أما بعد: فموضوع درسنا هو امتداد لدرسنا في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي ، وهو يتعلق بحكم المعاملة والتعامل مع أهل البدع، فهل يجوز لأهل السنة أن يختلطوا بأهل البدع؟ وما هي حدود هذا الاختلاط، سواءً كانوا علماء أو من دهماء الناس؟
إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، مع أن كثيراً من الشباب وخاصة شباب الصحوة يستهينون بهذا الأمر، وما وقع كثير من الناس فيما وقعوا فيه من الشر إلا لأنهم تعرضوا لأهل البدع بالجدال والخصومة والمناقشة، واقتنعوا بمذهبهم وآرائهم، ولعلي أذكر أنه في عام (1975) لما ظهرت جماعة التكفير كنت آنذاك في الثانوية العامة، فلما عرضوا علي فكرهم، قلت: ما الذي يمنعني أن أجلس معهم، وأن أسمع منهم، فإن أعجبني وكان موافقاً لديني أخذته، وإن لم يعجبني رددته.
وهذا القول بلا شك فيه مجازفة فضلاً عن تزكية النفس، وفي تلك السنة أين أنا من ديني أولاً؟ هل تعلمته؟ وعن أي من أهل العلم أخذت ديني في ذلك الوقت؟ فلما جالستهم اقتنعت جداً بما طرحوه علي، لكني خشيت من النظام الإداري العام والإطار العام للجماعة، فقلت: دعوني حتى أنظر في رأيي، فلما تركوني ما فررت منهم إلا خوفاً منهم، أما الكلام الذي طرحوه علي فالكلام مقنع جداً، فإنهم قد حملوا نصوص الوعيد على ظاهرها كما حملها الخوارج تماماً.
وفي ذلك الوقت قالوا لي: كل عاصٍ لله تعالى كافر، أليس الأمر كذلك؟ قلت: بلى. ووافقتهم على أن كل عاص كافر، فصاروا يعددون لي المعاصي وسائر الذنوب، وأنا أوافق على أن مرتكبها كافر.
كما قالوا لي: إن الذي يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغير الله وأسمائه وصفاته كافر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
فلو أنك قلت: إنه ليس بكافر، فلابد وأن تكفر، وإما أن تقول بظاهر الحديث؛ لأنك لو لم تقل بظاهره لكنت معطلاً للنصوص، فخشيت أن أكون معطلاً للنصوص، فوافقتهم على ذلك الفكر.
وما هي إلا أيام بفضل الله تبارك وتعالى وقيض الله لنا رجلاً من أهل العلم، فسألناه فهدانا إلى الطريق الحق، فتركناهم وتركونا.
ولكني أسأل نفسي: ما الذي حملني على خصومتهم وجدالهم؟ إنه الجهل، إنه الهوى، وعدم اتباع أهل العلم.
وهذا رجل منذ ستة أشهر يسكن في منزله في أمريكا قابلته ينادي بتجديد الشريعة والدين، فقالوا: إنها فرصة لتجلس معه. فقلت: بل ليست فرصة، فإن أصحاب البدع متخصصون في بدعتهم، وأنا غير متخصص فيها، وصاحب البدعة لا ينظر ولا يبحث في دين الله إلا عما يؤيد بدعته، وأنت إذا لم تكن عالماً في أصل كلامه ومخرجه والرد عليه سرعان ما يهزمك. فقلت: بل هي ليست بفرصة، وإنما الفرصة كل الفرصة أن تبتعدوا أنتم عني.
فهذه نصيحتي لكم أنقلها لكم عن أهل العلم فلان وفلان وفلان، واعتبروا أن الذي أقوله هو هزيمة نفسية مني، واقتربوا منه وحملوا عنه، ولما رأوا أن ذهابهم إليه في بيته أمر يشق عليهم جعلوه شريكاً لهم في سكنهم.
وفي الزيارة الثانية وجدت أن القوم أجمعين قد اقتنعوا بمذهبه، فلما رأيت الخطر عظيماً، والتقينا على مائدة إفطار في رمضان. قال لي: ماذا تقول في التجديد؟ قلت: هي دعوى قال بها قاسم أمين وصاحبه. قال: وما رأيك فيها؟ قلت: نحن لا ننظر برأينا، وإنما نحتاج إلى كلام قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل قال بالتجديد عليه الصلاة والسلام؟ فقال: وهل قال النبي عليه الصلاة والسلام بكيت وكيت وكيت؟ ثم أليس هذا الكلام كله قد حدث بعده؟ قلت: وعليه إجماع. لأنه ذكر لي: وهل جمع القرآن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل نص على خلافة فلان وفلان؟ قلت: قد أجمع عليها أهل العلم. قال: بل خالفهم الشيعة. قلت: الشيعة لا عبرة بخلافهم؛ لأنهم أهل البدع. فقال: بل الشيعة أهل حق. وانتبه إلى هذا، فقد نصب أهل البدعة وجعلهم أصحاب الحق.
قلت: إذا كان الشيعة أهل حق فماذا تقول في معاوية ؟ فقال فيه قولاً عظيماً لا أجرؤ أن أنقله لكم.
قلت: أنت بهذا قد رفعت الشيعة، وسببت صحابياً من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شأن أهل البدع، إذ إنهم يقعون في الأخيار ويرفعون الأشرار، فلابد أن تعلم أن هذه سمة أهل البدع وأنت واقع فيها. قال: أنت تتهمني بأني من أهل البدع؟ قلت: أنا لا أتهمك، ولكني أقرر أنك من أهل البدع. ثم قلت له: فماذا يعني التجديد في نظرك؟ قال: النظر إلى النصوص بوجهة نظر عصرية. قلت: اضرب لي مثلاً على ذلك، فقال: لابد أن يخرج فينا من يسب القرآن ويطعن فيه حتى يعظم القرآن في قلوب أهل السنة. قلت: قد ظهر هذا عن بعض الناس، فوجد من يشكك في القرآن ويطعن فيه، مثل: قاسم أمين ونصر أبو زيد ، هل تريد شيئاً آخر، وهل لا يعظم عندك الأمر إلا إذا طعن في القرآن؟ قال: نعم. قلت: إن أهل السنة غير ذلك، فهم يعظمون ويبجلون أوامر الله تبارك وتعالى لأول وهلة، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لأول وهلة.
أما أنت فتحتاج إلى من يطعن في أبيك وأمك حتى تعرف أن هذا أبوك وأمك، وتنافح عنهم، فقام رجل في المجلس فقال: لعن الله أباك وأمك، فقامت حرب قوية في البيت وشجار عظيم جداً؛ لأنه ما علم قيمة أبيه وأمه إلا بعد أن لعنا في المجلس.
ثم قلت: أي منهج هذا؟ وأي دين هذا؟ ألم أحذركم من هذا الرجل منذ كيت وكيت؟ فاعتذروا، وأظن أنهم قد اعتذروا اعتذاراً يناسب المقام، وإلا فإنهم لم ينضموا إلى مجلس العلم الذي ينعقد في أحد المساجد هناك، ويبث منه منهج أهل السنة والجماعة.
والشاهد من هذا الكلام كله: أنه لابد أن يكون هناك جدار منيع بينك وبين أهل البدع، فلا يقترب منك ولا تقترب منه، ولذلك أهل البدع ليسوا بدعاً في زمان دون زمان، وإنما هم في كل زمان ومكان، فأهل العلم لما صنفوا كتبهم في السنة وفي الهدي جعلوا فصلاً مخصوصاً للتحذير من جدال وخصومة أهل البدع في الوقت الذي نراهم قد جادلوهم وخاصموهم، وأقاموا عليهم الحجة. فما هو التأويل والجمع بين الأمرين؟ أنت تنهاني ثم تأتي الفعل الذي تنهاني عنه. الجواب: لأنهم أهل علم، فلا خوف عليهم، والذي يتعرض لأهل البدع لابد أن يكون من أهل العلم الراسخين في العلم، حتى لا يتشرب تلك البدعة في قلبه، وحتى لا يعتقدها ويعمل بها بعد ذلك.
ولابد أن تدعو الضرورة إلى مناقشة أهل البدع، ولذا فليس كل عالم له أن يناظر أهل البدع إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ولم يكن في المجلس عوام يتأثرون بتلك المناظرة، بمعنى: أن تؤمن الفتنة على عامة الناس، فهناك شروط لمناظرة أهل البدع، والأصل في مناظرتهم: المنع لا الجواز إلا لأهل العلم كما ذكرنا بالشروط المذكورة.
قوله: ( فما نهيتكم عنه فاجتنبوه )؛ لأن كل نهي ورد في الشرع في مقدور جميع المكلفين، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة.
فمثلاً: الحج مأمور به وهو مشروط بالاستطاعة، والقيام في الصلاة واجب وهو أمر، ومع هذا من لم يستطع أن يصلي قائماً صلى قاعداً حسب استطاعته.
وأما النهي فإن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق فيه القول، وقال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ ليدل على أن النهي داخل في مقدور كل إنسان، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة كما ذكرنا.
قال: [ عن أبي أمامة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ].
إذاً لابد عليك أن تعلم أن أحد العلامات التي يتميز بها أهل البدع وأهل الزيغ: أنهم يجادلون في دين الله عز وجل، فيأخذون النصوص ويضربون بعضها ببعض.
قوله: (إلا أوتوا الجدل ) أي: رزقوا، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58].
قال: [ عن قتادة في قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3] قال: صاحب بدعة يدعو إلى بدعته ]. فهو الذي يجادل في الله بغير علم أتاه.
قال: [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال الآخرون: ألم يقل الله كذا وكذا) ]، أي: أن هذا يأتي بنص من كتاب الله، والآخر يأتي بنص في ظاهره يناقض النص الأول. [ (فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن سمعهم وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -أي: من شدة الغضب- فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض، إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه) ]. أي: لا تضربوا كتاب الله تعالى بعضه ببعض؛ لأن هذا من شأن أهل البدع والزيغ والضلال.
قال: [ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله عز وجل أمركم. ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) ]، وهذا لم يكن نهج الصحابة ولا السلف.
قال: [ عن عائشة قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] حتى بلغ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم) ].
والذين سماهم الله عز وجل هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وصفهم الله تبارك وتعالى في صدر الآية فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7].
إذاً: الذي يتبع متشابه القرآن ومتشابه السنة هو الذي في قلبه زيغ، وقد حذر الله تبارك وتعالى منه.
قال: [ قال علي رضي الله عنه في خطبته: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) ].
أي: أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو أتى بقول جديد مخترع لا دليل عليه من كتاب أو سنة فعليه لعنة الله، أو أوى من أتى بهذه المحدثة وهذه البدعة أو هذا الجرم، أو أحدث حدثاً استوجب عليه حداً كالردة وغيرها، أو آوى من فعل ذلك؛ لأجل ألا يقام عليه الحد، فإن من فعل ذلك إنما استجلب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال: [ عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ]، أي: فهو مردود عليه.
ولاشك أن كل أهل البدع إنما هم أصحاب محدثات، فمن أتى بشيء من هذه المحدثات، فإنه مردود عليه غير مقبول منه.
قال: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟!) ]. لأنها أحداث وبدع وانحرافات وزيغ لابد وأن تمس في نهاية الأمر الذات العلية، والشيطان يجرك من معصية إلى أخرى، ومن محدثة إلى أعظم منها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله).
وفي رواية: (فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليقل: آمنت بالله).
وفي رواية: (ورسوله).
قال: [ قال: أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا: خلق الله عز وجل كل شيء، فمن خلق الله؟!).
قال يزيد : فحدثني نجبة بن صبيغ الأسلمي أنه رأى ركباً أتوا أبا هريرة فسألوه عن ذلك فقال: الله أكبر ما حدثني خليلي بشيء إلا وقد رأيته، وأنا أنتظره ].
قال: [ عن أبي هريرة مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزالون حتى يقال لكم: هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟! فجعلت أصبعي في أذني ثم صرخت: صدق الله ورسوله، الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) ].
قيل: يا أبا عبد الرحمن : فإلى أين؟ قال: إلى لا أين -يعني: يمكث في مكانه- يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع ]. وهذا هو الهروب الحقيقي أي: أن يهرب بقلبه ودينه؛ لأن كل مكان فيه بدع وشر، فليهرب بقلبه ودينه، والطريق إلى ذلك: ألا يجالس أهل البدع.
قال: [ عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدمهم إلى عبدة الأوثان ].
وفي رواية: [ إلى عبادة الأوثان ]. أي: أن مآله في النهاية أن يعبد الأوثان كغيره.
قال: [ قال الحسن البصري عن معاذ بن جبل : إنما أخشى عليكم ثلاثة من بعدي - معاذ ينصح الحسن البصري -: زلة عالم، وجدال منافق في القرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوه، ومن لم يكن غنياً من الدنيا فلا دين له. قال عبد المؤمن : فسألت أبي ما يعني بهذا؟ قال: سألناه، فقال: من لم يكن له من الدنيا عمل صالح فلا دين له ].
قال: [ عن مجاهد قال: قيل لـابن عمر : إن نجدة الحروري - وهو على رأس أهل البدع - يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء ].
وعبد الله بن عمر إمام، ومع هذا كره أن يسمع مقولة نجدة الحروري.
قال: [ عن أبي أمامة الباهلي قال: ما كان شرك قط إلا كان بدوه تكذيب بالقدر -أي: أن أول خطوة من خطوات الشرك بالله: التكذيب بالقدر- ولا أشركت أمة قط إلا بدوه تكذيب بالقدر، وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة، فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة -يعني: إذا قابلوكم فلا تسمحوا لهم أبداً بأن يسألوكم، ولا تسألوهم أنتم عن شيء- ثم قال: فيدخلوا عليكم الشبهات.
وعن عمر قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا ].
أي: إياكم وأصحاب البدع، فإنه قد أعيتهم وأنهكتهم الأحاديث أن يحفظوها، وأن يفهموها ويعملوا بها، فانحرفوا عنها إلى الرأي، فقالوا في دين الله بآرائهم؛ فضلوا وأضلوا.
قال: [ عن عمر قال: سيأتي أناس سيجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله ].
قال: [ قال علي : سيأتي قوم يجادلونكم فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله ].
و عمر ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وعلي بن أبي طالب أعلم كبار الصحابة يحذرون من الاختلاط بين أهل البدع، ومناظرتهم ومجادلتهم، فما بالكم تقحمون مجادلتهم ومناظرتهم؟!
قال: [ قال أبو واقد الليثي : (إن رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أتى حنيناً مروا بشجرة يعلق المشركون عليها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط -رأيت من أين يدخل البلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لقد قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) ].
فالذي يقول: اجعل لنا شجرة كما لهم شجرة، لابد وأن يئول به الأمر في النهاية إلى أن يقول: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، مع أن الأمر بدأ بشجرة يعلقون عليها الأسلحة، فالصحابة رأوا الأمر سهلاً لا علاقة له بالشرك، لكن مجرد المشابهة في أقوالهم وأفعالهم الخاصة بهم يؤدي في النهاية إلى الشرك بالله عز وجل، فحذرهم من ذلك فقال: ( الله أكبر ). أي: أن الأمر عظيم وخطره كبير؛ لأنكم ستقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم ) أي: هديهم. وقوله: ( حذو القذة بالقذة )، أي: الصغيرة بالصغيرة.
ثم قال: ( حتى ولو دخلوا جحر ضب ). ومن الذي يدخل جحر ضب؟! إن هذا واقع، وقد رأينا بعض المسلمين يقلدون اليهود والنصارى في كل شيء، قال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟). أي: هؤلاء الذين قصدتهم بقولي أنكم ستتبعونهم، ولا يعني به الصحابة فقط، وإنما عنى الأمة بأسرها، والصحابة وقعوا في شيء من ذلك بجهل؛ لأنه لم يسبق لهم علم حتى نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
قال: [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: من هم يا رسول الله! أهل الكتاب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمه) ]، أي: سيكون هذا فلا تتعجبوا، وقد كان.
قال: [ عن شقيق بن سلمة أبي وائل قال: سمعت سهل بن حنيف يقول بصفين: يا أيها الناس! اتهموا رأيكم -اتهموا عقولكم بدلاً من اتهامكم السنن- فو الله لقد رأيتني يوم أبي جندل ]. أي: يوم صلح الحديبية، وذلك لما أتى أبو جندل يجادل النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت شروط الصلح في ظاهرها شروطاً مجحفة، استنكرها بعض الصحابة، وغضبوا على النبي عليه الصلاة والسلام كيف أنه قبل مثل هذه الشروط؟! وأخذوا يقولون له: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! لماذا نعطي الدنية في ديننا؟! أبداً والله لا نوافق على هذه الشروط، وكان على رأس هؤلاء عمر بن الخطاب ، وكان من بين هذه الشروط: أن من أتى من قبل محمد فلا نرده، ومن جاء من المشركين إلى محمد وجب عليه رده.
فكان أول واحد أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام أبو جندل ، فدفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى والده وقال: اذهب به. فعز ذلك على الصحابة جداً، فتأمل قول سهل بن حنيف: [ يا أيها الناس! اتهموا رأيكم فوالله لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أني أستطيع أن أرد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته؛ لأن الأمر فوق طاقتنا، قال: ووالله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا ]، أي: أمر الرأي واتباع الرأي، فهذا شر من كل شيء.
وعن عمر أنه قال: اتهموا الرأي على الدين.
أي: إذا اختلف عقلك ورأيك وفهمك مع دين الله عز وجل فلا تتهم الدين كما يفعل المعتزلة، إذ إنهم يقولون: الأصل عندنا العقل، والدين يقاس عليه، فما وافق العقل فهو دين الله عز وجل، وما خالف العقل فليس ديناً، فإن كان حديثاً ردوه، وإن كان آية أولوها تأويلاً يتناسب مع العقل.
فجعلوا الميزان الأعظم عقولهم، والدين يعرض على العقل بعد ذلك، بخلاف منهج أهل السنة والجماعة، فإن الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال هو كتاب الله وسنة رسوله بفهم السلف رضي الله عنهم، فما وافق ذلك فهو دين الله، وما خالف ذلك لا يمكن أبداً أن يقدموا آراءهم وعقولهم على كتاب الله.
فهذا عمر يقول: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهاداً مني، فو الله ما آلو عن الحق -أي: أنا لا أريد إلا الحق- وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، وفيه أنه قال: (اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: إنا قد صدقناك بما تقول، ولكن اكتب: باسمك اللهم؛ لأن الرحيم قد عرفناه، أما الرحمن فلا ندري).
ثم قال: (من محمد رسول الله، قالوا: والله لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب: من محمد بن عبد الله، فقال: ائتني بالصحيفة)، لأجل أن يكتب: محمد بن عبد الله، فعد ذلك عمر جدالاً، وأنكر ذلك، قال: (فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليهم)، أي: لم يرض عمر أبداً، حتى قال: (تراني قد رضيت وتأبى). أي: تراني أنا راض وتعترضني يا عمر؟ قال: فرضيت. لأنه أمر وطاعة، حتى وإن كان في ظاهره يخالف الخير والحق الذي في ذهنك، لذا لابد أن تعلم أن الخير كل الخير في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [ عن عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) ].
أي: الذي يكثر الجدال والخصومة، كما يعني به الذي يكثر الأسئلة. وذلك أنه في حياة النبي عليه الصلاة والسلام لا ينزل التحريم إلا بسبب سؤاله، وهذا من أشد الناس وأبغض الناس إلى الله.
فتجد الواحد كل حياته خصومة وجدال ومراء!
قال: [ عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما أهلك من كان قبلهم ]. أي: السبب الذي به هلك من كان قبلهم، وهو بالمراء والخصومات.
وعن ابن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا -أي: لا تقوم الساعة- حتى تكون خصومات الناس في ربهم. أي: حتى تكون الخصومة ليس في المسائل الفقهية، بل في الذات العلية.
وهذا علامة من علامات الساعة، إذ إن الدنيا لا تنقضي حتى يختلف الناس في ربهم وفي ذاته وفي أسمائه وصفاته، وقد وقع الخلاف، والفرق كلها على خلاف في العقيدة، بل وفي الله عز وجل.
قال أبو العالية : إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
أي: أن من شأن هذه الأهواء والبدع أنها تلقي بين قلوب الناس العداوة والبغضاء.
فإذا اختلفت مع أخيك في قضية ما، فهل يكون قلبك بعد الخصومة وقبلها سواء؟
الجواب: لا، لكن ما اختلفوا رضي الله تعالى عنهم فيه من خلاف في فروع المسائل فيسعنا.
وسلف هذه الأمة لم يختلفوا في أصل اعتقادهم.
قال: [ قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت الحسن فقال: صدق ونصح، قال: فحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي، أنت حدثت بهذا محمداً؟ قلت: لا. قالت: فحدثه إذاً ].
أي: فحدث بهذا الكلام الجميل محمد بن سيرين .
قال: [ عن الحسن أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد ! إني أريد أن أخاصمك، فقال الحسن : إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه ].
أي: أن الذي عنده شك وريبة في دينه هو من يسلك طريق الخصومة والجدال، أما أنا فالحمد لله فمفتخر بديني، وعاقد قلبي عليه، وليس عندي شك، فلم أخاصمك وأداهنك؟
قال: [ قال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه -وهذا الكلام مهم- غرضاً للخصومات أكثر التحول ].
فهو اليوم في حل، وغداً في حل ثاني، وبعد بكرة في حل ثالث، وكلما أتى له واحد ألسن وأعظم بحجته وأكثر بياناً تحول من رأيه الماضي إلى رأي آخر، لذا فالذي يجعل دينه غرضاً للخصومات كلما لاقى خصومة أقوى من سابقتها ترك الخصومة الأولى وتحول إلى الثانية، ثم قد يجد خصومة ثالثة أقوى من سابقتها، فيتركها ويتحول إلى خصومه أخرى، وكل يوم هو في حال؛ لأنه لا استقرار عنده في أمر دينه وعقيدته.
قال: [ قال الخليل بن أحمد : ما كان جدلاً إلا أتى بعده جدل يبطله ]. لأن الجدل منه قوي ومنه أقوى، فالجدل يوصل إلى جدل، والمرء إذا سلم أمر دينه للجدل فإنما يسلمه إلى أعظم جدال، وكلما ظهر له جدل عظيم تحول إليه، لكن ينبغي على المرء أن يعلم دينه أولاً، ولذلك لا يعجبني قول من يقول بلزوم معرفة أهل السنة والجماعة لعقائد أهل البدع والضلال، إنما الذي يعجبني أن تتعلم أنت عقيدة أهل السنة والجماعة بأصلها، وأن توقن أنما عدا ذلك انحراف، وأياً كان هذه الانحراف فلا يضرني من يقوله، فالذي يلزمني أن هذا القول ليس قول أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، فينبغي ويجب عليَّ أولاً أن أتعلم عقيدتي، وأن أعلم أن ما دون هذه العقيدة إنما هي عقائد باطلة منحرفة، وألا أتعلم عقائد أهل البدع والانحراف في أول الأمر، فأقضي عمري كله في دراسة عقائد اثنين وسبعين فرقة، ثم في الأخير بعد انقضاء العمر أقوم بدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة! حتى أعلم أن ما دون هذه العقائد هو الحق، وهو الصواب، بل لابد من دراسة عقيدة أهل السنة والجماعة أولاً، ثم أعلم أن ما دون هذه العقيدة لا يلزمني.
قال: [ قال عمرو بن قيس : قلت للحسن بن عتيبة : ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ ] أي: ما الذي جعلهم يكثرون من الدخول فيها؟
قال: [ الخصومات ]. أي: لما فتحوا باب الخصومات على أنفسهم كان لزاماً عليهم أن يدخلوا في هذه العقائد الباطلة.
قال: [ عن عنبسة الخثعمي - وكان من الأخيار - قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق ].
قال: [ قال الأحنف بن قيس : كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب ].
قال: [ قال معاوية بن قرة : إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال ].
قال: [ عن الفضيل بن عياض : لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله ].
قال: [ عن منصور بن أبي مزاحم قال: حدثني الثقة من أهل الكوفة قال: تقدم حماد بن أبي حنيفة إلى شريك بن عبد الله القاضي في شهادة ]. لأن شريك بن عبد الله القاضي كان قاضي الكوفة، وحماد بن أبي حنيفة الإمام كان قد دخل في شيء من الرأي في الإرجاء، فلما تقدم إلى شريك القاضي أيام ما كان في القضاء، وأيام ما كان في خير ليشهد في خصومة ما؛ رد شهادته لا لأنه ليس عدلاً، وإنما رد شهادته لدخوله في شيء من الخصومات.
فانظر كيف كان القضاء في الزمن الأول، فكان الذي ينحرف قيد أنملة عن مذهب أهل السنة تسقط عدالته فوراً، ولا تقبل له شهادة في المحكمة.
قال: [ قال رجل لـابن عباس : الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. أي: ألف بين ألسنتنا، فالذي نهواه نحن تهووه أنتم، فالحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم ]. فقال: كل هوى ضلالة.
أي: لا داعي بأن نسميها: هوى، بل المسألة: قال الله قال رسوله، فأنتم أصحاب الهوى، وأما نحن فأصحاب الأثر، ولابد أن تعلم أن كل هوى ضلالة.
قال: [ عن ابن عمر قال: ما فرحت بشيء من الإسلام أشد فرحاً بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء ].
فهذا عبد الله بن عمر كان شديداً جداً في مسألة الهوى، ولم يكن يتوقف في ذلك أبداً.
وأنتم تذكرون حديث القدرية الذي أخرجه مسلم في كتاب الإيمان من طريق يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري ، وذلك لما أتوا حاجين أو معتمرين فقالوا: لو وفق لنا أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عن أمر ظهر عندنا بالبصرة.
فكان أول ما وفقوا إلى عبد الله بن عمر -ونعم ما وفقوا إليه، فهو إمام من أئمة الصحابة- وهو يطوف بالكعبة، فقال يحيى بن يعمر : فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والثاني عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم. وفي رواية: ويتفقرون العلم.
وفي هذا دلالة على أن أهل البدع مجتهدون جداً في العبادة، وفي طلب العلم أكثر منا، مما قد يغتر بهم العوام من الناس.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (سيظهر في أمتي أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
أي: من شدة عبادتهم ترى الرجل من الخوارج يقوم الليل ولا ينام، ويصوم النهار ولا يفطر، فتغتر أنت لما ترى من حالهم هذا، وربما تقع في حبائلهم.
لكن الرجل يقاس صالح عمله من فاسده بموافقته للأثر، وانطباق فهمه لهذا الأثر على أفهام الصحابة رضي الله عنهم، وبغير ذلك هو منحرف.
فانظر إلى قول عبد الله بن عمر : ما فرحت بشيء من الإسلام فرحي بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء.
ولذلك لما سئل عن أهل القدر الذين يقولون: بأنه لا قدر وأن الأمر أنف -أي: أن ربنا لا يعرف الأشياء إلا بعد وقوعها- قال: (فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني).
فهم كفار؛ لأنهم ينفون العلم الثابت لله عز وجل.
قال: [ عن طاوس قال: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا بالعيب ].
أي: عندما تتبع مادة (هوى) في القرآن لا تجد هذه الكلمة قط مذكورة في القرآن إلا على سبيل الذم، فكل هوى ضلالة كما قال ابن عباس .
قال: [ عن الشعبي قال: إنما سميت الأهواء؛ لأنها تهوي بصاحبها في النار ].
قال: [ قال أبو العالية : ما أدري أي النعمتين علي أعظم: إذ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى ].
فالخروج من الشرك إلى الإيمان نعمة عظيمة، والعصمة في الإسلام نعمة أخرى؛ لأن النصر نعمة، والثبات على النصر نعمة أخرى، فربما ينتصر المرء وهي نعمة، لكن سرعان ما ينهزم.
قال: [ عن أبي الجوزاء قال: لأن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد منهم ]. أي: من أصحاب الأهواء.
صحيح والله، فالواحد يجاور كلباً أو خنزيراً أهون عليه من أن يجاور صاحب بدعة.
قال: [ عن إبراهيم قال: إذا امتنع الإنسان من الشيطان قال: من أين آتيه -أي: أن الشيطان يقول لنفسه: من أين أدخل لهذا؟- قال: ثم قال: بلى آتيه من قبل الأهواء ].
وهذا حتى تعلم أن الانحراف عن منهج أهل السنة إنما هو سبب اتباع الشيطان لا اتباع الأثر.
قال: [ عن الحسن قال: أهل الهوى بمنزلة اليهود والنصارى ].
قال: [ عن محمد بن سيرين قال: لو خرج الدجال لرأيت أنه سيتبعه أهل الأهواء ].
لكن المؤمنون من أهل العلم والفهم الصحيح، سيعلمون أنه كذاب، وأنه الدجال، فيحذرون منه.
فتصور وقوعك أنت في البدعة أحب إلى إبليس من الزنا والقتل وشرب الخمر، لذا فالواحد لما يقع في معصية أو في كبيرة من الكبائر يعرف أنه آثم ومذنب، ويحتاج إلى توبة وتطهير، لكن صاحب البدعة يتقرب بها إلى الله، وصاحب المعصية لا يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل، بل قد يقول صاحب المعصية: أنا أستحق الحد، بينما صاحب البدعة يعتبر أنها الحق الذي يقربه إلى ربه.
إذاً: صاحب البدعة في نظره أنه لا يحتاج إلى توبة، بينما صاحب المعصية يعلم أنه في أمس الحاجة إلى التوبة، وأنه على معصية، بخلاف صاحب البدعة، ومن هنا: كانت البدعة أحب إلى الشيطان وإلى إبليس من المعصية.
قال: [ قال ثابت بن العزان : أدركت أنس بن مالك وابن المسيب ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوس ، ومجاهد ، وابن أبي مليكة ، والزهري ومكحول ، والقاسم وعد ناساً كثيراً فقال: كلهم يأمرونني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء. قال بقية : ثم بكى، وقال: أي بني! ما من عمل أرجأ ولا أوثق من مشي إلى هذا المسجد. يعني: مسجد الباب ].
قال: [ كان الحسن البصري يقول: لا تجالسوا أهل الهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم ].
وقد [ دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين ، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث واحد؟ فقال لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا آية ].
أي: أن ابن سيرين يخاف على أصحابه من أهل البدع، وإلا فكلام أهل البدع مع ابن سيرين ليس بمشكلة، وإنما المشكلة في موقف أصحاب ابن سيرين ، هل سينكرون عليه أم لا؟ وإذا أنكروا فهل هم محقون في هذا الإنكار أم لا؟ قالا: فماذا نصنع معك؟ قال: تقومان عني ويلكم! أي: إما أن تنصرفوا عني وإما تركتكم وانصرفت أنا، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم من أصحاب ابن سيرين: ما كان عليك أن يقرأ عليك آية؟ أي: ما هو الذي يضرك إذا قرأ عليك آية من آيات الله عز وجل؟ قال: إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي. فتأمل ابن سيرين وخوفه على نفسه وقلبه!
قال: [ عن أبي قلابة البصري قال: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن عليكم أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون فتهلكوا ].
قال: [ عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة : يا أيوب ، احفظ عني أربع وصايا: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد فأمسك -أي: لا تتكلم في واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالخير، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك ]. أي: لا تسمع لهم ولا كلمة؛ لأنك لو سمعت هلكت.
قال: [ عن أبي قلابة قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف ].
فهم بين نقمتين:
النقمة الأولى: الانحراف عن المنهج العقائدي.
النقمة الثانية: أنهم يتصورون أن عقيدتهم هي الحق، فتحملهم هذه العقيدة الباطلة على الخروج بالسيف، والذين خرجوا على علي بن أبي طالب قد خالفوا الطريق، فخرجوا أولاً في أصل معتقدهم بتكفير المسلم بالكبيرة، ثم شهروا السيف في وجهه.
إذاً: فكل صاحب بدعة لابد وأن تؤدي به بدعته في نهاية الأمر إلى الخروج على الأمراء وأهل العلم بالسيف.
فهذا ابن طاوس مر على رجل من المعتزلة يتكلم [ فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد حتى لا تسمع من كلامه شيئاً ]. لأن القلب ضعيف، مع أن هؤلاء أئمة، ومع هذا خافوا على أنفسهم وعلى أبنائهم، وعلى عامة المسلمين، ونحن أولى بذلك منهم.
قال: [ عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل وقد سأله عن الأهواء: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب، والأعرابي، واله عما سواهما ].
أي: دعك من الأشياء الأخرى، وعليك بدين الصبي الصغير الذي خلقه ربنا على الفطرة والإسلام والتوحيد الخالص قبل التلوث، وقبل الوسخ والدخن، وعليك بدين الأعرابي الذي رضع في البادية ولم يتلوث بلوث المدينة.
قال: [ قال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة ].
أي: إذا رأيت قوماً يقولون كلاماً غريباً ليس بمفهوم ولا معقول، فاعرف أن هؤلاء في أول بدعتهم وضلالتهم. أي: أن مآلهم أن يظهروا.
قال: [ عن محمد بن النضر الحارثي قال: من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه ].
أي: لما أنظر إلى صاحب بدعة أفر منه فراري من الأسد.
قال: [ قال يونس بن عبيد: لا تجالس سلطاناً ولا صاحب بدعة ]. فسبحان الله الذي جمع بين الاثنين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى باب السلطان افتتن).
فالفتن موجودة على باب السلطان، وموجودة على باب صاحب البدعة، فهذا يونس بن عبيد يتكلم بحق والله، فلا تجالس الاثنين فإنك ستفتن، فأما صاحب السلطان فستفتن بدنياه، وأما صاحب البدعة فستفتن بدينه الجديد الذي خالفك.
قال: [ قال أحمد بن يونس : قال رجل لـسفيان - وأنا أسمع -: يا أبا عبد الله أوصني. قال: إياك والأهواء والخصومة، وإياك والسلطان ].
قال: [ قال سفيان : المسلمون كلهم عندنا على حالة حسنة إلا رجلين: صاحب بدعة، أو صاحب سلطان ].
قال: [ عن عاصم الأحول قال: قال قتادة : يا أحول! إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تنكر حتى تحذر ].
وهذه ليست غيبة، فصاحب البدعة وصاحب الفجور الذي استمرأ فجوره ولم يكن مذكوراً وكان فيه ضرر على العامة فلا غيبة له.
قال: [ قال يحيى بن أبي كثير : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره ].
أي: إذا لقيت صاحب بدعة يمشي في هذا الشارع فامش في الشارع الآخر وابتعد عنه؛ خشية أن تتأثر به، أو أن ينزل الله تبارك وتعالى عليه غضبه وسخطه ولعنته.
قال: [ عن إسماعيل الكوفي قال: قال لي ابن المبارك : يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجالس صاحب بدعة ].
قال : [ قال الفضيل بن عياض : من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام، واحذروا الدخول على صاحب البدع؛ فإنهم يصدون عن الحق ].
قال: [ قال الفضيل أيضاً: لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة ].
قال: [ قال الفضيل : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإن الله أحبط عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وقال: صاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، فمن جلس إلى صاحب بدعة ورثه الله العمى ].
قال: [ قال الفضيل : إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة ].
أي: أن علامة النفاق أن يترك مجلس أهل السنة ويروح يجلس مع أهل البدعة.
قال: [ قال الفضيل: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ]. وهذا حديث مرفوع.
قال: [ قال: ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق ]. أي: لا يمكن أبداً أن يحب صاحب السنة صاحب البدعة إلا إذا كان منافقاً، وهذا دليل على نفاقه.
قال: [ قال الفضيل : أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وينهون عن أصحاب البدع ].
قال: [ قال الفضيل : طوبى لمن مات على الإسلام والسنة، فإذا كان كذلك فليكثر من قول: ما شاء الله ].
أي: إذا وفقت لرجل من أهل السنة يأخذ بناصيتك وجنانك إلى الله، فاضبط نفسك على هذه النعمة.
قال: [ قال الحسن: صاحب البدعة لا يقبل الله له صلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، ولا جهاداً، ولا صرفاً، ولا عدلاً ].
قال: [ عن الحسن قال: لا يقبل الله من صاحب البدعة شيئاً ].
قال : [ قال الفضيل : لا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل ].
لأن العمل الصالح هو الذي يرفع، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
فيا أخي المبارك! إن البدعة ليست من الأعمال الصالحة، إنما هي من الأعمال السيئة.
قال: [ عن إبراهيم بن ميسرة قال: ومن وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ].
قال: [ عن عبد الله بن عمر السرخسي قال: أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك -الإمام الكبير، إمام السنة في زمانه- فقال: والله لا أكلمك ثلاثين يوماً ]، ونفذ قوله.
قال: [ قال ابن المبارك : لم أر مالاً أمحق من مال صاحب البدعة ]. قال: [ قال ابن المبارك: اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يداً فيحبه قلبي ].
أي: لا تجعل لصاحب بدعة عليك فضل، فالناس يحبون من أحسن إليهم، ولذلك دخل أحد العلماء على السلطان، فأعطاه صرة من دنانير أو دراهم، فقام العالم بتقسيمها على الطلاب في مجلس العلم، فقام إليه رجل وقال: يا فلان أتقبل هدية السلطان؟ قال: أو ما تراني كيف تصرفت فيها. قال: بالله عليك أقلبك عليه بعد أن أخذت صرة الدنانير كقلبك قبلها؟ قال: والله أشهد أني حمار. أي: لا يمكن حتى لو لم تكن منتفع بها، فلابد أن يتمايل قلبك؛ لأن الإحسان يؤثر في القلب، وتتسامح وتقول: ربنا يهديه، فهذا جاهل لم يسأل المشايخ، وتلتمس له الأعذار، لكن لو قطع الذي بينك وبينه، فستكون الأمور واضحة، أنا صاحب سنة، وأنت صاحب بدعة.
قال: [ قال إبراهيم النخعي : ليس لصاحب البدعة غيبة ].
قال: [ عن الحسن : ثلاثة ليست لهم حرمة في الغيبة: منهم: صاحب البدعة الغالي ببدعته ].
قال: [ عن الحسن قال: ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة ].
قال: [ عن كثير أبي سهل قال: يقال: أهل الأهواء لا حرمة لهم ].
قال: [ عن الفضيل بن عياض قال: المؤمن يقف عند الشبهة، ومن دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة، وإذا أحب الله عبداً وفقه لعمل صالح، فتقربوا إلى الله بحب المساكين ].
قال: [ عن عطاء الخرساني قال: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة ].
وجاء في الحديث: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
فاعلم أن البدعة تحول بينك وبين التوبة.
قال: [ قال عبد الله بن المبارك : صاحب البدعة على وجهه الظلمة، وإن ادهن كل يوم ثلاثين مرة ].
أي: أن وجه صاحب البدعة أسود من غضب الله عز وجل عليه، حتى وإن ادهن وتعطر وتطيب في اليوم ثلاثين مرة.
بينما صاحب السنة يشع النور من وجهه، وإن لم يدهن قط.
قال: [ قال رجل لـأيوب: يا أبا بكر إن عمرو بن عبيد قد رجع عن رأيه -و عمرو بن عبيد هو صاحب البدعة الذي قال بالقدر- فقال: إنه لم يرجع. قال: بلى يا أبا بكر ! والله إنه قد رجع. فقال أيوب : والله إنه لم يرجع ثلاث مرات، وقد سمعت رسول الله يقول: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يرجع السهم إلى فوقه) ]. أي: لا يمكن أن يرجع السهم إلى المكان الذي خرج منه، وكما أن الجنين لا يمكن أن يرجع بعد ولادته إلى بطن أمه، فكذلك أهل البدع لا يمكن أن يرجعوا إلى أصل دينهم وإلى سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
وكان مذهب أيوب أن أهل البدع كلهم خوارج، فكان يسمي الأشعرية والمرجئة والقدرية وغيرهم من أهل البدع خوارج؛ لأنهم خرجوا عن حد الاستقامة، وكان يطبق عليهم الحديث الذي ورد في الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). ثم لا يعودون إلى ما كانوا عليه قبل ذلك؛ لقوله: (ثم لا يعودون إليه إلا كما يعود السهم إلى فوقه).
فلما كان ذلك محالاً، فرجوع أهل البدع والضلال إلى ما كانوا عليه من الالتزام بالسنة ونبذ البدعة أمر محال كذلك.
ووالله العظيم يا إخواني! لا يوجد صاحب بدعة يتخلص تماماً من بدعته إلا ويأخذه الحنين والشوق إلى بدعته في الوقت المناسب.
ومثال ذلك: جماعة التكفير، إذ هي شر فتنة ظهرت في هذا الزمان، وقد قالوا: إنهم تابوا، وصدقنا أنهم تابوا فعلاً.
وفي وقت من الأوقات تجد الواحد منهم يقدم ويقرب الذي كانوا معه، ويبعد غيرهم حتى ولو كانوا من أهل العلم، ولو كانوا من عباد الله وأوليائه الصالحين، فيقرب أصحابه الأولين، الصحبة القديمة، فيجتمعون على الباطل والشر والعياذ بالله.
فهذا أحدهم قد جمع في عمله أو مؤسسته بعض الشباب، منهم الذي كان في الجماعة، ومنهم الذي لم يكن.
والذي لم يكن أوثق وأكثر تديناً، وأوفر علماً ممن كان في الجماعة، لكن إدارة المحل أوكلت مع الأيام إلى رجل من الجماعة، فقام يستدعي الناس من بعيد، من محافظات أخرى، ويجلسهم في العمل، والعمل كله الآن قائم على الذين كانوا من الجماعة، وما هي إلا إلف البدعة الأولى، وقس على هذا الكلام حوادث وحكايات كثيرة جداً، نعم.
وكان أبو قلابة إذا قرأ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]. يقول: فهذا جزاء كل مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذله الله. قال: وكان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف.
قال: [ قال سلام بن أبي مطيع : وقال رجل من أصحاب الأهواء: يا أيوب ! أسألك عن كلمة، فولى أيوب وهرب وهو يقول: لا ولا نصف كلمة، لا تسألني عن شيء مرتين، ويشير بأصبعيه ].
قال: [ عن غالب القطان قال: رأيت مالك بن دينار في النوم وهو قاعد في مقعده الذي كان يقعد فيه -أي: في المسجد في الدرس- ويشير بأصبعه ويقول: صنفان من الناس لا تجالسهم ].
واعلم أن هذا الكلام في الرؤية، وانظر إلى حرص السلف على اتباع السنة ونبذ البدعة، فقد كان ولا يزالون يحذرون من ذلك، والأمر لما يكون محله تماماً نراه كل يوم حتى في الرؤيا.
قال: [ قال: (صنفان من الناس لا تجالسوهما، فإن مجالستهما فاسدة للقلب -أي: لقلب كل مسلم-: صاحب البدعة قد غلا فيها، وصاحب دنيا مترف بها) ].
ثم قال: [ حدثني بهذا الحديث حكيم -وكان رجلاً من جلسائه- قال: وكان معنا في الحلقة فقلت: يا حكيم ! أنت حدثت مالكاً بهذا الحديث؟ قال: نعم. قلت: عمن؟ قال: عن المقامع من المسلمين، وهي كلمة تطلق على أعمدة الحديد ].
قال: [ قال مالك بن أنس : كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله ].
أي: كلما جاءنا أشد في الخصومة والحجة، تركنا شيئاً من الأثر واتبعنا هذا الجدل، فإن كنت مستمعاً لأهل الخصومات والجدال كلياً، فلابد وأن ترد الأثر كله بعد ذلك.
قال: [ قال ابن الطباع : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله: فقال له: يا إمام! لو أني أحرمت من هذا المسجد -أي: مسجد المدينة- فتلا مالك قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ].
أي: أن هذا الأمر سيؤدي بك في المآل وفي النهاية إلى ارتكاب ما هو أعظم من ذلك، فكلما استهنت بسنة عن رسول الله فلابد أن يأتي بعدها شيء أعظم حتى تستهين بعد ذلك بالفرائض.
ولذا قال مالك بن أنس : مهما تلاعبت به من شيء فلا تتلاعبن بأمر دينك. أي: إذا أردت أن تلعب فالعب مثلما تريد، لكن لا يكون اللعب في الدين.
قال: [ قال يونس بن عبد الأعلى : قلت للشافعي : تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا؟ أي: يونس بن سعد ، فقد كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق ولا تعبأ به ولا تكلمه. قال الشافعي : فإنه والله قد قصر ].
لذا فقد يرى المسلم أحوالاً تظهر على أيدي أهل الأهواء في الظاهر أنها كرامات، فاحذرها، فلو رأيت صاحب الهوى يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تركن إليه حتى تنظر إلى عمله، فإن كان موافقاً لكتاب الله ولسنة رسوله، فاعلم أن هذه كرامة من الله تعالى، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه كذب من الشيطان.
وهذا الكلام عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد قرره في كتاب الفتاوى، فلا تحكمن على الرجل بصلاح أو فساد حتى تنظر إلى عقيدته وعمله، فإن كانت مستقيمة، وظهر منه شيء خارق للعادة فاعلم أن هذه كرامة، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه استدراج من الشيطان.
قال: [ قال الربيع : سمعت الشافعي يقول، وقد ناظره رجل من أهل العراق، فخرج إلى شيء من الكلام، هذا من الكلام، دعه ]. أي: هذا من الرأي فدعه؛ لأنه لا يتقنه.
قال: [ قال الشافعي : لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه عدا الشرك خير له من الكلام ]. وخير له من الهوى والضلال والانحراف.
قال: [ قال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي : تعلم يا أبا موسى! -لأن العلم نجاة- لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول بذلك ].
يعني: أن أصحاب الأهواء قالوا كلاماً ما كان الشافعي يتصور أن واحداً من الأمة يقول هذا الكلام، ولا ينجي من هذا الضلال إلا طلبك للعلم، ولذا نصح الشافعي أبا موسى أن يتعلم.
قال: [ كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول أحدهم إذا خالفه صاحبه: كفرت. والعلم فيه: إنما يقال: أخطأت ].
لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن أهل السنة مع أهل البدع أرحم من أهل البدع بعضهم ببعض. لأنك تأتي وتناظر وتجادل واحداً من أهل البدع، وتقول له: أنت أخطأت، لكنهم عندما يتناقشون مع بعض يقول أحدهم للآخر: أنت كفرت، فيرمون بعضهم بالكفر، مع أن أهل السنة يتوقفون في ذلك أشد التوقف.
قال: [ قال الشافعي: ما تردى أحد بالكلام فأفلح ].
قال: [ قال الربيع : رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة، وقوم في المسجد يتكلمون بشيء من الكلام، فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا وتنصرفوا عنا ].
قال: [ قال أبو يوسف : من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق ].
قال: [ قال عبد الرحمن بن حمدان : كان معي رفيق بطرسوس، وهو أبو علي بن خالويه ، وكان معي في البيت، وكان قد أقبل على كتب الصوري والأنطاكي وأصحاب الكلام في الرقة، وكنت أنهاه فلا ينتهي، حتى كان ذات يوم جاءني فقال: أنا تائب، فقلت: أحدث شيء؟ قال: نعم، إني رأيت في هذه الليلة كأني دخلت البيت الذي نحن فيه، فوجدت رائحة المسك، فجعلت أتتبع الرائحة حتى وجدتها تفوح من المحبرة فقلت: إن الخير في الحديث ].
قال: [ قال مصعب : رأيت أهل بلدنا -أهل المدينة- ينهون عن الكلام في الدين ].
قال: [ قال مصعب : بلغني عن مالك بن أنس أنه كان يقول: الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهون القدر ورأي جهم، وكلما أشبه، ولا أحب الكلام إلا فيما كان تحته عمل، فأما الكلام في الله فالسكوت عنه؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما كان تحته عمل ].
قال: [ قال سفيان بن عيينة : قال ابن شبرمة :
إذا قلت جدوا في العبادة واصبروا أصروا وقالوا: لا الخصومة أفضل
خلافاً لأصحاب النبي وبدعة وهم لسبيل الحق أعمى وأجهلُ ]
قال: [ ذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد في مجلس أبو زرعة الرازي رضي الله عنه هذه الأبيات فاستحسنه وكتبت عنه:
دين النبي محمد أخباره نعم المطية للفتى آثار
لاتعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: الحديث ضعيف، وهو موجود في الأربعين النووية وجامع العلوم والحكم، والحمد لله ليس هناك تعارض.
الجواب: يا أخي الكريم! مصطفى محمود في أمس الحاجة إلى من يصلح له عقيدته، وهو والله عدو السنن، ووالله أن أثقل شيء على قلبه أن تسمعه آيات من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأبغض الوجوه إليه وجه صاحب سمت السنة، وهو لا يألو جهداً في صدهم وطردهم من مسجده، ويبغضهم بغضاً شديداً، ناهيك عن هذا كله.
هذا الرجل إذا أردت أن تأخذ عنه فخذ عنه علم الأعضاء وعلم التشريح وغير ذلك.
الجواب: الحديث عند أبي داود بسند صحيح، وهو محمول على نفي كمال الثواب؛ لأن مذهب الجمهور أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة.
ويترجح لدى الحنابلة: أن صلاة الجماعة واجبة، والأمر محل خلاف بين أهل العلم، مع أن أهل العلم الذين اختلفوا في حكم الجماعة لم يتخلفوا عن حضور الجماعة، فهم اختلفوا من حيث الحكم الفقهي أو تقرير الحكم، لكن هل تخلف أحد منهم عن الجماعة؟ لم يبلغنا أن أحداً منهم، أو أحداً ممن قال: بأن الجماعة سنة مؤكدة، تخلف عن صلاة الجماعة.
الجواب: يجب الرد على هؤلاء الناس، ولا يصلح السكوت عن أصحاب الأهواء والبدع والإلحاد، وأمثال هؤلاء لابد أن تقف لهم موقفاً شديداً، وأن تحرجهم أمام الحاضرين، وأن تبين لهم أنهم أصحاب انحراف وزيغ عن دين الله عز وجل، لا أقول: عن المنهج فقط، بل المسألة واضحة، فهم خارجون من الدين. يعني: أنهم ينادون باللادينية، لكن لا يبوحون بذلك خشية المجتمع من حولهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر