عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، واسمعوا قول الله جل وعلا في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
معاشر المؤمنين! إن كثيراً من الناس في هذا الزمان قد يعملون أعمالاً شتى، وإن كانوا يريدون بها وجه الله جل وعلا، إلا أنهم يحدث منهم ما يكون سبباً لبطلان أعمالهم، وإحباط ثواب ما اكتسبته أيديهم من الخيرات، وذلك لأسباب عظيمة؛ وذلك لأمور كثيرة متعددة؛ ولكن أكثر الناس عن هذا غافلون.
تجد رجلاً صواماً قواماً، أو عابداً، أو مصلياً، أو صائماً؛ ولكن يحدث منه أعمال يجهل أنها قد تكون سبباً لبطلان عمله، وإحباط ثواب عمله، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على أكبر درجات الخوف والوجل من الله جل وعلا من هذه المسألة الخطرة جداً.
لما سمعت عائشة قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57].. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:59] إلى قوله جل وعلا وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أهم الذين يزنون؟ أهم الذين يسرقون؟ أهم الذين يشربون الخمر؟ قال: لا، يا
فانظروا إلى عظم عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالإخلاص والمتابعة، ومع ذلك كل واحد منهم يده على قلبه، يرجو ثواب ربه، ويخشى حبوط عمله.
فما بال الكثير منا في هذا الزمان، عند أدنى حسنة، أو عند أدنى صالحة من الصالحات يظن أنها قد شقت عنان السماوات، وبلغت أعلى الدرجات، وكُتبت لا شك ولا محالة في سجل الحسنات، ولم يتفقد حسنته تلك، ولم يدقق ويتأمل فيما قدم.
إن كثيراً من الناس يرفعون أعمالاً تسقط عند أقدامهم، وما السبب؟ السبب هو عدم الإخلاص، أو وقوع سبب محبط.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الشهيد الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، كان يسأل أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ، ويقول له: [سألتُك بالله، هل عدَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟].
إذا كان الفاروق .. إذا كان ابن الخطاب .. إذا كان عملاق الإسلام يخشى على نفسه من النفاق، فما بالنا نحن؟! وما موقعنا؟! وفي أي درجة نكون يا عباد الله؟!
إن الكثير ليركع ويسجد ويخرج وكأنه قد ضمن الجنة، وكأن صلاته قد قُبلت، بلا تضرع وبلا خشوع وبلا سؤال ملحٍّ على الله أن يتقبل عمله، بل الكثير منهم يعمل العمل، وكله إدلال وعُجب، وكله بطر وإدلال بأن عمله لا شك قد وُضع في عداد أعمال الشهداء!
من ذا الذي يمن على الله بعمله؟! ومن ذا الذي يستكثر على ربه حسنة من الحسنات، أو صالحة من الصالحات؟!
معاشر المؤمنين! قال عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة : [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق] وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم الله جل وعلا في كتابه الكريم بالفضل وعلو الدرجة، واختارهم ثلة طيبة لصُحبة نبيه، أولئك الذين لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
وكان الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة يقول: [يا ليتني طائراً يطـير من فَنَن إلى فَنَن، وألقـى الله جل وعلا كفافاً، لا لي ولا علي].
ذلك العملاق، ذلك الجبل الشامخ، ذلك القمة السامقة في تاريخ الإسلام، وفي صدر الدعوة، الذي صدق النبي يوم كذبه الناس، وآزر النبي يوم خذله الناس، يبكي خوفاً وجزعاً بين يدي الله جل وعلا، ويقول: [يا ليتني أقدم على الله يوم العرض الأكبر كفافاً، لا لي ولا علي].
وبعضُنا في هذا الزمان إذا ساءل نفسه، أو ناقش نفسه، أو حاسبها، قال: أنا فلان بن فلان، قدَّمتُ، وفعلتُ، وجاهدتُ، ورأيتُ، وقرأتُ، وحاضرتُ، وخطبتُ، وأتيتُ، ودعوتُ، وكل تاء الفاعل ينسبها إلى نفسه من الأعمال! فيا عجباً يا عباد الله! أين هذه النسبة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن التابعين؟!
إياكم ونفسي من الغرور بالأعمال! إياكم والعُجب بالعمل! فإنه محبطة مهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بل وأعظم وأجل من هذا: أن الله جل وعلا يحذِّر نبيه من الشرك، والله يعلم أن الأنبياء لا يشركون؛ لكن لبيان خطورة هذه المسألة. إن من الناس قد يشرك وهو لا يدري، وقد يقع في الكفر من حيث لا يشعر، فالحذر الحذر من أسباب الكفر، ومن وسائله ومقدماته، يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
ويقول الله جل وعلا في شأن الرسل جميعاً:وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
إذاً: فيا عباد الله! إن الله لا يقبل عملاً فيه شرك، مهما كان الإنسان صوَّاماً قواماً متصدقاً منفقاً، ما دام يفعل عملاً أو أمراً من أمور الشرك، فإن هذا كافٍ في إحباط العمل مهما بلغت درجتُه، ومهما علت منـزلتُه، ومهما ظن به الناس الظنون, ومهما توقع لنفسه أعلى الدرجات؛ لأن الله جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركتُه وشركه).
وأنتم تعلـمون -يا عبـاد الله- أن الله خـلقنا لعبادته: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولم يقبل عبادةً مطلقة، بل قبل عبـادة خالصة لوجهه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]
ولا تكفي العبادة مع الإخلاص، بل لابد من المتابعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لـمسلم رحمه الله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فالعمل لا بد أن يكون خالصاً، ولا بد أن يكون صواباً صحيحاً سليماً على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! مهما بلغ ما تسمعون عنهم من الطوائف المنحرفة، والملل الضالة، مهما تظاهروا بالإسلام، ومهما طبقوا أحكام الإسلام في ظاهر معاملاتهم، وفي محافلهم ومؤتمراتهم، وفي أماكن اجتماعاتهم، أعني بذلك: الرافضة الاثني عشرية؛ فإنهم في حقيقة الأمر يصدق عليهم قول الله جل وعلا: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:3-4].
إن كثيراً من شباب الإسلام يوم يرون سفيراً من سفرائهم، أو رجلاً من رجالهم، أو تاجراً من تجارهم يطبق أحكام الإسلام، ويطبق القواعد التفصيلية الفرعية في ظواهر أمره وفي ذهابه وإيابه، يرون واحداً منهم يتقدم الناس يصلي بهم، ويرون الآخر يخطبهم، ويرون الثالث يدعوهم، يقولون: هذا هو الإسلام لا غير، وقد جهلوا أن أولئك ضيعوا أموراً كثيرة أوقعتهم في الشرك، وأوقعتهم في الكفر والعياذ بالله فكانت سبباً لإحباط أعمالهم.
إن الله جل وعلا لا يقبل إلا عملاً خالصاً صواباً، لا يقبل إلا إيماناً كاملاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
لا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، لا تطبقوا شيئاً وتتركوا شيئاً. إن الله أمرنا أن ندخل في دينه جُملة وكافة.
توعد الله أولئك بويل، وهو وادٍ في جهنم، والله بريء من الرياء والشرك صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، يقول الله جل وعلا في شأن المرائين: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264].
ومن الأمور المحبطة لثواب الأعمال: المن والأذى، يقول الله جل وعلا: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262].
ويقول الله جل وعلا محذراً من المنة، ومحذراً من الإدلال، ومحذراً من تكرار ذكر المعروف على الذين يُسدى إليهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264] فهذه الآية دلت على أن المن والأذية سبب لبطلان ثواب الصدقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ورحم الله القائل:
أفسدتَ بالمن ما أسديتَ من حَسَنٍ ليس الكريم إذا أسدى بمنانِ |
ويقول الآخر:
أحسن من كـل حَسَن في كل وقت وزمن |
صنيعة مربوبة خالية من المنن |
عباد الله! إن الأمور التي هي سبب لإحباط ثواب الأعمال كثيرة وكثيرة جداً، وحسبنا في هذا المقام المناسب أن نذكر شيئاً منها، أو من أهمها، فمنها أيضاً:
فما رأيتَ من ضال فادعُ له بالهداية، وما رأيتَ من مستقيم فاسأل الله له الثبات.
روى مسلم رحمه الله بسنده إلى جندب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن رجلاً قال: (والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان، قد غفرتُ لفلان، وأحبطت عملك). هذا بسبب التألِّي قد غفر الله لذلك الذي ظن أنه لا يُغفر له، وأحبط عمل ذلك المتألِّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإنني أحذر نفسي وكثيراً من المسلمين الذين يقعون في هذا، ظناً منهم أن فاسقاً من الفساق، أو فاجراً من الفجار لا يمكن أن يهتدي (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فلا تظنن مستقيماً يموت على استقامته؛ إلا إذا عصمه الله ومن عليه بذلك، ولا تظنن مذنباً وفاجراً يموت على فجوره، إن الله قد يتداركه برحمته: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] من ذا الذي يستكثر على الله أن يهدي فاجراً أو فاسقاً أو مجرماً؟!
فإذا رأيت مبتلىً فاحمد الله، ولا تتألَّى على الله، ولا تسخر به، فلا تهزأ بأخيك، فيعافيه الله جل وعلا ويبتليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
فتلك بدع وأعمال مردودة على أصحابها، يضرب بها وجوه أصحابها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن الله جل وعلا يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]
فمن ابتدع في أمر الدين شيئاً، فهو يظن أن الدين لم يكمل، وأن النعمة لم تتم، فكان لا بد أن يضيف بدعتَه إلى رصيد العبادات في الدين، وهذا عين التألي، وهذا عين الاستدراك على الله. فمن ذا الذي يستدرك على ربه؟! ومن ذا الذي يلاحظ على خالقه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وسمعتم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود على صاحبه.
أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالثبات والاستقامة، والعبادة والقبول، وأن يوفقنا إلى قبول أعمالنا، وأن يهدينا للصالحات، إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو جل وعلا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! شنفوا آذانكم، وأطربوا أسماعكم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور التي هي من أعظم الأسباب المحبطة للأعمال، المتلفة للأجور والحسنات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعْلَمَنَّ أقواماً من أمتي، يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عزَّ وجلَّ هباءً منثوراً، قال
وعن زيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن لصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار).
فليسمع هذا الحديث أولئك الذين يعترضون ويتسخطون ويدعون بالويل والثبور من أقدار الله جل وعلا. إذا أصيب أحدهم ببلية، أو نزلت به نازلة، قال: لماذا فُعِل بي هذا؟! وما الذي فعلتُ؟! أين المجرمون؟! أين الفجرة؟! أين الفساق؟! لماذا يتنعمون وأنا الذي أُبتلى؟! لماذا يصِحُّون وأنا المريض؟! لماذا هم أغنياء وأنا فقير؟! لماذا هم أحرار وأنا أسير؟! لماذا... لماذا... لماذا... يكرر التسخط والتشكي، ولا يلبث المخلوق إلا أن يشكي الخالق إلى المخلوق، مسكين من فعل هذا! إن الشيطان يدعوه إلى أن يضيِّع عليه أجر المصيبة.
إن الله جل وعلا ما أصاب عبداً من عباده إلا وجعل له في المصيبة أموراً كثيرة: الحمد لله أن لم تكن المصيبة في دينك، الحمد لله أن لم تكن أعظم، الحمد لله الذي جعل لك بها طهوراً وتكفيراً ورفعة في الدرجات والحسنات، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من هَمٍّ ولا نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، حتى الشوكة يُشاكها الرجل إلا كفَّر الله بها عن سيئاته).
فما أصابك من أمر من أمور الدنيا في نفسك أو مالك أو ذريتك أو أحبابك فاحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، واحمد الله الذي يُحمد على كل حال، ولا تكن ساخطاً، لا تكن جزعاً، لا تكن متشكياً، فتلبث أن يضيع أجر المصيبة عليك، والشيطان كثيراً ما يجعل الإنسان يُوَلْوِل ويصيح ويهرول ويدعو بالويل والثبور، ظناً أن هذا تعبير عن المصيبة؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النياحة، وعن شق الجيوب، ولطم الخدود، وعن الاعتراض والتسخط عند المصيبة، وبين صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فاصبر لكل قدر من أقدار الله، وارضَ بما قسم الله: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، أو قد قسمه الله لك، جفت الأقلام وطويت الصحف).
هجر المسلم: إن هجر المسلم عند الله عظيم، ما بال إخوان يقابل بعضُهم بعضاً فلا يسلم أحدهم على الآخر؟!
ما بال جيران إذا خرج هذا صدَّ وانصرف بوجهه عن وجه جاره؟!
ما بال أقارب يتقاطعون في أرحامهم؟! ما بال أبناء يعقون والديهم؟! إن الهجر خطير جداً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تُفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا، أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا، أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا ثلاث مرات) رواه الإمام مسلم .
ألا فليعلم العاقُّون، القاطعون لوالدِيهم، الهاجرون لأمهاتهم وآبائهم، فليعلموا أن العقوق من أعظم الأسباب التي تحبط الأعمال، وأن الله لا يقبل من العاق عملاً، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق، ومنَّان، ومكذب بالقدر).
فانظروا كيف قدم العقوق على هذه جميعاً، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمـال قال: (الإيمان بالله، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله.
أيها الأحبة! لستُ بهذا المقام مفصلاً في شأن أحوال الناس عن العقوق؛ ولعلنا أن نفردهم في مناسبة قادمة؛ لكن أنقل لكم قصة ممن أدركها وأحسها، ومن لسانه إلى أذني هذه، قال: إن شاباً تزوج فتاة، وكان أبوه عنده، وكان كبيراً مسناً طاعناً في السن، فأنِفَت زوجة الشاب هذا أن تخدم أباه، وقالت: لا أقعد عندك حتى تخرج هذا العجوز من البيت، فأطاعها وعقَّ أباه، فقبل منها وعقَّ بوالده، فما كان منه إلا أن قال: سنخرج يا أبتي إلى مكان ما، فطيب أباه وغسله، وكأنه يكفنه ويحنطه، ثم ألبسه، وذهب به إلى دار العجزة، وألقاه عندهم، وقد كان أبوه في تلك الحالة في حالة مرض لا يفيق ولا يدري ما يُفعل به، فلما أفاق في تلك الدار، قال: أين أنا؟ وفي أي مكان؟ وأين ولدي؟ قالوا: جيء بك إلى هنا، أنت في عِداد أولئك العجزة الذين لا مأوى ولا راعي لهم، قال: حسناً، اذهبوا بي إلى مكان كذا وكذا، فذهب إلى محكمة عدل، ووكَّل صديقاً له، وباع بيته الذي يسكنه الولد والزوجة، فلما جاء المشتري قال للولد: اخرج، ليس هذا بيتك، قال: كيف؟! قال: هذا بيت أبيك، وقد وكلني على بيعه، وقد بِيع البيتُ وشُري، ولا مكان لك في هذا البيت.
فانظروا يا عباد الله لو حدثكم أحدٌ بهذا لقلتم: من الأساطير والخرافات؛ لكنها وقعت في هذا الزمان؛ لكنها حصلت في هذا الدهر المعاصر.
فيا عباد الله! كيف بلغ العقوق بأبناء المسلمين لآبائهم وأمهاتهم؟! من ذا الذي يتهاون بشأن أمه وأبيه؟! الجنة تحت أقدام الأمهات، الآباء والأمهات بابان من أبواب الجنة، فمن شاء فليلزم، ومن شاء فليترك.
وفي الأثر: [إذا ماتت أم العبد نادى منادٍِ من السماء: ماتت التي كنا نكرمك لأجلها، فاعمل صالحاً تُكرم به].
فانظروا -يا عباد الله- شأن الناس في هذا الزمان مع العقوق والقطيعة، وليس هذا مقام التفصيل.
إن المجاملات والمداهانات والمراءات قد عمت وطمت كثيراً من العلاقات البشرية في هذا الزمان، فلا تجد العبد قدم عملاً خالصاً يرجو به ما عند الله، واحتسبه لله؛ ولا تجده قدم تجارة نافعة، قدم بضاعة وتلقى نقداً، فضاعت أمور الناس لا هي في دنيا، ولا هي في دين، ورحم الله القائل:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقعُ |
ولا حول ولا قوة إلا بالله!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم دمر أعداء الدين. اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين. اللهم من أرادنا بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء!
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق، يا رب العالمين!
اللهم مسكهم بكتابك، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، بمنك وكرمك، يا أرحم الراحمين!
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيِّماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين!
اللهم لا تكلنا إلى أعمالنا. اللهم إنا نبرأ من التوكل إلا عليك، ومن الفقر إلا بين يديك، ومن الحاجة إلا لك، ومن العز إلا بك، ومن القوة إلى بقوتك، يا رب العالمين!
اللهم إنا نبرأ إليك من أن نتكل على غيرك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى مخلوق عز أو ذل، اللهم لا تكلنا إلى ذلك طرفة عين، ولا أقل منها يا رب العالمين!
اللهم عاملنا بعفوك، اللهم عاملنا بمنك، اللهم عاملنا بكرمك؛ ربنا إن من نوقش الحساب عُذب، اللهم رحمتك التي سبقت غضبك، اللهم رحمتك التي وسعت كل شيء، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر