وعمل].
وهذا فيه رد على المرجئة والجهمية.
فالمرجئة يقولون: الإيمان قول فقط، فلو أن إنساناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ كان كجبريل وميكائيل، وإن ترك جميع المأمورات وارتكب جميع المحرمات، مع أن هذا ينقض الإجماع الذي انعقدت عليه كلمة أهل السنة والجماعة من أساسه.
إبراهيم بن عيينة أخو سفيان بن عيينة حينما سمع أخاه يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال لـسفيان بن عيينة قل: يزيد، فنظر إليه سفيان بن عيينة وقال: يا أحمق! بل والله ينقص الإيمان حتى لا يبقى منه في القلب شيء، أي: أنه يزول بالكلية.
وقال الحميدي : وسمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: قول وعمل، والمرجئة يقولون: قول، والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة].
إذاً: تعريف الإيمان عند أهل السنة: قول وعمل يزيد وينقص.
أحياناً يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، وأحياناً يقولون: قول وعمل وإخلاص.. وكلها معان واحدة ومردها إلى بعضها.
المرجئة يقولون: قول بلا عمل، أو أن العمل ليس شرطاً في الإيمان.
الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة.
أي: أنهم لا يشترطون حتى مجرد التلفظ، فلو أن الإنسان عرف الله عز وجل بقلبه كان ذلك كافياً في إثبات كمال وتمام الإيمان عنده، حتى وإن ترك التلفظ مع القدرة عليه، وهذا كلام في غاية الفساد والنكران، بدليل أن إبليس عليه لعنة الله يعرف الله عز وجل، واعترف بربوبيته وإلهيته في غير ما آية من كتاب الله عز وجل، فهو الذي قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] أي: أنه معترف بأن الله هو الرب وعارف بذلك موقن به.
ولذلك ابن تيمية يقول: وعلى أصول مذاهب الجهمية فإن إبليس في قمة الإيمان.
فهذا من لوازم قول الجهمية، أعني أنه يجب عليهم أن يقروا بأن إبليس عليه لعنة الله في قمة الإيمان، فهو وجبريل وميكائيل والأنبياء والمرسلون في مرتبة واحدة من مراتب الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة.
[وقال عبيد بن عمير الليثي : ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يفعل، وعمل يعمل].
[وعن الحسن : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال].
كلها معان واحدة تصب في بوتقة تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
[وعن مجاهد قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص].
[وعن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل].
[وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: قال الزهري: نرى أن الكلمة الإسلام، والإيمان العمل].
هذا الكلام ينبغي الوقوف عنده؛ لأن الزهري من كبار أئمة السنة.
فالإمام الزهري يقول: نرى أن الكلمة الإسلام، أي: أنه يثبت الإسلام للمرء بمجرد التلفظ والقول.
كأنه يقول: الإسلام هو قول.
قال: والإيمان العمل، أي أنه يثبت الإسلام عند الزهري لصاحبه بمجرد القول، ولا يثبت له الإيمان الواجب والإيمان المستحب إلا بالعمل، فجعل أصل العمل هو الإيمان، وجعل أصل الإيمان هو العمل، فهو لا يقول إن العمل متمم أو مكمل للإيمان، إنما يقول إن ذات العمل هو الإيمان، كما أن ذات الإسلام هي الكلمة، وهذا كلام في غاية الوجاهة.
[وقال وكيع : كان سفيان يقول: الإيمان قول وعمل، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل].
[وقال سفيان : كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة].
وإذا رجعت إلى كتاب فتح الباري على كتاب صحيح البخاري لوجدت في كتاب الإيمان باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الصيام من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان.. وذكر أعمال الجوارح كلها ليثبت أن الإيمان قول وعمل، أما من قال لا علاقة للعمل بالإيمان فقوله من أبطل الباطل.
[قال أبو رزين : (يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والحساب والبعث، والقدر خيره وشره، فذلك الإيمان كما يحب الظمآن الماء البارد في اليوم الصائف يا
قال: [فعرض ما معه من إرجاء، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً].
الكلام الجميل -يا إخواني- أنك إذا سمعت كلاماً منكراً فيجب عليك أن تنفر منه نفاراً شديداً، ولذلك فإن أهل العلم يحذرون من الجلوس إلى أهل البدع، فيقولون: إذا لقيت الرجل من أهل البدع ففر منه فرارك من المجذوم، أو فرارك من الأسد؛ لأنك لو سلمت نفسك للأسد فأكل بدنك، خير من أن تسلم نفسك لصاحب بدعة يأكل قلبك ويأكل إيمانك.
وقد استوعبنا هذا الباب استيعاباً عظيماً جداً لأهميته في دروس الاعتقاد.
[قال: فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم نفاراً ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك ، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله ألا يؤيه وإياه سقف بيت إلا المسجد].
أي: أن عبد الكريم قال: والله لا يمكن أن أجتمع مع هذا المبتدع إلا في بيت الله فقط، ولا يؤيني وإياه سقف بيت قط إلا بيت الله.
[قال: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابه، فإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته قرأ هذا الحرف حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110] قال: قلت: إن لي إليك حاجة فأخلنا]، أي: أني أريد أن أتكلم معك يا عطاء، فلو سمحت أريدك وحيداً بغير أن يحضرنا أحد.
[قال: فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين]، أي: يريدون أن يقولوا: إن أعمال الجوارح ليست من الإيمان.
[قال: أوليس الله عز وجل يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]]، إذاً: فالصلاة والزكاة من الدين.
أما قول هؤلاء إن الصلاة والزكاة وأعمال الجوارح ليست من الدين ولا من الإيمان؛ فهو قول فاسد، ويرد عليهم بهذه الآية.
[قال: فقلت له: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة.
فقال: أوليس الله تعالى قال فيما أنزل: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] قال: قلت له: إنهم قد انتحلوك]، أي: إنهم يفترون عليك ويقولون: أنت الذي علمتهم أن أعمال الجوارح ليست من الإيمان، كما أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهم افتروا هذا الكلام عن عطاء .
[فقال: إن ابن ذر دخل عليك يا عطاء في أصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقبلت هذا الأمر.
فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما كان هذا مني. مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال: ثم قدمت المدينة فجلست إلى نافع الفقيه مولى ابن عمر فقلت: له يا أبا عبد الله ! إن لي إليك حاجة.
فقال: أسر أم علانية؟ فقلت: لا بل سر.
فقال: رب سر لا خير فيه، بل كثير من السر لا خير فيه.
قلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام ويده بيدي وخرج من الخوخة -أي: من الباب- ولم ينتظر القاص]، أي: لم ينتظر مجلس القصاص.
[فقال: ما حاجتك؟ قلت: أخلني من هذا.. كان معه ولده عمر فقال له: تنح يا عمر حتى يتكلم عمك بما يريد.
قال: فذكرت له بدو أمرهم]، أي: بداية ظهور أمر هؤلاء المرجئة.
فقال نافع الفقيه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُمرت أن أضرب بالسيوف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله).
قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك.
قال: فنتر يده من يدي -أي: جذب يده من يدي- وقال: من فعل هذا فهو كافر!
قال معقل : ثم لقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله! أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات؟
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).
قال معقل : ثم لقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن ميموناً وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا قولهم فقبلت قولهم.
قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم ؟
قلت: لا.
قال: دخل علي منهم اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد ! أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية؟ فقال: (يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، أفترى أن هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: أتشهدين أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أن الجنة حق؟ قالت: نعم. قال: أعتقها فإنها مؤمنة)].
فهو يقول له: يا رسول الله! أنا علي عتق رقبة مؤمنة، فهل يصح أن أعتق هذه الجارية الحبشية السوداء وتجزئ عني لأنها مؤمنة؟ فاختبرها اختباراً يوافق السؤال، فمن الحماقة أنك إذا سئلت سؤالاً أجبت بإجابة لا تخدم السؤال، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما سئل: أنا علي عتق رقبة مؤمنة، أفتجزئ يا رسول الله هذه الجارية؟
فالنبي عليه الصلاة والسلام اختبرها في الإسلام فقال لها: (أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذا هو تعريف الإسلام، فلما قالت: نعم يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإن كان هذا قول الإسلام، إلا أنه قول الجوارح، واللسان جارحة، فهذا هو الإيمان.
ثم اختار لها الجنة من بين أمور الغيب للدلالة على بقية أمور الغيب، أي: ليس أنه من اعتقد مثلاً أن الجنة حق وأن النار حق يكون مؤمناً، لأن من اعتقد أمراً من أمور الغيب لزمه أن يعتقد بقية أمور الغيب، فاختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً من نماذج الغيب، (أتشهدين أن الجنة حق؟ قالت: نعم. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) لكونها شهدت الشهادتين وآمنت بأن الجنة حق.
[قال: فخرجوا ينتحلونني.
قال معقل : ثم جلست إلى ميمون بن مهران فقيل له: يا أبا أيوب ! لو قرأت لنا سورة ففسرتها.
قال: فقرأ أو قرأت: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] حتى إذا بلغ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21] ثم قال: ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل].
وقد ذكر تعالى بين هاتين الآيتين أعمال الجوارح حتى وصل إلى قوله مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21] ليثبت أن جبريل فوق ذلك كله؛ لأن الملائكة عليهم السلام مجبولون مفطورون على الطاعة، قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقد قال إن إيمان جبريل لا يضاهيه إيمان أحد قط، وهذا بخلاف الأفضلية فيما يتعلق بمسألة: هل الملائكة أفضل أم البشر؟
فهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والراجح فيها مذهب ابن تيمية عليه رحمة الله قال: أما الأنبياء والمرسلون فهم أفضل من الملائكة، أما المفاضلة بين الملائكة وبين سائر البشر، فصالحو البشر أفضل من الملائكة.
الأنبياء أفضل باتفاق، وصالحو البشر أفضل من الملائكة على المذهب الراجح، أما الملائكة فهم أفضل من شرار الخلق أو من الفساق أو من العصاة.
قال: أقول: أنا مؤمن إن شاء الله].
فمسألة: أنا مؤمن إن شاء الله، تدخل تحت باب ما يسمى بالاستثناء في الإيمان؛ لأن قوله (إن شاء الله) استثناء، فهل يجوز للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أم يقطع بأنه مؤمن؟
هذا باب مستقل اسمه باب الاستثناء في الإيمان، أي: جواز الاستثناء من عدمه، وسنتعرض له بإذن الله تعالى في الدروس المقبلة.
[قال إبراهيم: وسئل الفضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان، فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان، والقبول بالقول، والعمل به.
وسمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل]، وكذلك ابن جريج وأبو إسحاق الفزاري وابن المبارك والنضر بن شميل ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سليم وابن شهاب والحسن البصري ومالك بن أنس ومحمد بن الطيب وهشام بن حسان وعبد الرزاق ومعمر وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وابن عيينة وأحمد بن حنبل وأبو داود السجستاني وغير واحد ذكرهم.
ولذلك [قال ابن بطة : سمعت بعض شيوخنا رحمهم الله يقول: سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ قال: هو قول ونية وعمل وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة].
هذا هو ملخص عقيدة أهل السنة والجماعة، فكلام سهل بن عبد الله التستري في الإيمان كلام رائع جداً، يكتب بماء من ذهب.
[قال الشيخ ابن بطة : وحسبك من ذلك ما أخبرك عنه مولاك الكريم بقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] أي: هذا هو الدين القويم.
فإن هذه الآية جمعت القول والعمل والنية، فإن عبادة الله لا تكون إلا من بعد الإقرار به، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يكون إلا بالعمل، والإخلاص لا يكون إلا بعزم القلب والنية.
و أبو عبيد القاسم بن سلام كان من أكابر علماء السنة في زمانه، وله تصانيف عديدة ممتعة ورائعة، وقد ذكرت ترجمته في محاضرة سابقة، أكثر من ثلاث ساعات وأنا أتكلم عن مناقب هذا الإمام، فإذا أردتم التعرف عن واقع هذا الرجل فمن كتاب سير أعلام النبلاء، أو التاريخ الكبير للذهبي ، فالتاريخ الكبير قد استوعب ترجمة هذا الإمام استيعاباً عظيماً جداً، وكتاب التاريخ الكبير للذهبي أكثر من مائة مجلد.
[قال القاسم بن سلام : هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص]، ثم يبدأ بعد ذلك بذكر أسماء من قال من السلف: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
فمن أئمة أهل السنة [من أهل مصر والشام: مكحول الشامي والأوزاعي الشامي وسعيد بن عبد العزيز الشامي والوليد بن مسلم الشامي ويونس بن يزيد الأيلي المصري ويزيد بن أبي حبيب المصري ويزيد بن شريح المصري وسعيد بن أبي أيوب المصري والليث بن سعد المصري وعبيد الله بن أبي جعفر ومعاوية بن صالح وحيوة بن شريح وعبد الله بن وهب]، وهؤلاء مصريون.
قال: [وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة ميمون بن مهران ويحيى بن عبد الكريم].
ومن أهل الكوفة فلان وفلان، [ومن أهل البصرة الحسن البصري وابن سيرين وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وأيوب السختياني ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وعبد الله بن عون وحسان بن حسان وهشام الدستوائي وشعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأبو الأشهب]، وغير واحد من هؤلاء.
[ومن أهل واسط:
هشيم بن بشير وخالد بن عبد الله الواسطي وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وصالح بن عمر وعاصم بن علي .
ومن أهل المشرق:
الضحاك بن مزاحم وأبو جمرة نصر بن عمران وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل وجرير بن عبد الحميد الضبي .. هؤلاء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وهو قول أهل السنة والجماعة، والمعمول به عندنا، وبالله التوفيق].
قوله: (والمعمول به عندنا) أي: الذي نعتقده أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وقال أبو عثمان محمد ابن الإمام محمد بن إدريس الشافعي سمعت أبي -وهو محمد بن إدريس الشافعي- يقول ليلة للحميدي : ما تحتج عليهم بآية هي أحج من قوله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]].
أي: الإمام الشافعي يذكر لشيخه الإمام الحميدي إذا ناظر المرجئة ذات يوم، وطلبوا منه آية في كتاب الله ما يحتج به عليهم.
فالمناظرة متعلقة بهل العمل من الإيمان أم لا؟
إذاً: الخلاف الذي بين المرجئة وأهل السنة في اعتبار أن الأعمال من الإيمان أم لا؛ فهذا هو بيت القصيد في مخالفة المرجئة لأهل السنة.
فالإمام الشافعي مع جلالته يكلم شيخه الإمام الحميدي صاحب المسند ويقول له: إذا ناظرت المرجئة ذات يوم فطلبوا منك آية في كتاب الله، فاحتج عليهم بقول الله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]؛ لأن الدين يشمل الإيمان والإسلام والإحسان.
[وناظر حرملة بن يحيى رجلين بحضرة الشافعي بمصر في الإيمان، فقال أحدهما: إن الإيمان قول، فحمي الشافعي من ذلك، وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فطحن الرجل وقطعه].
أي: قام عليه بالأدلة من الكتاب والسنة حتى أفحمه.
فالطحن في مذهب العلماء هو إفحام الخصم بالحجة.
[قال الشيخ ابن بطة: فهذا طريق الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة هذا الدين، موافق ذلك لنص التنزيل وسنة رسوله الأمين، فنعوذ بالله من عبد بلي بمخالفة هؤلاء، وآثر هواه، ورد دين الله وشرائعه وسنة نبيه إلى نظره ورأيه واختياره، واستعمل اللجاج والخصومة يريد أن يطفئ نور الله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]].
يبقى لنا إن شاء الله في الدرس القادم إثبات زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الله، ثم من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال الصحابة والتابعين وسائر فقهاء الملة.
فهل يجوز له أن يدفع مال الربا في هذه المصاريف؟
الجواب: يجوز له أن يدفع مال الربا للبنك؛ كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، فهو ربا أخذ منكم ورد إليكم، ويستغفر لأخيه الذي مات.
الجواب: العمل في الضرائب حرام.
والسائل يسأل سؤالاً مهذباً في نهاية الأمر فيقول: وهل لو أخذت بقول من يبيح العمل في الضرائب، وقدمته على قولكم؛ فإني مؤاخذ بذلك ومحاسب عليه أم ماذا؟
ثم يقول: والله ما أريد إلا الوصول للحق في هذه المسألة؟
الشيخ: جزاك الله خيراً وقد صدقناك وإن لم تقسم؛ لأنك عندنا صادق ابتداء، في الحقيقة قولك: هل عليك من حرج إذا أخذت بقول غيري وتركت قولي؟
أقول: لا حرج عليك إذا لم تكن صاحب هوى، وأنت قد أقسمت أنك لست صاحب هوى بدليل أنك تريد الوصول للحق، والذي يريد الوصول للحق يكون أبعد الناس عن الهوى.
فإما أن تكون رجلاً من أهل العلم؛ لأن هذه مسألة لها تعلق بالعلم، أو طالباً من طلاب العلم يستطيع أن يقرأ في كلام أهل العلم وأدلتهم ويرجح بين هذا وذاك، فما ترجح في حقك فهو دين الله تعالى بحق، إذا كنت طالباً من طلاب العلم الذين لهم نظر وتمييز ونظر ثاقب في الأدلة، والموازنة بين أقوال أهل العلم.
فأقول: انظر في قولي وفي قول من سألتهم غيري، فإذا ترجح لديك قولي فهو دين الله تعالى في حقك يجب أن تعمل به، وإذا ترجح لديك قول الآخرين فهو دين الله تعالى في حقك، ولا حرج عليك أن تدع قولي، فأنت مسئول بين يدي الله عما غلب على ظنك أنه هو دين الله الذي نزل من السماء.
أما إذا كنت لست طالباً للعلم ولا لك نظر ولا بصر ثاقب تنظر في الأدلة وفي كلام أهل العلم، فواجب عليك أن تسأل من هم أعلم الناس لديك وأوثق الناس ديانة لديك، فإن استووا فالاحتياط في حقك أوجه.
إذا استوى عندك في العلم والديانة والصيانة من قال بالجواز ومن قال بالمنع، فلا شك أن القائل بالمنع في حقك أحوط؛ لأنه لا يختلف أحد أن المنع عن المشتبهات أحوط، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين، وبنيهما أمور مشتبهات) فلا أقل من أن تعد هذا الأمر من المشتبهات (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر