الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فسيكون عنوان حديثنا هو: (سوء الفهم آفة).
مقدمة سريعة بين يدي الموضوع.
ثم سوء الفهم متى يكون آفة ومتى لا يكون آفة؟
وأخيراً: أسباب سوء الفهم.
وبعد ذلك مقترحات للعلاج.
نسمع كثيراً أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فيه كذا، وذلك في الحكم على الأشخاص، والحكم على الكتب، والحكم على الجماعات، والحكم على المجتمعات، والحكم على الأعمال والجهود.
نسمع أحكاماً متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول: إن فلاناً يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته: إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له: كذبت، بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك!
إن هذا لسان حال كثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، وإلى نظراتهم وقناعتهم.
ثمة ظاهرة عادية تحصل بيننا كثيراً في الاتفاق على موعد أو مناسبة، أو في نقاش قضية من القضايا، فنفترق وكل منا في ذهنه أن الاتفاق قد تم على كذا وكذا، ونختلف في الموعد، ثم يحصل النقاش والجدل، يقول أحدهما: اتفقنا على كذا، والآخر يقول: لا.
إنها مظهر من مظاهر سوء الفهم، فأحدنا قد أساء الفهم إما أنا وإما أنت، المهم أنه مظهر تقف فيه أنت أمام الشخص، فتقول له: كان الموعد في الوقت الفلاني، فيقول: لا، الموعد قبله أو بعده، ولا يوجد احتمال للكذب ولا الروغان، فهو زميلك وصديقك، وقد تكون هناك مصلحة مشتركة، فليس هناك إلا احتمال واحد هو سوء الفهم.
وحينئذٍ نحكم العقل أحياناً، ونحكم المنطق؛ لأننا نحتاج إليه، وتنتهي هذه المشكلة.
لكن سوء الفهم قد يمتد إلى ذلك، وأحياناً تنتج عنه مواقف ونتائج سلوكية أخرى، ومن ثم كان لابد من الحديث عن سوء الفهم.
النقطة الأولى: متى يكون سوء الفهم آفة؟
أولاً: أمر عادي أن يسيء المرء الفهم، أو أن يخطئ في الفهم، وهذا يحصل في حياتنا كثيراً، كما ذكرت في المثال السابق، فأنت مثلاً تسمع كلاماً من فلان من الناس، فتفهم منه أنه يقصد كذا، وتكتشف خلاف ذلك، فأحياناً يأتي الموظف إلى المدير، فيفهم منه أنه موافق على مشروع معين، أو على برنامج يقترحه، ويبدأ بالتنفيذ، فيساءل من قبل المدير نفسه، فيقول: إنك قد وافقت، فيقول: لا. أي أنه حصل سوء فهم.
بل إن الخطأ في الفهم حصل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة أشير إلى بعضها إشارة عاجلة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة بني قريظة في قصة مشهورة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أخر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة بعد خروج الوقت، ومنهم من فهم النص فهماً آخر، ففهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير إلى بني قريظة، ومن ثم أدوا الصلاة في الطريق.
لا يهمنا الآن أن نقرر ماذا كان يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن على كل حال منهم من أخطأ فهم نص النبي صلى الله عليه وسلم.
صورة أخرى ومثال آخر: يقول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فجاء عدي رضي الله عنه، فوضع خيطين عند وساده أبيض وأسود، وأصبح ينظر إليهما، فلما استبان له الأبيض من الأسود أمسك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مداعباً: (إن وسادك لعريض -أي: كأنك قد توسدت الأفق- إنما هو سواد الليل وبياض النهار).
نحن الآن أمام خطأ في الفهم وقع من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخطأ في فهم هذه الآية، فظن أن المقصود هو أن يتبين له الخيط الحقيقي الأبيض من الأسود.
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها، أي بعبارة أخرى: إنكم تخطئون في فهم المقصود من هذه الآية.
إذاً: فكان هناك من يخطئ في فهم هذه الآية ممن كان يخاطبهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93]، فهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فهماً آخر، فمنهم من شرب الخمر متأولاً هذه الآية في عصر عمر رضي الله عنه، ثم دعاهم وقررهم بالحكم، لا يهمنا الآن بقية القصة وما يتعلق بها.
الشاهد: أن هناك من فهم من هذه الآية أن المؤمن ليس عليه جناح في أي أمر يطعمه أو يشربه إذا آمن بالله عز وجل، وعمل صالحاً.
يقول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، عروة بن الزبير رحمه الله سأل عائشة رضي الله عنها فقال: أرأيت قوله تعالى، ثم ذكر الآية، ففهم عروة رحمه الله من هذه الآية أنها تدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس واجباً، فصححت له عائشة رضي الله عنها هذا الفهم، وأخبرته بسبب نزول هذه الآية الكريمة.
لعلي أقتصر على هذه الأمثلة، وقصدت أن أمثل بالخطأ في فهم النصوص الشرعية، لما كان للجيل الأول من الاحتراز والتعامل مع النصوص الشرعية بعقلية كبيرة، ومع ذلك يقع بعضهم في هذا الفهم الخاطئ.
سوء الفهم أمر لابد أن يقع المرء فيه لأنه بشر، ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه أحياناً ملتبساً، أو مدعاة لسوء الفهم.
فأن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو نحاكم الجميع على سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100%، أتصور أنه مطلب غير معقول.
فلابد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟
ونحن لن نتحدث عن هذه القضية جملة، فلن نتحدث عن سوء الفهم وما يتعلق به، ولكن عن جانب من الجوانب، وعن مرض يحصل كثيراً في الساحة، وسببه سوء الفهم، ومن ثم سيتركز حديثنا حول هذه الظاهرة.
يكون آفة حينما يكون قاعدة يحكم بها على الآخرين، أي: أن أحكم على الآخرين من خلال فهمي لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، وتسمع هذه الكلمات التي تعبر عن أعمال القلوب: هو يقصد كذا، يريد كذا، يظهر خلاف ما يريد، يتظاهر بكذا، وكلها أمور تدور حول قضية قلبية، يعني: أننا قد تجاوزنا الظاهر إلى ما يخفيه ويعتقده صاحبنا، فقد أصبحنا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم على نوايا الآخرين، وأن نطلع على نوايا الآخرين.
إذاً: فحينما يكون قاعدة تجعلني أحاكم الآخرين دائماً إلى ما أفهمه من مواقفهم وأعمالهم وجهودهم، وما يقومون به، فهذه آفة، وحينئذٍ نقول لمن يكون كذلك: لا يسوغ لك أن تحاكم الآخرين إلى فهمك، قد تقول: ها أنت عرضت لي قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطئوا الفهم مع نص شرعي، فكيف لا أخطئ في الفهم أنا.
أقول: نعم، من حقك أن تخطئ الفهم، وبعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم، لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر.
حين أنقل عن الآخرين بناء على فهمي أيضاً هذا خطأ، وحينما أنقل يجب أن أكون دقيقاً في النقل، فأقول: قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، أو أنه يريد كذا، فمن حقك أن تقول هذا الكلام، لكن لا تنقل عن الآخرين شيئاً فتقول: إن فلان يقول كذا، أو إن فلان يعتقد كذا، أو يريد كذا، وتقتصر على هذا الكلام، ومعيار النقل وأساس النقل هو فهمك أنت.
وبعض الناس عنده منطق عجيب، مرة كان يناقشني شاب في مقال كتبته، فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا، فقلت له: يا أخي! أنا لا أقصد أحداً بعينه، وهذا وهم في ذهنك، فيقول: بل أنت تقصد! يعني: أنت الآن تخبرني بما أقصد وبما لا أقصد وبما أريد، إذا كنت أنا متهماً عندك بالكذب فليس هناك داع أن تناقشني، لأنني أصبحت كذاباً!
فأنت من حقك أن تفهم أني أقصد شخصاً، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به، لأنه حينما يكون سوء الفهم وسيلة للإلزام يصبح آفة، وسنأتي إلى الحديث عن الإلزام.
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب هذه الظاهرة، وقد نتحدث عنها بالتفصيل:
السبب الأول: سوء النية:
أحياناً يكون الرجل صاحب نية سيئة أصلاً، فهو مثلاً يسمع لفلان، لا لأجل أن يسمع له، ويقرأ لفلان وينظر إلى عمل فلان ويسأل، كل هذه الأمور لا لأجل أن يستفيد، وليس عنده استعداد أن يستفيد، إنما يبحث عن مدخل للطعن.
فهو إذاً سيئ النية ابتداءً، لكنه يقول لك: أنا لست بسيئ النية، أنا أعتقد أن هذا عدو للإسلام والمسلمين، أنا أعتقد أن هذا رجل سيئ، فمن باب الدفاع عن الدين سأقرأ له وسأسمع حتى أكتشف أخطاءه وأحذر منه الناس.
أحياناً يأتي شخص من المسلمين عالم أو طالب غيور، فيريد أن يقرأ لكاتب من الكتاب، ولنفترض أنه كاتب سيئ أو عنده انحراف، فيبدأ يقرأ بالمناقيش، وهنا لابد أن يقع أحياناً في سوء الفهم؛ لأنه يبحث عن الخطأ، بغض النظر عن موقفه هنا هل هو سليم أم لا.
لكن لماذا وقع في سوء الفهم هنا؟ لأنه يقرأ لأجل أن يبحث عن الخطأ، كما لو كنت تريد أن تقرأ ورقة مثلاً، فتبحث عن خطأ نحوي فيها، أو خطأ إملائي، فأنت لا يهمك الصواب ولا يهمك أي شيء، إنما تقرأ لتبحث عن الخطأ، وأن تصحح.
المهم أنك أصبحت تريد الخطأ وتبحث عنه، ومن ثم فستقع على الخطأ قطعاً، لكنك قد تقع على ما ليس خطأ، فمثلاً: لو كان الأخ مدرساً للغة العربية، فعندما أعطيه هذه الكلمة وأقول له: قيمها، فيمكن أن يقرأ الآن ويقول لك: هذه الكلمة فيها خلاف بين النحويين، وهذه لا تجوز، وهناك رأي يمنع هذا الشيء، أو هذه فيها احتمال، لماذا؟ لأنه يبحث عن خطأ.
لكن لو كان يقرؤها قراءة عادية متجردة قد يجد أنها لا إشكال فيها، وأن استعمالها سائغ، لكن عندما يقرأ ليبحث عن خطأ، سيجد أشياء هي أصلاً محتملة، لكنه سيحملها على المحمل الخاطئ لغة، أو الخاطئ في أي باب نبحث فيه ونناقش.
فيأتينا الآن مثلاً هذا الشخص فيقرأ، أو يسمع، أو يقيم عملاً معيناً، وهو يبحث عن الأخطاء، فسيقع على أخطاء، ويجب ألا نكون عاطفيين، فنقول: إن كل ما يتحدث عنه ليس أخطاء، بل سيقع على أخطاء، لكن هذا سيقع على كلمة تحتمل وجهين.
أنت عندما تسمع أو تقرأ ستجد الكلام يحتمل وجهين، ويحتمل عدة احتمالات، فعندما تقرأ وأنت تبحث عن الخطأ، فستحمل الكلام على الوجه الخاطئ وربما لا يحتمل.
وكم نجد من الناس من يقول كلاماً في كتاب، أو في مجلس، أو في مناسبة، ثم في مجال آخر يأتينا كلام يحتمل أنه يريد هذا الشيء، ثم في مجال آخر يصرح تصريحاً قاطعاً بخلاف هذا، ومع ذلك نرفض هذا الكلام، فنسلط الضوء على هذه العبارة الصغيرة، أو على هذا الموقف الصغير، وما سواه نرفضه.
وقد يقول: أنا لا أقصد كذا، وأنا لا أريد كذا، فيقال: لا، أنت تقصد كذا، وتريد كذا، يعني: بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد، وأعلم منك بما تقول، وإذا شككت في نيتك فعليك أن تسألنا، فنحن قد أصبحنا على مستوى من الاطلاع على النوايا.
إن هناك فئة ممن يأتي بسوء نية، قد لا يكون سوء النية قصد القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد لا يكون الحرب على الدين، فقد يكون دفعه إلى ذلك حسده لفلان من الناس، وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الغني المقدسي وغيرهم من أئمة أهل السنة من مضايقات، ومن تحميل كلامهم ما لا يحتمل، وقالوا: خالف الإجماع في هذه القضية، وفعل كذا، وفعل كذا، حتى عندما ناظروا شيخ الإسلام في الواسطية قالوا له: لماذا قلت: من غير تكييف ولا تمثيل، ولم تقل: ولا تشبيه؟ يعني: لك مقصد في هذه العبارة!
فأولئك منهم من كان صاحب علم، لكنه يحمله الحسد، ويحمله البغي، فصار عنده هذا الشعور، وكون نظرة معينة فصار يبحث لأجل هذه القضية.
ومن هذا القبيل النتائج التي يصل إليها المستشرقون في أبحاثهم، فالمستشرقون مثلاً يقرءون نصوص الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي، ويخرجون لنا بأقوال مضحكة، ويدعون تناقضات وأخطاء، إلى غير ذلك.
هناك عدة أسباب تحول بين المستشرقين وبين الفهم الصحيح، من هذه الأسباب: سوء النية، لأنه يقرأ ويبحث بنية معينة، فصار تلقائياً يفهم هذا الفهم، وينصرف إلى ذهنه مباشرة هذا الفهم السيئ، لأنه صاحب نية سيئة.
السبب الثاني: سوء الظن:
صاحبنا الأول يقصد النقد، ويسعى إلى النقد، ويهدف إلى النقد، ويهدف إلى سوء الفهم، لكن صاحبنا الآخر قد لا يكون كذلك، لكنه إنسان سيئ الظن، ولهذا سيسيء الفهم.
فبعض الناس الحساسين يقول زميله كلمة، فيقول: يقصد كذا وكذا، يريد كذا، ويحلل الكلمة ألف تحليل، فيسيء الفهم.
والله عز وجل ينهانا ويأمرنا باجتناب الكثير من الظن؛ حتى لا نقع في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فليس كل الظن إثماً، وإنما بعض الظن إثم، لكن يجب أن نجتنب كثيراً من الظن حتى لا نقع في هذا البعض من الظن الذي هو الإثم.
فعندما يسيء الإنسان الظن في شخص فلابد أن يسيء الفهم تلقائياً.
أنا أذكر شخصاً حساساً كان يناقشني في مشكلة، فقلت له: أسألك سؤالاً هل تعرف أنك حساس؟ قال: لا، لكن أنا عندي ظن وظن وظن وظن، فصارت يقيناً، قلت: عندك وهم ووهم ووهم ووهم فصارت يقيناً، والقضية كلها أوهام.
وتأتي إلى صاحبك فتقول له: أنت تسيء الظن، يقول لك: لا، فلا أحد يعترف أنه يسيء الظن أبداً، يقول لك: لا، هذا أصلاً إنسان سيئ.
فلماذا دائماً نحمل الكلمة على المحمل السيئ؟ ولماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ وأعمال الناس على المحمل السيئ.
إن المنطق العقلي البحت، ومنطق العدل المجرد مع الناس، يجعلني أتجرد من كل هذه القضايا، وأنظر إلى الكلام مجرداً عن كل الأوهام والتحليلات التي عندي، ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى، وإلى أعماله الأخرى، فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعاً.
أما عندما يكون عندي صورة متخيلة في الذهن عن فلان أنه يقصد كذا ويريد كذا، فلا بد أن أصل إلى هذه النتيجة السيئة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث).
كيف يكون الظن أكذب الحديث؟ يكون الظن أكذب الحديث لأنك تتوهم أن هذا صدق لا شك فيه ولا نقاش، وهو كذب، ويتجاوز الكذب إلى إخبار عن النوايا، فصار أكذب الحديث فعلاً.
السبب الثالث: وجود خلفية سابقة سواء كانت حقيقية أو متوهمة:
فمثلاً: أنت تأتي تريد أن تصلي الجمعة مع شخص، أو شخص يأتي إلى المجلس، أو مدرس يأتي إلى الفصل، أو إنسان يتحدث مع مجموعة في مناسبة، فيأتيك شخص قبل ذلك يقول: إن هذا عنده كذا وكذا وكذا، ويعطيك خلفية معينة عنه، فإنك عندما تسمع تنتظر الشواهد لهذه الخلفية التي وجدت عندك، فعندما يقول كلاماً، تقول: نعم، هذا أولاً.. ثانياً.. ثالثاً، إذاً صدق، وتصبح القضية مجزوماً بها، وهي مجرد خلفية كانت عندك، وقد تصل الخلفية عندك إلى حد اليقين، وليس لها أصل ولا مصدر في الواقع.
عندك نظرة عن فلان من الناس مثلاً أنه إنسان سيئ، أو إنسان مغرض، فعندما يتكلم، أو عندما تقرأ له، ستسمع وتقرأ بروح النقد.
أنا أجزم أني الآن لو آخذ كتاباً واحداً فيه أخطاء، وأعطيه لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، فأعطيه للشخص الأول فأقول: خذ هذا الكتاب واقرأه، وأعطيه للشخص الثاني وأقول له: اقرأ هذا الكتاب لكن احذر، فالكاتب عليه ملاحظات؛ فأنا أجزم أن الشخص الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لا يصل إليها الأول الذي أتى بدون خلفية مسبقة. ثم إن الثاني قد يتكلف أخطاء ليست أخطاء في الحقيقة، ويصل إلى نتائج متوهمة أصلاً، لأنه كان عنده خلفية سابقة مبنية على أوهام.
إذاً: فيجب أن أتعامل مع الناس تعاملاً مجرداً، فأزيل هذه الخلفية، لأن الأوهام تتطور أحياناً حتى تصل إلى يقين لا نناقش فيه، وهو أصلاً ليس عنده استعداد أن يناقش في هذه الخلفية المسبقة أن هذا الكاتب -مثلاً- ينتمي إلى جماعة معينة، ويتبنى فكر هذه الجماعة وما تدعو إليه، وأن هذه الجماعة من الجماعات تقصد كذا، وأن هذا الرجل عنده كذا، وأن هذا الرجل له هذا الاتجاه الفكري، أو هذا الاتجاه العلمي، أو المذهبي، .. وإلى غير ذلك.
فلماذا هذه الخلفية تعشعش في ذهني، وتكون قاعدة انطلق منها في الحكم على الآخرين؟
السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص:
فبعض الناس حاد الطبع، ولهذا قد يقول كلاماً لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، ما في قلبه يخرج على لسانه، وقد يغضب فيغلظ عليك الكلام، وحتى كأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، وليس في قلبه أي شيء.
أنا أذكر أستاذاً لنا لا أدري ما أخباره غفر الله له وجزاه عنا خيراً، وهو رجل فاضل، لكن كان شديد الغضب بشكل عجيب، وأحياناً يغضب عليك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتتخيل أنه سيهم بالبطش بك، وفي نفس المحاضرة تخرج معه وتسلم عليه، فيحدثك ويبتسم لك، وما في القلب أي شيء، وتذهب أنت وهو إلى القسم وليس في قلبه أي شيء إطلاقاً.
نحن ما عندنا مشكلة عندما يتكلم معنا، وعندما يقول لنا هذا الكلام، لأننا نعرف أن طبيعة الشخص حادة، والإنسان الحاد يقول كلاماً غير مدروس ولا موزون، فطبيعته أنه يتعجل، ويغضب، والمهم أننا يجب أن نعرف شخصيته؛ حتى نزن كلامه.
الشخص الآخر: إنسان بارد، وهادئ الانفعال، هذا الآخر أيضاً قد يكون في خاطره شيء، لكنه لن يقوله لي؛ لأن الرجل غير صريح، فطبائع الناس تختلف.
وهنا لا بد أن أضع في الذهن أن طبيعة الشخص نفسه تؤثر على كلامه، وعلى حديثه، وعلى أعماله، وعلى قراراته، وعلى مواقفه، وعلى نظراته، فالحكم المتزن هو الذي يأخذ في الذهن طبيعة الشخص.
أيضاً ظروف الزمان والمكان: فمثلاً قد يقول كلاماً في مكان معين فيه ملابسات معينة، وفيه أوضاع معينة، فيدعوه إلى أن يتحمس لهذه القضية أكثر، أو العكس، فقد يتجنب بعض الأمور مراعاة لعامل المكان، أو عامل زمان معين.
المهم أنه يجب ألا تأخذ الكلام مجرداً عن هذه الظروف التي قد تؤثر على كلام الرجل، وعلى ما يريده.
كذلك نقطة ثالثة وهي الموضوع الذي يتحدث عنه، فمثلاً: الآن أنا لو أتحدث معكم عن القراءة، وأهمية القراءة لطالب العلم، فسأتحدث بالتفصيل عن أهمية القراءة، وأنك يجب أن تقضي وقتاً طويلاً في القراءة، وسيدور الكلام كله حول هذا الموضوع.
أنا أجزم أنه في نهاية المحاضرة سيأتيني سؤال يقول: نفهم من كلامك أنك تقلل من شأن مجالس العلم، وماذا عن دروس العلماء؟
يا أخي! أنا لا أتكلم عن منهج طالب العلم، أنا أتكلم عن موضوع معين.
مثلاً: عندما أتحدث عن الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة، والحاجة إليها، وأحث الناس عليها، ويجب أن نوظف طاقاتنا وجهدنا في الدعوة، إلى غير ذلك.
أجزم أنه سيأتيني سؤال آخر، هذا السؤال الذي يأتيني عبر عن فهمه، لكن يوجد ناس ما عبروا عن فهمهم، وهو أن معنى المحاضرة أنك تقلل من العلم الشرعي.
أنا لم أتحدث الآن عما يجب على الشاب أن يعمله، ولم أتحدث عما يجب على المسلم، فأنا أتحدث عن موضوع وعن جزئية من الجزئيات.
عندما أتحدث مثلاً عن أهمية طلب العلم والحرص عليه، فيأتيني شخص آخر يقول: أين الحقوق الخاصة للإنسان؟ هل نفهم من كلامك أن الإنسان يعطل مصالح أهله لأجل طلب العلم؟ ونفهم من كلامك أن الإنسان يترك الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتفرغ للعلم؟ إلى غير ذلك.
قد أتكلم عن أهمية رعاية الموهوبين والتركيز عليهم، وأن الطلبة الأذكياء الذي يجب أن نعتني بهم، وننظم لهم برامج خاصة، وأتكلم كل كلامي حول الموضوع هذا، فيمكن أن يأتيني سؤال يقول: وهل يعني هذا أن الناس الذين هم أقل كفاءة غير مكلفين شرعاً؟ وهل يعني أن الدعوة خاصة بهؤلاء، فالإسلام عام للجميع، والدعوة عامة للجميع؟
يا أخي أنا لم أتكلم عن الدعوة أصلاً، أنا أتكلم عن جزئية وعن قضية من القضايا، فيجب أن تفهم بالضبط ما أريد، وهذه كثيراً ما نقع فيها.
ومن الطبيعي أن الذي يتكلم عن موضع يبالغ فيه نوعاً ما.
فمثلاً: نفترض أنني أتحدث عن موضوع رعاية الموهوبين، والعناية بالأذكياء، والحرص على استصلاحهم وتربيتهم، فأنا أنزل بثقلي حول هذا الموضوع؛ لأجل أن أقنعكم بالقضية.
فقد يكون عندي مبالغة في الألفاظ، وقد أعطي الموضوع زخماً؛ لأجل أن أقنعك به؛ لكن عندما أجلس معك ونتناقش بهدوء، أقول لك: أنا لا أقصد هذا، ولا أريد هذا، فأنت يجب أن تضع في الذهن أنني أتحدث عن موضوع معين.
إذاً: الحديث عن موضوع معين لا يعني بالضرورة أنني أهمل ما سواه، أو أنني أخطئ ما سواه، ثم أيضاً طبيعي جداً أن الإنسان الذي يتحدث عن موضوع معين ينزل فيه بزخم، ويتحدث فيه بقوة، وقد يأتي أحياناً بعبارات فيها مبالغة، أو يأتي بكلام فيه نوع من المبالغة التي لا ينجو منها بشر، فالبشر من الطبيعي أن يقعوا في الخطأ.
السبب الخامس: تنزيل الكلام على معين:
فأنا أتحدث عن قضية من القضايا فأقول: إن بعض الكتاب، أو بعض الدعاة، أو بعض الخطباء -فأتكلم كلاماً عاماً- يريد كذا، أو يفعل كذا، ويقول كذا، ويقع في هذا الخطأ، والخطأ الفلاني، فمباشرة بعض الناس يبدأ يقول: يقصد فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً.
وقد قلت لكم: إني بذلت جهداً حتى أقنع شخصاً أني لا أقصد أناساً بعينهم، فقلت له: ليس عندي أشخاص، فأنا أتحدث عن ظاهرة من الظواهر، فقال: لا، الناس الذين تقصدهم فيهم كذا، ولا يقعون في هذا الخطأ، فقلت له: يا أخي! أنا ليس عندي أشخاص أقصدهم، وقلت له: يا أخي الكريم! مشكلتك معي مشكلة واحدة أنك تنزل الكلام الذي أقوله على أشخاص معينين، فلو أزلت هذه القضية لما صارت بيني وبينك مشكلة، فالنتائج نحن متفقون عليها كلنا، لكن المشكلة هي أنك نزلت هذا الكلام على شخص معين، أو على جهة معينة.
فأنت حين يكون عندك شعور بهذه القضية، فعندما آتي أتكلم تقول: إذاً من يقصد هو الآن؟ احتمال أنه يقصد رقم (أ) ننظر هو وارد أو غير وارد؟ احتمال أنه يقصد (ب)، واحتمال أنه يقصد (ج)، وأخيراً بعد البحث والتحليل والمناقشة وصلنا إلى نتيجة أنه يقصد فلاناً رقم (ج) مثلاً، ومن ثم خذ ما يترتب على ذلك.
فعندما ننزل الكلام على معين لابد أن نسيء الفهم، أما عندما نأخذ الكلام ككلام عام ولا ننزله فإن الأمر يكون سهلاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فكان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام نستعمل أحدهم على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي)، وكان صلى الله عليه وسلم يقصد شخصاً معيناً ومعروفاً.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) كان يقصد أقواماً معينين.
لكن هذا شيء، وأن تكون القاعدة عندنا أن ننزل الكلام على معينين، وبناءً عليه نسيء الفهم؛ فهذا شيء آخر لا يصح.
السبب السادس: القول باللازم:
يعني أن أقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، فعندما أقول مثلاً: إن الأساتذة في المدارس هم البوابة لهذا المجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل، ويتحملون المسئولية عن صياغة الجيل، وإلى غير ذلك، فيأتيني إنسان يقول: يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة، وأن خطباء الجوامع ليس لهم قيمة، وأن القضاة ليس لهم قيمة، وهكذا يرتب على كلامك لوازم معينة.
وتعرفون أنتم القاعدة الشرعية عند أهل العلم في التعامل مع اللازم، فيقولون: لازم الكتاب والسنة حق، أما لازم المذهب فمسألة يبحثها العلماء، فلازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ يعني: لازم قولي أنا هل هو قول لي أم لا، حتى أفترض أنه فعلاً يلزمني.
فباختصار: ليس هذا وقت تقرير هذه المسألة، لكن نقول: هذا اللازم له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تلزمني به فألتزم، أي: أن تقول لي مثلاً: إنه يلزم من كلامك كذا وكذا، أقول: نعم، أنا أعتقد كذا وكذا، الآن صار هذا قولاً لي بلا إشكال.
الحالة الثانية: أن تلزمني به فلا ألتزم، بأن تقول مثلاً: إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول لك: لا يلزم من كلامي كذا وكذا، أو أنا لا أقصد كذا، فالآن لا إشكال أنه ليس قولاً لي.
لكن هناك شخص ليس عنده قاعدة، تقول له: أنا لا أريد كذا، أنا أعتقد كذا، فيقول لك: بل أنت تعتقد كذا، وتريد كذا، فهؤلاء ليس لنا معهم حديث، هذا إنسان سيئ النية، أو إنسان مغرض، أو عنده مشكلة ثقة، وأزمة ثقة، وليست القضية قضية فهم.
الحالة الثالثة: وهي التي يقع فيها النقاش الآن، وهي أن يفتي فلان بفتوى، أو يذكر في كتاب رأياً أو قولاً فيلزم منه كذا، فهل يمكن أن نقول: إنه يعتقد كذا، أو يرى كذا، فأفتى في مسألة فقهية معينة، كأن قال مثلاً: من فعل كذا فإن طهارته باطلة، فنقول: إنه يلزم منه مثلاً أن صلاته باطلة، ويلزم منه كذا وكذا، فهل نلزمه بهذه الفتوى؟
فنقول مثلاً: عندما يفتي الإمام أحمد بفتوى، فيلزم منها فتوى أخرى أو رأي آخر، هل نقول: إن الإمام أحمد يرى هذا اللازم فنجعله مذهباً له أم لا، وذلك بدون أن يلتزمه أو ينفيه؟
الصحيح أن لازم القول ولازم المذهب ليس مذهباً؛ لأن الإنسان بشر، قد تقول: إن كلامك يلزم منه كذا، فأقول: أنا أعترف لك أن كلامي يلزم منه كذا، لكني لا أعتقد هذا، فنتيجة حماس إنسان، أو نتيجة موقف مناظرة، أو نقاش مثلاً قد يقول كلاماً غير موزون، فيغيب عنه اللازم؛ لأن الإنسان بشر، أو قد لا يسلم لك، فيقول: لا أسلم لك أصلاً أن هذا يلزم منه كذا وكذا.
على كل حال ليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية، المقصود منها: أن لازم المذهب ليس مذهباً، وأن لازم القول ليس قولاً، خاصة أننا نفرط في اللوازم.
السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع:
إنسان يتكلم في موضوع لم يدرك أطرافه إدراكاً كاملاً، فمثلاً: شخص كتب كتاباً عن مشكلة من المشاكل، فأتيت أنت وقرأت مقطعاً منه، وانتزعت المقطع، ففصلته عما قبله وما بعده فتعطيني إياه، فأقول لك: نعم، ما في شك أن هذا يحتمل كذا وكذا، لكن لو كنت أعرف الموضوع الذي يتحدث عنه، وأدركت أطراف الموضوع كله، سأفهم القضية فهماً آخر.
دعونا نضرب مثالاً في هذه المحاضرة: واحد ما حضر معنا الجزء الأول، عندما يأتي يقول: أنت الآن تشن حملة على من يسيء الفهم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في خطأ في الفهم، وكلامك يلزم منه أنك تنتقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أنك سيئ المعتقد لأن قلبك ليس سليماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا لو أدرك أطراف الموضوع كله؛ لعلم أني تحدثت عن هذه القضية، وإذا كان يلزم من كلامي هذا فأنا لا ألتزم، فهو أحياناً لا يعرف ما هي المشكلة، فكم يثار نقاش حول قضية من القضايا بين عالمين فيدخل فيها أفواج لا يعرفون ما هي القضية أصلاً، ولا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب القضية موضع الخلاف.
السبب الثامن: الربط المتكلف:
أن يقول كلاماً هنا وكلاماً هناك، فيربط بينها برابط، فيقول مثلاً: أنا عندما آخذ كلامك في هذه المحاضرة، وكلامك الآخر الذي قلته في خطبة الجمعة، والكلام الذي قلته في الفصل، والكلام الذي قلته في المجلس، سأحصل على نتيجة معينة.
أو أنت قلت كلاماً، وفلان قال هذا الكلام، إذاً: هذا دليل على أن بينكما ارتباطاً وتنسيقاً، وهذا يعني أنك توافق فلاناً على هذا الاتجاه.
بعض الناس عنده استعداد أنه يربط مباشرة افترض أني أقول: قال فلان من الناس، فعندما تقول: قال فلان، فهذا يعني أنك لك به علاقة، أو أنك تقول بأخطائه، ففلان يقول كذا وكذا، وحين تستشهد بكلامه فهذا يعني أنك تقره، أو أن بينك وبينه علاقة.
وكم نرى أحياناً من اتهامات ليس لها أساس، مثل أن فلاناً له علاقة مع فلان، أو أن فلاناً ينتمي إلى مدرسة فكرية أو مذهبية، أو إلى توجه معين، وفي النهاية كلها أوهام مع أوهام حتى تصل إلى قناعة عندنا.
السبب التاسع والأخير: التصحيف، وركاكة الفهم:
فالتصحيف مثلاً أن يقرأ كلمة قراءة خاطئة، أو يسمعها سماعاً خاطئاً، وهو مشهور عند أهل الحديث، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم احتجر موضعاً في المسجد، فرواه أحد الرواة: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) فجعل بدل الراء ميماً.
ومن التصحيف في اللفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)، رواه أحد الرواة فصحفت عليه فرواه: وأتبعه شيئاً من شوال.
وهذا مبحث مشهور عند المحدثين.
ومن التصحيف التصحيف في المعنى، فمثلاً: أبو موسى العنزي قال: صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قبيلة عنز، وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة، فتوهم أنه صلى إلى قبيلة عنزة، بينما العنزة معروفة وهي العصا، فهذا الآن ما تصحف عنده اللفظ، لكن تصحف عنده الفهم والمعنى، وهذا مشهور في كتب مصطلح الحديث.
بل هناك كتب خاصة في التصحيف وأغلاط المحدثين، تجد فيها نماذج وأمثلة حول هذا، ومنها أمثلة طريفة، وأنا أذكر مثلاً أننا كنا مرة في مناسبة فقرأ واحد في مجلس ورقة فيها خبر، وفي النهاية قال: حرر في بيت فلان وفلان، فأدخل الورقة، وجلسنا نتناقش، فقال واحد: إن بيت فلان حرق، فتناقشنا كيف حرق؟! ونحن جازمين بالنتيجة، قال: قرأها الأخ في الورقة، سمع (حرر)، فرأى أنها (حرق).
وأحياناً ركاكة الفهم، بعض الناس كما يقال:
تقول له زيد فيكتب خالداً ويقرؤه عمراً ويفهمه بكراً وفهمه ثقيل، وهذا ليس له حل، لكن نقول له: إذا كان فهمك ثقيلاً، فلا تحاكم الآخرين إلى فهمك.
فبعض الناس بليد لا يفهم؛ ولهذا يلزم الآخرين بفهمه، وهو حسن النية، وليس عنده أصلاً سوء ظن، ولا تصحيف ولا تحريف، لكن فهمه لا يمكن أن يصل به إلا إلى هذا الحد.
ولهذا أيضاً ينهون عن أن يحدث الناس بما لا يعرفون: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟!
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة).
فهناك طبقات من الفهم والاستيعاب، فيجب أن نراعي هذه القضية، فأنا عندما أتحدث مع عامة، أو طلاب صغار، قد يكون الكلام حقاً، لكن قد لا يسوغ أن أقوله أمام العامة؛ لأن عقولهم لا تبلغه، فهناك من عقله لا يبلغ فهم هذا الأمر، فيفهم فهماً سيئاً.
بعد ذكر هذه الأسباب ننتقل إلى بعض المقترحات للعلاج، ونحن عندما ندرك الأسباب سندرك العلاج مباشرة، لكنني سأشير إشارة عاجلة إلى بعض الأسباب المهمة التي يمكن أن تعيننا على التخلص من نتائج سوء الفهم:
أولها: حسن الظن بالمسلمين:
أي: أن تكون القاعدة عندنا حسن الظن بإخواننا، وكم ترى ممن يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يجد لهم ألف تأويل، أما إخوانه فلا يمكن أن يجدوا تأويلاً لديه، فضلاً عن أن يكون الأصل عنده حسن الظن.
فأين القواعد الشرعية يا إخوة؟! فكم تغيب عنا هذه المعاني، فالأصل أن يحسن المرء الظن بإخوانه المسلمين، فعندما يقول المسلم كلاماً يحتمل (أ) ويحتمل (ب) فيجب أن أحمله على أحسن محمل، فأقول مثلاً: فلان قال هذا، لكن هذا القول لا يليق به، فلا أتصور أنه يقصد كذا، أو لا أتصور أنه يريد كذا، إنما أتصور أنه يريد الأمر الآخر.
وأحياناً يكون الاحتمال (أ) بنسبة (80%)، لكن الاحتمال (ب) بنسبة (20%)، ويكون الاحتمال (ب) هو الأولى ظناً؛ فينبغي أن أحمله على هذا المحمل.
ثم ما المشكلة عندما أحسن الظن بفلان، وأكتشف أنه على خلاف ذلك؟! لا توجد مشكلة.
وكم نرى ممن يقيم معارك داخل الصف لأجل قضايا تافهة كلها كانت ناتجة عن إهماله لهذا الأدب الشرعي، ألا وهو حسن الظن بإخوانه المسلمين.
فنحن يجب أن نحسن الظن بالمسلمين ابتداءً، فضلاً عن طلبة العلم، فضلاً عن أهل العلم والدعاة، والناس الذين يتصدون لخدمة دين الله عز وجل، ولا يسوغ أن يقرأ المسلم الخير العادي في الصحف، أو يسمع تقارير سياسية عن الدعاة، فيحملهم على هذا المحمل وهو قد جرب على هذه الصحف كذباً، فكم نقرأ في صحف أو وسائل إعلام نعرف أنها سيئة عن بعض المشاكل التي تحصل في الخارج، فنحكم على إخواننا من خلال ما قاله هؤلاء، ولا نحسن الظن بإخواننا.
فأقول: يجب أن تكون عندنا قاعدة أن نحسن الظن بإخواننا المسلمين عموماً، فضلاً عن الناس الذين يتصدون للخير، والذين ظاهرهم الخير والصلاح.
نعم، هناك من يتستر، وهناك أناس سيئون، لكن لا يمكن أن تقودنا الغيرة على الدين والإسلام إلى أن نفتش عن الأخطاء والعيوب.
خطوة أخرى أيضاً: ألا نعمد إلى تتبع عورات الناس وزلاتهم، ومن تتبع عورات إخوانه المسلمين تتبع الله عورته؛ حتى يكشفه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب، عافانا الله وإياكم.
والبشر لابد أن يقعوا في الخطأ أياً كان، لكن حين لا نسأل إلا عن الزلات، ولا نبحث إلا عن الأخطاء، فلابد أن نصل إلى مثل هذه النتائج، وهب أن فلاناً أخطأ، أو قال ما لا يليق، أو فعل ما لا يليق، فإن هذا لا يصح أن يكون مدعاة إلى أن تبحث عن مرادف لهذا الخطأ، ثم تبحث عن ثالث، ثم عن رابع؛ حتى تصل إلى نتيجة وقناعة تريدها نفسك.
ثالثاً: الدقة في النقل:
فأنت عندما تنقل يجب أن تنقل الكلام بلفظه وحروفه، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك، وليس هذا هو ما يقصده.
وأيضاً يجب أن نفرق، فقد يحدثني شخص صالح موثوق، لكنه يحدث عن فهمه هو، وعن تقييمه هو للقضية.
فمثلاً: رجل صالح لا أشك فيه، ولا يمكن أن يتعمد الكذب، لكنه ينخدع بالظواهر، فجاء إلى بلد والتقى بمجموعة من الناس، فحدثوه عن فلان، فجاءنا فقال: رأيت أهل البلد يقولون كذا وكذا، أو جاء فرأى موقفاً وحكم عليه هو، فأنا عندما يقول لي: قال فلان كذا وكذا، لا أتهمه، لكن عندما يأتيني بفهمه هو، ففهمه ليس ثقة، فيبقى مجال للنقاش، عندما يروي لي رواية للحدث فيقيم هذا الحدث، يجب أن نفرق بين روايته هو وبين حكمه وتقييمه للنتيجة التي وصل إليها.
رابعاً: الجمع بين المتفرق:
من العجب أن تجد شخصاً يلزم بمسألة وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، أضرب لكم مثالاً عن سيد قطب رحمه الله فقد كان أديباً، والأديب يستطرد، فقال في سورة (قل هو الله أحد): إن المسلم يشعر بأن هذا الوجود صادر عن واحد، فلا يرى إلا الله سبحانه وتعالى. فهذه عبارة توهم منها أنه يرى وحدة الوجود، فجاء البعض وقال: إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو قد صرح في موطن آخر أنه لا يرى وحدة الوجود، وصرح بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم، وانتقد ما هم عليه، فهذا الكلام يعطيك قناعة أن الرجل ما يعتقد هذا، وإلا لما صرح به.
الرجل كان له مواقف مع جمال عبد الناصر ومع حمزة البسيوني ، ومع غيرهما من الطغاة؛ فهل كان يعتقد أن جمال عبد الناصر هو الله مثلاً؟ لأن أصحاب وحدة الوجود يرون أن كل شيء هو الله، لو كان يعتقد أنه الله لما حدثت بينهما مشكلة.
عندما نكون منصفين فسنصل بداهة إلى هذه النتيجة.
صورة أخرى أيضاً من الشخص نفسه، عندما تحدث عن الكون وخلق الله عز وجل، يقول: إن المسلم يرى أن هذا الكون من خلق الله عز وجل، فهو يحب كل ما في هذا الكون؛ لأنه يرى أن هذا الكون صادر عن الله عز وجل، هذه عبارة شخص أديب، فجاء رجل فاضل، فقال: هذا يترتب عليه أنه يحب الشياطين، ويحب الكفار! مع أن له مواقف واضحة من اليهود والنصارى والكفار .. إلى غير ذلك.
شخص يقول كلاماً فيفهم منه أنه يرى رأياً ما، بينما تراه قد ألف كتاباً كاملاً في تفنيد هذا الرأي ومناقشته، فهل يمكن أن نتهمه بعد ذلك بأنه يقول هذا الرأي؟!
هذا منطق غير مقبول، ولهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان عندما نريد أن نحكم عليه، فننظر ما عنده، وما هي منطلقاته، فأنا مثلاً أقول هذا الكلام عن سيد قطب رحمه الله، فيأتيني شخص ويقول: إنه ما وقع في خطأ؟ فأقول له: بل وقع في خطأ، فهو يخطئ مثلما يخطئ غيره، لكن لا يدعونا هذا إلى أن يكون الخطأ عندنا هو القاعدة، وأن نحاكم الرجل على كل موقف قاله، فنبدأ نقيم ونراجع، وأنه يقصد كذا ويقصد كذا، وكذا غيره من علماء الإسلام السابقين، الذين ألزموا بلوازم لا يقولون بها أصلاً.
هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع، وأرجو ألا أكون أنا وقعت في سوء الفهم حين تحدثت عن سوء الفهم، وأيضاً ألا يساء فهم ما قلته وأنا أتحدث عن سوء الفهم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل، ونترك بقية الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة.
السؤال: كيف أرد على من يسيء الظن أو الفهم بحجة مقنعة، مراعياً في ذلك أصناف الناس من سمح ومتكبر ومعاند؟
الجواب: أولاً: هذا حكمك على الناس، أنت عندما تقول: فلان متكبر، وفلان معاند، هذا حكم، وليس بالضرورة أن أقبله، فهو حكمك أنت، ونتيجة وصلت إليها أنت، قد لا نوافق عليه.
ثم سوء الظن قد نهى عنه الشرع، وقلت لكم قاعدة: سيئ الظن لا يعترف لك أنه سيئ الظن، يقول: أنا لا أسيئ الظن، ولو اعترف أنه سيئ الظن لانتهينا.
فمثلاً: الرجل المسرف لا يعترف لك أنه مسرف، يقول: هذا وضع طبيعي، البخيل لا يعترف أنه بخيل، كل صاحب مشكلة لا يعترف، لأن هذه ألفاظ مباشرة مرفوضة يتعلق بها المدح أو الذم، فسيئ الظن لا يعترف لك أصلاً بأنه سيئ الظن، حتى تقول له: اجتنب هذا السوء.
السؤال: هل هناك فرق بين سوء الفهم وسوء الظن؟
الجواب: نعم، سوء الظن قد ينتج عنه سوء الفهم، فسوء الظن شيء في القلب، فأنا عندي عدم ثقة بالناس عموماً، أو بشخص معين لسبب أو لآخر، فسوء الظن قضية داخلية، وسوء الفهم هو فهمي لتصرف أو لعمل، أو لكلام.
وقد يكون بينهما ارتباط وثيق، لكن هذا لا يعني أنهما شيء واحد، فقد يكون هناك سوء ظن وليس سوء فهم، وقد يكون سوء فهم ناتجاً عن عدم سوء الظن.
يعني: أنا أحسن الظن بفلان، لكن أسأت الفهم لأن فهمي غير دقيق، أو ما تصورت أطراف الموضوع، وقد يكون سوء الفهم من رجل خير، فلا يعني هذا أن سوء الفهم دلالة على سوء الإنسان، وسوء قصده، وسوء ظنه.
السؤال: قضية من يسيئون الفهم في الدعاة، وفيما يقولون وما يكتبون، ويتخذون هذا مجالاً للتكلم في أعراضهم، والوقوع في نياتهم ومقاصدهم.
الجواب: أولاً: هؤلاء لا يستحقون أن نجعل منهم قضية ومشكلة نتحدث عنها، لكني فقط ألفت أنظاركم إلى قضية لتتأملوا فيها، وهي واقع هؤلاء، ماذا يعملون؟ وماذا يقدم مثل هذا الرجل؟ لا يعمل شيئاً؛ هناك ارتباط عكسي بين كثرة الانتقاد وبين العمل، فأكثر الناس انتقاداً لهؤلاء الدعاة والعلماء لا يعمل شيئاً.
أنت ترى بعض الدعاة والعلماء وقته كله مليء، وتحتاج منه موعداً فلا تستطيع أن تحصل منه على وقت، لأنه رجل عامل يجاهد، وهذا إنسان فارغ، مرة في بيت فلان، ومرة في بيت فلان، ومرة في المناسبة الفلانية، فأنا أقول: يكفيك من شؤم هذا المسلك أن أصحابه غير عاملين، لا يقدمون شيئاً، ولا يعملون شيئاً، العمل الوحيد الذي يقدمونه هو تفكيك الصف.
نحن بحاجة إلى عمل، أنا أسألكم: نحن الآن في مجتمعاتنا الإسلامية جملة نعاني من أزمات، ومن الحكم بغير ما أنزل الله، ومن تنصير وتغريب للأمة، وانتشار للفساد الأخلاقي، وحرب على الإسلام، وحرب على الصحوة الإسلامية، وجهل بالعقيدة، وخطأ في الأخلاق والسلوك، وجهل بالعبادة، وأمراض كثيرة، فماذا قدمت أنت تجاه هذه القضايا؟ إنه لا يقدم شيئاً، فجهده كله مصروف لهذه القضايا.
أما الشباب الذين يسهرون على الفساد والسوء، فلا يمكن أن يذهب ولينصحهم، وليس عنده استعداد، لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة في مواجهة المنصرين ودعاة التغريب، بل ربما تراه يدافع عن هؤلاء، وربما ينفذ مخططات لهم من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر.
فأنا أقول: القضية لا تستحق أن نتحدث عنها، لكن عندما تنظر إلى هذا الجانب الوحيد ترى أن هؤلاء أقل الناس عملاً، وهذا طبيعي، فالرجل الجاد لا تشغله هذه القضايا، ثم هذا لا شك أنه ناتج عن سوء ظن، أو عن سوء قصد.
أنا أعرف كثيراً منهم خيرين ليسوا سيئي النية أصلاً، وبعضهم يرى أن هذا من الدين، لكن هذا مبلغه من العلم، وهناك من يدفعه الحسد، وهناك من يدفعه أمر آخر، وهناك من له مقاصد أخرى.
السؤال: هل هناك حالات لسوء الفهم يثاب عليه، وإذا لم يكن فالصحابة الذين اختلفوا في القصة المعروفة في قصة بني قريظة، هل بعضهم يثاب وبعضهم يعاقب؟
الجواب: سبق أن أشرت في البداية إلى أنه قد يحصل، ويجب أن نتأدب مع الصحابة ولا نقول: سوء فهم، نقول: خطأ في الفهم، أو خطأ في الاجتهاد، فقلت: إن هناك قدراً طبيعياً لابد أن يقع فيه الإنسان، والأخ نبهنا إلى أنه قد يأتي مجتهد إلى نص من النصوص فيخطئ في الفهم فيه، فيثاب ثواباً واحداً على الاجتهاد، لكنه لو أصاب فسيثاب ثوابين على الاجتهاد والصواب، لكن نحن لا نتحدث أصلاً عن سوء الفهم كله جملة، إنما نتحدث عن جانب من الجوانب التي ينتج عنها سلوكيات خاطئة، ومواقف خاطئة.
السؤال: قد يكون هناك مجموعة من الشباب فيهم الجديد على الالتزام، وفيهم من قطع شوطاً في هذا الطريق، فلو وضع برنامجاً مكثفاً فسوف ينفر الجديد، ولو وضع برنامجاً خفيفاً فلن تتحقق التربية الجادة القديمة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
الجواب: يمكن ألا نسير الناس في وتيرة واحدة، وأن نضع مثلاً خطاً عاماً يسير عليه الجميع، ثم نضع نقاطاً أخرى، ومجالات أخرى، وبرامج أخرى لمن هو طموح ومتطلع.
فأضرب لكم مثلاً: أنا عندي مجموعة من الطلاب في حلقة قرآن يحفظون، فعندما أقول: كل يوم تحفظون صفحة، وهم خمسة عشر طالباً، فالنتيجة أن اثنين أو ثلاثة ليس عندهم قدرة على أن يحفظوا صفحة كاملة أصلاً، واثنين أو ثلاثة عندهم قدرة أكثر، فعندما نضع خطاً واحداً وبرنامجاً واحداً للجميع، سنقع في هذه الإشكالية.
فكذلك البرامج يجب أن يكون فيها تنويع، بحيث تخدم الجميع، فهذه المشكلة تحصل كثيراً في المراكز الصيفية؛ لأن المركز يكون فيه عدد كبير من الشباب، فيهم طلبة علم، وفيهم ناس حديثو عهد بالالتزام، وفيهم مستويات مختلفة، فعندما أضع برنامجاً واحداً للجميع يحصل إشكال، إذا راعيت هؤلاء نزل البرنامج، وإذا راعيت هؤلاء تأثر أولئك، لكن عندما أضع خطاً عاماً، ثم أضع مجالات أخرى لغيرهم، أظن أنه بهذه الصورة أستطيع أن أوازن بين الشريحتين.
السؤال: إذا كان هناك إنسان موضع لسوء الظن، فرأيته في موطن ريبة، فوقع في نفسي بعض الشيء، وأخبرت بعض الناس، فهل علي ذنب في ظني فيه؟ وهل علي ذنب في الإخبار بما وقع؟
الجواب: أنا أفهم من سؤال الأخ أنه يتحدث عن حالة لإنسان سيئ أصلاً، صاحب فجور، ورأيته في السوق، أو رأيته يدور حول بيت، أو رأيته مع شخص من الناس، فأسأت به الظن، فهل ينبغي له أن يخبر أم لا؟
هذه هي القضايا المتقررة عند العقلاء، يعني رجل مشهور بالفحش والسوء، ثم أراه مع شخص صغير مثلاً، فمن حقي أني أخبر والده، ومن حقي أن أنهاه، فهذا مجال لسوء الظن، لكن عندما تكون القاعدة أنك كلما رأيت شخصاً كبيراً مع شخص صغير أسأت الظن، فهاتان صورتان يجب أن نفرق بينهما.
إنسان شاب مثلاً أراه يدور في السوق، ويذهب ويأتي، فأنا أعرف الآن من خلال رصد الموقف وشخصيته فسأصل إلى نتيجة أن هذا الرجل صاحب نية سيئة مثلاً، أو شخص واقف عند مدرسة بنات بطريقة معينة، فالنظرة العامة أدت إلى نتيجة، قد تكون نتيجة خاطئة أحياناً، وقد تكون مصيبة، لكنها غالب الظن، فلا يمنع من أن أتخذ موقفاً معه، لكني أيضاً لن أعاقب هذا الشخص وأتخذ معه موقفاً حاسماً وعقوبة، لكن قد يناقش، وقد يعاقب؛ لأنه أوقع نفسه في موطن التهمة، وحتى يؤدب غيره ولا يجترئ، فهذه صورة غير التي تحدثنا عنها في قضية سوء الظن.
السؤال: هناك موضوع درسناه وحفظناه منذ الصغر في المساجد والمدارس وفي البيوت ألا وهو موضوع الغيبة، يعرفها الصغار والكبار، إلا أنه في هذا الزمان توسع الموضوع حتى ضاقت حدوده، حتى عند أهل الخير والصلاح، فما هي هذه الحدود التي نلتزم بها؟
الجواب: الحدود التي نلتزم بها أن الغيبة حرام كلها حرام، إلا ما ترتب عليه مصلحة شرعية مثل: التظلم، أو الاستفتاء، أو التحذير من رجل ضال ومبتدع، أو استشارة في زواج أو غيره، فأنا أريد أن أشارك شخصاً، فأستشير شخصاً يعرفه، فيقول لي: لا، يعرف أنه خائن مثلاً، الآن استشرته وهو مؤتمن، فيجب أن يشير عليك، أو إنسان يريد أن يخطب مني، فسألت عنه، فيجب أن أقول كل ما أعرف عنه، ولا يعتبر هذا غيبة.
فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، خطبها فلان وفلان، فقال: (أما فلان فصعلوك لا مال له، وأما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه، وانكحي فلانً).
فالحدود واضحة، أنا أتصور أن ليس عندنا مشكلة مع الحدود، لكن أن نستهين بالأمر ونتساهل، ثم إذا وقعنا نحاول أن ندخلها في الحدود، أو نوسع الحدود قليلاً من أجل أن تدخل هي، فلا.
السؤال: أنا شخص أخاف النقد بدرجة كبيرة، مما أثر ذلك على شخصيتي، وأصبحت أبتعد عن المناقشات والاختلاط، وأجلس وحيداً، وأخشى على نفسي من ذلك، فما رأيكم وما هو العلاج؟
الجواب: أولاً: نحن عندنا مشكلة أننا نقرن بين الخطأ والفشل، فالإنسان الذي يخطئ في تجربه هذا رجل فاشل، وبين الخطأ والانحراف، فإنسان وقع في خطأ علمي فهذا منحرف، وهذا سيئ.
وهذا ليس بصحيح، فالرجل الناجح قد يفشل، فالتاجر الناجح قد يدخل في صفقة ويفشل فيها، وأي شخص بارع في أي ميدان يمكن أن يدخل فيه ويفشل، في أي تجربة، ففشلي في التجربة أصلاً لا يعني أنني إنسان فاشل.
ثم هب أنك إنسان فاشل، فيمكن من خلال النقد مرة ومرتين أن تنجح في المرة الأولى، والمرة الثانية؛ حتى تزيد حالات النجاح، ثم تصل بعد ذلك إلى نتيجة نهائية.
وكل إنسان عنده هدف جاد يريد أن يحققه يصل إليه، مادام هذا الهدف موضوعياً يستطيعه، ويجب أن يعرف الإنسان أن عنده قدرات، حتى الحيوان عندما تعوده على شيء يتقنه، فكيف بالإنسان؟!
مثلاً: الكلب يدرب على قضايا معينة -كلب حراسة أو كلب بوليس- ويتقنها، والببغاء يردد عليه الصوت ومن ثم يحفظه ويردده، وخذ أمثلة كثيرة، فأنت لن تكون أسوأ حالاً من هذه الكائنات الحية، ولست أغبى الناس، ولا أكثر الناس فشلاً، فينبغي ألا يصير لدينا إحباط، فمثلاً: فشلت هذه المرة أو أخطأت، فيمكن أن تنجح مرة أخرى، ولا إشكال، فعندما أفشل فهناك غيري فشل، وعندما أخطأت فهناك غيري أخطأ.
السؤال: بعض الشباب يسيئون الفهم في الالتزام بصفة عامة؛ بسبب سوء فهمهم لشاب ملتزم، نرجو من فضيلتكم إيضاح ذلك؟
الجواب: أنا أقول: افترض أنك تسمع عن بلد ولتكن نيجيريا مثلاً، وقابلت واحداً أو خمسة من نيجيريا، ووجدتهم بخلاء، فهل تحكم على أهل البلد كلهم بأنهم بخلاء؟
أو شخص مثلاً مر من عند مدرسة وطفل من أطفال المدرسة ألقى عليه حجارة، فحكم بأن طلاب المدرسة كلهم أشقياء، هل القاعدة عندك أن الإنسان يحكم من خلال شخص واحد؟
فلا يسوغ لي أن أحكم على الشباب الملتزمين من خلال شخص، أو شخصين، أو ثلاثة، أو مجموعة، أو حتى أهل هذه البلد، فمثلاً: افترض أننا نعيش في هذه البلاد، فلا يسوغ لي أن أحكم على الملتزمين كلهم.
وأنا أذكر أن شخصاً أرسل لي رسالة أنه يعاني من مشكلة، ثم قال لي: لا تقل لي: صاحب الأخيار، فإني جربتهم، فهم منافقون، وغير جادين، وغير صادقين، فقلت له: قد أوافقك أن الأخيار الذين قابلتهم غير جادين، ومنافقين، وغير صادقين، لكن هل قابلت كل الأخيار؟ هذا ليس بصحيح.
مع أنه أحياناً يكون عنده وهم مفترض، فلا يسوغ أن تحكم على الناس من خلال شخص واحد، فأنت لو أتينا إليك وقلنا لك إن هناك واحداً من أقاربك مثلاً أمسكوا به في قضية مخدرات، إذاً: فهل عائلتك كلها أصحاب مخدرات؟
أو تقول: أنا قابلت قريباً لك بخيلاً، إذاً: أنت بخيل، هذا كلام ليس بصحيح، حتى أخي الشقيق لا تلزمني أنت بما هو عليه، فكيف تلزم الآخرين بشخصية فلان؟!
فالملتزمون شريحة من المجتمع فيهم الذكي والغبي، وفيهم البخيل والكريم، وفيهم الجبان والشجاع، فهو رجل من الناس هداه الله عز وجل، والناس معادن، هداه الله عز وجل، فستبقى عنده قضايا في نفسه قد لا تزول مع الالتزام، فلماذا أطالب أن يكون هو كل شيء؟!
السؤال: بعض الإخوة يطلبون كلمة للنساء.
الجواب: في الواقع أن النساء لهن حق علينا، فهن أمهاتنا، ونشعر أنهن راعيات الأجيال، فأنا أقول أولاً: إن الأصل في الخطاب الذي يوجه للرجال أن تدخل فيه النساء، وجاءتني طلبات كثيرة تطالب بالحديث عن قضايا تخص المرأة، وأنك كثيراً ما تتحدث عن الرجال والشباب، والمرأة لها حق، وأشعر فعلاً بأن لها حقاً، وقد وعدت أن أتحدث عن هذا الموضوع وعداً مفتوحاً، وإن شاء الله قد عزمت الآن على الإعداد لهذا الموضوع والحديث عنه، فسألقي محاضرة بعنوان: رسالة إلى فتاة، ولا أستغني عن مشاركة الإخوة وجهودهم، وقد تلقيت بعض الرسائل من بعض الفتيات عن طريق أقاربهن، أو عن طريق البريد، أفادتني كثيراً حول هذا الموضوع.
فأقول: المرأة لها حق علينا، وأن نتحدث لها مع الرجال هذا جانب، والجانب الثاني أن نخصها بحديث خاص، لكن السبب الذي يجعلنا لا نشير إليها؛ أننا لا نرى أمامنا إلا الرجال، فالمتحدث لا يتحدث إلا مع من أمامه، وينسى أن هناك من يسمع صوته ولا يراه.
فأقول باختصار: إن المرأة الآن تواجه حملة شنيعة، والأعداء يستعملون المرأة للتغرير، وإفساد الشباب، وجعل المرأة مجرد وسيلة لإثارة الشهوات والغرائز، وتحولت المرأة عند هؤلاء إلى تجارة، فما معنى أن يقوم تاجر بدعاية لسلعة معينة، فيضع عليها صورة المرأة؟! أنا أعتبر أن المرأة العاقلة ولو كانت فاجرة أو كافرة لا ترضى بهذا الأسلوب؛ لأن هذا يعني أنها صارت وسيلة للمال وللابتزاز، وللدعوة إلى تحصيل المال فقط لا غير.
فإلى هذا الحد تصل المرأة! هل هذا تكريم للمرأة مثلاً؟! عندما تنتخب المرأة ملكة جمال، وتؤخذ صورتها، وعندما يأتي محرر مجلة فيضع صورة فتاة على الغلاف؛ لأجل أن تروج المجلة لا غير، فهذه تجارة بالمرأة.
أسأل الله أن يكتب لبناتنا وأخواتنا الخير والصلاح والعفاف والستر والفضيلة، وأن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر