أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فلا شك أن دراسة التاريخ بصفة عامة من أهم الأمور في حياة البشر عامة، ومن أهم الأمور في حياة المسلمين بصفة خاصة؛ لأن هذا أمر إلهي مباشر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].
ولا شك أن أروع القصص وأهمها هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أحداثاً مشوقة ومواقف عجيبة، لا، لكن لأن السيرة النبوية جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي على الأرض، وحياته كانت تطبيقاً عملياً لكل توجيه رباني في الكتاب الكريم.
واتباع السنة المطهرة والطريقة التي كان يحيا بها صلى الله عليه وسلم أمر ضروري ولازم لرضا رب العالمين ولدخول الجنة، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
إذاً: كيف سنتبع الرسول عليه الصلاة والسلام من غير أن نعرف سيرته وحياته؟!
كنا قد تحدثنا في محاضرات سابقة عن فترات هامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحدثنا في مجموعة من المحاضرات عن العهد المكي في غاية الأهمية، وفي مجموعة أخرى من المحاضرات تحدثنا عن تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة خلاص الخمس السنوات الأولى من الفترة المدنية، فالسنوات الخمس الأولى كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية، بدأت من الهجرة وانتهت بانتهاء غزوة الأحزاب.
وكانت مرحلة التأسيس مرحلة شاقة جداً ومرهقة، فقد تعددت فيها أنواع الصراع مع أعداء الأمة، فقد وجهوا كل طاقاتهم لمنع قيام الدولة الإسلامية، ولكن بفضل الله نجح المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولتهم برغم كل هذه المعوقات، وبانتهاء غزوة الأحزاب انتهت هذه المرحلة الهامة لتبدأ مرحلة أخرى لا تقل أهمية أبداً عن المراحل السابقة، عبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله الدقيق الذي يعبر عن دراية كاملة بوضعه ووضع العالم من حوله، قال صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن سنسير إليهم؛ لأن الدولة الإسلامية بفضل الله أصبحت من القوة بحيث أنها لا يمكن أن تستأصل، وبحيث أنه من الصعب جداً على الآخرين التفكير الجدي في غزو المدينة المنورة، هذه المرحلة الجديدة نستطيع أن نسميها مرحلة الانتشار والفتح والتمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى.
سينتشر فيها دين الإسلام كما سنرى بسرعة مذهلة، ليس فقط في الجزيرة العربية، بل وما حولها، وسيتطور الأمر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لينتشر الإسلام في ربوع العالم المختلف.
هذه هي طبيعة بناء الأمة الإسلامية، تبدأ شاقة وعسيرة؛ لأن كل الأعداء على اختلاف توجهاتهم يتعاونون في حربها، ثم تخرج الأمة من عنق الزجاجة في وقت ما لتبدأ مرحلة الانتشار والفتح والتمكين.
في ذي العقدة سنة (5) هـ رحلت الأحزاب، وفي نفس الشهر بدأ المسلمون مرحلتهم الجديدة، حملات عسكرية متتابعة وسريعة لهدف رئيس هو تأديب وعقاب أولئك الذين شاركوا في حصار المسلمين في غزوة الأحزاب، أو تأديب أولئك الذين غدروا بالمسلمين في حوادث أخرى سابقة للأحزاب؛ ليعلم الجميع أن انتهاك حرمات الأمة الإسلامية لا يمر هكذا بدون عقاب.
والحملات العسكرية بعد الأحزاب كانت مكثفة جداً، بمعدل حملة كل (20) يوماً تقريباً، وهذا فيه إرهاق شديد جداً على الدولة الإسلامية الناشئة، ومع ذلك هذا الإرهاق لا بد منه؛ لأن الأمة التي لا تجاهد تصاب بالذل، روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة)، العينة: نوع من أنواع الربا، (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد) ما هو الذي سيحصل؟ (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ضعف المسلمين وذلة المسلمين لا يؤدي فقط إلى التهديد المستمر للدولة الإسلامية، ولكن يؤدي أيضاً إلى فقد الثقة في الدين الإسلامي نفسه، ستقول الناس: لو كان هذا الدين عظيماً لكافح من أجله أصحابه، لو كان هذا الدين عظيماً لفرض نفسه على الآخرين وسادهم، ولذلك جعل الله عز وجل من دعاء المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85]، هذه الفتنة قد تكون نتيجة الوضع المتردي للمسلمين في فترة من فترات حياتهم، ينفر الناس من الإسلام، يهجرون الإسلام؛ لعدم ثقتهم في المسلمين، وهذا أمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تبقى صورة الأمة الإسلامية مرفوعة ومهابة وسط الجزيرة العربية.
لقد بدأ الجهاد مباشرة بعد غزوة الأحزاب، وأول ما بدأ به تحرك تجاه أولئك الذين حركوا جموع العرب لغزو المدينة المنورة، وبالتحديد اتجاه اليهود وزعمائهم، وأهم هؤلاء الزعماء حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب كان قد قتل مع يهود بني قريظة في أعقاب غزوة الأحزاب مباشرة، وبعد مقتل حيي بن أخطب لزم على المسلمين أن يذيقوا سلام بن أبي الحقيق من نفس الكأس الذي كان يريد أن يذيقه للشعب المسلم بكامله في المدينة المنورة، من أجل هذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية لاغتيال سلام بن أبي الحقيق في خيبر، وسلام بن أبي الحقيق من زعماء خيبر، وخيبر على بعد حوالي ( 150 ) كيلو شمال المدينة المنورة، وهي مهمة خطيرة جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية كاملة بقيادة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه وأرضاه.
ونحن نرى الفكر السياسي والعسكري الدقيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بالسرية هذه سيقضي على رءوس الفتنة ومجرمي الحرب ومحركي الجموع، وبالتالي يستطيع بعد ذلك أن يسيطر على الأمور بصورة أيسر وبطريقة أسرع، وبحمد الله نجحت سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل سلام بن أبي الحقيق ، وتخلص المسلمون من رأس كبير من رءوس الفتنة، وكانت خسارة كبيرة جداً لليهود، وبالذات أن ذلك كان بعد التخلص من بني قريظة، وبعد التخلص من حيي بن أخطب ، وبات واضحاً للجميع أن الدولة الإسلامية في طريقها إلى النمو والقوة، وأن نجمها سيعلو في الجزيرة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذه النجاحات المتتالية في الأحزاب وبني قريظة وفي حادثة اغتيال الزعيم اليهودي سلام بن أبي الحقيق ، بل استغلها بنشر القوات الإسلامية في كل مكان هنا وهناك، وبسط السيطرة على المناطق المختلفة في الجزيرة، وقام بتأديب وعقاب من اشتركوا في إيذاء المسلمين قبل ذلك.
بعد عودة سرية عبد الله بن عتيك من خيبر، أرسل سرية بقيادة محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالقرطاء، وهي تبعد عن المدينة المنورة أكثر من (300) كيلو متر، وهذه السرية كانت موجهة إلى بطن بني بكر بن كلاب ، وهم من قبائل نجد الذين اشتركوا في حصار المدينة المنورة أيام الأحزاب، مع أن هذه السرية كانت مكونة فقط من (30) فارساً فهي سرية صغيرة، إلا أنها حققت نتائج عظيمة جداً، لا تتناسب مطلقاً مع عددها الصغير.
ألقى الله سبحانه وتعالى بهذه السرية الرعب في قلوب بني بكر، لقد هرب معظمهم من السرية، وتفرقوا في الصحراء وقتل منهم عشرة، واستاق محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه عدداً كبيراً جداً من الإبل والشياه، جاء في بعض التقديرات أنها (150) من الإبل و(3000) من الشياه.
وكان من آثار هذه السرية أن ارتفعت هيبة المسلمين في قلوب الأعراب هنا وهناك، وخاف الناس منهم، وتحسن الوضع الاقتصادي في المدينة المنورة، وبالذات أن المسلمين لا زالوا خارجين من أزمة الأحزاب، فقد كانوا في حالة شديدة جداً من الفقر والجوع، وارتفعت معنويات المسلمين جداً، وشعروا بشعور المهاجم لا شعور المدافع.
إذاً: هذه ثلاثة آثار إيجابية لهذه السرية البسيطة.
عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟
أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله: (ما عندك يا
ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً.
هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم).
الثاني: (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك.
الثالث: (وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر.
إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد.
فـثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً.
فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال: (ما عندك يا ثمامة ؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له: (ما عندك يا ثمامة ؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء.
تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء!
أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال: (إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن، وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي، وإنما بعد أن رأى الحق رغب فيه وأسرع إلى الإسلام مهما كانت العواقب ومهما كانت النتائج.
وقرر السيد ثمامة بن أثال الذي تعود أن يتبعه الناس أن يتحول من سيد إلى تابع مطيع لهذا الدين الجديد دين الإسلام، فعنده إيمان عميق ومن أول يوم من أيام الإسلام.
لقد وقف ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في خشوع أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (أشهد أنه لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، ثم قال: يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي).
في لحظات تبدلت المشاعر والأحاسيس والأمنيات والأهداف هذا هو الإسلام، وهذه هي نتيجة المعاملة بالحسنى، والجدال بالتي هي أحسن، والرفق والحلم مع الناس.
ثم قال ثمامة رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) يعني: أنه كان ناوياً العمرة بعد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الآن صار مسلماً، فهو يسأل: هل يذهب لأداء العمرة أم لا؟ (فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما ذهب إلى مكة) فهو زعيم كبير جداً وكان مقرباً إلى أهل مكة، (فلما ذهب إلى أهل مكة وعرف المشركون في مكة أنه قد أسلم، فقال له أحد المشركين: صبوت؟) يعني: تركت العبادة الصحيحة؟ يعني: كما تقول لواحد مؤمن في هذا الوقت: كفرت؟ (فقال
ثم أخذ قراراً في منتهى الجرأة والأهمية والتضحية، قال مخاطباً زعماء قريش: (لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم) هذا قرار عجيب جداً، إنه قرار مقاطعة اقتصادية كاملة لأقوى قبيلة عربية في المنطقة قريش، لماذا هذه المقاطعة؟ لأنها معادية للإسلام والمسلمين، هذا قرار فيه جرأة كبيرة جداً، فهو سيواجه قريشاً بكل قوتها ورجالها وسلطانها وعلاقاتها وتاريخها، وهو سيمنع الطعام عن مكة، وكانت اليمامة المصدر الرئيسي لشعير وخبز مكة، كان يطلق على اليمامة ريف مكة.
هذا القرار فيه إيذاء شديد لمصالح مكة، وحصار اقتصادي مريع لمكة، وهو قرار في نفس الوقت فيه تضحية كبيرة جداً من ثمامة ؛ لأنه ليس فقط سيواجه زعماء مكة أو يفقد علاقات مهمة معهم، ولكنه سيفقد كذلك ثروات ضخمة؛ فـثمامة بن أثال تاجر يعتمد في التجارة على البيع والشراء، فهو الآن يقرر رضي الله عنه وأرضاه أن يخسر هذه التجارة، ويخسر هذه الأموال، ويخسر هذه العلاقات، ولكن كل ذلك في سبيل الله؛ إذاً: هو ليس بخسران في الحقيقة بل هو رابح ربحاً عظيماً جداً؛ لأنه ترك تجارة المشركين وتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى.
يتعلل الكثير الآن بأننا لا نستطيع أن نقاطع أعداءنا؛ لأننا سنفقد ثروات اقتصادية ضخمة وسنخسر مادياً، والمصانع ستقفل، والتجارات ستقف، أقول: هذه طبيعة الحروب، والنصر لا يأتي إلا ببذل وتضحية في سبيل الله؛ لأن هذا الذي نشتريه بجهادنا بأنفسنا وأموالنا هو شيء ثمين ونفيس جداً، إنه شيء اسمه الجنة، فلا بد أن يكون المدفوع في الجنة كثيراً وعظيماً جداً؛ لأنه كما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فأنت تتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى، والثمن الجنة.
فـثمامة أخذ قراراً ونفذه بالفعل وتمت المقاطعة وعلم بها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وتركها تحدث دون أن يمنعها، ففي هذا الأمر أبلغ الرد على من يقول: إن المقاطعة بدعة، بل على العكس، المقاطعة سنة تقريرية من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والسنة: هي كل فعل أو قول أو تقرير لرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى حدثاً من أحداث الصحابة فيسكت عنه أو يستحسنه أو يقره بكلمة أو بفعل، كل هذا يحول الحدث إلى سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو رأى منكراً لنهى عنه، فهذا الأمر حدث من ثمامة بن أثال وسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره، واستمر ثمامة في المقاطعة إلى أن حدث أمر غريب.
فما هو الذي حصل بعد هذا من أجل أن نفهم معنى السنة ومعنى البدعة؟ الذي حصل أن المقاطعة أثرت تأثيراً مباشراً قوياً حاسماً على زعماء مكة وعلى شعب مكة بصفة عامة، كادت مكة أن تهلك، وفشلت كل محاولات مكة في إقناع ثمامة بن أثال بالعدول عن المقاطعة؛ لأنه أصر عليها وربط رفع المقاطعة بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على إعطاء مكة الشعير من جديد، وقريش لم يكن أمامها إلا حل واحد، وهو حل عجيب، وأبعد حل ممكن نتصوره، بل أبعد حل ممكن تتصوره قريش نفسها.
ماذا عملت قريش؟ لقد أرسلت وفداً إلى المدينة المنورة؛ ليستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لـثمامة بمعاودة التجارة مع قريش، هذا الموقف كان بعد شهور قليلة جداً من غزوة الأحزاب، فقريش تنازلت عن كبريائها وغطرستها وذهبت لتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام وتطلب منه وترجوه وتستحلفه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليأذن له بمعاودة التجارة معها، فكتب له صلى الله عليه وسلم ولم يلمه على المقاطعة ولم يقل: هذا غير صحيح أو غير سنة، بل أذن له أن يعطيهم؛ بسبب الأرحام التي سألوه بها صلى الله عليه وسلم.
فهذا أمر واضح جداً في السيرة النبوية، وهو أمر يقبله كل عقل وكل شرع؛ لأنه ليس من المعقول أن الناس تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذبح المسلمين وتحاصر المسلمين وتجوع المسلمين فإذا ما أخذنا قراراً بعدم الشراء منهم سميناه بدعة، هذا أمر غريب جداً على الفقه والفهم الإسلامي.
ولا يخفى علينا في هذا الموقف أن نرى رقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وافق على إعطاء قريش مع كل ما فعلته مع المسلمين قبل ذلك، وافق على طلب قريش وأمر ثمامة بإلغاء المقاطعة التي كانت بينه وبين قريش.
فهذا الموقف رفع رءوس المسلمين إلى السماء، لم تعد دولة المسلمين دولة ضعيفة مهيضة الجناح، مهددة من هنا وهناك، لا، بل أصبحت دولة منتصرة تبسط سيطرتها على بقاع متعددة في الجزيرة العربية، يرهبها الصغير والكبير، لها قوة اقتصادية، لها علاقات دبلوماسية، في يدها مفاتيح لتغيير الأوضاع في الجزيرة، وللتأثير على الجميع بما فيهم قريش ذاتها.
لقد كانت سرية محمد بن مسلمة سرية بسيطة مكونة من (30) فارساً، لكن إذا أراد الله عز وجل بالأمة خيراً فلا راد لفضله سبحانه وتعالى، ويأتي الخير بأهون الأسباب التي يتوقعها المسلم، بل يأتي من حيث لا يتوقع أصلاً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3]، والنصر ما هو إلا نوع من الرزق، وكثيراً ما يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.
بعد هذه الآثار العظيمة من ارتفاع معنويات المسلمين، وخوف الأعراب، وهزة قريش، وإسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وقتل زعماء اليهود الكبار وفي أولهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، بعد كل هذا كان لزاماً على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك؛ لأن قريشاً ستنشغل بنفسها ولن تقدم أي معونة لأحد في حرب المسلمين، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في رسم خطة لبسط السيطرة على الجزيرة العربية.
ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في صورة شبكة منظمة رائعة، طرقت تقريباً كل دروب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وكان شعار هذه المرحلة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).
فأول قبيلتين فكر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يحاربهم: قبيلة عضل، وقبيل قارة، وقصة هاتين القبيلتين في الغدر بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معروفة ومشهورة، وتكلمنا عليها قبل هذا في الدروس السابقة، وهي قصة الغدر عند ماء الرجيع.
فقد قتلت هاتان القبيلتان من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام (10) عند ماء الرجيع، بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكان وقع هذه المصيبة كبيراً جداً على الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ظل يدعو عليهم في قنوته في كل صلواته لمدة شهر كامل.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد الفرصة مواتية لقتالهم أعد العدة لذلك، بل وقرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة بني لحيان.
وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالفعل بجيشه إلى بني لحيان في ربيع أول سنة (6) هـ، وهذا الخروج خطير جداً لأمور:
أولاً: لأن قبائل بني لحيان قبائل قوية مقاتلة.
ثانياً: لأن قبائل بني لحيان اشتهرت بالغدر وقطع الطريق، من أجل هذا عندهم عدة كمائن على الطريق.
ثالثاً: لأن مساكن بني لحيان بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فهي تبعد تقريباً (400) كيلو متر من المدينة المنورة إلى الجنوب.
رابعاً: لأن مساكن بني لحيان قريبة جداً من مكة المكرمة، على بعد (90) كيلو متر من مكة المكرمة، فلا يستبعد أبداً أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة من مكة المكرمة فتخرج له قريش، وأنتم تعرفون قوة قريش.
كل هذه الأمور جعلت هذه الغزوة خطيرة، ومن أجل هذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه فيها.
وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع أول (6) هـ، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في (200) من أصحابه، ومعه مجموعة من الفرسان في هذه الغزوة، وأوهم الناس أنه سيتجه إلى الشمال في بادية الشام، وبعد ذلك غير الاتجاه وذهب إلى الجنوب حتى يعمي على العدو، ووصل إلى ديار بني لحيان، لكن كما ذكرنا قبل هذا أن بني لحيان كانت لهم عدة كمائن على الطريق، واكتشفت هذه الكمائن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن فروا من ديارهم لما عرفوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد غزوهم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في (200) فارس، وجاء على بعد (400) كيلو من المدينة المنورة، فهرب بنو لحيان جميعاً في رءوس الجبال وتركوا ديارهم خالية.
وكان على غير مراد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يقابلهم ويحاربهم؛ لينتقم لأصحابه أصحاب الرجيع، لكن هروب بني لحيان ترك أثراً إيجابياً كبيراً جداً في صالح المسلمين في المنطقة كلها.
العربي ليس من شيمه الهروب، والجبن صفة مذمومة جداً عنده، لا يحب أبداً أن يوصف بها، وبالذات إن كانت القبيلة قبيلة قوية لها تاريخ في الحرب والقتال والغزو، لكن ربنا سبحانه وتعالى ألقى الرعب في قلوبهم، لم يفكروا أصلاً في المقاومة، لم يفكروا في سمعتهم أمام القبائل الأخرى، فكان ذلك انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين بلا شك، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا الانتصار، بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان، لكن لم يعثر على أحد منهم.
ويعتبر بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض القبيلة مدة يومين كاملين هذا من أقوى دلالات الانتصار عند العرب، لأن من ينتصر لا يخرج سريعاً من مكان القتال وكأنه يخشى القوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أنه لا يخاف بني لحيان ومكث يومين كاملين، ليس هذا فحسب، بل أرسل سرية صلى الله عليه وسلم من (10) فرسان في اتجاه مكة حتى بلغت كراع الغميم، وكراع الغميم على بعد حوالي (60) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم ولا يستخفون؛ ليعلم بهم أهل مكة وأنهم سيغزون مكة؛ وذلك لإلقاء الرعب في قلوب القرشيين، وحدث ما تمناه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد فزعت قريش ونفرت إلى السلاح، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام عاد إلى المدينة ولم يدخل معهم في قتال؛ لأنه غير مستعد لقتال قريش في ذلك الوقت، لكن تحقق له ما أراد وشعرت قريش بالخطر الشديد من المسلمين.
بعد أسبوعين كاملين من الغياب عن المدينة المنورة، وفي أثناء عودة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أغار عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين في خارج المدينة المنورة، في منطقة تعرف بالغابة، وأخذ منها إبلاً وشياهاً للمسلمين، وقتل راعيها -وهو رجل من غفار- واحتملوا امرأته، وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل الخبر إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم نقل له سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسلمة من أعظم الرماة في الإسلام، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك عاد سلمة مسرعاً إلى منطقة الغابة وظل يرمي الفرقة الغازية فقتل بعضهم وأصاب بعضهم.
وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فرقة سريعة الحركة من الفرسان، وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا غير سعيد بن زيد المهاجري رضي الله عنهم أجمعين، وكان في هذه الفرقة المقداد بن عمرو وعباد بن بشر وأبو قتادة وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم أجمعين، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال صلى الله عليه وسلم لأميرهم سعد بن زيد : (اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس) وخرجت هذه الفرقة السريعة، والرسول عليه الصلاة والسلام تبعها بعد ذلك بجيش من المسلمين، وأدرك هذه الفرقة عند مكان يسمى ذو قرد على بعد حوالي (35) كيلو متر شمال شرق المدينة المنورة.
في هذه الغزوة قتل أبو قتادة رجلاً من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه، وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة، وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل.
وطلب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل معه من الرجال ليغزو بهم قبائل غطفان في مكانها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض ذلك؛ لأن قبائل غطفان قبائل قوية جداً ومنازلها بعيدة عن المدينة المنورة، ولا يريد أن يدخل معها في صراع وهو لم يعد العدة الكافية لذلك.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع في واقعية دون تهور، فقد كان كل ذلك في حدود المدينة المنورة، وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيش إلى مغامرة غير مأمونة، وعلى العكس من ذلك فقد أخذ جيشه القليل صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بني لحيان؛ لأن هناك اختلافاً بين بني لحيان وبين بني غطفان، فقبيلة لحيان وإن كانت قوية إلا أنها أقل بكثير جداً من قبائل غطفان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي لكل أمر قدره، يحسب حساباته بدقة، ويتصرف على ضوء هذه الحسابات، في توازن رائع وفقه عميق.
هذه الحملة الأخيرة التي قادها صلى الله عليه وسلم تعرف بغزوة الغابة، وهو المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن ، أو غزوة ذي قرد، وهو المكان الذي وصل إليه صلى الله عليه وسلم في مطاردته للمشركين، وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6)هـ.
وبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريباً؛ وذلك إلى القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب، وكذلك القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى القائل التي تستعد لغزو المدينة المنورة.
وهكذا بعث صلى الله عليه وسلم السريا الآتية:
أولاً: بعث سرية بقيادة عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه إلى غمر مرزوق، وهو تجمع لفرع من فروع بني أسد، وبنو أسد من القبائل التي اشتركت في حصار الأحزاب، وكانت هذه السرية في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد وهو ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6)هـ.
السرية الثانية كانت بقيادة محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة على بعد حوالي (55) كيلو متر شمال المدينة، وهذه كانت في ربيع الثاني سنة (6)هـ.
في نفس الشهر ربيع الثاني خرجت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه إلى نفس المكان ولنفس الهدف لقتال بني ثعلبة.
في نفس الشهر كذلك ربيع الثاني خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالجموم، والجموم على بعد حوالي (100) كيلو متر من المدينة المنورة وخرجت لقتال بني سليم.
وبعد عودة هذه السرية بأيام في شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة جداً بقيادة زيد بن حارثة مرة ثانية أيضاً.
وسنرى أن اسم زيد بن حارثة يتكرر مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه لأمر كبير جداً سنعرفه عندما نأتي لغزوة مؤتة إن شاء الله.
المرة الثانية: خرج زيد بن حارثة على رأس سرية أخرى موجهة إلى منطقة تعرف بالعيص، وهذه المنطقة شمال غرب المدينة المنورة، وكان غرض هذه السرية اعتراض قافلة من قوافل قريش، فأمسك زيد بن حارثة بالقافلة بكاملها، وكانت ضربة كبيرة جداً لقريش.
وفي الشهر الذي يليه شهر جمادى الآخرة من سنة (6)هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الثالثة على رأس سرية إلى منطقة تعرف بالطرف على بعد (55) كيلو متر من المدينة المنورة على طريق العراق، وكانت لقتال فرع من فروع بني ثعلبة.
وفي نفس الشهر جمادى الآخرة سنة (6)هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في منتهى الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية، وهذه السرية مهمة جداً ومحتاجة لوقفة، وسبب هذه السرية أن أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه كان في طريقه من الشام إلى المدينة المنورة فاعترض طريقه أحد زعماء قبيلة جذام، وقبيلة جذام تسكن في شمال الجزيرة العربية، فهذا الزعيم كان اسمه الهنيد بن عوص ومعه ابنه ومجموعة من رجال قبيلة جذام، وأخذوا ما مع دحية الكلبي رضي الله عنه، وسمع بذلك مجموعة من بني الضبيب، وبنو الضبيب كانوا من المسلمين فهبوا لنجدة دحية الكلبي ، ونجحوا في استرداد الأشياء التي سلبها منه الهنيد بن عوص ومن معه، وحمل دحية الكلبي هذه الأشياء وعاد إلى المدينة المنورة، في عرف أناس كثيرين أن الموقف انتهى، ما دام الشيء الذي أخذ رجع فليس هناك داع للقتال، لكن عندما أخبر دحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة، حتى وإن كان ما سلب من المسلمين رد إليهم؛ ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا ينبغي أبداً أن تنتقص، وأن أي قبيلة أو إنسان تسول له نفسه التعدي على حرمة الأمة الإسلامية، ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة من المسلمين لا بد أن يحدث انتقام من قبل الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، من أجل هذا قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعث جيشاً لعقاب قبيلة جذام على تعديها على أحد رعايا الدولة الإسلامية، وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذان تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه.
هذا موقف مشرف جداً، يكتب بماء الذهب وأغلى من الذهب، لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع، فحاربهم وأجلاهم من المدينة جميعاً، وهاهو الآن ينتفض لانتهاك حرمة رجل مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فلا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة لحماية القائد لها، ولا تسل عن مدى إحساسهم بالأمان وهم يعلمون ويوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم، تحفظ كرامتهم، تدافع عن حقوقهم، ترفع رءوسهم في العالم أجمع.
وهذا الموقف يزداد قيمة عندما نعرف أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة قوية جداً، قبيلة جذام، وتقع مساكنها على بعد حوالي (800) كيلو متر شمال المدينة المنورة.
تصوروا اجتياز مسافة طويلة وصعبة جداً في الصحراء وسيتم فيها لقاء صعب، لكن كرامة الأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات، هكذا يكون التعامل مع هموم وقضايا الأمة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جهز سرية بقيادة زيد بن حارثة للمرة الخامسة في سنة (6) من الهجرة، عدد أفرادها (500) رجل، وهذه أكبر السرايا التي خرجت من المدينة المنورة، وأخرجها صلى الله عليه وسلم بهذا الحجم؛ لأن مهمتها صعبة، ولا مدد لها من المدينة؛ لبعد المسافة بينها وبين المدينة المنورة، كما ذكرنا تبعد عن المدينة حوالي (800) كيلو متر.
فخرج زيد بن حارثة بهذه السرية الكبيرة، وكان يسير ليلاً ويكمن نهاراً؛ حتى لا تكشفه العيون، وباغتت هذه السرية الكبيرة قبيلة جذام في الصباح فقتلت منهم عدداً كبيراً، وكان من بين القتلى الهنيد وابنه، وساق زيد بن حارثة من ماشيتهم (1000) بعير، و(5000 ) شاة، وساق من السبي (100) من النساء والصبيان، لقد كان هذا الحدث انتصاراً هائلاً وحدثاً مدوياً في الجزيرة العربية بكاملها.
لقد عرف الجميع بوضوح أن انتقاص هيبة الدولة الإسلامية عاقبته الحرب والقتال والجهاد، لا بد لكل أهل الجزيرة أن يدركوا هذا الأمر جيداً، ولا بد أن يدركوا هذه القيمة العالية للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ولا بد لهم أن يدركوا قيمة كل مسلم، سواء كان مقيماً في المدينة أو مسافراً في أي مكان في الجزيرة العربية أو غيرها.
إذاً: لقد كان هذا الموقف في غاية الروعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع كون المسلمين يعيشون أزمة اقتصادية كبيرة بعد الأحزاب، ومع أن هذه الغنائم التي أتت إلى المدينة المنورة فيها خير كبير جداً للمدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد هذه الغنائم مرة ثانية إلى قبيلة جذام؛ وذلك عندما جاء إليه زيد بن رفاعة الجذامي رضي الله عنه أحد أفراد قبيلة جذام، وكان قد أخذ قبل ذلك كتاباً بالأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسلم هو وبعض أفراد القبيلة، ومع أن الكتاب كان قد تم نقضه عندما غدرت قبيلة جذام بـدحية الكلبي ، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام آثر أن يكسب قلوب القبيلة بإعادة الأموال والغنائم والنساء والصبيان، وحصل كل ذلك بعد أن ظهرت هيبة الدولة الإسلامية وظهرت قوتها وعزتها، وتحقق الهدف من السرية، وقد تكون إعادة الغنائم والسبي الآن سبباً في ثبات المؤمن في القبيلة وسبباً في إسلام من لم يسلم بعد، فهذا تصرف سياسي حكيم جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثبت فيه للجميع سواء في زمنه أو في زمننا هذا وإلى يوم القيامة أنه صلى الله عليه وسلم لا يقاتل من أجل المال والغنائم والسبي والدنيا بكاملها، وإنما يقاتل لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، ولأجل تعبيد الناس لرب العالمين، ولأجل الدفاع عن كرامة وحرمات الأمة الإسلامية.
إذاً: هذه السرية كما ذكرنا كانت في شهر جمادى الآخرة سنة (6)هـ سرية مهمة جداً.
وبعد عودة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة المنورة مكث فيها عدة أيام، ثم خرج للمرة السادسة على رأس سرية أخرى إلى منطقة وادي القرى، وكان هذا في شهر رجب سنة (6)هـ لقتال قبيلة بني فزارة، وهي قبيلة عيينة بن حصن الذي سبق وأن أغار على المدينة المنورة في غزوة الغابة كما تعلمون.
سمع صلى الله عليه وسلم بتجمع قبيلة بني المصطلق لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فباغتهم صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم في (2) شعبان سنة (6)هـ، ووصل إليهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، لذلك هذه الغزوة تعرف في بعض الكتب بغزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق، وفي هذه الغزوة انتصر المسلمون انتصاراً كبيراً على بني المصطلق وغنموا غنائم ضخمة وكبيرة، وسبوا عدداً كبيراً من نساء القبيلة، وكان منهن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها التي أصبحت أم المؤمنين بعد ذلك، وهي ابنة زعيم بني المصطلق الحارث بن ضرار ، وكانت ضربة قوية هائلة للقبيلة.
ووقعت جويرية بنت الحارث التي هي بنت زعيم قبيلة بني المصطلق في نصيب ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، والرسول عليه الصلاة والسلام في قصة طويلة أدى عنها مكاتبتها لـثابت بن قيس ، وعرض عليها الزواج بعد أن أسلمت وتزوجها صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف من الزواج واضحاً جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الزواج أن يتألف قلوب بني المصطلق، حيث أعتق المسلمون سبايا بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق يوم زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من جويرية بنت الحارث أهل مائة بيت من بني المصطلق، وكان ذلك سبباً في إسلام قبيلة بني المصطلق، وكان نصراً عزيزاً للإسلام والمسلمين، ومع كون غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع ليست من الغزوات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الصراع فيها طويلاً ولا كبيراً ولا القتلى والشهداء كثيرين، ومع ذلك فهذه الغزوة اكتسبت أهمية خاصة في السيرة النبوية؛ لخطورة الآثار التي ترتبت على وجود المنافقين في داخل هذه الغزوة.
لقد حدثت انتصارات سابقة كثيرة بعد غزوة الأحزاب، ورأى المنافقون هذه الانتصارات المكثفة فخرجوا في غزوة بني المصطلق ابتغاء الحصول على غنيمة، وفي غزوة بني المصطلق تسبب المنافقون في أكثر من أزمة، كادت كل واحدة منها أن تطيح بكيان الدولة الإسلامية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في حق المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة:47] (خبالاً) يعني: اضطراباً وضعفاً، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].
فهذا عين ما حدث في غزوة بني المصطلق، فقد تسبب المنافقون في فتن متتالية، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] يعني: وقع المؤمنون الصادقون في أمور كثيرة بسبب المنافقين، حيث التبس الأمر على أكثر المؤمنين في هذه الغزوة.
وهذه الأزمات التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة من الضخامة بمكان، فهي بحاجة إلى تحليل طويل وتدبر عميق، مما قد لا يتسع له المقام في هذه المحاضرة، لكن بإذن الله سنفرد لها حديثاً خاصاً في مجموعة أخرى من المحاضرات وقد نوهنا عنها قبل ذلك: وهي مجموعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين، سنجمع فيها كل الأخطاء التي وقع فيها الصحابة سواء في غزوة بني المصطلق أو في الغزوات الأخرى أو في السرايا أو في جميع السيرة النبوية، ونحلل فيها كيف كان رد فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأخطاء وهذه الأزمات.
وفي هذه المحاضرة إن شاء الله سنعرج سريعاً على هذه الفتن التي دارت في غزوة بني المصطلق.
الأزمة الأولى التي حدثت: كانت صراعاً قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة، وهذا الحدث نادر في السيرة، لعله الوحيد الذي حدثت فيه أزمة ضخمة بين المهاجرين والأنصار، وكانت أزمة كبيرة جداً كادت أن تتفاقم لولا حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيطرة عليها.
ثم إنه نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة جداً وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول كلمته الفاجرة يعلق فيها على المهاجرين بقوله: والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. كانت أزمة خطيرة جداً توشك أن تقضي على الأمة لولا أن الله عز وجل سلم.
وحدث بعد ذلك فتنة ثالثة خطيرة شنيعة أشد من الأولى والثانية: إنها حادثة الإفك، وفيها اتهم المنافقون السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه وأرضاها بالفاحشة، وللأسف الشديد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم، وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في هذه القضية إلا بعد شهر كامل، فبعد شهر كامل نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة الطاهرة رضي الله عنه وأرضاها من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون، واشترك فيها كما ذكرنا بعض المؤمنين.
وحادثة الإفك هذه من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين في فترات السيرة النبوية، وهذه الأزمة خطيرة جداً تحتاج إلى وقفات طويلة وتحليلات كثيرة، وانتباه إلى رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدبر في تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى للحدث كما في سورة النور.
إذاً: هذه قصة كبيرة جداً تحتاج إلى تفريغ وقت وتدبر، وسنفرد إن شاء الله كما ذكرنا تفصيلاً في موضوع أخطاء المؤمنين.
الذي نريد أن نذكره في هذا المقام: أنه بالرغم من الأزمات والفتن التي حدثت في غزوة بني المصطلق إلا أن أسهم المسلمين كانت في ارتفاع دائم، وكان الجو العام في الجزيرة العربية يشير بوضوح إلى نمو الدولة الإسلامية نمواً سريعاً، وأن هذا النمو يسير بشكل طبيعي ومتدرج ومدروس، وكل هذا سيكون له آثار كبيرة جداً على الأحداث المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنفهم الكلام هذا أكثر عندما نأتي لصلح الحديبية.
وغزوة بني المصطلق كانت في شهر شعبان سنة (6)هـ ومع أن الأحداث كانت تغلي بالأحداث الأخيرة وبالذات حادثة الإفك إلا أن حركة الجهاد لم تتوقف.
وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الشهر شهر شعبان سنة (6)هـ سريتين هامتين جداً: الأولى: بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه إلى ديار بني كلب بدومة الجندل على مسافة كبيرة جداً من المدينة المنورة، والأخرى: إلى ديار بني سعد بفدك، والذين كانوا يعدون العدة للتعاون مع يهود خيبر لحرب المسلمين، وكانت هذه السرية الأخيرة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كان هذا البعث في شهر شعبان مع وجود حادثة الإفك في المدينة، فحركة الجهاد في سبيل الله لم تتوقف.
وفي شهر رمضان سنة (6)هـ أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام سرية أخرى إلى بني فزارة في منطقة وادي القرى، وكان على رأسها أبو بكر الصديق أو زيد بن حارثة رضي الله عنهما أجمعين، وهذه السرية كانت موجهة لامرأة في هذه المنطقة اسمها أم قرفة ، فهذه المرأة أعدت فرقة من ثلاثين فارساً لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الفرقة المجهزة له أخرج لها هذه السرية الإسلامية، فقتلت هذه السرية الإسلامية هؤلاء الفرسان الثلاثين جميعاً، وازداد نشاط المسلمين جداً في شهر شوال سنة (6) هـ، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث سرايا خطيرة:
الأولى: كانت إلى مجموعة من المشركين من قبائل عكل وعرينة كانوا قد أظهروا الإسلام وغدروا بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقتلوا منهم واحداً، وسرقوا كمية كبيرة من الإبل، فبعث لهم الرسول عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه واستطاع الإمساك بهم وقتلهم وتمكن من استرداد الإبل.
السرية الثانية: في شوال (6)هـ كذلك وكانت هذه السرية بقيادة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، وكانت مهمتها في منتهى الخطورة، مهمتها اغتيال اليسير بن رزام أمير خيبر من اليهود، فهو من أكابر اليهود ومن الذين أخذوا يجمعون اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك لحرب المسلمين، ولم يكتف بذلك، بل قام بجمع غطفان من جديد لحرب المسلمين، من أجل أن يعيد الأحزاب مرة ثانية، كان يريد أن يقوم بنفس الدور الذي قام به قبله حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، ولكي لا تتكرر مأساة حصار المسلمين في داخل المدينة المنورة حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على التخلص من هذا الطاغية قبل أن يجمع هؤلاء المشركين، وبذلك يجنب المسلمين ويلات أزمة ضخمة قد تحدث، وكانت هذه السرية المكونة من ثلاثين فارساً، وتمكنت هذه السرية من قتل اليسير بن رزام ، وأمن بذلك المسلمون شر خيبر، ولكن بصفة مؤقتة؛ لأن كل اليهود في ذلك الوقت كانوا متجمعين في خيبر، ولا شك أن العلاج النهائي لمشكلة يهود خيبر وتأليبهم المستمر على المسلمين يحتاج إلى وقفه حاسمة، ويحتاج إلى حرب فاصلة مباشرة كالتي فعلت قبل ذلك مع يهود بني قينقاع ويهود بني النضير ويهود بني قريظة، هذا هو الحل النهائي مع يهود خيبر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن قادراً على ذلك الوقت؛ لأن وضع المدينة المنورة خطير، لا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يغزو خيبر الآن دون أن يؤمن ظهره، فأخطر ما يهدد ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام هو غزو قريش المدينة المنورة، وبالذات أن غزوة الأحزاب لم يمض عليها سوى سنة واحدة، وإذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش الآن إلى حرب خيبر حرباً شاملة فقد يستغرق هذا الخروج إلى فترة طويلة جداً من الزمان قد تصل إلى شهور؛ لشدة بأس المقاتلين من أهل خيبر، ومناعة حصون خيبر، وبعد خيبر عن المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يترك المدينة خالية من الجند فترة طويلة غير محسوبة، لذلك اكتفى صلى الله عليه وسلم باغتيال رأس الفتنة ومحرك الجموع اليسير بن رزام إلى أن يصل إلى وسيلة لتأمين جانب قريش، وبعدها يفكر في قضية خيبر، وهذا عين ما سنراه بعد صلح الحديبية.
إذاً: كل هذا كان في شوال (6)هـ، وكانت هذه هي السرية الثانية في شوال.
السرية الثالثة والأخيرة في هذا الشهر كانت سرية خطيرة جداً، ووجهة هذه السرية كانت غريبة جداً، كانت وجهتها مكة المكرمة، وكثير من الناس لا يعرف أمر هذه السرية، خرجت هذه السرية إلى مكة المكرمة لمهمة في غاية الخطورة إنها مهمة اغتيال أبي سفيان شخصياً، وعلى رأس هذه السرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه، وأبو سفيان كان من أشد المجمعين والمؤلبين لحرب المسلمين في الأحزاب، فهو شخصية خطيرة جداً ومحورية في مكة المكرمة، وحربه معلنة ضد المسلمين، بل إنه دبر مؤامرة لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام قبل هذه السرية بقليل، وفشلت هذه المؤامرة، وذلك حين استأجر أبو سفيان أعرابياً لقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الرد على هذه المحاولة من أبي سفيان أن يرسل الرسول عليه الصلاة والسلام سرية لاغتيال أبي سفيان ، فكما فشلت سرية أبي سفيان في اغتيال المصطفى صلى الله عليه وسلم كذلك سرية الرسول عليه الصلاة والسلام لم تستطع اغتيال أبي سفيان ، والحمد لله أنه لم يقتل؛ لأن أبا سفيان أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
بهذا الموقف علمت قريشاً أنها مهددة في عقر دارها، لا شك أن ذلك أفزع زعماءها جداً؛ لأن الزعماء من أهل الدنيا لا يرون أن هناك شيئاً أغلى من حياتهم وكراسي حكمهم، فهذه أهم شيء عندهم، فإذا هددوا فيها كانت بالنسبة لهم الطامة الكبرى، فهذه السرية كما ذكرنا كانت في شوال سنة (6)هـ فيكون قد مرت سنة كاملة على غزوة الأحزاب؛ لأن غزوة الأحزاب كانت في شوال (5) هـ.
لقد تميزت هذه السنة المباركة السنة السادسة من الهجرة بأنها كانت سنة جهادية من الدرجة الأولى، حيث انتشرت فيها جيوش المسلمين كما رأينا في كل أنحاء الجزيرة العربية تقريباً، وتمت فيها (20) حملة عسكرية كاملة، يعني: بمعدل حملة عسكرية كل (20) يوماً، كان منها (17) سرية بقيادة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، و(3) غزوات بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومع أن هذه الغزات والسرايا بصفة عامة لم تكن من المعارك الضخمة إلا أن تأثيرها كان عميقاً جداً على كل أهل الجزيرة، سواء من المسلمين أو المشركين أو اليهود أو المنافقين، فكل الناس تأثرت بهذه الغزوات والسرايا.
فتعالوا بنا نذكر بعض الآثار الحميدة لهذه السرايا والغزوات المتتالية في السنة السادسة من الهجرة هذه عشرة آثار نذكرها كما يلي:
الأثر الأول: تحسن الوضع الأمني للمسلمين في الجزيرة العربية، سواء في المدينة أو في القبائل المسلمة في أي مكان، أو حتى للمسلمين العابرين أو المسافرين من مكان إلى مكان؛ لأن هيبة المسلمين أصبحت في قلوب الجميع عظيمة جداً.
الأثر الثاني: تحسن المستوى العسكري والأداء القتالي للمسلمين تحسناً ملحوظاً، فقد كانت هذه الغزوات والسرايا بمثابة دورات عسكرية تدريبية عملية تختلف كثيراً عن التعليم النظري، بل تختلف عن التدريب الاصطناعي غير الواقعي، فيظهر أثر هذه التدريبات المكثفة على مستقبل الجيش الإسلامي، سنرى بعد هذه الغزوات والسرايا المعارك المتلاحقة التي ستأتي بعد ذلك: خيبر، مؤتة، فتح مكة، حنين، الطائف غيرها وغيرها، وسنرى أثر هذه الدورات التدريبية على أداء المقاتل المسلم.
الأثر الثالث: تحسن الوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية، وذلك لعدة أمور منها: الاستقرار الأمني الذي يشجع على التجارة.
ومنها: العلاقات المنتشرة للمسلمين في كل مكان.
ومنها: كثرة الغنائم في السرايا والغزوات.
ومنها: اعتماد المسلمين تجارياً على أنفسهم بعد قطع العلاقات التجارية مع اليهود.
الأثر الرابع: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع الكثير من موازين القوى في الجزيرة العربية، سواء على مستوى القبائل أو على مستوى الأفراد الزعماء، فعلى سبيل المثال: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع قبائل بني المصطلق، ومع قبائل بني كلب في دومة الجندل.. ومع غيرها، وكذلك مع بعض الزعماء الكبار أمثال: ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه.
الأثر الخامس: في مقابل هذه العلاقات حدث تفكك ملحوظ في علاقات قريش مع كثير من القبائل العربية؛ لأن القبائل التي عقدت علاقات مع المسلمين فقدتها قريش، وهناك من القبائل العربية التي لم تنضم إلى هنا أو هناك آثرت أن تبقى على الحياد، لا هي مع قريش ولا هي مع المسلمين، وهذا يعتبر انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين؛ لأن قريشاً مع ما لها من تاريخ وقوة وسيادة لم تعد مقنعة لعموم القبائل العربية كحليف، وهذا لا شك سيكون له بُعْدٌ هام في صلح الحديبية بعد ذلك كما سنرى.
الأثر السادس: شعرت قريش بالقلق الشديد نتيجة نمو الدولة الإسلامية بهذه الصورة، وأحست أن المسلمين قادرون على تهديدها في عقر دارها، فقد رأينا كيف أن سرية إسلامية وصلت إلى حدود مكة كما ذكرنا في غزوة بني لحيان، ورأينا محاولة اغتيال أبي سفيان ، ولا شك أن كل هذا له أثر كبير جداً على نفسيات القرشيين، مما جعلهم يحسون أن البساط سينسحب من تحت أرجلهم، وأن الأيام الآتية ليست لهم، بل للمسلمين، وهذا سيكون له أيضاً أثر كبير في صلح الحديبية.
الأثر السابع: نتيجة التقدم الإسلامي الملموس والتأخر القرشي الواضح ارتفعت معنويات المسلمين جداً، وازدادت ثقة المسلمين بأنفسهم، وهذا سيعطيهم القدرة على الانطلاق إلى قرارات جريئة جداً، تكون لها تبعات كبيرة جداً، ولن يقف أمام أحلامهم أحد، بل إننا سنشاهد مواقف لعلها لم تكن تخطر أصلاً في أذهان المسلمين.
الأثر الثامن: نتيجة هذا المستوى الإسلامي المتميز سارع المنافقون بكتم نفاقهم، ومن كان يجاهر بالسوء أيام الأحزاب، فإنه الآن يتملق ويداهن ويتخفى، وليس معنى ذلك أنهم سيكفون عن أذاهم، أبداً، لكن معناه: أنهم سيكيدون كيدهم بحذر أكثر وحرص أعظم، وهذا قد يضاعف من خطورتهم، وما أحداث غزوة بني المصطلق بخافية عن أحد، فقد دبروا كل الفتن التي حدثت في بني المصطلق في خفاء شديد وفي سرية مطلقة.
بل إنهم عندما سئلوا مباشرة عن هذه الأحداث أنكروا وحلفوا بالله ما قالوا، ولا شك أن فتنة المنافقين ستزداد كلما ازدادت قوة الدولة الإسلامية، وستتفاقم هذه الفتنة كما تعلمون بعد ثلاث سنوات من هذه الأحداث في غزوة تبوك، كما سنرى إن شاء الله في الدروس الآتية، وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على حذر تام من هذه الثعابين التي تسعى في الظلام.
إذاً: الأثر الثامن: ازدياد خطورة المنافقين.
الأثر التاسع: ضعف قوة اليهود إلى حد كبير، وهذا كان له أثر بعد ذلك، فقد قتل أكابر مجرميهم بدءاً بـحيي بن أخطب وسلام بن مشكم أثناء غزوة بني قريظة، ثم بعد ذلك قتل سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام كما ذكرنا.
ثم إنهم قد هوجموا في وادي القرى وفدك، وهددوا تهديداً خطيراً، وفوق كل هذا فقدوا الكثير والكثير من أحلافهم في الجزيرة؛ لأن الحملات الإسلامية المتكررة هنا وهناك قطعت أوصال اليهود وعلاقاتهم بغيرهم، وكل واحد في الجزيرة همه الأكبر أن يحافظ على نفسه، ولم يضع اليهود في حساباته، فهذا كله سيكون له أثر كبير جداً في علاقات الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود وبالذات بعد صلح الحديبية.
الأثر العاشر والأخير: نتيجة هذه الحملات العسكرية هنا وهناك سمع أهل الأرض جميعاً بهذا الدين الجديد: الإسلام، وهذه الدولة الجديدة: الدولة الإسلامية، وتحولت الدعوة من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى القارات المختلفة، ومن العرب إلى كل الأجناس والعناصر، وهذا سيكون له أثر كبير جداً في الخطة المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنرى هذا عندما يبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في مراسلة زعماء العالم أجمع، يدعوهم إلى الإسلام، لم يكن هذا الأمر إلا بعد أن سمع العالم أجمع بالدولة الإسلامية الجديدة التي نشأت في المدينة المنورة.
إذاً: هذا هو الأثر العاشر، وتلك عشرة كاملة.
لا شك أن هذه الآثار الكثيرة كانت تشير إلى أن هناك حدثاً كبيراً ستمر به المنطقة، سيكون له أبلغ الأثر في تغيير الأوضاع، ضعف قريش وضعف اليهود وقوة المسلمين وترقب القبائل العربية كلها، كل هذا يشير إلى حدوث حدث قريب مهم جداً، ويشير أيضاً إلى أنه سينتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة تتبدل فيها موازين القوى في الجزيرة، بل في العالم أجمع، وواضح أن هذا الحدث الذي سينتج عن هذه الآثار الكثيرة هو صلح الحديبية، فصلح الحديبية هو اللحظة الحاسمة الفارقة الشديد الأهمية في تاريخ الأمة الإسلامية، هو لا شك يحتاج إلى تحليل طويل ودراسة متأنية، وهو موضوع محاضرتنا في المرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر