أما بعد:
فلا زلنا مع كتاب: (العدة شرح العمدة) للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى، ومع شرح كتاب الحج والعمرة، باب: (دخول مكة).
قال رحمه الله: [ يستحب أن يدخل من أعلاها؛ لما روى ابن عمر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى)، وروت عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها)، متفق عليه].
إن هذا الكلام يحتاج إلى تحقيق، بمعنى: هل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة كان على سبيل السنة، أم أن دخوله كان من العادات، وهناك رسالة ماجستير للأخ الفاضل محمد سليمان الأشقر -على ما أذكر- تحمل هذا العنوان: (أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وعلاقتها بالتشريع)، فمن أفعاله ما يعد تشريعاً، ومن أفعاله ما يعد عادة.
وهب أنه ركب هنا دابة، فهل المستحب أن نركب في هذا المكان دابة؟
وهذه الرسالة موجودة، وإن شاء الله سبحانه وتعالى سنحاول أن نقف على بعض عناصرها.
قال: [ وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عند ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد)].
أيضاً هل نستطيع أن نقول: إن من أراد أن يدخل مكة فليدخلها في الضحى، أم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد وافق الضحى عند دخوله مكة؟
إن من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ما يعد تشريعاً، ومنها ما يعد عادة، فإذا ندب النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى فعل معين فهو للاستحباب، ثم هل الصحابة والسلف كانوا يدخلون مكة من أعلاها، ويدخلون المسجد الحرام من باب بني شيبة، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
إن الضابط أن يفعله الصحابة على أنه سنة؛ لأنهم يتأسون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ثم يُنظر في هذا الفعل، هل كان هذا الفعل على سبيل الاستحباب فعلاً، أم لا؟ فإن كان على سبيل الاستحباب فهو مستحب، وإن كان عادة فهو العاديات التي لا يُستحب للإنسان الإتيان بها، كحادثة تأبير النخل لما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، أي أن هذا ليس على سبيل التشريع.
قال: [ وروى أبو بكر بن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة
والجمرتان: الجمرة الصغرى، والجمرة الوسطى، فيرمي الجمرة الصغرى بسبع حصيات، ويكبر بعد كل حصاة، ثم يقف مستقبل الكعبة ويدعو، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو بمقدار قراءة سورة البقرة، وكذلك يفعل في الجمرة الوسطى والكبرى، لكن لا يقف يدعو بعد رمي الجمرة الكبرى، وهذا ما سنوضحه إن شاء الله في بيان صفة الحج والعمرة.
قال: (ولأن الدعاء يستحب عند رؤية البيت؛ فقد أمر برفع اليدين عند الدعاء، ويستحب أن يدعو فيقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً، الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله، الحمد لله الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً، والحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك؛ اللهم تقبل مني واعف عني، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت)، ذكر هذا الدعاء أبو بكر الأثرم ، وبعضه مروي عن سعيد بن المسيب ، وهو يليق بالمكان فذكرناه).
و سعيد بن المسيب كما هو معروف من كبار التابعين، ومراسيله يؤخذ بها؛ لأنه أخذها عن الصحابة، ولذلك فمراسيل التابعين الكبار، كمراسيل سعيد بن المسيب حينما يأخذونها عن الصحابة لها حكم الرفع، وأصل الدعاء هنا مشروع، فيدعو المسلم بما شاء، وهذا الدعاء الذي أورده المصنف هو على سبيل الاستئناس.
[أو بطواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً]، والفرق بينهما: أن طواف القدوم سنة، لا حرج على من تركه، بينما طواف العمرة ركن من أركان العمرة، إن تركه بطلت العمرة.
كذلك يسن في طواف القدوم وطواف العمرة الاضطباع والرمل، وليس هناك اضطباع ولا رمل إلا في طواف القدوم وطواف العمرة، والاضطباع: أن يكشف كتفه الأيمن في حال الطواف، والرمل: أن يقارب بين الخطا في الأشواط الثلاثة الأولى، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على الأيسر، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة، وهو مستحب في طواف القدوم؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن يعلى بن أمية : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، وقذفوها على عواتقهم اليسرى) ]، قال بعض العلماء: إن الرمل كان لعلة، وهي: أن المشركين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أصابتهم حمى المدينة، فرملوا ليروهم القوة، هذا الكلام في الحقيقة محل نظر؛ لأن الصحابة بعد ذلك كانوا يرملون في العصور المتتابعة، والرمل والاضطباع للرجال دون النساء.
قال: (يبكي طويلاً، فإذا هو بـ
قال: [ ويقول عند استلامه: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ].
ثم قال: [وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثاً ومشى أربعاً، رواه جابر وابن عباس وابن عمر في أحاديث متفق عليها، وحديث جابر من أفراد مسلم ]، أي: أن حجة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم انفرد بها جابر بن عبد الله ، وقد رواها الإمام مسلم في صحيحه، وهي أفضل ما روي في حجة الوداع؛ لأن جابراً قد تعقب حج النبي صلى الله عليه وسلم من لحظة خروجه إلى حين عودته.
وفي المقابل: سن عثمان لنداء الجمعة الأول، وذلك بعد اتساع الرقعة الإسلامية، لكن بعد معرفة الأوقات بأكثر من طريقة، ووجود مكبرات الصوت، فقد زالت العلة، وبزوالها زال فعل عثمان رضي الله عنه، ولذا إذا أراد المسلم أن يطبق سنة عثمان فلا بأس، لكن يؤذن قبل الجمعة بنصف ساعة تقريباً، لأن الأذان الأول إعلام باقتراب دخول الوقت، لا أن يؤذن الأذان الأول في وقت الصلاة، ثم يؤذن الأذان الثاني والإمام على المنبر، فهذه بدعة ومخالفة لسنة عثمان التي يحتذي بها، ومثله: الأذان الأول في الفجر؛ لينبه النائم وليغتسل الجنب قبل دخول الوقت الحقيقي للفجر.
وكذلك: ما أورده البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التيمم من حديث سيدنا عمر رضي الله عنه: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم وادياً مع أصحابه، فأرادوا أن يناموا، فقال: من يقوم على إيقاظنا في الفجر؟ فقال بلال : أنا يا رسول الله! فقام سيدنا بلال يحرسهم لأجل أن ينبههم لصلاة الفجر، فنام بلال -لأنهم نزلوا بواد بعد طول تعب وسهر وعناء- والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى ارتفعت الشمس، فاستيقظ الصحابة على حرارتها، يقول عمر : فكنت ثالث القوم -وكان النبي صلى الله عليه وسلم ما زال نائماً- وكنا نكره أن نوقظه؛ لعله يوحى إليه، فأخذ عمر يكبر بصوت مرتفع فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتب بلالاً ، فقال: بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله! وفي الحديث فوائد كثيرة جداً، منها: مشروعية إيقاظ النائم بالتكبير، ومشروعية النداء بعد خروج الوقت، وصلاة النافلة بعد خروج الوقت، وصلاة الجماعة بعد خروج الوقت، والصلاة الفائتة تقضى على صفتها، بمعنى: أنه إذا نام عن العشاء إلى الفجر، صلى الفجر أولاً، ثم صلى العشاء جهراً؛ لأن القضاء على صفة الفرض، وإن ضاق الوقت لقضاء الفائتة سقط الترتيب للمشقة والعجز، كمن قام من النوم والناس يصلون الفجر ولم يصل العشاء بعد، فليصل الفجر مع الجماعة أولاً، ثم يصلي العشاء، ويسقط الترتيب للعجز.
ومثله: من فاته قيام الليل قضاه جهراً؛ لحديث مسلم : (من نام عن حزبه أو نسيه؛ فليصله من بعد طلوع الفجر إلى الظهر)، ولذلك يرى الشيخ ابن عثيمين : أن من فاته الوتر في الليل قضاه شفعاً، فإن كان يصلي الوتر ثلاث ركعات، قضاه بعد الفجر أربعاً، بزيادة ركعة عن ركعات الوتر المعتادة، والدليل ما روت عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نام عن صلاة الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة).
قال: [ لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في طوافه)، قال نافع : وكان ابن عمر يفعله، رواه أبو داود ]، ونافع هو مولى ابن عمر ، وعكرمة مولى ابن عباس ، والسلسلة الذهبية هي مالك عن نافع عن ابن عمر .
قال: [ وروى البخاري عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه وكبر)]، وفيه جواز أن يطوف المسلم على بعير، وأن يدخل المسلم ببعيره إلى المسجد، وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى باباً سماه: باب: ( دخول البعير إلى المسجد )، واستدل بهذا الحديث، لكن المسجد في تلك الأيام كان مفروشاً بالتراب أو بالحصباء، أما الآن فلا يمكن أن يدخل المسلم ببعيره إلى أي مسجد، ثم يستدل بحديث البخاري ! ومثله: جواز الطواف بالعربة للحاجة، كأن يكون الإنسان عاجزاً عن الطواف راكباً، وبعض الناس استحب أن يطوف راكباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً، لكن هل فعل النبي هنا للتشريع أم لأنه عجز عن الطواف راجلاً؟
قال: [ وروى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكل به -يعني: الركن اليماني- سبعون ألف ملك، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؛ قالوا: آمين) ]، هذا الحديث ضعيف، والمشروع أن يقول بين الركن اليماني وبين الحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
قال: [ ويدعو في سائره بما أحب ]، أي: ليس هناك دعاء بصفة معينة حول الكعبة، لكن تجد أنه قد أُلِفت كتب كثيرة في الدعاء حول الكعبة، في الشوط الأول كذا، وفي الشوط الثاني كذا ... وهكذا، وتجد الناس يسيرون وهم يدعون دعاء جماعياً، ويرفعون أصواتهم بذلك، وهذا مخالف للسنة، والعجب أنهم يدعون دعاءً جماعياً باصطحاب المرشد الذي يقرأ لهم من الكتاب ويرددون خلفه، فتسمع العجائب من هذا المرشد، بل وأحياناً تسمعه يقرأ القرآن خطأً عند الطواف أو السعي بين الصفا والمروة، فلا ينبغي أبداً أن يكون هناك دعاء جماعي بهذه الطريقة، وكذلك النساء لا يجوز لهن رفع الصوت بالدعاء، وقد تجد بعض الناس يعقد الصفقات بالهاتف أثناء الطواف، وبعضهم يتحدثون في أمور الدنيا وشهواتها! وهذا إن دل فإنما يدل على أن الناس في غفلة، وأن القلوب لا زالت معلقة بالدنيا، وحدث ولا حرج عن المخالفات التي تحدث في الطواف والسعي.
قال: [لما روي عن ابن عباس: أنه كان إذا جاء إلى الركن اليماني قال: اللهم قنعني بما رزقتني، واخلف لي على كل غائبة بخير ويستحب أن يقول: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قني شح نفسي، وعن عروة قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لا إله إلا أنت، وأنت تحيينا بعد ما أمتنا، ويستحب الإكثار من ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى)، قال الترمذي : حديث حسن صحيح، رواه الأثرم وابن المنذر ]، والحديث قد يكون ضعيفاً في نظر من حققه، بينما الترمذي هنا حسنه وصححه، وهذا كثير، فتجد من العلماء من يضعِّف الحديث، وتجد منهم من يصحح الحديث، فمثلاً: صلاة التسابيح صححها الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وابن الجوزي قال عنها: موضوعة، والراجح في صلاة التسابيح أن حديثها ضعيف لا شك في هذا، والشيخ ابن باز رحمه الله قال: حديثها منكر، وهي صلاة تشرع في العمر مرة واحدة، فمن العلماء من قال: إنها موضوعة، ومنهم من قال: هي صحيحة، وبعض الناس بارك الله فيهم يتمسكون برأي واحد في الحديث، فإذا ضعف الشيخ الألباني حديثاً رحمه الله يقولون: ضعيف، ولا يقرئون آراء حفاظ الأمة في الحديث، كـابن حجر وابن عساكر والسيوطي رحمهم الله تعالى، لذا ينبغي على المسلم أن يصغي إلى آراء العلماء وحكمهم على الحديث، ولا يكتفي بالحكم على الحديث من عالم واحد فقط، ثم له أن ينظر في الحكم عليه إن كان من أهل الصنعة، كما ينبغي على المسلم ألا يتسرع في الحكم على الحديث إذا رأى من ضعفه، لأنه ربما قد يكون صحيحاً من طرق أخرى، كـالترمذي رحمه الله تعالى فهو يتساهل كثيراً في تصحيح الحديث.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -بمفرده- يرى أنه لا يشترط الوضوء للطواف بالبيت، وقال: قياس الجمهور قياس مع الفارق من وجوه، ثم أخذ يسرد تلك الوجوه رحمه الله.
والراجح هو قول جمهور الفقهاء الأربعة؛ لأن المسألة عليها أكثر من دليل.
لكن لو أحدث وهو يطوف ثم توضأ، فهل يبني على ما سبق أم يبدأ الطواف من أوله؟
من العلماء من قال: يبني على ما سبق، واعتبر كل شوط عبادة مستقلة، ومنهم من قال: يبدأ من أوله؛ واعتبر السبعة الأشواط عبادة واحدة، وذلك كمن أحدث في الركعة الثالثة من الصلاة الرباعية فخرج وتوضأ، ثم عاد يصلي من أولها.
والراجح: أنه يبني على ما سبق؛ لأن المشقة تجلب التيسير، ولا يمكن أن نقول له: استأنف، خاصة إذا كان قد أتى بخمسة أشواط أو ستة، فضلاً عن أن العلماء قالوا: إن من طاف شوطاً وأراد أن يستريح قليلاً لتعبه فله ذلك، ثم يطوف الشوط الثاني بعد قليل، بحيث لا يتسع الوقت بين الشوطين، فيكمل الطواف من حيث انتهى، لكن بإلغاء الشوط الذي كان فيه، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر