أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سنتكلم الآن عن موضوع له علاقة بهذه الأيام وبهذا الشهر الجاري وهو شهر رجب، فالناس قد انطبع في أذهانهم أن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، مع أن هذه المسألة غير ثابتة وغير موثقة، وتحديد ليلة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام والعروج به إلى السماء السابعة غير دقيق، وهو محل نزاع واختلاف بين أهل العلم، ولكن شاع وفشا وانتشر أن ذلك كان في رجب، حتى ظن العامة أن الإسراء والمعراج كانا في السابع والعشرين من شهر رجب، ثم انطبع في أذهانهم أن النبي عليه السلام قد رأى ربه بعيني رأسه في هذه الليلة.
وهذه المسألة محل نزاع كبير بين أهل العلم، وهذا الكلام قد نشأ في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ففي الوقت الذي يؤيد فيه ابن عباس الرؤية تنفي فيه عائشة وعبد الله بن مسعود وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين الرؤية كذلك.
فهذه المسألة لا يضلل فيها المخالف ولا يبدع؛ لأن الخلاف قد وسع الصحابة رضي الله عنهم في هذه القضية، مع أننا لو دققنا النظر لما وجدنا أي خلاف بين مذهب ابن عباس ومذهب عائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، ولكن الخلاف وقع بعد ذلك بين أهل العلم، وعلى وجه التحديد وقع في القرن الثاني، وفي بداية القرن الثالث.
وهنا عدة أسئلة وهي: الأول: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء أم لا؟
السؤال الثاني: هل رآه بفؤاده وبقلبه أم لا؟
السؤال الثالث: هل رؤية الله عز وجل للمؤمنين -أي: من غير الأنبياء- بأعين رءوسهم ممكنة في الحياة الدنيا أم لا؟
السؤال الرابع: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في المنام أم لا؟
السؤال الخامس والخاتم لهذه الأسئلة في مسألة الرؤية: هل الكافرون والمنافقون يرون ربهم تبارك وتعالى؟
فهذه أسئلة أساسية في قضية الرؤية، ينبغي الإجابة عن كل سؤال بالتفصيل.
ذكر الإمام النووي في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نور أنى أراه؟)، وأنى بمعنى: كيف، أي: نور كيف أراه؟ فقد حجب النور رؤيتي لله عز وجل، فلو لم يكن هذا النور لرأيته.
وهذا يدل على أنه لم ير الله عز وجل، لكن سئل ابن عباس رضي الله عنه: (هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج؟ فقال: نعم). ولا شك أن الإسناد إلى ابن عباس صحيح، ولكن وقع نزاع في إجابة ابن عباس المترتبة على السؤال، فقوله: (نعم)، ماذا يقصد به، هل قصد ابن عباس أنه رآه بعيني رأسه، أو أنه رآه بفؤاده وقلبه؟ فبعضهم مال إلى أن إجابة ابن عباس مفادها أنه رآه بعيني رأسه، وليس هناك تصريح في شيء من كتب السنة أن ابن عباس قال: رآه بعيني رأسه، ولكنهم حملوا إجابته على رؤية العين.
وأما جمهور أهل العلم فحملوا إجابة ابن عباس على رؤية الفؤاد، خاصة وأن عائشة رضي الله عنها حدثت بالسند الصحيح إليها فقالت: (ومن حدثكم أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وفي رواية: (فقد كذب).
أي: من حدثكم أنه رآه بعيني رأسه فقد كذب، ولم توجه هذا الكذب لـابن عباس ؛ لأنها حملت كلام ابن عباس على رؤية الفؤاد ورؤية القلب، ولم تحمله على رؤية العين.
فتبين عند التدقيق أن كلام السلف جميعه محمول على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله تعالى بعين قلبه وفؤاده لا بعين رأسه.
وهنا نحمل كلام من أثبت الرؤية على رؤية الفؤاد والقلب، ومن نفى الرؤية على نفي الرؤية بعيني رأسه، فنخرج من هذا أن الرؤية ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعين قلبه لا بعيني رأسه.
أي: ليس معقولاً أن ابن عباس يجيب السائل: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه؟ فيقول: نعم؛ من غير أن يكون عند ابن عباس دليل، لكن ابن عباس لم يسق هذا الدليل. وهذا غير صحيح، ولو ساق الدليل لحملناه على أنها رؤية فؤاد وقلب.
قال: وهذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه. أي: أن الصحابة إذا أخبروا في هذه القضية بخبر فلا بد أن يكون لهم فيها نص عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان معها منه حديث لذكرته. يقصد أن عائشة لما قالت: (من حدثكم أن محمداً قد رأى ربه فقط أعظم على الله الفرية ). فهذا كلام من عندها هي، وهي لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنها لم تسأله فأجابها بالنفي.
فنقول: إذا كانت عائشة رضي الله عنها لم تنف بحديث مرفوع فقد نفى بحديث مرفوع أبو ذر رضي الله عنه، وذلك لما قال: سألت النبي عليه الصلاة والسلام: (هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي رواية: (نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور، أو أن الله تعالى نور، فمن أسمائه النور، وهذا النور مخلوق لله عز وجل بنور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، ولا يجوز أن نشبه النور الذي نعرفه بالنور الموصوف به الله تبارك وتعالى والمسمى به؛ لأن النور جسم من الأجسام، وهذا لا ينبغي ولا يجوز لله عز وجل.
وقال النووي في تأويل حديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟): حجابه نور فكيف أراه؟ أي: والحالة هذه فكيف أرى الله عز وجل وقد حجبني عن الرؤية النور الذي اتخذه الله عز وجل، أو النور الذي هو من أسماء الله تعالى وصفاته.
فإذا كان الإمام النووي يؤكد هذا المعنى، ويميل إلى هذا التأويل فما باله يذهب مرة أخرى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه؟! فهذا يؤكد صحة ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه في تلك الليلة.
فإن قيل: إن هذا حدث وعائشة لم تزل صغيرة، فلعلها أخطأت، فنقول: لم لم ترجع عائشة عن هذا القول؟ نعم أن الإسراء والمعراج كان والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولكن عائشة استمرت حياتها بعد ذلك لمدة أعوام، وماتت في سنة (50) هجرية أو بعدها، فإذا كانت عائشة قد أخطأت قبل أن تبلغ الحلم فما الذي منعها أن تصحح هذا الخطأ بعد بلوغها، وفي تقدمها في السن؟ وخاصة أن هذه مسألة اعتقادية خطيرة لا بد وأن تراجع فيها عائشة مرة أخرى وثانية وثالثة، فلم لم ترجع عن هذا المذهب؟
ثم إن عائشة لم تنفرد هنا وحدها بالنفي، فهناك معها أبو ذر، ومعها عبد الله بن مسعود ، وسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن مثل هذا يدل على أنهم موافقون لـعائشة ، وتأويلهم لحديث ابن عباس أنها رؤية قلب يدل على أن المسألة عند الصحابة على جهة الخصوص لم يكن فيها خلاف؛ لتأويل كلام ابن عباس بما يتفق مع مذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
وابن تيمية عليه رحمة الله يتكلم بكلام جميل جداً على قوله عليه الصلاة والسلام: (نور أنى أراه؟) فيقول: معناه: كان ثَم نور، يعني: كان هناك نور فحجبني عن الرؤية، وحال دون رؤيته، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) ولم يقل: نعم، وإنما قال: (رأيت نوراً)، وقد أعضل أمر هذا الحديث، وأشكل على كثير من الناس، حتى صحفه بعضهم فقال: نوراً إني أراه، وهذا لا يتفق مع اللغة العربية، وتصحف كذلك بما هو أقبح من ذلك على بعض المحدثين فقال: (نوراني أراه) بدل (نور أنى أراه؟) فجعلها كلمة واحدة فقال: نوراني أراه، وهذا شر من سابقه.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي -وهو من جبال السنة- في كتابه الرد على بشر المريسي إجماع الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج.
إذاً: فهذا إجماع الصحابة -وهو محل احترام واعتبار- على أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ربه ليلة المعراج، وبعض من صنف في هذا الباب يستثني ابن عباس من ذلك، وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة؛ فإن ابن عباس لم يقل: رآه بعيني رأسه، وإنما سئل: (هل رأى ربه؟ قال: نعم)، فما الذي يمنعنا من حمل كلام ابن عباس هذا على كلام عائشة وجمهور الصحابة أن هذه الرؤية كانت بالقلب والفؤاد؟
وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين عنه، حيث قال: إنه رآه، ولم يثبت عن أحمد أنه قال: رآه بعيني رأسه، وابن تيمية هنا ينقل عن الإمام أحمد، ومن المعلوم أن أهل البيت أدرى بما فيه، فـابن تيمية قد غربل مذهب أحمد بن حنبل، ولم تخف على ابن تيمية دقيقة في مذهب أحمد بن حنبل لا في السنة ولا في الفقه، حتى خالفه في بعض المسائل الفقهية، ولفظ أحمد كلفظ ابن عباس ، ولم يثبت أن أحمد قال: رآه بعيني رأسه.
ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر : قوله عليه الصلاة والسلام: (حجابه النور)، وقال: (نور أنى أراه؟) وقال: (رأيت نوراً).
إذاً: فالذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام هو الحجاب، وهو النور، وقوله: (نور أنى أراه؟) وقوله: (رأيت نوراً) وقوله: (حجابه النور) يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما رأى الحجاب ولم ير الله تعالى، فهذا النور هو النور المذكور في حديث أبي ذر : (رأيت نوراً).
وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، فهل بعد هذا التوفيق يكون هناك تعارض بين قول ابن عباس وقول عائشة؟! فلابد أن نصدق عثمان بن سعيد الدارمي في أن الصحابة أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه.
فالرؤية في معتقد ابن عباس كانت بالفؤاد وليست بعيني الرأس، وهذا المذهب لـابن عباس يوافق مذهب جماهير الصحابة في إثبات الرؤية بالفؤاد لا بالعين.
وتارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لفظ صريح بأنه رآه بعينه.
وكذلك الإمام أحمد تابع لـابن عباس في ذلك، والإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله مذهبه أثري حديثي يلتزم بالنص الوارد، وأنت تجد أن أهل العلم يفتون على قواعد أصولية، ويفتون على استنباطات اجتهادية، وكذلك أحمد بن حنبل ، ولكن أحمد قال: إذا بلغك الأثر فاعمل به ولو مرة؛ تكن من أهله.
ولذلك لو نظرنا إلى كلام أهل العلم في صلاة الضحى مثلاً لوجدنا لهم قولاً واحداً، ولـأحمد أقوال: ركعتان، وأربع ركعات، وست، وثمان، واثنتا عشرة ركعة، لماذا؟ لأن كل عدد من هذه الأعداد جاء به نص، فتارة يفتي بهذا الحديث، وتارة يفتي بغيره، وتارة يفتي بالثالث حتى يستوعب ما ورد في المسألة من أقوال وآثار عن السلف.
فـأحمد بن حنبل قال مرة: رأى محمد ربه، فحمل بعض الناس هذا الإطلاق في كلام أحمد كما حملوه في إطلاق ابن عباس ، فقالوا: قصد أحمد أنه رآه بعيني رأسه، وليس الأمر كذلك، بل ورد كلامه مقيداً.
فالإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده كما قال ابن عباس ، والذي قلناه في تأويل كلام ابن عباس نقوله في تأويل كلام أحمد بن حنبل ، ولم يقل أحد من الحنابلة أو من غيرهم: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهموا منه رؤية العين، وهذا الفهم لا عبرة به، وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، يعني: ليس هناك دليل يدل لا من قريب ولا من بعيد على أن الرؤية كانت بالعين، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، بل ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، أي: أن النصوص الصحيحة تنفي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه؛ لإثباتها أن هذه الرؤية بالفؤاد مرتين، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟).
فالمسألة هذه مسألة اعتقادية عظيمة جداً، فلو كانت الرؤية قد ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعيني رأسه فما الذي يمنعه أن يصرح بها وأن يبينها بياناً كافياً؛ حتى لا تختلف الأمة، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين ما هو دونها بمراحل كثيرة جداً، وقد قلنا في باب الرؤية في الآخرة: إن الأحاديث قد تواترت في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فأيهما أعظم وأجل قدراً: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه في الدنيا، أم رؤية المؤمنين ربهم بأعين رءوسهم في الآخرة؟ بلا شك أن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أعظم، مع أننا نجد أن المسألة في رؤية المؤمنين لربهم ثابتة بطريق التواتر، يعني: ورد في الرؤية عدة أحاديث عن كثير من الصحابة، في الوقت الذي لا نجد نصاً واحداً يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه.
وقال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]، ولو كان الله تعالى قد أراه ذاته العلية بعينه لكان ذكر ذلك أولى، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج رأى من آيات ربه العظمى، وأعظم آية أن يرى ربه، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى يذكر الآيات الصغرى ولا يذكر الآية الكبرى العظمى وهي الرؤية، فلو كان رأى ربه في هذه الليلة لكان ذكر هذه الرؤية أولى من ذكر الآيات التي رآها النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء إلى بيت المقدس، ثم في رحلة المعراج في السماوات السبع، ومقابلته الأنبياء ومحادثته لهم، ورؤيته لبعض آيات الجنة والنار في هذه الرحلة القصيرة في أمدها، الطويلة في قيمتها، فلو كان النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه في هذه الليلة بعيني رأسه لكانت تلك أعظم آية على الإطلاق، فلما لم يذكرها الله تبارك وتعالى وذكر ما هو دونها، ونسب ذلك إلى أن ذلك من الآيات العظيمة والآيات الكبرى؛ دل على أن هذه هي أعظم أشياء التي رآها في تلك الليلة، وأنه لم ير ربه، ولو كان قد رآه لكان ذكره أولى من ذكرها.
وكذلك قوله تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12] يعني: أأنتم تجادلونه فيما يخبركم أنه قد رأى؟ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ [النجم:18] ولم يقل: لقد رأى ربه.
فهذه الآيات التي رآها في طريقه إلى بيت المقدس وإلى المعراج آيات عظيمة من آيات الله ومن خلقه، ولكنه لم ير الله تعالى، ولو رآه لوجب ذكره، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ [الإسراء:60]، قال: هي رؤية عين أريها رسول الله عليه الصلاة والسلام ليلة أسري به، وهذه رؤية الآيات؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، فالبعض صدق، والأكثرية كذبت بهذا، وشكت وتحيرت وترددت، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رأى ربه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما هو دونه.
وقد ثبت في النصوص الصحيحة واتفاق سلف الأمة أنه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، فضلاً عن مؤمن أو منافق أو كافر.
وقوله: وقد ثبت في النصوص الصحيحة، واتفاق سلف الأمة؛ يدل على أن الخلاف وقع في خلفها لا في سلفها، والسلف متفقون مجمعون على أنه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، إلا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو النزاع الذي نذكره الآن.
أن هذه الرؤية تتم في يوم القيامة، ولأهل الإيمان خاصة، كما يرون الشمس والقمر.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا، فبعضهم يقول: أنا رأيت الله في المنام، وأنهم يخطر لهم بغير سؤال ما حصل لموسى بالسؤال، فانظر إلى هذه الكرامات! أي: أن الله منحهم هذه الكرامة من غير أن يسألوه، ومنعها عن موسى بعد أن سأله، فهم أكرم على الله من موسى عليه السلام الذي هو من الأنبياء!
فأجاب: أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي عليه الصلاة والسلام.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: حتى يموت فيبعث يوم القيامة.
فبعد هذا الإجماع المنعقد من الأمة المبني على الدليل: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى الله حتى يموت) من يقول: أنا رأيت ربنا، نقول له: أنت كذاب.
ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال.
ومعظم الصوفية يدعي ذلك، كما قال أحدهم: لو فاتتني رؤية ربي في كل يوم وليلة لعددت نفسي منافقاً، فنقول له: أنت كافر بهذه الادعاءات، وهذا كذب.
قال: فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ لاسيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى عليه السلام، فإن هؤلاء يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، والله تعالى أعلم.
هذا ولم يثبت عن أحمد بن حنبل أنه رأى ربه، ولم يثبت عن الأوزاعي كذلك أنه رأى ربه، وهب أن ذلك ثبت فإنه لا عبرة بهذا الثبوت، فإن رؤية واحد من الأمة لا يمكن أن نعارض بها ما ثبت من النصوص وإجماع السلف.
وأنتم تعلمون أن هناك فرقاً عظيماً بين قول المحدث: هذا أثر أو حديث صحيح، وبين قوله: هذا إسناد صحيح، أما قوله: (هذا حديث صحيح) أو (أثر صحيح) فهذا كلام ينطبق على المتن، وهو ما انتهى إليه السند من الكلام، وأما قوله: (هذا إسناد صحيح) فلا يستلزم قطعاً صحة المتن، فقد يكون السند صحيحاً والمتن شاذاً أو به علة، ومن علل المتن أن يخالف كتاب الله، أو أن يخالف حديثاً صحيحاً، أو يخالف ما أجمعت عليه الأمة، أو تحيل العقول السليمة الصحيحة المستقيمة على منهج النبوة أن يكون هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو من كلام واحد من أصحابه، ولو كان ذلك لرد لأجل هذه العلل، فما بالك بعد أن سمعت الآيات والأحاديث وإجماع سلف الأمة على أنه لن يرى الله تعالى أحد حتى يموت فيبعثه الله؟ فإذا قلت: قد رأى أحمد ربه، ورأى الأوزاعي ربه؛ قلنا: لا عبرة بهذه الرؤية إن صحت، ومع ذلك فهي غير صحيحة، فليس هناك نزاع ولا اختلاف والحالة هذه.
قال: وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث في أحد دواوين السنة، ولم يروه أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال أهل العلم كـابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار والملاحدة؛ ليشينوا به على أهل الحديث؛ حتى يقال: إنهم يروون مثل هذا. يعني: يحاولون بقدر الإمكان أن يشوهوا صورة المحدثين، فيقال: هؤلاء هم المحدثون الذين تأخذون عنهم دينكم، يروون أن الله ينزل في عشية عرفة راكباً جملاً، ويصافح الركبان، ويعانق المشاة، وعند ذلك تفقد الثقة في الرواة.
وكذلك يروون حديثاً آخر فيه: (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة -يعني: هو نازل من مزدلفة أفاض منها إلى منى- يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف)، أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله.
وهكذا حديث: (إن الله يمشي على الأرض)، فإذا كان هناك موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، ويقرءون قوله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50]، وهذا أيضاً كذب باتفاق العلماء، ولم يقل الله: فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ [الروم:50]، ورحمته هنا النبات.
وهكذا أحاديث في بعضها: (أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف) أي: رأى ربه وهو يطوف حول الكعبة، وفي بعضها: (أنه رآه وهو خارج من مكة)، وفي بعضها: (أنه رآه في بعض سكك المدينة).
قال: وكل حديث فيه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، فهذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم.
وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً عليه الصلاة والسلام هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، والنصوص واردة عن معظم علماء السنة أنه رأى ربه ليلة المعراج، لكن لم يقولوا: بعيني رأسه.
وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها ينكرون ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه، كما يرويه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نعم.
وقال لـعائشة : لا، فـعائشة لما سألته نفس السؤال: هل رأيت ربك؟ قال: لا، ولما سأله أبوها: هل رأيت ربك؟ قال: نعم. هذا لا يتصور صدوره من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
وذكر القاضي أبو يعلى وغيره: أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله: هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه؟
وأصح رواية فيها أنه قال: رأى ربه وسكت، والرواية الثانية: رأى ربه بعين فؤاده، أو قال: بعين قلبه.
وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا) وهو المعروف عند أهل العلم بحديث: اختصام الملأ الأعلى، رواه أحمد بن حنبل، والدارمي في سننه، وليس في أحد من دواوين السنة الأصيلة إلا في هذين.
قال أحمد : حدثني عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة -يعني: في النوم- فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ -وهم الملائكة- قال: لا يا رب!).
الشاهد من هذا الحديث: (أتاني ربي في أحسن صورة وأنا نائم).
إذاً: فرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ثابتة له في الدنيا، لكن رؤية منام لا رؤية حقيقية، ورؤى الأنبياء حق، فهذه الرؤية كانت منامية، ولم تكن بعين رأسه على الحقيقة. (قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوضع يده) والضمير يعود على الله عز وجل، وهذا فيه إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل.
قال: (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي) أي: حتى شعر ببرد يد الرحمن بين ثدييه عليه الصلاة والسلام من الأمان، أو قال: (نحري) أي: صدري. قال: (فعلمت ما في السماوات وما في الأرض) لما فعل الله عز وجل بنبيه ذلك أطلعه على كل شيء في السماء والأرض.
والشاهد من هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بفؤاده في منامه، وهذه الرؤيا لا تطلق عليها رؤية عين؛ لأن رؤية العين يلزم فيها اليقظة.
وهذا الحديث يروى من طريق ابن عباس ، ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه أنه: (وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري).
قال ابن تيمية : هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج، فالذين يثبتون الرؤية في ليلة المعراج ويحتجون بهذا الحديث هذا الحديث ليس حجة لهم؛ لأن هذا الحديث لم يكن في ليلة المعراج، وإنما كان بالمدينة، والمعراج كان في الزمن المكي.
وفي الحديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نام عن صلاة الصبح، ثم خرج إليهم فقص عليهم وقال: رأيت كذا وكذا)، وهو من رواية من لم يصل خلفه إلا بالمدينة كـأم الطفيل ، فـأم الطفيل روت هذا الحديث وهي بالمدينة، وما أسلمت وصلت خلف النبي عليه الصلاة والسلام إلا في المدينة، فلا يتصور أن هذا يكون في ليلة المعراج؛ لأن أم الطفيل لم تكن في ذلك الوقت من المؤمنات.
والمعراج كان في مكة باتفاق أهل العلم، وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وهو في مكة إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة، كما جاء مفسراً في كثير من طرقه، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، لكن لم يكن رؤيا يقظة ليلة المعراج.
فهناك فرق بين كون رؤيا الأنبياء حقاً وصدقاً ووحياً، وبين كونها بالعين، فهي حق ولكنها لم تكن بالعين، وإنما ذلك بالفؤاد ورؤيا منام.
وقد اتفق المسلمون على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه بعينيه وهو حي في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي عليه الصلاة والسلام قط حديث فيه: أن الله نزل له إلى الأرض، بل الأحاديث الصحيحة: (إن الله يدنو عشية عرفة) يدنو فقط، أي: يقترب من عباده، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا النزول نزول على الحقيقة يليق بالله عز وجل، وكان هذا النزول إلى السماء الدنيا لا إلى الأرض، فيقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له).
وثبت في الصحيح: (إن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا فيباهي الملائكة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً، ما أراد هؤلاء؟).
وقد روي: أن الله ينزل ليلة النصف من شعبان، وهذا الحديث معظم أهل العلم يصححونه، وبعضهم ضعفه، والحديث حسن، وليس فيه حجة لتخصيص ليلها بقيام، ولا نهارها بصيام إلا قياماً من عادة العابد أو صياماً من عادة الصائم؛ لأن ذلك يوافق النصف من شعبان، وهو من الأيام المعروفة على مدار العام، فلا يخص نهار النصف من شعبان بصيام ولا ليله بقيام، ولا يصح في ذلك حديث.
وكذلك ما روى بعضهم: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزل من حراء تبدى له ربه على كرسي بين السماء والأرض)، أي: ظهر له ربه وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض، هذا الحديث غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح: أن الذي تبدى له هو الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وأنتم تعلمون أن جبريل عليه السلام هو عظيم الملائكة، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلقه الله عز وجل عليها حقيقة مرتين، مرة وهو في طريقه إلى مكة نازلاً من الغار، ومرة في ليلة عرج به إلى السماء، رآه عليه الصلاة والسلام وله ستمائة جناح، كل جناح منها يسد الأفق.
فالصحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الملك -وهو جبريل- فتصحف على بعضهم فقال: رأى النبي عليه الصلاة والسلام الملِك، ففهم أن الملِك هو الله، فصار يأتي أحياناً بالنص الملِك، وأحياناً يعبر من عنده ويقول: (رأى محمد ربه ليلة عرج به)، أو (رأى محمد ربه ليلة المعراج) وهذا غلط، والصحيح: (الملَك) بفتح اللام.
ولشيخ الإسلام ابن كثير الدمشقي عليه رحمة الله كلام متين جداً وفي غاية الأهمية، ولو أن الوقت يسمح لاطلعنا عليه، فكله زبد، يكشف فيه ويجلي الأمر أيما تجلية، وقد انتفع ابن كثير بكلام ابن تيمية وبكلام ابن القيم، وهو تلميذ لـابن تيمية ، فقال في تفسير سورة النجم كلاماً ما أحلاه وما أجوده.
قال: وبالجملة كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض، وفيه أنه نزل له إلى الأرض، وفيه أن رياض الجنة من خطوات الحق، وفيه أنه وطئ -أي: أن الله وطئ- على صخرة بيت المقدس؛ كل هذا كذب وافتراء باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم.
وكذلك كل من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعاً على أن أحداً من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لما ذكر الدجال : (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)؛ لأن الدجال عندما يظهر فيهم يقول: أنا ربكم، فنقول: أنت كذاب؛ لأننا لا نزال أحياء، والرؤية لا تثبت لنا إلا أن نموت فنبعث، فأول رؤية لله عز وجل هي في المحشر، فمن يدعي الألوهية الآن فهو كذاب، سواء كان الدجال أو غيره، وهناك مجانين يدعون أنهم المهدي المنتظر ، وبعد فترة من الزمان سيدعون النبوة، والمطلع على كتب الاعتقاد في مذاهب الفرق الضالة يعلم ذلك جيداً، فإذا ادعى النبوة ينتظر فترة ثم يدعي الألوهية، وليس خبر فرعون ببعيد.
وكذلك روي هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام من وجوه أخر، فهو يحذر أمته الدجال ، ويبين لهم أن أحداً منهم لن يرى ربه حتى يموت، فلا يظنن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه.
فهنا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل.
وبعد أن ذكر إجماع الأمة أن أحداً لا يرى الله عز وجل بعيني رأسه، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عبد من العباد، قال: لكن من الممكن الرؤية المنامية، والرؤية القلبية، والتجليات، وتحصل لواحد من العباد حسب تقواه وإيمانه وورعه وعبادته وطاعته لله عز وجل.
واستدل على ذلك بحديث: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) قال: فرؤية المؤمن لله عز وجل بقلبه أو مناماً جائزة ولا مانع منها، وذلك حسب إحسان العبد، يعني: أن يكون مسلماً، وأن يكون مؤمناً محققاً الإيمان بكماله وأعلى درجاته، والذي فوق ذلك هو الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه عياناً، ولما كان ذلك محالاً قال: اعبده كأنك تراه.
قال: وإحالة الرؤية بالعين للعبد لا ينفي أن العبد يرى ربه بعين قلبه أو بعين فؤاده، وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة، على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه. يعني: رأى صورة ناقصة.
قال: ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة بالحقائق، وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضاً من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى في الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.
وهذا الكلام إذا عرفه الصوفية طار فرحاً، وسيكون شيخهم الكبير هو ابن تيمية مع أنه العدو اللدود لهم، فهذا الكلام يوافق هواهم، ويوافق مذهبهم ومعتقدهم.
قال: وربما غلب على أحدهم ما يشهده قلبه، وتجمعه له حواسه؛ فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام.
فهكذا من العباد من يحصل لهم مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العبّاد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.
فكلام ابن تيمية هذا كله نخلص منه إلى أن الرؤية بالعين مستحيلة.
قوله: (للناس) يعني: كل الناس المؤمن والكافر، ولكن الرؤية على ثلاثة أنواع:
فيراه الكافرون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ من باب العقوبة.
لا يراه الكافرون قط، فيعاتبهم ويوبخهم الله عز وجل على كفرهم وعنادهم.
ويراه المنافقون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ عقوبة لهم، ويتجلى ربنا لأهل الإيمان في المشهد كما يتجلى لهم في جنة عدن في كل يوم من أيام الأسبوع، وهو يوم المزيد يوم الجمعة، وهذا ثابت لأهل الإيمان على جهة الخصوص؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
ثم يذكر ابن تيمية عليه رحمة الله بعد ذلك رؤية المؤمنين لربهم، ويسوق عليها بعض الأدلة، فقال: كما تواترت الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)، فالرؤية لأهل الإيمان، وهي رؤية بالأبصار، ولكنها لا تكون إلا في الآخرة. قال: (وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب).
وقال عليه الصلاة والسلام: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو: ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف ربنا تبارك وتعالى الحجاب فينظرون إليه عياناً، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي المذكورة في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] أي: الجنة وَزِيَادَةٌ [يونس:26] أي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى).
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحيحين، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق أهل السنة والجماعة عليها، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة الشيعة ونحوهم، الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق.
ودين الله تعالى وسط بين تكذيب هؤلاء -أي: بين تعطيل هؤلاء- بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في الآخرة، وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.
إن منهج أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية وسط بين المعطلة الذين يقولون: كل هذه الأحاديث كذب، أو يحرفونها فيحملون الرؤية على رؤية الآيات، أو رؤية المحشر، أو رؤية النعيم، أما الله عز وجل فلا يرى عندهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة.
وهناك على الطرف الآخر والنقيض قوم يقولون: إن رؤية الله تعالى بالعين الحقيقية تثبت في الدنيا، بل ولكل العباد، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة وبين المثبتة، فأهل السنة يقولون: إن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة ثابتة لأهل الإيمان، ومحجوبة عن أهل الجحود والنكران والكفران.
ومثل ذلك من يزعمون أنهم يرونه في بعض الأشخاص، يقول أحدهم: أنا رأيت الله في فلان، ولا يقول هذا الكلام إلا الحلولية والاتحادية الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات، ويتحد معها حتى يكون المخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق.
فيقولون: إنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما في بعض الصالحين أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم.
قال: فعظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم، وهؤلاء الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، وفيهم شعبة من شعب النصارى، واعلم أن هناك ناساً آخرين شراً من هؤلاء، يعممون الرؤية في جميع الخلق، فيقولون بحلول الله عز وجل أو اتحاده في جميع الموجودات حتى في الكلاب والخنازير والنجاسات، وهذا القول كفر، وهو يشبه قول من قال: إن الله موجود في كل الوجود بذاته؛ لأنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى في الحمامات، وفي الحشوش، وفي الأماكن النجسة بذاته.
وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية لله عز وجل، وأنه استوى على العرش كيف شاء، وأنه مع عباده ومع خلقه بسمعه وعلمه وبصره وإحاطته، فيتنزه ربنا تبارك وتعالى عن قول هؤلاء الذين يوجدون الله تبارك وتعالى في هذه الأماكن التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم فضلاً عن رب المسلم.
فهؤلاء الضالون يقولون بأن الله تعالى يتحد ويحل في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات، كما يقول ذلك قوم من الجهمية، ومن تبعهم من الاتحادية -أي: الصوفية- كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وغيرهم، ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب، -يعني: اليهود والنصارى- أن الله سبحانه وتعالى خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما أجمعين، ورب العرش العظيم، والخلق جميعاً عباده، وهم فقراء إليه، هذا كلام المعتدلين من أهل الكتاب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فأثبت في أول الآية العلم، وأثبت في آخر الآية البصر والرؤية.
إذاً: فمعيته لخلقه معية علم وبصر وسمع، وهو معكم أينما كنتم، فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً، وإما صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمه؛ يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفروا وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً، حتى قال: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [مريم:88-89] أي: مفترى، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:90-93].
فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، كما زعمت السبئية من الشيعة، يزعمون أن عليا هو الله تعالى، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة في كتب الاعتقاد.
وكذلك أبو الحسن الأشعري لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه.
ومذهب عائشة رضي الله عنها أنه لم يره بعين رأسه؛ لحديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟)، وعلى هذا طائفة من العلماء، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: قد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة، وما تلقوه فيها قريباً من مائة مصنف، فلم أجد أحداً يروي بإسناد ثابت ولا صحيح، بل ولا عن صاحب ولا عن إمام أنه رآه بعين رأسه.
قال: فالواجب اتباع ما كان عليه السلف والأئمة وهو إثبات مطلق الرؤية، أو رؤية مقيدة بالفؤاد، ولم يثبت عن الإمام أحمد التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه.
نحن قلنا: إن فيه ثلاث روايات عن أحمد: رأى ربه بعيني رأسه، رأى ربه بفؤاده، رأى ربه، ولكن رواية إثبات الرؤية بعين رأسه غير ثابتة -يعني: غير صحيحة- وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس : بعينه رآه رآه رآه رآه حتى انقطع نفسه.
لكن ابن تيمية أعلم بنقول أحمد، فـابن تيمية نخل وغربل مذهب أحمد بن حنبل ، بل والمذهب الحنبلي كله، بل ومذاهب أهل العلم، فكيف يقدم كلام النقاش على كلام ابن تيمية الذي هو من أهل بيت أحمد بن حنبل ، يعني: من أهل بيت علمه وفقهه؟!
يقول: وأحمد أجل من أن يكون عنده من عدم السكينة ما يتكلم بمثل هذا حتى ينقطع نفسه، إنما هي حكايات المجازفين في النقول عن الأئمة، فتأمل وصاحب البيت أدرى، وكم للناس من مجازفات في المنقول والمعقول، والمرجع في ذلك إنما هو لأقوال المحققين والعلماء الراسخين والأئمة الربانيين كـابن تيمية وغيره.
وصح عن عائشة وعن ابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14] إنما هو جبريل، وصح عن أبي ذر أنه سأله: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟) أي: حال بيني وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر: (رأيت نوراً)، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس مناقضاً لهذا، يعني: حتى ابن عباس ليس مختلفاً مع عائشة ولا عبد الله بن مسعود في الحقيقة؛ لقوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) ولكن لم يكن هذا في الإسراء، -هذا في حديث اختصام الملأ الأعلى- ولكن كان ذلك في المدينة لما احتبس عنهم صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -أي: بنى رأيه ومذهبه في هذا الأمر- وقال: نعم، رآه حقاً؛ ولكن لم يقل أحمد رحمه الله: إنه رآه بعيني رأسه يقظة وحقاً، وإنما قال: رآه حقاً، ولم يذكر يقظة ولا أنها كانت رؤية عين.
فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه كـالنقاش : أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، أي: ليس فيها التصريح بأنه رآه بعيني رأسه، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر