وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
ثم أما بعد:
فما زلنا مع شمس الإسلام التي أشرقت على ظلمة الجهل والجاهلية، فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل الجهل والجاهليات التي وقع فيها أهل الشرك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.
وقد تكلمنا في الأسبوع الماضي على اعتقادات باطلة كان يعتقدها أهل الجاهلية في السحرة والكهنة، وأنهم ارتقوا بهم إلى درجات الأولياء، واليوم سنتكلم عن أفعال لأهل الجاهلية جاء النبي صلى الله عليه وسلم ينكر هذه الأفعال ويبطلها، وإذا أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الجاهلية فمن باب أولى أن يبطلها على أهل الإسلام، وهذه الأفعال هي الأنساك التي جعلها الله جلا وعلا على عباده، وهي عبادة الذبح.
فالذبح شعيرة من شعائر الإسلام، عبادة من العبادات التي فرضها الله على عباده، وهي من أجل العبادات وأفضل العبادات المالية التي يتقرب بها المرء إلى ربه جلا في علاه.
وقد كان أهل الجاهلية يتقربون بهذه العبادة لغير الله جلا في علاه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية يتقربون إلى آلهتهم بالذبح، فيأتون إلى القبور فيذبحون عند قبور من يرون فيهم الصلاح، وتسمى عقيرة أو تسمى عتيرة أو تسمى الفرع، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يرد هذه الأنساك التي يتقرب بها لغير الله جلا في علاه، فأبطلها وبين أنها من أكبر الشرك، وأنكرها الله جلا وعلا على العباد.
وقال الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].
وقال النبي صلى الله عليه وسل (لا عتيرة ولا فرع في الإسلام )، فنهى عن هذا، وقد كانوا يذهبون إلى قبر الميت الكريم فينحرون عنده الإبل، ويقولون: أطعمَ وهو حي وأطعم وهو ميت.
فالذبح لغير الله من الشركيات التي فشت في الأمة، وقد زين لها ذلك بعضهم بالتأويل لإبطال الحق، فالتغرير بالعامة وقع كثيراً من بعض الناس، فصاروا يذبحون عند قبور الأولياء سواء كانوا أولياء حقاً أو غير أولياء.
وهذا الفعل شرك بالله جلا في علاه، لا يقبل صاحبه عند الله جلا في علاه، بل ولن يجد له خلاقاً عند الله في الآخرة.
قال الله تعالى مبيناً لرسوله أن هذه الأفعال خاطئة: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] فقال: لا شريك له، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك بالله جل في علاه، وأيضاً قال الله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] يعني: وانحر لربك لا لغيره من قبر أو شجرة أو حجر أو ملك مقرب أو نبي مرسل أو ولي من أولياء الله الصالحين.
وفي صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من ذبح لغير الله)، فاستحق اللعن من صرف هذه العبادة العظيمة لغير الله جلا في علاه، فيكون مطروداً من رحمة الله، ولن يجد رحمة الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وجاء في حديث ضعيف يستأنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، مرا بقوم لهم صنم يعبدونه، فقالوا للأول: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً غير الله، فضربوا عنقه، فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما عندي شيء أقربه، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فدخل النار).
الحالة الأولى: أن يذبح شكراً لله، ويكرم الناس باللحم.
الحالة الثانية: أن يذبح دفعاً للعين ودفعاً للحسد، ويحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العين حق).
الحالة الثالثة: أن يذبح خوفاً من انقلاب الأحوال عليه، وتضييق الأمور، ويذبح حتى ييسر الله جل وعلا هذا المشروع، وكثير من الناس تكون لهم مصانع واقفة لا تعمل، فيأتي رجل ويقول: اذبح وسييسر الله لك هذا العمل، فيذبح من أجل تيسير هذا العمل.
الحالة الرابعة: أن يذبح خوفاً من الجن مع أنه يعلم أن الله هو النافع الضار.
فالحال الأولى أن يذبح شكراً لله ليكرم الناس، ويقول: قد من الله علي بهذا العمل أو بهذا المال فأنا أشكر ربي على هذه النعمة، وأعمل بقول الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ إبراهيم:7]، فيذبح ويجمع الناس ليأكلوا، فهذا جائز،
لكن لو جعل هذا سبيلاً لدفع الحسد والعين فقد جعل الوليمة سبباً لم يشرعه الله لدفع العين فوقع في الشرك الأصغر؛ لأن الحسد يدفع بالمعوذتين.
الحالة الثانية: يذبح دفعاً للعين، وهو يرى أن الله جل وعلا هو الذي يدفع العين، فيقول: إن الله هو الذي يدفع العين، وهذا الذبح لله، لكن جعلت الذبح سبباً لدفع العين، فنقول له: إن الله لم يشرع في كتابه، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحسد يدفع بالذبح، وإذا كان دفع الحسد عبادة فهو مشروع، ولا بد أن يكون دفعه من الكتاب أو من السنة، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فمن ربوبية الله جل في علاه أنه يبين لنا المسبب ويبين لنا السبب، ويبين لنا المقدمة ويبين لنا النتيجة، وقد أوحى قال الله جل في علاه لنبيه صلى الله عليه وسل (أن العين حق).
والله جل وعلا ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، وفي الحديث: (تداووا عباد الله ولا تتداوى بحرام) فخط لنا خطاً، ورسم لنا طريقاً نسير عليه لدفع هذا الحسد، وذلك بالمعوذتين أو بالرقى الشرعية، وأما من ذبح فقد خالف شرع الله في ذلك، ويكون هذا من الشرك الأصغر؛ لأنه ذبح لله واعتقد في الله لكنه اتخذ الذبح سبباً ما شاءه الله جل في علاه.
الحالة الثالثة: أن يذبح لتيسير العمل، فهذا حكمه بحسب النية، إن كان الرجل فقهياً يعلم أنه إذا تقرب إلى الله جل في علاه بالصدقة فإن هناك ملكين يقولان: (اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً)، فهو يرى بفقهه أنه لو تصدق باللحم فإن الله يخلف عليه، فهذا جائز.
وأما إذا قال: الذبح سبب مخصوص لجلب الرزق، فنقول له: ابتدعت في دين الله بدعه.
وهذا شرك أصغر، وهو وسيلة للشرك الأكبر.
الحالة الرابعة: إذا ذبح للجن فهذا شرك أكبر، حتى لو قال: أنا أذبح لله خوفاً من الجن، فتعارض الظاهر والباطن، والقرائن المحتفه أثبتت لنا أنك فعلت ذلك لدفع خوفك من الجن، والله جل في علاه بين لنا كفر الكافرين، فقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقد في الجن ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه.
الحالة الأولى: من باب الضيافة، فهذا الذبح مباح، وهو من سنن العادات لا من سنن العبادات، قال الله تعالى:وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، وهذه العادة تكون عبادة بالنية، والقاعدة عند العلماء: أن سنن العادات تنقلب إلى عبادات بالنيات، فهذه تنقلب إلى عبادة وقربة من الله جل في علاه بالنية الصالحة.
الحالة الثانية: أن يذبح لتعظيم هذا المعظم لا لضيافته، فإن كان يذبح لتعظيم هذا المعظم فقد صرف الذبح -الذي هو عبادة- لغير الله، فوقع في الشرك. وكيف يعرف هذا التعظيم؟
أن يأتيه المعظم فعندما ينزل من السيارة أو من الطائرة أو من الدابة يذبح أمامه الإبل، ثم إذا رحل لم يعتنِ بلحم الإبل، بل ألقى في الزبالات، فهذه فيها دلالة واضحة على أنه ما ذبح للحم والإكرام، بل ذبح ليثبت تعظيمه لهذا المعظم، فهذا شرك؛ لأنه صرف عبادة لغير الله.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر