وبعد:
فإن الإيمان بالبعث من ركائز هذا الدين، ومن أركان الإيمان، والحديث في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وهو حديث جبريل عندما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الصحابة أمر دينهم حين سأله عن الإيمان وأركانه، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالعبث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى) ستة أركان لا بد من تحققها في عقيدتك أيها المؤمن، وإذا انهدم ركن من أركان الإيمان ذهب الإيمان.
والذين يمارون في البعث أو يشكون فيه فهؤلاء لم تدخل حقيقة الإيمان قلوبهم، بل ما زالوا يعيشون في الضلال، الذي هو الضياع وعدم معرفة الطريق، تقول: فلان ضال، أي: إلى الآن تائه لا يدري أين يتجه. وفلان مهتدٍ، أي: عرف الطريق ولزمها، ولهذا يقول عز وجل: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] الذين يشكون في أمر البعث والنشور في ضلال بعيد؛ لأنهم إلى الآن لم يعرفوا الطريق الموصل إلى الله تعالى عبر أركان الإيمان الستة، ألا وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
وقد ذكرنا في الماضي شيئاً عن البعث، واليوم سيكون الدرس عن أدلة البعث والنشور، ما هي الدلائل والبراهين التي نستطيع أن نثبت بها أن البعث والنشور كائن لا محالة؟ فإننا نواجه بالمكذبين، ونواجه بالضالين والزائغين عن صراط الله المستقيم، وربما يوردون علينا بعض الشبه، ولكن ونحن نعلم علم اليقين بالأدلة والقواطع والبراهين الساطعة على صدق إيماننا وعلى أدلة بعثنا بعد موتنا؛ نقف على أرضٍ صلبة، ونتيقن ونجزم أن من لا يؤمن بالبعث فهو ضالٌ ولو كان من كان، وأن من يؤمن بلقاء الله، ويؤمن بالبعث والنشور فهو المهتدي، يقول عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].
والتكذيب ليس جديداً في حياة البشر، فإن أمر البعث والتصديق به عقدة العقد، ومشكلة المشاكل عند أصحاب العقول المتحجرة، والقلوب القاسية، والنفوس الحيوانية الهابطة الذين يرون في الإيمان قيداً على شهواتهم وملذاتهم، وهم يريدون أن يعيشوا حياة البهائم بدون قيود وضوابط، وإنما يأكلون ويشربون ما يشاءون، ويسرحون ويمرحون وينامون ويسهرون كيف يشاءون، هؤلاء يتفلتون من ضوابط وقيود الإيمان بالتكذيب والعلل والشبهات الساقطة الذابلة الهاوية التي لا أساس لها من الصحة.
ثم وصفهم الله فقال عز وجل: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرعد:5] أي: هذا جاحد؛ والجاحد لا حيلة معه، هذا أول وصف: وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [الرعد:5] يعني: من العذاب يوم القيامة أن يغلّهم الله بالأغلال في أعناقهم؛ لأنهم غلّوا عقولهم، أي: قيدوها وعاشوا في سجن المادة الضيق ولم يخرجوا إلى عالم الغيب الوسيع؛ العالم الذي ينتظم الدنيا والآخرة، فلما قيدوا عقولهم وغلّوها عذبهم الله بأن غلّهم في الأعناق يوم القيامة: وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد:5] هؤلاء المكذبون وصفهم الله بأنهم كفار، وأنهم في الأغلال في جهنم وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
وعندما أوردوا فريتهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29] قال الله لهم مكذباً وراداً عليهم: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30] يعني: بعد البعث قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30] يبعثهم الله عز وجل من قبورهم ويقررهم ويقول: أليس هذا بالحق الذي وعدكم به رسلي؟! والذي أنزلته في كتبي وحذرتكم منه؟ قالوا: بلى وربنا. لا يوجد مجال للتكذيب؛ لأنهم رأوا الأمر رأي العين، رأوا الأمر على حقيقته فقالوا: بلى وربنا؛ يحلفون بالله في مظهر من الضعف والشفقة والتذلل والخضوع، لم يعرفوا الله عز وجل في الدنيا حتى يرحمهم يوم القيامة، ولكن لم يعرفوه إلا حينما أضاعوا الفرصة. مثلهم مثل الطالب البليد الذي يُكذّبُ بالامتحانات، فهو يشتغل في العام الدراسي من أوله إلى آخره، والطلاب المؤمنون بصدق الإدارة والتعليم يجتهدون، لكن هذا المكذب يقول: لا أحتاج امتحانات.. إنها كذب في كذب.. من قال لكم بأن هناك امتحانات.. لا يوجد شيء، وعاش طوال السنة وهو يلعب ولا يذاكر، ولا يفتح حتى كتاباً، وفي آخر يوم من العام الدراسي أدخل الصالة وعزلت عنه الكتب والمواد، وقدمت له الأسئلة، ولما رآها وإذا به لا يعرف منها حرفاً واحداً، أما المجتهدون فقد بدءوا يجيبون، وأما هذا اللعاب لا يعرف حتى حرفاً واحداً، فيقول له رئيس اللجنة -ولله المثل الأعلى-: لماذا كذبت بالامتحان، أليس هذا الامتحان حق؟
فيقول: بلى يا سعادة المدير..! يا رئيس اللجنة؛ يريد أن يسترحمه، أي: أخرجني واتركني أنظر إلى الأسئلة! أمهلني أراجع! أمهلني أذاكر! قال الله عز وجل: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].
أخي ليس لديك إلا فرصة واحدة فلا تضيعها؛ لأن التصحيح صعب! نعم. هي مرة واحدة؛ من فرط فيها خسر الخسارة التي ليس بعدها ربح، ومن اغتنمها وعمل بها ربح الربح الذي ليس بعده خسارة، وكما جاء في الحديث: ينادى يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ثم يبيض وجهه، ويأخذ كتابه بيمينه، ويعرضه على الخلائق، وأما ذاك الساقط -والعياذ بالله- الخامل؛ ينادى عليه يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، فيسود وجهه، ويأخذ كتابه بشماله، ويقول للخلائق: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].
ويرد الله أيضاً على طائفة من المكذبين وهم يقولون: أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49] شيء مستغرب! كيف سيعود هذا خلقاً جديداً؟!! فقال الله تعالى لهم: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء:50] أي: كونوا أصعب وأقوى شيء، كونوا حجراً أو حديداً لا بشراً من عظم ولحم: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء:51] تصوروا أي شيء أعظم من الحديد أو الحجر أو.. أي شيء؛ يتحداهم الله بألا يبقوا على أصل خلقتهم حتى يستحيل عليه أن يعيدهم في نظرهم، يقول: حولوا أنفسكم إلى أي مادة صعبة أو إلى أي مادة كبيرة في نفوسكم وعقولكم: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء:51] الحجب الآن بين العالم المشاهد والعالم المغيب حدها الموت، وبعد الموت ينكشف كل شيء! ورد في الحديث: (إن المؤمن ليرى مقعده من الجنة وهو في بيت أهله).
أخبرني أحد الإخوة في قصة غريبة لرجل توفي في إحدى القرى المجاورة لمدينة أبها؛ رجل عُرف بالصلاة والأذان في المسجد، وكل أهل القرية يعرفونه ويحبونه، وعاش على هذا الوضع إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع موتى المسلمين، وفي ليلة وفاته وبينما كان جالساً في فراشه وعنده ولده المشرف على تمريضه، وإذا به يوقظ الولد، قال: يا ولدي! قال: نعم، قال: افتحوا الباب للرجل الذي خلفي؛ لأنه لا يستطيع أن يدخل منه، قال: من هو؟! قال: الرجل الكبير الذي عليه ثوب أبيض، يقول الولد: تلفت خلفي فما رأيت شيئاً، يقول: وإذا به يوم أن جلس -الرجل عامي لا يقرأ ولا يكتب لكنه من أهل الفطرة والإسلام والدين- يقرأ آية من كتاب الله كأعظم قراءة سمعها ولده من قارئ قراءة مرتلة مجودة، يقول: والله ما أظنه صوت أبي، لكن صوت خارجي، يقول: وبعدها مال على جنبه ومات.
فالمؤمن يرى منزله من الجنة وهو في بيت أهله، والكافر والفاجر يرى منزله من النار -والعياذ بالله- وهو في بيت أهله، فما بين الآخرة والدنيا إلا هذه العتبة -أي: عتبة الموت- وسوف نقف كلنا عندها وندخل، وبعد الموت تنكشف الحجب فإما سالم وإما -والعياذ بالله- خاسر، نعوذ بالله وإياكم من الخسران.
الصنف الأول: صنف الملاحدة الذين أنكروا وجود الله أصلاً -عليهم من الله ما يستحقون- ومنهم الفلاسفة -فيما مضى- والشيوعيون الذين يعيشون في هذه الأزمان الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، وإذا ناقشتهم على بساط العقل والمنطق تهاووا وسقطوا؛ لأنهم لا يملكون أدلة، وعندما تناقشه عن ساعته التي في يده وتقول له: هذه الساعة ليس لها صانع، يقول لك: مستحيل، تقول له: من صنعها؟ يقول: المهندس، تقول: والمهندس له صانع؟ يقول: لا. ليس له صانع، تقول له: كيف؟!! أقول إن الساعة ليس لها صانع فلا تصدق، وأقول: إن المهندس الذي صنعها له صانع فتقول لا. لا صانع له؟ أيهما أشد عقدة: المهندس أم الساعة؟! سبحان الله العظيم! مستحيل أن تكون الساعة من غير صانع، وليس بمستحيل أن يكون إنسان من غير خالق! لا والله أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35].
هؤلاء الملاحدة الذين ينكرون صدور الخلق وحدوثه عن الله سبحانه وتعالى ينكرون النشأة الأولى والثانية أصلاً، وهم منكرون لوجود الله تبارك وتعالى، فهؤلاء لا نقاش معهم.
الصنف الثاني: قوم يعترفون بوجود الله تعالى، ولكنهم يكذبون بالبعث بعد الموت، ومن هؤلاء العرب الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، فإنهم كانوا يقرون بوجود الله، يقول تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] فهم معترفون بأنه الخالق لهذه السماوات والأرض، ولكنهم يقولون: أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النمل:67-68] هذا هو الصنف الذي يؤمن بوجود الله لكنه يكذب بوجود البعث؛ يدعون أنهم يؤمنون بالله ولكنهم يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إعادتهم وإحيائهم بعد إماتتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثلة والبراهين والحجج بأنه قادرٌ على البعث والنشور؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الصنف الثالث: قوم يؤمنون بالبعث لكن على صفة وهيئة تختلف عما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤمنون بأساطير وخرافات وضلالات وفلسفات وأفكار ليس يدعمها دليل لا من كتاب ولا سنة، فهؤلاء في حكم المكذبين. هذه أصنافهم.
والفطرة السليمة التي سلمت من الأصابع البشرية الضالة تهدي إلى الإيمان بالبعث وتدل عليه، ولا صحة أبداً لما يزعمه الضالون من أن العقول تمنع وقوع البعث والنشور، فإن العقول تقره ولا تمنع من وقوعه، بل توجب وقوعه، والأنبياء لا يأتون أبداً بما تحيله العقول، بل يأتون بما تقبله العقول وتوجبه، ومن تلك الأدلة ما يلي:
وهل أصدق من الله عز وجل؟
إذا أخبر الله في القرآن بخبر لزم منك -أيها المؤمن- بمقتضى إيمانك أن تصدق؛ لأنه لا أحد أصدق من الله قيلاً، وقد أخبر الله عز وجل أن البعث والنشور كائن، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على وقوع البعث؛ فمن آمن بالله وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه الذي أنزله الله على رسوله فلا مناص له من الإيمان بما أخبر به من البعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار. وقد نوع الله تبارك وتعالى في الكتاب الكريم أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس وآكد في القلوب، ففي بعض المواضع من القرآن يخبر الله بوقوع يوم القيامة إخباراً مؤكداً بـ(إن) يقول الله عز وجل: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طـه:15] ومرة يؤكد بـ (إن، واللام)، يقول جل ذكره: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85] اللام الداخلة على (آتية) لام التوكيد، إن: حرف توكيد ونصب، ومرة يؤكد بـ( ما ): إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134] ومرة بأداة الحصر: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] هذه كلها أساليب في تأكيد عملية الإخبار عن البعث والنشور وأنه كائن لا محالة.
- الدليل الثاني: قَسَم الله تبارك وتعالى؛ فيقسم الله على وقوع البعث؛ أنت إذا أخبرك رجل تثق في خبره صدقت خبره، وإذا أكد لك الخبر بأي وسيلة من وسائل التوكيد كان الخبر آكد عندك، وإذا أكده لك بالقسم وأنت تعرف أنه رجلٌ صادق بار مؤمن لا يمكن أن يكذب فإن الخبر عندك يأخذ مأخذ المسلمات، سبحان الله! الله عز وجل يخبر ويؤكد ويقسم على وقوعه، يقول الله تبارك وتعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87] هذا قسم يقسم الله بالذي لا إله إلا هو فيه بنفسه.
ويقسم على وقوعه بما شاء من مخلوقاته، يقول الله عز وجل: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:1-6] يعني: إن يوم الدين يوم البعث والنشور لواقع.
ويقسم الله بخمسة أشياء في سورة الطور: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:1-8].
ثم يأمر رسوله بأن يقسم بالله تبارك وتعالى على وقوعه، ويرد على المكذبين فيقول الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] ويقول عز وجل: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] ويقول جل ذكره: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
- الدليل الثالث: ذمه تعالى للمكذبين في بعض مواضع القرآن ذماً مباشراً، فيقول تبارك وتعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45] أي: خاسر لا خير فيه..! ما ربح من دنياه إلا العذاب والسخط!.. ليته ما خلق!.. ليته ما عرف هذه الحياة! لو لم يعرف الحياة لكان في عداد المهملين!.. لو كان حيواناً لكان في عداد من يصير تراباً!.. لكنه عاش في الدنيا ليعبد الله، ومكنه الله وزوده بوسائل الإدراك؛ العقل والنظر والسمع ولكنه ما استخدم هذه الوسائل فخسر دنياه؛ قال الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45] ويقول: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] أي: عمي عن الإيمان بالله والعياذ بالله!
الدليل الرابع: وكما ذم المكذبين يمدح أهل الإيمان المصدقين جعلنا الله جميعاً منهم؛ يمدحهم ويقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:7-9] هذا ثناء؛ سماهم الله راسخين في العلم، أي: ليسوا سطحيين؛ لأنه العلم عن الله، علم الكتاب والسنة، ليس علم المادة؛ قد تجد إنساناً عالماً رأسه مثل الجبل في الذرة والفلك والطب والهندسة.. وفي كل شيء، لكنه في علم الله لا يعرف شيئاً، هذا أجهل ثور -والعياذ بالله- في الأرض، وتجد آخر لا يستطيع أن يقرأ حتى حرفاً واحداً، لكن عنده من الإيمان بالله مثل الجبال. هذا هو العالم؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] أي: العلماء به، وبعد ذلك الراسخون في العلم الذين رسخت قلوبهم في العلم بحقائق هذه الحياة حتى عرفوا مصيرهم وعرفوا سر خلقهم ووجودهم، وعرفوا البعث بعد الموت. هؤلاء راسخون؛ لأنهم غاصوا في أعماق الحقائق، أما السطحيون الذين عرفوا من الدنيا السطح فقط، فإنهم يعيشون وتفكيرهم في هذه الدنيا فقط؛ في المادة وعناصرها وأجزائها، هؤلاء قال الله تعالى فيهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] هؤلاء -والعياذ بالله- ستكون لهم مواقف مخزية وحينها يتمنون أنهم ما عرفوا هذه الحياة.
- الدليل الخامس: من ضمن الأساليب في الإخبار أنه تبارك وتعالى يذكر في القرآن أن وعد البعث صادق، ولا مجال لتكذيبه، ويقول: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:103-109] يقول: لا تخف ولا تشك في هؤلاء الذين يعبدون غير الله؛ إنما يعبدون الشهوات والطواغيت والمادة، وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم من الكفار والمكذبين، ولكن الجزاء عندنا، وسوف نوفيهم نصيبهم غير منقوص.
ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً [لقمان:33] هذا وعد الله الذي لا يتبدل ولا يتغير أبداً، ويقول عز وجل: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ:29-30] ويقول مهدداً ومتوعداً: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف:83] ويقول جل ذكره: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5].
- الدليل السادس: إخباره تعالى عن مجيئه في بعض الأحيان بصيغة الاقتراب، فيقول تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [المعارج:6] يعني: يوم القيامة وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:7] ويقول: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1] أتى هنا فعل ماضٍ، وعبَّر الله عز وجل بالماضي ليؤكد تحقق وقوعه وقربه وكأنه قد وقع، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ أي: البعث والنشور فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:1] ويقول الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:2-8].
مثل البليد إذا خرج من الصالة وقال: الامتحان صعب، ما هذا المدرس؟ عقد الأمر، ويخرج ذاك المذاكر وهو يقول: وفق الله الأستاذ! ما هذه الأسئلة السهلة؟! مثل العسل، والله إني أجبت عنها من أولها إلى آخرها.. لماذا صعبة على هذا البليد؟ لأنه لم يذاكر. ولماذا سهلة على ذاك المؤمن؟ لأنه اجتهد. فالمؤمن الذي صدق ماذا يقول: صعب؟ لا. بل يفرح؛ لأن الملائكة تبشره وهو في العرصات؛ يقول الله تعالى: إن الملائكة تقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على ما بعدكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:30-31] كما كنتم أولياء الله في الدنيا فنحن أولياؤكم في الدنيا والآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32] نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم المصير الحسن!
وفي بعض المواضع من القرآن الكريم يأتي فيها صيغ الإخبار بأن البعث سيكون، ويمدح الله تبارك وتعالى نفسه، ويثني على نفسه وذاته تبارك وتعالى بأن لديه القدرة على إعادة الخلق، وهذا لا يتمكن منه أحد؛ لأنها خاصية الله تبارك وتعالى؛ له الخلق والأمر والإعادة، فيقول تبارك وتعالى وهو يذم المشركين الذين يتخذون آلهة لا يخلقون ولا يعيدون .. يقول تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] من يملك هذه؟ الجواب: الله. ويقول عز وجل: أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64] ويبين تبارك وتعالى في بعض المرات أن هذا الخلق وذاك البعث الذي يعجز العباد عنه أنه سهل عليه تبارك وتعالى فيقول سبحانه: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] لا إله إلا الله! إذا كان يصعب عليك فهم كيفية إعادة الله لهذا فهذا صعب عندك، أما الله تعالى فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] ويقول سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].. أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة:3] أصعب على الله أن يعيد العظام على الإنسان؟! لا. بَلَى قَادِرِينَ [القيامة:4] على أعظم من هذا، وما هو؟ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] والبنان هنا فيه إعجاز، وقد ذكرنا هذا؛ لأنه يوجد على وجه البسيطة الآن -على وجه الأرض- أكثر من خمسة آلاف مليون نسمة، ولو وضعتهم في مكان واحد وأدخلتهم على جهاز البصمات وأخذت بصمة كل واحد لما وجدت اثنين متساويين في البصمة.
وهناك شيء جديد أخبرني به أحد الأطباء، يقول: اكتشفوا الآن أن النظرة لها أثر في المنظور إليه؛ كل إنسان له نظرة تختلف عن النظرة الثانية؛ فنظرتك إلى الورقة لتقرأها تنطبع وأثرها هنا وينعكس على العين فتترجمه العين إلى القراءة إلى المخ ويذهب من المخ إلى اللسان واللسان يقرأ. هذه كلها تتم في ثوان، سبحان الله الذي لا إله إلا هو!! ويأتي آخر ويقرؤها فتنطبع أشعة من العين تلك غير الأشعة التي من العين الأولى .. كل واحد منا له عين ونظرة تختلف عن الآخر، ولهذا الآن في أمريكا يضعون أقفالاً على الأبواب ولا تنفتح إلا لصاحب العين الذي صنعت على عينه، أي: إذا وقف أمام بابه، وتلفت انفتح القفل، ولو يأتي مليون واحد ويقفون أمام الباب ما انفتح أبداً إلى أن يأتي صاحب العين الذي صنعت هذه مقابلة لأشعته، آمنت بالله! لا إله إلا الله! يقول الله عز وجل: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4].
فلو أيتنا بشخص؛ وهذا إعجاز لا يتصوره العقل أبداً، الآن على وجه الأرض خمسة آلاف مليون، وقبل خمسمائة سنة كان يوجد أربعة آلاف مليون -طبعاً كلما تقدم قلَّ؛ لأن الناس يزيدون كل سنة- لو أتيت بهم وأدخلتهم في حوش وأخرجتهم فإنه لا يوجد واحد بنانه تساوي بنان الآخر، وقبل مائة سنة كذلك منذ خلق الله آدم على ظهر الأرض إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة لا تجد اثنين متساويين!! وهذا في منطقة الإصبع فقط، لا عليك من أي شيء آخر، قد تقول: يمكن! لكن أين المساحة التي يحصل فيها الإبداع والإعجاز والتشكيل لملياراتٍ في هذا، لا إله إلا الله! بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4].
هذا -أيها الإخوة- الدليل الأول؛ إخبار الله بوقوعه بشتى الأساليب وبمختلف الطرق التي تثبت في قلب المؤمن أن البعث كائن لا محالة؛ لأن الخبر جاءنا من أصدق طريقٍ وهو من طريق كتاب الله الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
أنا رأيت جنيناً صغيراً في مختبر في مستشفى من مستشفيات المملكة أضلاعه مثل الدبابيس، يقول: خرج في بداية الشهر الخامس، وبعد ذلك أخذوه إلى التشريح وفصلوا اللحم منه، فإذا عظامه هيكل عظمي كامل لا ينقصه إلا الأسنان؛ الأسنان لم تطلع؛ لعدم أهميتها في بداية حياة الطفل فالله أخرها، وتطلع بعد ذلك عندما يأكل، أما الآن فطعامه سوائل فلا داعي للأسنان، وبعد ذلك هل سمعتم واحداً في الدنيا طلعت له أسنان؟
أبداً. لا يوجد، بينما الصغير يولد تجد معه قدرة على المص، وتجد (الكتكوت) يخرج من البيضة، ومباشرة تجده يقف على قدميه ويبحث عن حب ويأكل، لكن الطفل الصغير لا يستطيع أن يأكل ولا يستطيع أن يهضم، إذاً ليس عنده أسنان، ماذا عنده؟
عنده فم، وعندما تعطيه ثدي أمه يرضع مباشرة.
هذه الأضلاع وهذا العظم. وبعد ذلك يبدأ الولد في النمو المتوازن سواء بسواء؛ الضلع الذي هنا يطلع مثل الضلع الذي هنا، واليد التي هنا مثل اليد التي هنا، والرجل التي هنا مثل الرجل التي هنا، والعين هذه تطلع مع العين هذه، سواء بسواء، خلايا متوازنة! كل شيء في مكانه! سبحان الله الذي لا إله إلا هو!! فالذي خلق هذا الخلق هو الذي نراه كل يوم يحدث، كل يوم يأتي لنا ولد أو بنت كذلك، وقد سألني أحد الإخوة بالأمس سؤالاً، يقول: حديث سأله عنه أحد الناس يسأل عن صحته وهو حديث: (إن خير الأمة من تبكر ببنت) يقول: هل هذا حديث صحيح؟ قلت: لا. ليس بصحيح وليس من مشكاة النبوة، الخيرية لا تكتسب بأنثى أو ذكر، الخيرية تحصل عليها أنت بفعلك وعملك وجدك واجتهادك وإيمانك، فقد ترزق بنتاً ولا تكون من خير الناس، وقد ترزق ولداً ولا تكون من خير الناس، لكن الخيرية بجهادك، أما الولد والبنت فهي بمشيئة الله تعالى، يقول الله عز وجل: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً [الشورى:49-50] والقضية ليست بالرجل ولا بالمرأة.
من الذي يحدد نسبة البنات والأولاد في الشعوب والأمم؟
لا أحد يحدد أبداً، ولا يستطيع أحد أن يحدد، ولو حدده الناس وترك للأب أن يختار لكان كل واحد يقول: أريد رجالاً، أريد أن أتفاءل برجال، وذاك يريد رجالاً .. وكثر الرجال. من أين لهم نسوة؟ ثم بعد ذلك ماتوا وانقرض الجنس البشري.. لكن لا. أنت يأتي لك أولاد وذاك يأتي له بنات، وقد تكون البنت هذه أبرك من بعض الرجال، لا تظن أن البنت إذا جاءت بأنك تنهزم! لا يا أخي. هذه ظنون جاهلية؛ الجاهليون الذين كانوا لا يؤمنون بالله كانوا إذا جاءتهم البنت تهتز قلوبهم. قال الله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النحل:58-59] لا يا أخي: إن الله عز وجل هو الذي يضع البركة في البنت والولد، ورب امرأة كانت أبرك من مئات وعشرات من الرجال! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فالخلق يتم والأولاد يولدون كل يوم، وبعد ذلك يرى الإنسان هذا بأم عينيه؛ ثم هو ينكر أن الله قادر على أن يحيي الناس مرة أخرى! إن الذي خلق قادر غير عاجز على أن يعيد، سبحان الله! إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن خلقهم الأول، فالقادر على خلقهم أول مرة قادرٌ على إعادة خلقهم مرة ثانية، وقد أكثر الله عز وجل من الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وتذكير العباد الذين يستبعدون إمكان وقوع البعث بعد الموت بذلك، يقول الله عز وجل في نقاشٍ عقلي منطقي في سورة مريم: وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66] قال الله: أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:67] ثم يقسم الله تعالى ويقول: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ [مريم:68] يقسم الله تبارك وتعالى أنه سوف يحشر هؤلاء وكل شيطان متمرد على أمر الله.
وأيضاً يقول الله تبارك وتعالى وهو يذكر في القرآن الكريم أبانا آدم أن الله خلقه من تراب، فالقادر على جعل التراب بشراً سوياً لا يعجزه أن يعيد البشر بشراً سوياً.
عندما تأتي شخصاً بنى له بيتاً من الحجارة ثم جاء وهدها، هل تقول: لا تقدر على أن تبنيها مرة ثانية؟ لا. الذي بدأ قادر على الإعادة؛ لأن الإعادة أسهل من البداءة، وإلا فإن الله عز وجل لا يعجزه شيء، كل شيء سهل، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7].
وقد أمر الله الناس بالسير في الأرض، والتذكر لما سيكون فيها، والنظر إلى كيفية بدء الخلق فيها، يقول الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:19-20] وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] كلمة: (أهون عليه) هذه في البشر، لكن له المثل الأعلى، فكل شيء هين على الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27] فكما خلق فهو قادر على أن يعيد، إذ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
والذي يستطيع أن يجري مائة متر لا يعجزه أن يسير خطوات؛ لأنه قدر على الكثير فمن باب أولى أن يقدر على القليل.
وقبيح في نظر البشر أن يرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير من يستطيع أن يحمل الشيء العظيم، ومثله: إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قوياً لا يقال له: إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل، أي: إذا رأيت رجلاً أمسك برجل قوي جداً وصرعه، ورأيت آخر سفيهاً وصغيراً وقلت: أتحداك أن تصرع هذا؟ ماذا يقول لك؟ يقول: يا أخي! أنا قدرت على ذلك الذي مثلي مرتين وطرحته، أما هذا فسوف أنفخه نفخة تأخذه إلى هناك .. لماذا؟ لأن الذي يقدر على الأكبر يقدر على الأصغر، ولله المثل الأعلى تبارك وتعالى.
والله تعالى من جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، فكيف يقال للذي خلق السماوات والأرض: إنك لا تستطيع على أن تخلق الناس؟ يقول الله تعالى: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً [الإسراء:98-99] وقال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81] وقال عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33] وقال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق هذه النصوص: إن من المعلوم والبديهيات والمسلمات عند العقول أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ والإمكان أيسر؛ لأن من قدر على الكبير قدر على الصغير.
ما هي المادة التي تجدها صلبة وعندما تسلط عليها حرارة تتحول إلى سائلة الثلج! من يتصور أن الثلج يصبح ماء؟ ومن يتصور أن الماء يتحول إلى بخار؟ لكن إذا سخنه يصير بخاراً! فالذي يقدر على تحويل المواد من مادة إلى أخرى أليس قادر على أن يحول الإنسان من طين إلى أن يكون بشراً سويا؟!
سبحان الله العظيم! يقول الله تبارك وتعالى: وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10] بين الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن من تمام ألوهيته أنه يقدر على تحويل الخلق من حالٍ إلى حال، ولذا فهو يميت ويحيي، ويخلق ويفني، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:65-96] فهو يخرج من الحبة الجامدة الصماء نبتة غضة طرية خضراء تزهر وتثمر وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ثم تعطي هذه النبتة حبوباً جامدةً ميتة، ويخرج من الطيور الحية البيضُ الميت، ويخرج من البيض هذا حياة طيور جديدة.. سبحان الله! إن هذا لهو قادر على أن يحيي الموتى. وتقليب العباد من حال إلى حال، ومن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت دليل على عظمته وقدرته تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].
إحياء الأموات في هذه الحياة؛ حصل هذا أن أناساً ماتوا فأحياهم الله، وإحياؤهم دليل على قدرة الله عز وجل على إحياء الناس كلهم بعد الموت، ولقد شاهد البشر في فتراتٍ مختلفة من التاريخ عودة الحياة مرة أخرى إلى الجثث الهامدة والعظام البالية المتفتتة، بل شاهدوا الحياة تدب في الجمادات، وقد حدثنا الله عز وجل وأخبرنا عن هذه المعجزات الباهرات في كتابه الكريم فمن ذلك:
قوم موسى لما قالوا له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] وقد مارس العملية أولاً حين قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فالله تعالى قال له: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: لن تستطيع أن تصمد عيناك لرؤيتي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] إذا تمكن جبل الطور من أن يستقر ويواجه عظمة الإله فسوف تراني، يقوله الله عز وجل، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] الله لم يتجلَّ لموسى ولو تجلى له لاحترق، لكن تجلي الله للجبل جعله يخر مدكوكاً: جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] لا إله إلا الله!!
هؤلاء قومه قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] قال الله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الذاريات:44] صعقتهم الصاعقة وماتوا وتقطعت قلوبهم في أجوافهم، لكن قال الله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56] فالله أحياهم بعد أن أماتهم وبعثهم لعلهم يعرفون الله تبارك وتعالى.
كذلك بنوا إسرائيل لما قتل فيهم قتيل بين قبيلتين: وكان رجل منهم له ولد وهذا الولد له عم، فأراد الولد أن يقتل عمه ليأخذ ماله، فقتله ثم حمله ورماه في القبيلة الثانية، وجاء في اليوم الثاني وإذا بالمقتول عندهم، قالوا: أنتم الذين قتلتموه، قالوا: ما قتلناه ونحن أبرياء منه، قالوا: لا بد أن نسأل، ثم ذهبوا إلى موسى عليه الصلاة السلام، قالوا: هذا الرجل وجدناه قتيلاً عند آل فلان وهم ينكرون قتله، فمن قتله؟
فطلب موسى من الله تبارك وتعالى أن يوحي إليه بمن قتل هذا المقتول، فالله عز وجل أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة حتى يؤخذ شيء من هذه البقرة ويضرب بها ذلك الميت فتعود له الحياة ويخبر بمن قتله.
فبنوا إسرائيل على عادتهم لا يمتثلون الأمر مباشرة، ولكنهم يلفون ويدورون، قالوا: يا موسى ما لونها؟ ما هي؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ ما عرضها؟ فشدد الله عليهم؛ كلما سألوا سؤالاً أعطاهم صفة لا يجدونها، حتى إنهم لم يجدوا تلك البقرة إلا عند امرأة من بني إسرائيل رفضت أن تبيعها لهم إلا بملء جلدها ذهباً أحمر، يقول بعض المفسرين: لو أنهم أخذوا أي بقرة من البقر وذبحوها لوجدوا الغرض، لكن لما شددوا شدد الله عليهم.
ولهذا انتبهوا أيها الإخوة! من شدد شدد الله عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تغلوا كما غلت أهل الكتاب) فإن غلّو بني إسرائيل أخرجهم من الدين وقال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] والغلو: هو تجاوز الحد.
وأريد أن يفهم الناس من هذه الكلمة أن الغلو ليس تطبيق السنة؛ بعض الناس عندما يرى شاباً يقصر ثوبه، ويضع يديه على صدره، ويصلي في المسجد، ويغض بصره .. قال: هذا متشدد، وأنت؟ قال: أنا على الدين، ماذا تفعل؟ قال: أغني، وأجلس مع النساء ولو تبرجن .. فإن الدين يسر، هذا كذب، هذا ليس ديناً، هذا تمرد وتملص وتسيب وتضييع لدين الله عز وجل؛ الدين اليسر هو السنة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك الدين تسيب؛ والتشدد يكون فوق ما أمر الله به.
أعطيكم مثالاً على التشدد، والحديث في الصحيحين: ثلاثة نفر جاءوا إلى نساء الرسول فسألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروا بها فكأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله؟ رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! أما نحن لم يغفر لنا ما تقدم ولهذا لا بد أن نزيد! انظروا هذه النظرة! أكثر الناس الآن عندما تقول له: يا أخي! هذه سنة رسول الله، قال: وأين أنا من رسول الله، تريدني أن أكون مثل الرسول؟ لن أصير مثل الرسول، سبحان الله! يقول: الرسول صادق وأنا لا أقدر أن أصدق مثل الرسول ولا أصلي في مسجد الرسول كما يصلي هو، لكنه رسول يصلي في المسجد، أما أنا فلا أقدر أن أصلي؛ أنا ضعيف! ويضيع الدين بحجة أنه ليس مثل الرسول، لكن لك في رسول الله أسوة حسنة، يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] هؤلاء الصحابة يقولون: أين نحن من رسول الله؟ لسنا مثل الرسول مغفور لنا، ولذا فلا بد أن نزيد، فشخص قال: أنا أقوم الليل ولا أنام أبداً -رضي الله عنهم وأرضاهم، آمنوا والله إيماناً مثل الجبال- والثاني قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً! والثالث قال: النساء والأطفال مشغلة عن دين الله، فلن أتزوج النساء أبداً! هذا غلو! هذا خروج على فطرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه، وبالتالي يكون تغييراً للمبدأ وللمنهج الإيماني؛ منهج النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمعهم نادى فيهم وقام وخطب الناس؛ قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) هذا هو التشدد -أي: أنك تشدد على نفسك- بعض الناس يتشدد ويمشي حافياً! ماذا بك؟ قال: يا شيخ، هذه الحذاء تفسد الرجال، أنا أريد أن أمشي من أجل أن أشتد، يا أخي امشِ بالحذاء! كان صلى الله عليه وسلم لا يتكلف مفقوداً ولا يبخل موجوداً، إن وجد حذاء لبسها ولا يرفضها، وإن لم يجد مشى، وأنت إذا لقيت حذاءك انتعلها، لكن تدعها وتمشي حافي القدمين في الشارع فهذا ليس من الدين.
وسمعت عن بعض الناس يقولون: لا نستعمل الكهرباء، لماذا؟ قالوا: إن هذه الكهرباء تأتي لنا بالمنكرات! ويستعملها أهل المعاصي في المنكرات! طيب: الهواء الذي تتنفسه أنت الآن يستنشقه أهل المعاصي في المنكرات، إذاً اترك الهواء، والماء الذي تشربه؛ لأن أهل المعاصي يشربونه، والأرض التي تسير عليها أهل المعاصي يسيرون عليها، أجل! اخرج من الأرض وطِر في السماء وحلق! هذا ليس دين الله تبارك وتعالى، هذا غلو وتشدد.
وأحد الإخوة دخل على أناس في مسجد وإذا بهم يموتون من الحر! سوف ينقطعون في -الرياض أيام الحر الشديد- وإذا به يصلى معهم ولا يعرف كيف يصلي، ولما انتهى قال: يا جماعة: لم لا تشغلون المراوح والمكيفات؟ لماذا يا إمام؟ قال: هذا من الترفيه الذي لا ينبغي! الإمام نفسه يقول: لا تشغلوا المراوح ولا المكيفات، ابقوا في الحر حتى تعرفوا حر جهنم! هذا ليس من دين الله، لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا اسمه غلو وتجاوز للحد، نحن ننصح الناس من الغلو في الدين؛ لأن الغلو إذا تجاوزه الشخص انعكس، يقول: ما تجاوز الحد انقلب إلى الضد.
فبنوا إسرائيل تجاوزوا وبدءوا يلفون ويدورون .. حتى إن الصفة لم تتوفر إلا في تلك البقرة الوحيدة فاشتروها بملء جلدها ذهباً ثم ذبحوها. وجاء موسى عليه السلام وأخذ ضلعاً من ضلعها وضرب الميت، قال الله تبارك وتعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] حين ضربه قام الرجل كأنه كان نائماً، قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي، وابن أخيه هو الذي يصيح ويقول: كيف تقتلون عمي؟! قال الميت: هذا الذي قتلني، فأخذوه وقتلوه، فهذا من آيات الله التي حصلت في إحياء الموتى بعد أن كانوا موتى، أحياهم الله! وإن من أحياهم قادر على إحياء جميع الأموات.
- الدليل الثالث: أخبرنا الله عز وجل في آخر سورة البقرة عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243].
-الدليل الرابع: حدثنا الله عن الرجل المكذب الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ البيوت قد تهدمت، والقبور قد نصبت، والحياة قد انطمست، فقال في عقله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]؛ استبعد وقال: متى يحيي الله هذه الأرض بعد موتها؟ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] رأى العظام وهي تتشكل، ورأى العظام وهي تكسى لحماً، ورأى الروح وهي تنفخ، أما طعامه الذي كان معه قبل أن يموت فقد بقي لم يتسنه ولم يتغير ولم يتحمض ولم يتعفن رغم مرور مائة سنة وهو محفوظ بالقدرة الإلهية لم يتغير أبداً؛ لأنه آية من آيات الله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].
الدليل الخامس: إبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء وسيد الموحدين مارس عملية الخلق وقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] فالله عز وجل أنكر عليه هذا السؤال وقال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] هل تريد الأدلة؟ قَالَ بَلَى [البقرة:260] الإيمان موجود يا رب وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].
مثال: عندما يخبرك أحد بخبر فتقول: احلف بالله! فيقول لك: ألا تثق في كلامي؟ فتقول: واثق، ولكن أريد أن يبرد قلبي ويطمئن باليمين؛ وإبراهيم عليه السلام مصدق، ولا يمكن ألا يثق في كلام الله؛ لأنه من أعظم الناس توحيداً، فهو سيد الحنفاء، وأول من يكسوه الله يوم القيامة؛ لأنه كسا نفسه بالتوحيد فكساه الله بالعزة في الدنيا والآخرة، حتى وهو يذهب إلى النار كان عنده توحيد مثل الجبال؛ يقيدونه ويكتفونه ويرمونه بالمنجنيق في النار وهي موقدة، حتى كانت تشوي الطير في كبد السماء وهي تطير، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويعترضه جبريل ويقول: ألك حاجة؟ قال: أما إلى ربي فنعم، وأما إلى غيره فلا. يقول: ليس لي حاجة إلا إلى الله، فالله تبارك وتعالى خاطب النار مباشرة بدون وحي وبدون ملائكة: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] دافع الله عنه دفاعاً عظيماً، حتى زوجته سارة أم إسحاق التي وهبت له هاجر التي وهبها لها عظيم مصر، وكان رجلاً خبيثاً شهوانياً، لا يعلم بامرأة جميلة إلا ويأتي بها.
لما دخل إبراهيم مصر ومعه زوجته وكانت جميلة المنظر والخلقة علم بها في قصره، فأرسل إليها الرجال فأتوا بها، فلما سأل إبراهيم عنها -لو قال إبراهيم: إنها زوجتي لقتل، رأساً يقتلون الزوج ويأخذون المرأة، لكنه حكيم- قال: أختي، ومعنى أختي أي: في الإسلام؛ لأنه ليس على وجه الأرض مسلم إلا هو وهي، فأخذوه إلى السجن وأخذوها هي إلى قصره، ولما دخل عليها جمده الله، وكشف الله الحجب لإبراهيم في السجن فهو يراهم؛ من أجل أن يطمئن قلبه ولا يشك في امرأته، فلما جاء الخبيث الطاغية ودخل عليها ومد يده، جمده الله وصار مثل الحجر، قال: ادعي الله لي وأتركك، فدعت الله له، فخرج فلما خرج جاءته الشهوة ورجع إليها فجمده الله، فقال مرة ثانية: ادعي الله لي وأطلق سراحك، فلما خرج قال: أخرجوها. هذه جنية، ولما رجعت إلى إبراهيم وهبها هاجر أم إسماعيل، وبعد ذلك وهبت هاجر لإبراهيم فبنى بها إبراهيم وولدت له إسماعيل ثم أمر الله إبراهيم أن يسكن هاجر وابنها إسماعيل في مكة وأن يبقى إسحاق مع أمه في بيت المقدس .. إلى آخر الآيات والدلالات.
يقول عز وجل في إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً [البقرة:260] قطعهن وشتت كل أجزائهن، ثم فرقها على رءوس الجبال: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] أمره الله أن يأخذ الطيور الأربعة، وأن يذبحها ويقطعها إلى أجزاء، وأن يفرقها على رءوس الجبال، ثم يناديها، ويأمرها بالاجتماع، فأتت فكان كل عضوٍ يأتي إلى مكانه؛ اليد تأتي إلى مكانها؛ والجناح يأتي مكانه، والرقبة تأتي وتتركب مكانها، والرأس يأتي إلى مكانه فوق الرقبة، والعين تأتي إلى مكانها! قطعها وكسرها تكسيراً كلها، ولكن رجع كل عضو إلى مكانه، ثم نفخ الله الروح فيها وانطلقت محلقة في الفضاء، قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260].
الدليل السادس: عيسى عليه السلام كان يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأيضاً كان يحيي الموتى بإذن الله، ويقال في الحديث: إن عيسى مر على قبر فقال له بنو إسرائيل وهم معه: هذا القبر نريدك أن تحيي لنا راعيه، فضرب على طرف القبر وسأل الله فانتفض القبر وقام الرجل أشيب الرأس كأنه جمرة، أحمر .. أشيب .. كبير السن طويل القامة .. قال له: من أنت؟ قال: أنا فلان، قال: كم عمرك لما متَّ؟ قال: أربعة آلاف سنة، قال: أربعة آلاف سنة؟! قال: مت وأنا شاب -يقول: ما زلت في غصن الشباب تلك الأيام- يقول: آباؤنا يعيشون أكثر؛ يعيشون عشرة آلاف سنة وعشرين ألف سنة، يقول: أنا مت وأنا في أول عمري .. أربعة آلاف سنة! ونوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والمرأة التي مات ولدها وعمره ثلاثمائة سنة، وجاء رجل من الأنبياء عليه السلام وهي تبكي على القبر، قال: ما هذا؟ قالت: هذا ولدي، قال: كم عمره؟ قالت: ثلاثمائة سنة، قال: والله إنه سيكون في آخر الزمان أناس يعيش أطولهم عمراً سبعين سنة، قالت: والله لو عشت ذلك الزمان لأمضيتها لله في سجدة واحدة -تقول: لا أقوم منها إلا إلى الموت- ونحن الآن الله المستعان! لا إله إلا الله!
فكان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل، يقول الله تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49].
- الدليل السابع: قصة أصحاب الكهف: وهي آية صريحة؛ ثلاثمائة وتسع سنوات، ثلاثمائة بالميلادي، وثلاثمائة وتسعة بالهجري، قال الله تعالى: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف:25] فهي ثلاثمائة بالميلادي؛ لأن كل ثلاثة وثلاثين سنة تزيد سنة هجرية؛ لأن السنة في الهجرية ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً، وفي الميلادي ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ففي كل سنة يتأخر؛ انظروا العام الدراسي الآن يتأخر كل سنة عشرة أيام، فالله تعالى يقول: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الكهف:25] بالشمسي وَازْدَادُوا تِسْعا [الكهف:25] بالقمري.
هؤلاء أحياهم الله تبارك وتعالى بعد موتهم؛ وضرب الله على آذانهم في القبر عدد سنين.. كم؟ ثلاثمائة سنة، قال الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً [الكهف:12] وقال: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ [الكهف:19] فالبعث هنا يدل على أنهم قد ماتوا، حتى إنهم لما جاءوا بالعملة قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19] ورقكم يعني: العملة من الفضة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] لأن الظالم الطاغية الذي كان يحكمهم في ذلك الزمان كان يتابع المؤمنين ويقتلهم فخرجوا، قال الله تعالى فيهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] فارين بدينهم.
وتغيرت السنون وذهب الملك هذا وجاء بعده ملوك، ولما دخلوا وجاء يشتري بالريال وإذا بالريال لا يمشي؛ لأنه عملة قديمة مضى عليها ثلاثمائة سنة.. من أين جئت بهذا؟ أوجدت كنزاً؟ هذه عملة قديمة، قال: لا.
المهم أنهم انكشفوا، قال الله تعالى: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] لكنهم انكشفوا، وبعد ذلك ذهبوا بهم إلى الملك وهو رجل فيه خير؛ فهو مؤمن بالله تبارك وتعالى.
-الدليل الثامن: آية موسى وهي عصاه التي بيده، كان إذا ألقاها تلقف ما يصنعون، وكانت تتحول إلى حية تسعى، الحياة في الحية من الذي أعادها؟ الله تبارك وتعالى.
إنه الله الذي لا إله إلا هو، يقول الله تعالى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50] ويقول عز ذكره: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان:48] ويقول: إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر:9] ويقول: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39] ويقول: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11].
قسم استجاب واستقام على طاعة الله، وعمل في سبيل الله، وبذل نفسه وماله وحياته كلها في دين الله.
وقسم رفض دين الله، وكذب رسله، وقضى حياته كلها في محاربته هو ورسله، وفي إيذاء عباد الله؛ يفتك بالأرواح.. يسيل الدماء.. يهتك الأعراض.. يسرق الأموال.. يفسد في الأرض .. ثم يموتون كلهم، أفيليق في منطق العقل أن يموت ذلك الصالح وذلك الخبيث المنحرف الطالح ثم لا يجزي الله المحسن بإحسانه، ولا يعاقب المسيء على إساءته؟ هل هذا معقول؟
لا. ولهذا يقول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ [القلم:35-38] ويقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] ثم يقول: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] أي: مستحيل، ويقول الله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20] ويقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:21-22].
هذه -أيها الإخوة- الأدلة السبعة التي نغرسها في قلوبنا، ونجزم عليها ونعيش في سبيلها، ونعيش عليها ونحن مؤمنون بلقاء الله، ويترجم هذا الإيمان ويصدق أو يكذب بسلوكنا، فإن من الناس من يقول: آمنا، ولكن فعله يكذب قوله، لا يكون صادقاً من قال: آمنا إلا إذا أقام على هذا الكلام دليلاً من عبادته وترك محارم الله تبارك وتعالى، واستقامته على منهج الله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقني وإياكم الإيمان القوي، وأن يثبتنا وإياكم عليه حتى نلقى الله.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تنبيه:
ينتشر في هذه الأيام ورقة يقولون: إنها مصورة بالكمبيوتر على القصبة الهوائية والرئة اليمنى، وأن المتأمل فيها يقرأ كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإذا كان الكلام صحيحاً، يعني: أن هذا جاء عن طريق تصوير لهذه الجزئية من جزئيات الجسد بالكمبيوتر والتكبير له، فإنه واضح من خلال القراءة لها كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله -واضحة باللغة العربية- وبإمكان أي واحد منكم أن يراها، هذه من آيات الله الدالة على عظمة الله وقدرته، والله تعالى يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] ولكن لسنا -أيها الإخوة- في شكٍ من أمر ديننا ولا عقيدتنا حتى نبحث عن المؤيدات، كأننا نقف ونريد من يثبتنا، لا. نحن ثابتون ولو لم نر، هذه إن كانت حقاً فهي تزيد، وإن كانت ليست بحق فلا نتزعزع في إيماننا؛ لأننا نخشى أن يأتي يوم من الأيام يبحثونها فيقولوا: لا. الأمر فيه خطأ
إن كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله كلمة حق عليها نعيش وعليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل لا إله إلا الله، وهذه لا تزيد المؤمن إلا إيماناً وتثبيتاً عند الله تبارك وتعالى.
الجواب: نقول: -أيها الإخوة!- من نور الله بصيرته من الإخوة الذين يقيمون في هذه الديار وعاد إلى بلده فإن مسئولية الدعوة يجب أن يحملها وينشرها، كما منَّ الله عليه وأنقذه مما كان فيه من الضلال، وينبغي أن يحمل هذا النور وهذه المسيرة إلى أهله وعشيرته، وأن يبلغ من يعرف ومن لا يعرف من قراه التي يعيش فيها بدين الله تبارك وتعالى، ولكن ينبغي أن يكون الإبلاغ عن طريق العلم. لا بد أن تتعلم؛ لأنك إذا أوردت المسألة وقرنتها بالدليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقنعت، أما إذا قلت كلاماً كذا بدون دليل فإنك تقف موقف العاجز عن الرد، ولكن لا يمنعك عدم علمك عن أن تقول الحق، إنما قل الحق فإن استطعت أن تدعمه بالدليل فهذا أفضل، وإن لم تستطع فعليك أن تأمر وتنهى بما تقدر عليه بحسب استطاعتك وما وصل إليه علمك والله عز وجل سيثيبك.
أما هؤلاء الذين يعيشون في الجهل والبعد عن دين الله وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختلاطٍ، وتبرجٍ، وتكشفٍ، وسهرٍ محرم، ويدعون أن قلوبهم طاهرة، فهؤلاء والله ما قلوبهم بطاهرة، ولا عرفوا دين الله ولا عرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله أمر بالأوامر ونهى عن النواهي وتعبد العباد بهذه الأوامر، وحق العباد أمام الأمر والنهي الامتثال والطاعة لا أن يردوا أمر الله بحجة أن قلوبهم طاهرة، فإن القلب الطاهر هو القلب الذي يستجيب لأمر الله، أما الذي يرد أمر الله فهو قلب نجس، لا طهارة فيه، والذي يقول: أنا لا أحجب زوجتي؛ لأن قلبها وقلبي طاهر، وقلب الرجال طاهر، والله لو كان القلب طاهراً لحجبت امراءتك، إذ ما يمنعك من الحجاب إلا رغبتك ورغبة امرأتك في النظر! أجل. كيف ترغب المرأة في النظر إلى الرجال والرجل يرغب في النظر إلى النساء ويدعي أن قلبه طاهراً؟! لا نعلم أن قلبك طاهراً، وما شققنا صدرك، لكن الذين هم أطهر خلق الله.. صحابة رسول الله وأمهات المؤمنين الذين أمرهم الله بالحجاب فقال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] وأمر الحجاب مثل أمر الصلاة.
ما ظنكم لو قلنا لشخص: جاء رمضان شهر الرحمة والغفران، والشرع يلزمك أن تصوم رمضان، فما صام، ولما جاء في الظهر وإذا به يأكل، ما بك؟ قال: أنا قلبي طاهر ولو ما صمت، والإيمان في الصدور، رمضان ليس بترك الأكل.. كل يا رجل وأنت على دينك طاهر .. ما رأيكم فيه؟ كذاب. وآخر قلنا له: صلِ الصلوات الخمس، قال: ماذا في الصلاة؟ أقوم وأقعد.. ليس إلا قيام وقعود! ما هذه الصلاة؟ الصلاة صلاة القلب، أنا أصلي في قلبي، قلبي طاهر ولو لم أصل! ما رأيكم فيه؟ هذا كافر.
والذي نقول له: حجب زوجتك قال: الحجاب في القلب، أنا قلبي طاهر ولو لم تكن امرأتي محجبة، قلبي طاهر ولو جالست النساء، هذا مكذب لله ولرسوله، والذي يسمع الأغاني، نقول له: اترك الأغاني يقول: لا. والله أنا أسمعها من هنا وتخرج من هنا، كلام يذهب، أنا لا أتأثر، نقول: لا. أنت كذاب.. لو أنك لا تتأثر لتركته؛ لأنك عصيت الله عز وجل، لا تنظر إلى النساء قال: لا. حتى ولو نظرت إلى النساء لا يضر، ماذا هناك يا أخي، أنا أملك نفسي، ولو نظرت، فأنا طاهر وشريف! لا. إنك يوم أن نظرت عصيت الله، ولو كنت طاهراً لما عصيت الله؛ لأن الطهارة هنا طهارة حسية ومعنوية، فالإنسان الذي عنده خبث في قلبه للنساء والنظر إليهن هذا نجاسته نجاسة حسية، يقول الله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] والمرجفون في المدينة والذين في قلوبهم مرض؛ مرض الشهوات، والنساء، وحب الزنا -والعياذ بالله- حتى ولو كان ليس له رغبة في النساء ثم نظر فإن في قلبه مرض، لماذا في قلبه مرض؟ مرض معنوي؛ معصية الله، ولهذا قال العلماء: إن توبة العنين من الزنا الذي لا يقوم له عضو على الزنا -وهو تائب من الزنا؛ لأنه لا يعمل الزنا- قالوا: مقبولة، رغم أن وسيلة الزنا لا توجد، لماذا؟ لأن الله يعامله على قلبه، سواء معه الآلة أو لم تكن معه الآلة.
الجواب: كيف تحبهم في الله؟ ما هذا الفهم الخاطئ؟ ما معنى الحب في الله؟ الحب في الله أنك تحبه؛ لأنه ولي لله، يقوم بأوامر الله وينتهي عما نهى الله عنه؛ فأنت تحبه في الله، لكن هذا الذي لا يصلي في المسجد يجب أن تبغضه في الله، لا أن تحبه في الله؛ لأنك إذا أحببته في الله فقد عصيت الله؛ لأنك أحببت عدواً لله قطع بيوت الله، فالحب يجب أن يبنى على الاستقامة الكاملة والتمسك بأوامر الله تعالى.
السائل: وخصوصاً صلاة الفجر لا يصلونها؟
الشيخ: وهذا الكلام هو (ترمومتر) الإيمان الذي ينتشر فيها، لا ينفعه قيامه في غيره؛ لأن الذي لا يصلي الفجر في المسجد منافق والعياذ بالله.
السائل: وأيضاً يتفرجون على المسلسلات والفيديو، ويسمعون الأغاني وينظرون إلى ما حرم الله؟
الشيخ: وأيضاً يحبهم في الله!
السائل: رغم أنني نصحتهم مراراً .. فما هو الحل يا شيخ، هل أجلس معهم، أم لا؟ واعلم أني أحبك في الله، فأعطني نصحيتك وإرشادك، وفقك الله؟
الشيخ: أنا أقول بالنسبة لي أسأل الله أن يكون حبك لي في الله حباً صادقاً، أخاف أن تكون قد رأيت فيَّ شيئاً من المعاصي وأحببتني في الله على ذلك، وأسأل الله أن يجمعنا وإياك وإخواننا في جنات النعيم.
أما هؤلاء الذين لا يصلون في المسجد وخصوصاً صلاة الفجر، ويسمعون الأغاني، وينظرون إلى الأفلام والمسلسلات، ويتفرجون إلى الحرام، فإن جلوسك معهم خطأ وخطر على دينك وعقيدتك، وعليك أن تنجو بنفسك؛ لأنك تقول: نصحتهم مراراً فلم يلتزموا، فر منهم فرارك من الأسد، فر منهم فرارك من المجذوم، أو الذي عنده إيدز أو سرطان أو (كوليرا)، هؤلاء عندهم إيدز في أخلاقهم، وسرطان في عقيدتهم، و(كوليرا) في تصرفاتهم، انجُ منهم وإلا فإن كثرة الإمساس تذهب الإحساس، وقريباً بعد أيام تكون واحداً منهم.
يا أخي: فر بدينك وتعرف على الإخوة الصالحين المؤمنين الطيبين الذين بمعيشتك معهم تزداد ديناً وهداية إلى الله عز وجل.
الجواب: الزملاء في العمل تربطك بهم رابطة العمل وينقسمون إلى قسمين:
1- قسم مؤمن طيب ملتزم .. هؤلاء تربطك بهم رابطتان: رابطة الإيمان والالتزام والحب في الله ورابطة العمل، وينبغي أن تعاملهم معاملة الإخوة في الله والإخوة في العمل.
2- زملاء آخرون في العمل لكن ليسوا معك ولا على مثل ما أنت عليه من الإيمان والدين والهداية والاستقامة، فهؤلاء تتعامل معهم بما تقتضيه ظروف العمل فقط، لكن تضحك معه، وتبش له، وتأكل معه، وتسمر معه، وتتمشى أنت وإياه.. زيارة.. سهرات، لا. لماذا؟ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
أما الشريط الإسلامي الذي يفيد لهم فلا أستطيع أن أدلك على شيء، ولكن اذهب إلى أصحاب التسجيلات واسألهم فإنهم سيدلونك على الأشرطة المفيدة إن شاء الله.
الجواب: أما إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فلا ينبغي أن تقول الحمد لله، بل تقول ما ورد في الشرع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال عبد وكلنا لك عبد، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). تقول هذا الكلام.
وإذا قال الإمام: إياك نعبد وإياك نستعين، فلا تقل: استعنا بالله؛ لأنه لم يرد، وبعض أهل العلم يقول: إنك إذا قلتها تبطل الصلاة؛ لأنها كلام من خارج الصلاة.
أما إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة.. قد قامت الصلاة، وقلت: أقامها الله وأدامها، فقد ورد فيها حديث وفي سنده ضعف، ولكن بعض أهل العلم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وهذا دعاء من فضائل الأعمال أن تدعو الله أن يقيمها وأن يديمها عليك، وبعضهم يقول: تقولها أحياناً وتتركها أحياناً حتى لا تستمر على فعلها فيفهم الناس من فعلها أنها حديث صحيح، أو أنها ثابتة.
الجواب: هذا يا أخي من البر، فإذا قمت في الصباح وقبلت رأس والدتك أو يدها وذهبت إلى الدوام ورجعت من الدوام وقبلت رأسها ويدها، ورجعت في الليل وقبلت رأسها وودعتها، ودعت لك أمك أو دعا لك أبوك.. هذا من البر؛ لأن أفضل من أسدى لك جميلاً بعد الله عز وجل هما الوالدان؛ ولهذا يقول الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] وقرَن عبادته بطاعتهم فقال جل ذكره: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36] ومن لا يشكر لوالديه لا يشكر لله عز وجل، فأعظم الناس نعمة عليك هما والداك، فعليك أن تعرف قدرهم وأن تبرهم، وأن تأتي إليهم في الصباح وتقبل الوالدة أو الوالد، وتسلم على يده ورأسه، وتقول: أي خدمات يا أبت؟ ادع الله لي بالتوفيق، إذا قال لك أبوك: وفقك الله، نور الله قلبك، يسر الله أمرك، فهي نعمة عظيمة.
لكن بعض الأولاد لا يتصرف تصرفات حسنه؛ لأنه يعرف أن أباه لا يريدها أصلاً! لماذا؟ يقول: لأني أخاف أن أقول له فيصرخ، يقول: فأذهب من دون استئذان..! إذا صرخ فهو أصلح لك من عدم استئذانك، قد تكون تريد أن تسافر أو تذهب عمرة أو أي رحلة فتقول: أذهب وأعلم أبي بعد ذلك، لأضع أبي أمام الأمر الواقع. هذا ليس صحيحاً، فأبوك إذا سأل: أين ذهب؟ قالوا: ذهب، قال: الله يجعلها في وجهه، حينها جاءتك قنبلة من السماء؛ لأن دعوة الوالد على ولده لا ترجع.. لا وفقه الله، ولا تقبل منه.. ما فائدته! لكن تعال إلى أبيك وقل: يا أبت: أريد أن أذهب عمرة، فإذا قال: امش، وفقك الله..، دعوة طيبة، وإذا قال: لا. اجلس، فأنت بنيتك يكتب الله لك عمرة ولو أنت قاعد في البيت، لماذا؟ لأن الذي منعك طاعة الله ثم والداك.
الجواب: صدق أخي الكريم، لا ينبغي للشخص أن يبقى متردداً؛ نريد استقامة! أنا أرى كثيراً من الشباب يأتون المسجد لكن لا يزالون يشاورون أنفسهم.
لا يوجد مشاورة ولا خيارات في دين الله، إنما هي الجنة أو النار، السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، لا خيار لك في هذا، والله تعالى يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] ويقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] هل لك خيار وقد قضى الله بالأمر؟ لا. قضى الله أن تعبده، أي: لا بد أن تعبده، بماذا تعبده؟ باتباع أمره واجتناب نهيه، فسر ولا تبقى متذبذباً؛ لأن التذبذب خطر. أنت قد تقول: أنا والحمد لله أفكر في أن ألتزم، ما هو الالتزام؟
الالتزام أن أصير مؤمناً؛ أن أنفذ الدين بحذافيره فلا أسمع، ولا أنظر، ولا أتكلم، ولا أمشي إلا بالحلال، ولا آكل إلا الحلال، وأطلق لحيتي، وأقصر ثوبي، وأمشي مع الطيبين، وأسمع الشريط الإسلامي، وأدعو إلى الله، وآمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأحب وأبغض في الله، وأعيش هموم الدين، ومشاكل المسلمين، وأعيش بقلبي وقالبي مع الإسلام في كل أرض ومكان، وبعد ذلك أغير بدل الكتاب الماجن الكتاب الإسلامي، وبدل المجلة الفاجرة المجلة الإسلامية، وبدل الجريدة الخاسرة جريدة إسلامية .. هذا هو المؤمن، لكن إذا قلت: لا والله. أنا سوف أصلي، أنت الآن على خطأ! أنت متردد، أقل مصيبة تردك إلى الوراء، فاغنم قلبك واغنم حديدك إذا حر، فإن الحديد يضرب وهو ساخن.
الجواب: أولاً: موضوع التمثيل إن كان تمثيلاً باطلاً، أو لنساء، أو تمثيلاً للصحابة والأنبياء والرسل، أو لمجون وكذب .. فهذا حرام بإجماع العلماء، ولا أحد ينازع في هذا؛ لأنه يجمع كل المصائب، وهو الموجود الآن في المسلسلات والتمثيليات وأفلام الفيديو .. هذا كله باطل وكذب، ولا ينبغي لك أن تعيش مع الكذاب وتعطي عقلك غيرك.
أما التمثيليات الهادفة التي تمارس في بعض الأماكن كالمدارس الثانوية والجامعات والمراكز الصيفية والمعسكرات الإسلامية، والمخيمات الدينية من أجل معالجة قضية، ولا يمكن أن تصل هذا القضية وأن تفهم إلا إذا أظهرت في شكل روائي، بحيث يمثل هذا دور الشاب المنحرف، وذاك دور الشاب الطيب، وكيف لقيه وجلس معه وراح هو وإياه وأثر فيه، وبعد ذلك اهتدى والتزم وصار ملتزماً .. فهذه هادفة. وشاب آخر كان يدخن وكان -والعياذ بالله- سكيراً ولقيه واحد آخر وقال: تعال يا أخي .. هذه مذاهب انقسم العلماء فيها إلى قسمين:
1- قسم يقول: لا يجوز، لماذا؟ قالوا: لأنه كذاب؛ لأنه يمثل أنه منحرف وليس منحرفاً، وما دام أنه كذب فلا يجوز.
2- وقسم يقول: جائز ولو كانت التمثيلية كذباً، لماذا؟ قالوا: لأنه ورد في الدين ما يسندها، ما هو الذي يسندها؟ قالوا: جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليس كان يمثل دور طالب العلم، أجيبوا علي؟ بلى. هل كان جبريل لا يعرف؟ كان يعرف الجواب وهو يسأل الرسول -أخبرني عن الإسلام- يعرف الجواب لكنه جاء ليمثل دور طالب العلم، وليس هذا بكذب، لماذا؟ ولهذا لما ذهب قال: (أتدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، وليس عليه أثر السفر، ما جاء من مكان بعيد، من أين جاء؟ من الملائكة، وجلس وأسند ركبتيه، وبعد ذلك علمهم كيف يجلس طالب العلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقال: أخبرني عن الإسلام، هذا دور روائي.
أيضاً حديث آخر في صحيح البخاري ومسلم ؛ حديث الأعمى والأقرع والأبرص، الذي أرسل الله لهم ملكاً من الملائكة وجاء إلى الأول وقال: ماذا تريد.. المهم أن الله عز وجل رزقهم، ثم بعد ذلك جاءهم الملك في أشكالهم، جاء عند الأقرع في صورة أقرع، وجاء عند الأعمى في صورة أعمى، وجاء عند الأبرص في صورة أبرص. وهذا شكل تمثيلي، لكن الهدف منه اختبار وابتلاء هؤلاء الناس، هل ينسون الماضي أم يذكرونه؟ فبعضهم نسي الماضي وقال لما قال له: أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن والمال الكثير أن تعطيني شاة أتبلغ بها في سفري، قال: أنا ورثته كابراً عن كابر، مثلما ينكر بعض الناس الآن عندما تقول له: اذكر فضل الله عليك، قال نحن أغنياء من يوم خلقنا -أي: نحن ما لحقَنا شيء من الجوع- وقد كان يطلب على الأبواب، (شحات) لكن الله رزقه ونسي الماضي، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه أدلة تدلل إن شاء الله أنه إذا أراد بعض الشباب الطيب على أن يقوموا بممارسة عمل مسرحي نظيف شريف لا مجون فيه ولا تزوير، كمن يأخذ أذناب الخرفان ويضعها كلحية -أي: يقص ذنب الخروف ويعلقه في وجهه ويمثل بأنه رجل مسن، هذا كذب! لا يصلح؛ لأن هذا تزوير، إنما يظهر في شكله، وبعضهم يأخذ الطلاء ويلطخ وجهه ويفعل له لحية وشارباً، وبعضهم كأنه شيطان، لا. لا يجوز أن يظهر في صورة شيطان، لا يجوز أن تظهر مسلماً في صورة شيطان، ولا يظهر في صورة كافر مثل أبي جهل ، لا. ولا يظهر في صورة صحابي أبداً، إنما صورة من الصور العادية.. يظهر فيها من يمثل الدور.
أنا أقول هذا بعد الاستقراء والنظر في الأدلة، وبعد التشاور مع بعض الإخوة .. نسأل الله ألا يكون به بأس والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر