فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فإن على المسلم أن يتعلم كتاب التوحيد وإثبات صفات ربه عز وجل لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، فقد تكلم المصنف عن صفة من صفات الأفعال، وهي صفة العلو، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة، وكذلك العقل أو القياس الجلي يقرران ذلك، فالمسلم يتعبد الله في ذلك واقعاً باعتقاده الصحيح الشديد أن ربه فوق العرش يبدل أمر الكون، ولا يخفى عليه شيء من أفعال عباده.
فالمسلم يعتقد اعتقاداً صحيحاً بأن الله جل وعلا كان ولم يكن شيء، ثم خلق السماء والأرض والعرش والقلم والماء، ثم بعد ذلك استوى على العرش.
والجواب عنه بإذن الله يكون يسيراً: فإن الله فوق العرش ويعلم ما العباد عليه، ولا يخفى عليه شيء من أفعال عباده سبحانه وتعالى، كما قال ابن مسعود : العرش فوق السماء، والله فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه.
وقد قال الإمام مالك : إن الله عالم فوق عرشه ويعلم ما العباد عليه. أو كما قال أبو حنيفة : الله فوق العرش ولا يخلو من علمه مكان. فلا تنافي بين علو الله جل وعلا وبين قربه إحاطة وصنعاً وقدرةً وعلماً سبحانه جل في علاه، فلذلك نقول: هو علي في قربه، وهو قريب في علوه سبحانه وتعالى، وهو فوق العرش، فالكون كله في يده كحبة خردل في يد أحدكم، وهو أقرب إلى أحدكم من عنق الراحلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بكل شيء سمعاً، وأحاط بكل شيء قدرة، فإذا شاء شيئاً قال له: كن، فيكون، وفي الصحيح (عن
إذاً: علو الله جل في علاه لا ينافي قربه جل وعلا من عباده، فقد أحاط بهم قوة وقدرة وسمعاً وعلماً.
فهذا القول ضلال مبين، لكن القائل ليس بضال، حتى تقام عليه الحجة ويتعلم؛ فإنه جاهل، وسبب هذه الزلة هو: ضعف العلم في العقيدة.
والدليل الثاني: قول الله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] أي: ثلاثة والرابع الله، وخمسة والسادس الله، وسبعة والثامن الله، وهذا ظاهر القرآن، فهذه المعية تثبت أن الله في كل مكان.
أولاً: قول الله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، فسنقعد قواعد لطلبة العلم لابد أن يسيروا عليها إذا حفظوها وتعلموها.
القاعدة الأولى: أن الله جل وعلا أنزل القرآن وفيه المحكم والمتشابه، وقد قال علماؤنا: إذا رد المرء المتشابه إلى المحكم فسر المتشابه بالمحكم، يعني: ظهر لك مراد الله جل وعلا وعلمت ما يريده الله من الآيات.
القاعدة الثانية: أن الله جل وعلا لم ينزل القرآن ليضل به عباده ولا ليحيرهم، بل أنزل القرآن لهداية العباد ولهداية الحائرين، لا أن يحير المهتدين، قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فإذا كان الكلام من عند الله فلن يوجد فيه ثمة اختلاف، فلا تناقض في آيات الله جل وعلا، فالله جل وعلا أنزل الآيات المحكمات التي فيها تبيان لكل شيء، قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فأي شيءٍ غامض فالقرآن يبينه، فالمتشابه إذا رددته إلى المحكم بان وظهر لك ما يريد الله جل في علاه.
فمن المحكمات: قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فهذه الآية لا تحتمل غير الاستواء فقط.
وكذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].
ثم ننظر في المتشابه حتى نرده إلى المحكم، فننظر في هذه الآيات التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله أيضاً: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7].
فقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، من المتشابه؛ لأنها تحتمل أكثر من وجه، فالمعية هنا يحتمل أن تكون معية الاختلاط، يعني: داخلكم، أو معكم مع هذا وهذا وذاك، في البحار وفي الجبال وفي السماء وفي الأرض، ويحتمل أن يكون معناها: معكم بعلمه وإحاطته وقدرته وسمعه.
وإذا أردنا أن نبين معنى هذه الآية لنصل إلى التفسير الصحيح فلابد أن نرد الاحتمالين إلى المحكم، والمحكم هو أن الله فوق العرش، والعرش فوق السماء.
فالاحتمال الأول: أنه معنا معية اختلاط في الأرض وفي السماء وفي البحار وفي الجبال، وهذا الاحتمال بعيد، وهو احتمال باطل؛ لأنه صادم المحكم.
أما الاحتمال الثاني: فإنه على العرش وهو معكم بعلمه وقدرته وسمعه وإحاطته.
فإذاً: توافقت هذه الآية مع الآية السابقة، عندما رددنا المتشابه للمحكم، فظهر لنا أن الرحمن على العرش استوى، وأن قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يعني: بعلمه وسمعه وقدرته. إذاً: هذا أول دليل في الرد عليهم، فنقول: معية الله جل وعلا في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ معية مطلق المصاحبة.
ومعية المخالطة مثل قول القائل: ائتني بكوب شاي مع الحليب، فإن الحليب داخل الشاي.
أما قول القائل: سرت والقمر، أو سرت والنيل، فإن الواو هنا: واو المعية، أي معية مطلق المصاحبة.
إذاً: إذا كانت المعية معية مخالطة ومعية مصاحبة، فالذي يفصل لنا في النزاع هو الآيات المحكمة.
أما قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ يعني: بعلمه وقدرته وإحاطته سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك في نفس الآيات التي استدلوا بها، فإن سياق الآية يدل على هذا المعنى، إذ أن السياق يعتبر من المقيدات والمفسرات، ففي الآية الأولى وهي: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا يدل سياق الآية على العلم، فكل ما خفي ودق فالله يعلمه وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أي: معكم بعلمه.
أما الآية الثانية: وهي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فبدأ الله في صدر الآية بالعلم وختمها بالعلم، فهذا السياق يبين لنا معنى قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ أي: بعلمه فقد أحاط بكل شيء علماً.
فإذا رددنا المتشابه للمحكم ظهر لنا المراد من هذه الآيات، وهذا رد على الجهمية المعطلة الذين عطلوا صفات الله جل وعلا وقالوا: هو في كل مكان، وأن ما تراه بعينك فهو الله.
أما الآية الثانية: فهي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، قالوا: الله إله في السماء وإله في الأرض، فيكون مدلوله أن الله في السماء وفي الأرض.
ونرد عليهم بنفس القاعدة أي: رد المتشابه إلى المحكم، والمحكم أن الله جل وعلا قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فلو قلنا: إن الله في السماوات وفي الأرض لكان غير مستوٍ على العرش، والله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وهم يقولون: هو في السماء وفي الأرض، والعرش معلوم أنه في السماء، إذاً: فسنضرب آيات الله بعضها في بعض والله جل وعلا يقول أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] إذاً: لا اختلاف في كتاب الله جل وعلا، فيبقى أنْ ننظر في المحكم، وهو قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وننظر في الآيات الأخرى، فإذا كان لها احتمالات رجحناها، فقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ لها احتمالان، الاحتمال الأول: هو الله المعبود في السماوات، وهذا الاحتمال أتى من دلالة لفظ الجلالة (الله) ويتضمن صفة الإلهية، فهو المألوه في السماوات وفي الأرض، وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، والدليل على ذلك: قول الله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ [النساء:172] أي: في الأرض، وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] أيْ: في السماء، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن البيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، يتعبدون لله جل وعلا فيه، ولا يرجعون إليه إلى يوم القيامة).
فالله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، فيكون معنى الآية: هو الله المعبود في السماوات، وهو الله المعبود في الأرض، وهو المستوي على العرش.
أيضًا: دلالة أخرى تدلل لنا هذا الكلام في قول الله جل وعلا: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ ، وهنا قراءة سبعية متواترة وفيها وقف لازم، وهي مثل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فهو فوق السماء السابعة.
وحروف الصفات تتناوب كما يقول أهل اللغة، فيكون معنى قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ أي: على السماوات؛ إذ أن (في) الظرفية تأتي بمعنى: على، مثل قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] بمعنى: على السماء، فكأنك تقرأ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إذاً: نقف وجوباً عند قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ ثم نقرأ بعد ذلك وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ، قال مالك : الله فوق العرش وعلمه في كل مكان، فإذاً: نقول: الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، وهذا الرد يطبق على الآية الثانية وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] يعني: في السماء معبود وفي الأرض معبود، ويدلل على ذلك: الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ربنا في السماء وأمرك في السماء وفي الأرض) أي: شرعك في السماء وفي الأرض.
ومن الأدلة التي يستدل بها أهل الحلول والاتحاد: قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، إذاً: فالله جل وعلا قريب من كل داع فهو معهم، فهذه الآية تدل على أنه ليس على العرش.
وأيضًا: حديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ...) وهذا الحديث يدل على أنه مع كل إنسان.
ونرد على هذه الشبهات: بأن نرد المتشابه إلى المحكم، فقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فهذه الآية من المتشابه، فكلمة قريب: محتملة بأن يكون معناها: قريب الإجابة، فهو يسمع ثم يجيبه، ويحتمل أن يكون معناها: قرب مخالطة، فقرب المخالطة يتصادم مع المحكم.
والاحتمال الثاني الذي هو قريب الإجابة، يوافق المحكم ويدل على ذلك سياق الآية نفسها، قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، ويدل على ذلك أيضاً: الحديث الذي فسر القرآن، إذ أن من أفضل ما يفسر به القرآن بالقرآن ثم القرآن بالسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً، وإن الله لأقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فإنه يسمع دعاءك ويستجيب لك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله في ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟) فالقرب هنا قرب إجابة.
ونحن نلزمهم برد آخر فنقول لهم وإن لم يقبلوا منا هذا الاحتمال الصحيح: إن مفهوم المخالفة في قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، هو إذا كان القرب عندهم قرب مخالطة، فإن هذا القرب مختص بالداعي، أما إذا لم يدع فليس بقريب، وهذا باطل عندهم؛ لأنهم يقولون بعموم المخالطة، فلما بطلت حجتهم بهذا المفهوم الذي لا يقولون به، إذاً: القرب هنا قرب إجابة، وهي راجعة إلى المحكم وهو قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
وقولهم: إن المعية معية المخالطة، هو كفر بعد أن بينا لهم، فالكفر يتبين لنا من أكثر من لازم.
اللازم الأول: إذا قلنا بقولكم: إن الله في كل مكان، إذاً: فالله في الأرض وفي الجبال وفي البحار وفي أجواف الحيوانات -حاشا لله- وفي الأماكن التي يترفع الإنسان أن يتكلم فيها وهي أماكن قضاء الحاجة، فلازم قولكم أن الله في كل مكان، يعني: ما ترك مكاناً إلا وحل فيه، تقدست أسماء الله جل وعلا، وتعالى علواً كبيراً عن قول هؤلاء الظلمة الذين يتنقصون من قدر الله جل وعلا، ويتنقصون من كمال الله وجلال الله سبحانه وتعالى فهذا لازم باطل، وهم ينأون بأنفسهم أن يقولوا به.
الثاني: إذا قلتم بأن الله في كل مكان لزم ذلك أن تجزءوا الإله جزءاً في مصر، وجزءاً في الإمارات، وجزءاً في أمريكا، وجزءاً في فرنسا، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجبال، وجزءاً في السماء الأولى، وجزءاً في السماء السابعة، فجزأتم الإله وهو إله واحد، والله جل وعلا يقول: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ [النساء:171]، فكبرت كلمة قالوها وخرجت من أفواههم، فالله فوق العرش ويعلم ما عليه العباد، فهذه لوازم باطلة لو ألزمناهم بها لنفروا منها ولقالوا: نحن لا نقول بهذا، فإذا ألزمناكم بهذا وفررتم من هذا القول فارجعوا إلى المنهج الصحيح الذي أخبره الله لنا في الاعتقاد السديد: أن الله جل وعلا فوق العرش وعلمه في كل مكان.
وهذا الحديث سنده ضعيف، لكننا نستقي منه أمراً مهماً جداً، وهو سنة لابد أن تتبع، وهو أنك إذا سمعت أحداً يتكلم بكلام فيه تنقص في الله جل وعلا، أو في صفات الله جل وعلا وجب عليك أن تسبح، بأن تقول: سبحان الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تعجب قال: سبحان الله! وكان إذا سمع أمراً عن الله جل وعلا لا يليق بجلاله ولا بكماله ولا بعظمته ولا بعزته قال: سبحان الله!
جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: نستشفع بالله عليك فقال: سبحان الله! وقال: ويحك. ومعناها عند أهل اللغة: أنها للزجر، حتى لا يتكلم بكلام فيه نقص في صفات الله جل وعلا.
وأيضًا (لما دخل على خطيب يخطب بالناس فقال: ما شاء الله وشئت، قال بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً؟!) فهذا دلالة على الزجر في الكلام الذي يوحي بنقص في جلال الله جل وعلا.
ففي الحديث دلالة: على علو الله، حيث قال: إن الله على عرشه، وعرشه على السماوات، ومعنى نستشفع بك على الله، يعني: يجعل الله شافعاً لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدعو لهم، فهذا الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسبح.
فالشفاعة تكون في واقعنا من الأدنى للأعلى، فإذا قال القائل: نستشفع بك على الله، فكأنه استشفع بالأدنى على الأعلى والعياذ بالله، ووضع الله جل وعلا في مرتبة أدنى من مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، حاشا لله وتقدست أسماؤه جل وعلا، فالله يأمر، والعباد يقولون: سمعنا وأطعنا (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فلا شفاعة على الله، بل العباد هم الذين يحتاجون إلى الله جل وعلا ويشفعون عند الله، وهم الذين ارتضى الله لهم ذلك.
فلا يستشفع في الله على أحد؛ لأن هذا يوهم بنقص لمرتبة الله جل وعلا، فإن القائل لهذا جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من الضلال العظيم، والكفر المبين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سبح تنزيهاً لعظمة الله ولجلاله ولكماله جل في علاه، فإنه لا يستشفع بالله على أحد من عباده؛ لأن الله يأمر والعباد يقولون: سمعنا وأطعنا.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق عرشه: أن رحمتي سبقت غضبي) ]
الحديث الأول يستفاد منه: أن عرش الله جل وعلا فوق السماوات السبع، وفوق أعلى درجة من درجات الجنة، وهي: الفردوس الأعلى.
إذاً: فالجنة فوق السماء أو في السماء والله أعلم بمكانها، والمهم أنها في العلو.
أما الحديث الثاني: فهو مهم جداً؛ لأنه يبين ثلاث صفات فعلية: صفة الغضب، والرحمة وهما من الصفات الفعلية، فالله يغضب وقت ما يشاء، ويرحم من يشاء وقت ما يشاء.
وكذلك صفة الكتابة، التي تليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، فهذه صفة فعلية من صفات الكمال والجلال لله جل وعلا، فقد كتب الله التوراة كما قال آدم عليه السلام لموسى عندما احتج معه فقال: (وخط لك التوراة) وقد كتب التوراة بيده، وأيضًا كتب كتاباً آخر بيده وهو الذي قال فيه: (رحمتي سبقت غضبي) فالله كتب التوراة بيده، وكتب أيضًا هذا الكتاب وهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.
فهذه الصفات الفعلية المستنبطة من هذا الحديث.
والله جل وعلا كتب التوراة -تشريفاً لها- بيده الشريفة سبحانه وتعالى وتقدست أسماؤه، وكتب بيده في كتابه وهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر