يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
القدر قدرة الله وهو سر من أسرار الغيب، وهو من لوازم الربوبية، ولا يستقيم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بخمس مراتب: علم، فكتابة، فمشيئة، فإرادة، فخلق.
ومن المعلوم أن لله مشيئة، ومن قال: إن الإرادة هي المشيئة فهذا خطأ؛ لأن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وهي المشيئة، وإرادة شرعية وهي المحبة.
فمن مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد خلق كل شيء، ومن هذه الأشياء أفعال العباد، فأفعال العباد مخلوقة لله جل في علاه، هذا على العموم، قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فأفعال العباد تدخل في هذا العموم، وفي هذا رد على القدرية -مجوس هذه الأمة- الذين ينكرون خلق أفعال العباد، وجعلوا مع الله خالقاً آخر فقالوا: هم أنفسهم يخلقون أفعالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة القدرية).
فقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يدخل تحته أفعال العباد، رداً على القدرية الذين يقولون: إن الله لا يتحكم في أفعال العباد، بل إن الجنة من عمل الإنسان يدخلها بعمله أجرة، فهم لا ينظرون إلى فضل الله ولا إلى رحمته، ولا يعترفون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد منكم يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، أما القدرية فقالوا: الجنة مقابل العمل الصالح، والنار مقابل العمل السيئ ولا فضل لله على العباد؛ لأنه لا يتحكم في أفعال العباد، فنحن نرد عليهم بأن مبتدأ الخير كله من الله، والأفعال الحسنة كلها من الله، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، وأيضاً قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]، فالله جل في علاه أيضاً يقول: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].
ثانياً: من التعبد بأقدار الله في المصائب أن ترضى بهذه المصيبة، وهذا أرقى المنازل تحت هذه المنزلة، فليس لازماً أن ترضى وليس واجباً عليك، بل هو من باب الكمال فقط، لكن من باب اللزوم والوجوب الصبر على المصيبة، ومعنى الصبر على المصيبة: ألا تتسخط على أقدار الله، ولذلك (لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة التي تبكي على القبر قال: اتقي الله واصبري)، يعني: حتى لا تتسخطي على أقدار الله قالت: (إليك عني إنك لم تصب مصيبتي)، وكادت أن تتسخط على أقدار الله؛ ولذلك لما خرجت نفس إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا
فلك في أقدار المصائب التعبد بأن تحتج بالقدر وكذلك تصبر عليها وهذه العبادة الثانية، وأكمل من ذلك أن ترضى بها، وفعل السلف فيه كل العجب من الرضا بقضاء الله جل في علاه وقدره، وقد نقل بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: أفرح ما أفرح به أقدار الله جل في علاه، يعني: أسعد في صباحي أو مسائي؛ لأني أنا تحت قدر الله يلقيني حيث يشاء، إن كان في السراء فله الشكر، وإن كان في الضراء فله الصبر، وهذا محض التسليم والتوكل على الله جل في علاه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بكى لموت إبراهيم وهو يدفنه، ونحن نعلم يقيناً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أرضى الناس بقدر الله جل في علاه، وحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حال الفضيل ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يبين لك أن الحزن لا ينافي الرضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل وقال: (إن هذه رحمة يرحم الله بها عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
فأصبح هذا الدمع وهذا الحزن من الرحمة ومن رقة القلب، فلا ينافي الحزن ولا الدمع الرضا، أما ما فعله الفضيل بن عياض هو أنه تغالب على الحزن، والحزن أكمل؛ لأن الحزن يدل على كمال الرحمة مع كمال الرضا، ولذلك نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الكمالين وجمع بين الخيرين.
إذاً: لك أن تحتج على المصائب بالقدر، وتقول: قدر الله، فالحمد لله على كل حال، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الأمر يسره يقول: (الحمد لله الذي لا تتم الصالحات إلا بفضله وبرحمته)، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءه ما يسوءه من المصائب قال: (الحمد لله على كل حال)، ولذلك إذا أردت أن تعزي أهل الميت ملك أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون لله ما أعطى ولله ما أخذ.
وهذا يبين لك أن القدر بنقسم إلى مصائب ومعائب لأنك أول شيء تعلم أن هذا قدر من الله جل في علاه، وأنها مصيبة فعليك أن تصبر وتحتسب، وأكمل من ذلك أن ترضى، اللهم ارزقنا هذا يا رب العالمين.
وقد تقع المعاصي من الصالحين حتى يرفع الله قدرهم بالذل والانكسار والبكاء والثواب، وهذا حال العارفين بالله، أما الذي يقع في المعصية وقد عزم عليها عزماً أكيداً فهذا الذي يفتح الله له باب المعصية.
قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي، (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، إذاً: الله جل في علاه فتح له هذا الباب؛ لأنه لا يستحق إلا هذا الباب، إذاً: قدر المعائب هو قدر الذنوب والمعاصي والتعدي على حدود الله جل في علاه، ولك فيه عبادتان أيضاً، العبادة الأولى: أن تعتقد أن الله قدر لك ذلك بتقصيرك وبفعلك، ولذلك قال الله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
وقال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، وقال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، إذاً: أول التعبد لله جل في علاه بقدر المعائب: أن تقر بأن هذا قدر من الله جل في علاه، وهو الذي فتح ذلك المجال لك.
فالله جل وعلا هو الذي جعل للعاصي إرادة، وخلق فيه إرادة المعصية؛ لأنه لما زاغ أزاغ الله قلبه، فيعرف أولاً أن هذا قدر الله، وأن هذا من نفسه.
العبادة الثانية: أن يراجع نفسه منكسراً متذللاً خاضعاً لله جل في علاه، وأن يتوب ويئوب، ولسان حاله يقول: وعجلت إليك رب لترضى.
وبعد هذه التوبة لك أن تحتج بالقدر على الذنب، فلو أن رجلاً مثلاً شرب الخمر، ثم رجع فندم فبكى فتاب فآب إلى ربه جل في علاه، فجاء رجل بعد توبته يعيره ويقول: يا شارب الخمر، فإنه يقول: قد قدر الله علي ذلك، واحفظ نفسك لعل الله يقدر عليك ما قدر الله علي؛ لأن من عير أخاه بذنب لا بد أن يرد عليه، ووردت الآثار بذلك وإن كان فيها ضعف، لكن ما من أحد يعير أحداً بذنب إلا وسيبتليه الله بهذا الذنب والعياذ بالله جزاء وفاقاً وأجراً طباقاً.
فآدم: فاعل، وموسى: مفعول به منصوب، لكن منع من ظهور الفتحة عليه التعذر، ومعناه: الاستحالة أي: أن الألف لا تقبل ضمة ولا فتحة ولا كسرة، لكن الياء تقبل الفتحة، ويمكن أن تقبل الضمة، لكن بثقل، والتعذر معناه: الاستحالة فنقول: حج آدمُ موسى، يعني: آدم كانت معه الحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فيا ترى! أين هذه الحجة؟
إن آدم احتج بالقدر وقال: قدر الله علي ذلك، وهذه الحجة اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم: لأن موسى عير آدم بالذنب وقد تاب منه، فكان له الحق أن يحتج بالقدر بعد التوبة منه، وهذا الكلام وإن كان جيداً في مضمونه -بأن الإنسان إذا تاب من الذنب فله أن يحتج بالقدر- لكنه خطأ فاحش في حق موسى عليه السلام، ولذلك هذا التأويل لا نقبله؛ لأن موسى أعلم أهل الأرض في زمانه، وأتقى الناس لله جل في علاه ولن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، وهو يعلم بأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، كما حدث واقعاً معه، فلما تاب بنو إسرائيل تاب الله عليهم، بل ورد عليهم أرواحهم. فإن قيل: وهل موسى يعلم بأن آدم تاب من ذنبه؟
فالجواب: نعم. يعلم موسى ذلك؛ لأن توبته موجودة في التوراة أن الله كتب علي ذلك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإن كان هذا مكتوباً في التوراة فيكتب معه التوبة؛ لأن الله كريم وقد أكرم آدم بالتوبة وأظهر جمال فعل آدم بهذه التوبة، فتاب آدم فتاب الله عليه، فلا يمكن أن يتصور ويظن في موسى أن يعير آدم بذنب قد تاب منه فهذا القول لا نقبله، ولكن نقبل مضمونه بأن الإنسان إذا وقع في المعصية ثم تاب منها، ثم عير بهذا الذنب فله أن يقول: قد قدر الله علي هذا الذنب من خمسين ألف سنة؛ لأنه لا يرد القدر بالشرع، لكنه تاب ولما علم أنه تاب له أن يحتج بالقدر.
التأويل الثاني وهو الصحيح الراجح: أن موسى عليه السلام عاتب آدم على المصيبة الواقعة بسبب الذنب؛ لأنه قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، فهذه المعاتبة على المصيبة وليست على الذنب؛ لأن موسى أرفع من أن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، فعاتب موسى آدم على المصيبة وآدم احتج بالقدر؛ لأنه يجوز أن نحتج بالقدر على المصائب، وهذه مصيبة نزلت على آدم بسبب أكله من الشجرة والمصيبة هي الخروج من الجنة؛ فعاتبه موسى بقوله: (أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم محتجاً عليه بالقدر: أنت رأيت ذلك مكتوباً علي قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة).
وهذا هو التأويل الصحيح، ونخلص من ذلك بأن الإنسان له أن يحتج بالقدر على المصائب وعلى المعائب إن تاب من هذه المعائب، هذا هو المجمل في مسألة القدر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر