أحب أن أقف وقفة عند عبارة سابقة سأل عنها البعض، ألا وهي قول
ابن قدامة رحمه الله تعالى: [ ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ].
ابن قدامة رحمه الله يقرر هنا منهج أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله وأثبته رسوله من غير نقص، سواء كان هذا النقص بنفي أو تعطيل.. أو نحو ذلك، ويثبتونها بغير زيادة، فلا يأتون من عند أنفسهم بصفات ولو ظنوها حسنى، ولا بأسماء ولو ظنوها حسنى، فلا يأتون بشيء لم يرد ليصفوا الله سبحانه وتعالى به، بل صفات الله سبحانه وتعالى عمادها التوقيف على ما ورد، أي: أننا نثبت ما ورد إثباته، وننفي ما ورد نفيه، ونتوقف عما لم يرد إثباته ولا نفيه.
ثم إن المصنف هنا قال: (بلا حد ولا غاية)، ومقصوده رحمه الله أننا نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، ونقول: إن صفاته ليست لها غاية، أي: ليس لعلم الله غاية ومنتهى، كما أنه ليس لكلام الله سبحانه وتعالى أيضاً غاية ومنتهى، فالله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، يعلم ما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما أن كلامه تعالى لا ينقضي، ولهذا قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله [لقمان:27]، وفي الآية الأخرى:
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109].
قال العلماء في تفسير هاتين الآيتين: إن العدد غير مراد، فلا يعني أنه لو جئنا بسبعة أبحر نفدت كلمات الله، بل لو جئنا بسبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله أبداً، ومعنى الآيتين: أننا لو قطعنا الأشجار التي على الأرض وبرينا غصونها وأعوادها لتتحول إلى أقلام ثم تحول البحر إلى مداد وحبر وكتب بتلك الأقلام بذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلمات الله أبداً.
وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن لكل مخلوق منتهى، أما الخالق سبحانه وتعالى فلا منتهى لأمره وعلمه ولا لكلامه سبحانه.
ولهذا فإن ربنا تبارك وتعالى عظيم عظمة لا يمكن أن يتصورها مخلوق، ومهما تصور المخلوق فالله أعظم من ذلك، وأقرب مثال على ذلك أننا إذا قلنا: إن السماوات والأرض كلها بمجراتها وأفلاكها في يد الرحمن سبحانه وتعالى كخردلة في يد أحد، تبين بذلك كيفية عظمة الله سبحانه وتعالى، وكيف أننا لا نستطيع ولن نستطيع أن نقدر قدره سبحانه وتعالى.
وقول
ابن قدامة : (إن صفاته نثبتها بلا حد ولا غاية) أي: لا نجعل لصفاته منتهى، فهو العظيم الذي لا عظيم فوقه سبحانه وتعالى.
ولكن كلمة الحد هنا كلمة فيها إجمال، ولهذا ورد عن بعض السلف إثبات الحد لله سبحانه وتعالى، فأين ورد إثبات الحد؟ وما معناه؟ وما هو القول الحق في هذه المسألة؟
نقول: ورد إثبات الحد لله سبحانه وتعالى في باب الاستواء، فقد سئل
عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: هل نثبت أن الله على العرش استوى؟
فقال: نعم، نثبت أن الله على العرش استوى.
فقال السائل: بحد؟
قال: بحد.
فما الذي قصده
ابن المبارك وغيره من السلف من إثبات الحد لله؟
الذي قصده هؤلاء هو أن يثبتوا الفارق بين المخلوق والخالق، فنحن مخلوقون مربوبون نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوقنا، ونصدق بأنه على العرش استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
ولكن قد يخطر ببال بعض عوام الناس، أو ببال بعض الصوفية الحلولية، أو ببال بعض الذين يقولون: إن الله في كل مكان، أن الله عظيم لا منتهى لعظمته، وإذا كان لا منتهى لعظمته في ذاته فإننا مهما تصورنا شيئاً فالله يمكن أن يكون أعظم من ذلك، والنتيجة: أنه لا يصبح هناك فارق بين الخالق وبين المخلوق، فأراد هؤلاء العلماء أن يقرروا البينونة بين الخالق والمخلوق حتى يردوا على الحلولية وعلى الاتحادية وعلى غيرهم من الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق.
فهؤلاء قالوا: نؤمن بأن الله على العرش استوى، ونؤمن ببينونة الله عن خلقه، وهذه البينونة مقتضاها -كما أشار بعضهم- أن يكون لله حد لا يعلمه إلا هو، حتى نفصل بين الخالق وبين المخلوق.
ولهذا سئل بعض السلف: بحد؟ فقال: نعم، بحد لا يعلمه إلا هو، أي: من باب إثبات البينونة بين الخالق وبين المخلوق، أما إذا أطلقنا هذا الأمر على قول هؤلاء العلماء، وقلنا: إن الله عظيم وبلا حد، فقد يتوهم متوهم أن هذه المخلوقات داخلة في الله سبحانه وتعالى.
فأراد أن يبين هذه البينونة التي دلت عليها النصوص الكثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين الخالق وبين المخلوق.
وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا: كلمة الحد لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فنحن لا نطلقها، ولا نقول: بحد، وإنما نقول: على العرش استوى، ونثبت لله الصفات، ونتوقف في هذا.
إذاً: انتهينا إلى خلاصة مهمة في هذا الباب مفادها: أن من السلف من لم يطلق لفظ الحد، وكأن عبارة
ابن قدامة هنا موحية بهذا القول، ولهذا قال: بلا حد ولا غاية؛ لأن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعض السلف أثبت الحد لله، لكن حداً لا يعلمه إلا هو سبحانه، وإنما أثبتوه للرد على الحلولية وللرد على كثير ممن ينكر علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على العرش، وليثبتوا البينونة بين الخالق والمخلوق، ولهذا نقول: إن لفظ الحد من الألفاظ المجملة، فنستفسر هذا الذي يثبت لفظ الحد: فإن كان يقصد أن الله يحده شيء، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء، والله سبحانه وتعالى لا يقدر قدره إلا هو، وإن قصد بلفظ الحد بيان البينونة بين الخالق والمخلوق، وأن الله تعالى على العرش استوى، ليس على الأرض بذاته سبحانه وتعالى، وإنما علمه أحاط بكل شيء، فنقول: المعنى الذي أثبته صحيح، ولكن إثباتك للفظ الحد لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنلحق لفظ الحد بلفظ الجسم والجهة والحيز.. ونحو ذلك، ونستفصل قائلها، فإن أراد معنىً صحيحاً قبلنا المعنى، وإن أراد معنىً باطلاً رددنا الكل، ونتوقف في إثبات هذه الألفاظ حتى ترد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ وقال
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: قف حيث وقف القوم ].
وهذا الكلام مروي عن
عمر بن عبد العزيز في كثير من كتب السنة.
وأحب أن أذكر بأن الخليفة الراشد
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى له موقف فريد مع أهل البدع، فقد اشتهر رحمه الله تعالى بالعدل، ووصفت بأنها راشدة، فكأنها تابعة لخلافة الخلفاء الراشدين؛ وإن كانت ولايته زمنها يسير إلا أنه حرص على أن يعود بالأمة إلى المنهج الحق والصدق في كثير مما انحرفت عنه، وإلا فالأمة الإسلامية في وقته كانت في غالب أمورها سائرة على المنهج الصحيح، لكن وقع شيء من الظلم وبعض الانحراف، خاصة لما نشأ التفرق والخلاف بين الطوائف والأحزاب ونحو ذلك، فأراد
عمر بن عبد العزيز أن يعود بالأمة إلى منهج الصواب.
وحاول رحمه الله تعالى محاولة جادة، ووفق في ذلك أيما توفيق.
ولكن من الأمور التي كنت أحب أن تفرد ببحث أو دراسة: موقف
عمر بن عبد العزيز من المخالفين ومن أهل البدع وتعامله معهم، وهذا النص الذي نقله
ابن قدامة هو من أصول موقف
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وصية عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالوقوف حيث وقف السلف
قال رحمه الله تعالى موصياً أصحابه وإخوانه: (قف حيث وقف القوم)، والمقصود بالقوم هنا السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين ساروا على منهاجهم رضي الله عنهم جميعاً، فلا تغير ولا تبتدع، ولكن انظر ماذا قالوا فقل، وانظر أي موقف وقفوا فقف معهم حيث وقفوا.
منهج السلف مبني على علم
ثم إنه رحمه الله تعالى علل ذلك بتعليل دقيق جداً فقال: [ فإنهم عن علم وقفوا ].
وهذه العبارة عبارة منهجية في الصميم، تبين منهج أهل السنة والجماعة.
فإنهم عن علم وقفوا وليس عن عجز، وبعض المتكلمين المتأخرين الذين ابتدعوا الكلام إذا قيل لهم: إن السلف ما تحدثوا عن ذلك، قالوا: كانوا مشغولين بالجهاد.
بل إن بعضهم قد يتهم الصحابة ومن بعدهم بأنهم لم تكتمل عقولهم ومعرفتهم العقلية واطلاعهم على القضايا المنطقية، أي أنه يقول: لو اطلعوا على ذلك لتكلموا هذا الكلام.
وهذا القول قول غير صحيح إطلاقاً، كما قال
عمر بن عبد العزيز : (فإنهم عن علم وقفوا)، بمعنى: أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى سلكوا ذلك المسلك في باب الأسماء والصفات عن قناعة منهجية علمية، وليس كما يزعم البعض أن هؤلاء السلف إنما يسمعون النصوص وينقلونها كما سمعوها فقط، بل أولئك السلف سمعوا النصوص وفهموها وعرفوا مدلولاتها وأثبتوها، بل هم أرجح الناس عقلاً، وأعظم الناس فهماً، وأكمل الناس ديناً وتقوى، ومن ثمَّ كان فهمهم أصح الأفهام، وعلمهم أعمق العلم وأدقه بالنسبة لمن بعدهم.
فهم لما جاءتهم هذه النصوص نظروا إليها بالميزان الصحيح، فوجدوا أن هذه الأمور إنما هي أمور إخبارية تتعلق بالله وأسمائه وصفاته، والخبر عن الله وأسمائه وصفاته مما لا تدخل في مجاله العقول؛ فإن البشر مهما أعملوا عقولهم فلا يمكن أن يصلوا إلى هذه الحقائق، فلما كان الأمر كذلك وكلوا كيفية الاطلاع والعلم بهذه الأمور إلى الخبر الصادق، فوجدوا أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها البيان فأثبتوها.
إذاً: المنهج الحق العلمي الصحيح لأهل السنة والجماعة ليس هو أن تعمل عقلك في كل شيء، وأن تزعم بأن إعمال العقل في كل الأمور هو دليل عمق الفهم ودقة التعبير والتحصيل ونحو ذلك، وإنما المنهج الصحيح هو أن تعطي كل ذي حق حقه، فإذا كان هناك خبر عن غائب فأنت والحالة هذه يجب أن تأخذ الخبر من مصدره؛ لأنه لا مجال لذلك الخبر بالنسبة لعقلك، مهما أعملت فكرك فيه، وهذه قضية منهجية.
وأما في المجالات الأخرى، التي للعقل فيها مجال فإنهم أعملوا عقولهم، وعمروا الدنيا، وخططوا إدارياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً، بل إن
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتبت كتابات مستقلة -وهو قائل هذه العبارات- عن مناهجه في هذا الباب، وفي هذه الأمور كلها، وقبله الخليفة الراشد
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: في المجال الذي يفيد المسلمين وللعقل وللتفكير فيه مجال فكروا وأنتجوا ما ينفع المسلمين، لكن المجال الذي مهما أعمل الإنسان فيه عقلاً لم ينتج وقفوا.
نفوذ بصر السلف رحمهم الله
ومن هنا قال رحمه الله تعالى هذه العبارة العظيمة المحددة لمنهج أهل السنة، قال: [ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا ].
قوله: (وببصر نافذ)، البصر: بصيرة العقل، ولهذا ورد في حديث رواه
البيهقي في الزهد وغيره: (
إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات).
فهؤلاء عن بصر نافذ دقيق جداً وتبصر حقيقي منهجي كفوا عن الخوض في هذه المسائل، فلم يخوضوا فيها كما خاض المتأخرون، ولم يقولوا: هذا نثبته وهذا لا نثبته، وهذا مجاز، وهذا العقول خالفته وناقضته، ونتأول أو لا نتأول، ما خاضوا في هذه الأمور، وإنما أثبتوا ما ورد، ووقفوا، فهم رحمهم الله تعالى ببصيرة وعقل كفوا عن الخوض فيها، لا عجزاً كما يدعي بعض المتكلمين الذين أشرنا إليهم قبل قليل حينما يسألون عن اختلاف منهجهم عن منهج السلف الصالح السابق، فيأتون بتلك العبارة المشهورة فيقولون: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم!
وهذه عبارة خاطئة، بل إن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، ومذهب الخلف ليس أسلم ولا أعلم ولا أحكم.
كف السلف عن الخوض في المسائل التي ابتدعها المتأخرون
ثم قال رحمه الله تعالى: [ وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى ].
قوله: (وهم على كشفها كانوا أقوى) أي: إن أولئك السلف الصالح رحمهم الله تعالى لو أرادوا أن يخوضوا في تلك المسائل بعقولهم لاستطاعوا أن يخوضوا فيها، وهذه الأمور التي ابتدعها المتأخرون وقالوها لو كانت خيراً لسبق أولئك إليها.
ولو كان ما فيها من معانٍ هي مما يليق بالله سبحانه وتعالى لسبق أولئك ولكشفوها؛ فإنهم كانوا أعمق الناس، وأذكى الناس، وأرجح الناس عقولاً، رحمهم الله تعالى.
وقوله: (وبالفضل لو كان فيها أحرى)،أي: أنهم كانوا أسبق إلى الفضائل، ولهذا كل من جاء بعدهم أقل فضلاً منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك القرن الخيرية فقال: (
خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالقرن الذي نبتت فيه نابتة الافتراق والاختلاف والأقوال البدعية وغيرها، لا يمكن أن يكون أفضل من القرن الذي كان فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فهم كانوا أسبق الناس إلى أنواع الفضائل من أولها إلى آخرها، فكانوا أسبق الناس إلى كل فضل وإلى كل خير.
ثم قال رحمه الله تعالى: [ فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم ].
يعني: أن هذه الأمور المحدثات كلها مخالفة لهدي أولئك السلف الكرام رحمهم الله تعالى، ورغبة عن سنتهم، فكل ما ابتدعه المتأخرون -كما أشار
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى- مخالف لهم، ومخالف لهديهم وسنتهم.
ثم قال: [ ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي ].
قوله: (وصفوا منه ما يشفي)، أي: أن أولئك الصحب الكرام نقلوا ما ورد من هذه الصفات ومسائل العقيدة كلها، وكل ما نقلوه إلى من بعدهم هو مما يشفي القلوب، ولهذا من اقتصر على هديهم انشرح صدره، وشفي قلبه، ومن لم يقتصر على ذلك بل ظن أنهم قصروا فأعمل عقله وأدخل نفسه في باب التأويلات الباطلة ونحوها، انتابته الأمراض المتعددة.
وبلا شك أن اطمئنان السلف الصالح ليس كفوضى المتأخرين، فمن سلك سبيلهم كان أكثر اطمئناناً، فهم رحمهم الله تعالى وصفوا لنا وبلغونا ما يشفي، وتكلموا بما يكفي؛ فإنهم رحمهم الله تعالى كان كلامهم قليلاً، لكن كان مفيداً، وكان كلامهم مربوطاً بعمل، بخلاف من كان بعدهم، فقد كثر كلامهم، وقل فقههم، وتقلص عملهم، فأصبح المتأخرون يقولون ما لا يفعلون، ويكثر كلامهم بلا فائدة.
حال من خالف منهج السلف الصالح
ثم قال رحمه الله تعالى: [ فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر ].
أراد رحمه الله تعالى أن يبين أن منهجهم وسط، فمن أراد أن يغلو ويثبت غير ما أثبتوه، ويظن أنهم أنقصوا بعض الحاجات، فإنه غالٍ عنهم، غير متبع لطريقتهم، ومن دونهم قصر ولم يأخذ بجميع ما جاءوا به، وإنما اكتفى ببعضه ونحو ذلك، فهو مقصر.
ولهذا فلفظة (محسر) هنا ترجع إلى بعض المعاني اللغوية، فإن المقاتل الذي ليس عليه درع ولا على رأسه مغفر يسمى حاسراً.
ولهذا في قصة بني قينقاع كان يقول أحد المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع تضرب أعناقهم مرة واحدة، هذا لا يكون.
فقوله: حاسر، يعني: ليس معهم سلاح، وليس عليهم دروع، وليس على رءوسهم المغفر الذي يتقون به ضرب السيوف، فهم حُسَّر، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى بالنسبة للسماء:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ *
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:1-4].
ومعنى (حَسِيرٌ): كليل ضعيف من شدة النظر؛ فإن الإنسان إذا نظر واشتد نظره إلى شيء، ولم ينته فيه إلى أمر، رجع إليه البصر حسيراً كليلاً؛ لأنه لم يصل إلى غاية، وهذا واضح، فالإنسان منا لو قال له قائل: انظر هنا على بعد خمسة عشر أو عشرين كيلو في ذلك الجبل، ففيه بقعة كذا، ولنفترض -مثلاً- أننا ننظر إليها بالناظور، فجاء هذا الإنسان ينظر بالعين المجردة إلى الجبل، فسيرى الجبل، لكن حين يريد أن ينظر إلى البقعة البيضاء أو السوداء أو نحو ذلك تجده ينظر وينظر وينظر وينظر، ثم في النهاية يكل بصره.
هذا الإكلال جاء من شدة المبالغة في النظر.
وهنا يقول
عمر بن عبد العزيز : فما فوقهم محسر، أي: من أراد أن يقول أنا أفضل من الصحابة ويثبت ما لم يثبتوه، ويعمل ما لم يعملوه مما فيه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محسر، فيرجع كليلاً، ولهذا قيل: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
حتى في باب العبادة نرى
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه لما عزم على دوام الصيام أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأهون، ولكنه قال: (أنا أستطيع أكثر من ذلك)؛ وما زال يتدرج به حتى قال له: (
صم يوماً وأفطر يوماً؛ لا أفضل من صيام داود)، فـ
عبد الله بن عمرو كان في شبابه قوياً فاستطاع، لكنه في آخر عمره قال: (ليتني أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن الأمر كله سنة لكنه لا يريد أن يتخلى عن أمر فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمهم أن الإنسان إذا غلا في الأمر انتهى به في النهاية إلى الضعف والعجز؛ ولهذا فإن الغلو مردود، والتقصير مردود؛ لأن التقصير معناه التخلي عن بعض الأمور وعن بعض القضايا التي ورد بها الشرع ووردت بها أدلة الكتاب والسنة، كما أن الغلو فيها يؤدي إلى هذا، ومنهج السلف رحمهم الله تعالى وسط في كل الأمور: وسط في باب العبادات.. وسط في باب المعاملات.. وسط في باب الأحكام.. وسط في باب العقائد.. وسط بين الملل.. وسط بين جميع الطوائف؛ فإنك تجد إما طائفة غالية في هذا الباب أو مقصرة، فإما إفراط وإما تفريط، ومنهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط، وهذا هو الذي أشار إليه
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
ولهذا قال شارحاً ذلك: [ لقد قصر عنهم قوم فجفوا ].
فالجافي هو المقصر؛ لأن المقصر هو الذي أعرض، فكأنه أعرض عن بعض منهجهم.
ثم قال: [وتجاوزهم آخرون فغلوا].
وهذا تفسير للعبارة السابقة.
ثم قال: [وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
أي: إن أولئك السلف والصحب الكرام رحمهم الله تعالى كانوا بين ذلك على طريق مستقيم.
ثم قال رحمه الله تعالى: [ وقال
عبد الله بن محمد الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أبو بكر و
عمر و
عثمان و
علي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها! قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟! فقال الرجل: فإني أقول: قد علموها؛ قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه أو لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟! فانقطع الرجل، فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم ].
قوله: (
الأذرمي)، الصحيح: أنه بالذال، أي:
الأذرمي ، وهو إمام مشهور اسمه:
عبد الله بن محمد الأذرمي ، تتلمذ على
وكيع بن الجراح و
سفيان بن عيينة وغيرهم، روى عنه
أبو داود ، وروى عنه
النسائي و
عبد الله ابن الإمام أحمد و
أبو يعلى الموصلي وغيرهم، وهذا العالم الفاضل مترجم في (تهذيب التهذيب) في اسم:
عبد الله، وقد أشار
ابن حجر في (تهذيب التهذيب) إلى هذه القصة التي معنا؛ كما أن
ياقوت في (معجم البلدان) لما جاء إلى مدينة أذرمة ترجم لهذا العالم، وأشار إلى هذه القصة.
وقول
ابن قدامة: (لرجل تكلم ببدعة) هذا الرجل هو شيخ المعتزلة في وقته
أحمد بن أبي دؤاد ، والبدعة التي جرى حولها النقاش هي بدعة القول بخلق القرآن؛ ومنهج هذا الإمام في مناقشة
أحمد بن أبي داؤد منهج قوي جداً، ولقد وفق في أسلوب العرض أيما توفيق.
ضلال المعتزلة في القول بخلق القرآن
وأحب أن أقف وقفة قصيرة هنا عند قضية القول بخلق القرآن فأقول: إن قضية القول بخلق القرآن هي القضية التي جعلها المعتزلة عنواناً لبدعتهم، فإن المعتزلة ينفون عن الله الصفات، ومما نفوه عنه صفة الكلام، فلما كان مستقراً في نفوس المسلمين أن هذا القرآن الذي معنا هو كلام الله؛ قالوا: لا، هذا القرآن مخلوق من المخلوقات المنفصلة عن الله سبحانه وتعالى، فكما خلق السماوات والأرض وبني آدم خلق هذا القرآن، فلم تقم بالله سبحانه وتعالى صفة الكلام. والتي نعتقد نحن أنها صفة من صفات الله تليق بعظمته وجلاله.
واسمحوا لي أيها الإخوة! إذا ذكرت هذه القضية؛ لأنني سئلت عن قضية القول بخلق القرآن؛ وسمعت أن بعض الناس يقول: لماذا تحولت عند المسلمين إلى مشكلة في ذلك القرن، وليس فيها إشكال؛ وسواء قلنا بخلق القرآن أو لم نقل بخلق القرآن فالمسألة يسيرة، وبعضهم قال: ما كانت لتستحق تلك المشكلة والفتنة الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية التي امتحن فيها المؤمنون امتحاناً شديداً، وثبت الله إمام أهل السنة
أحمد بن حنبل رحمه الله وبعض العلماء على ذلك!
فأقول: إن هذه القضية قضية مرتبطة بمنهج المعتزلة العقلاني؛ فالمعتزلة أدخلوا عقولهم في هذا الباب، ودخلوا هذا المدخل الذي سموه توحيداً، وذلك من خلال قضايا متعددة أبرزها قضيتان:
الأولى: أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فقالوا: إن إخلاص التوحيد هو بنفي الصفات عن الله؛ حتى لا نشبه الله بخلقه.
الثانية: أن المعتزلة ناقشوا النصارى، وناقشوا شرك النصارى، وأن النصارى يقولون بأن هناك ثلاثة آلهة، فقالوا للنصارى: أنتم مشركون تقولون: الأب والابن وروح القدس، هذا شرك بالله؛ فالله واحد لا شريك له. فقال النصارى: نحن غير مشركين، نحن نقول: هذه أقانيم لإله واحد، فالأب والابن وروح القدس يساوي إلهاً واحداً، فجعلوها نظرية رياضية بدهية: ثلاثة تساوي واحداً.
وهذا الكلام غير معقول وغير مقبول، فهؤلاء النصارى قالوا: أنتم يا مسلمون! إذا كنتم تتهموننا بأننا نقول بثلاثة آلهة فأنتم تقولون بسبعة أو بعشرة أو بأكثر! قيل لهم: كيف؟ قالوا: أنتم تقولون: الله.. السميع.. البصير.. له الكلام.. الإرادة.. القدرة، وتقولون: هذه صفات لله، وهذا شرك أكبر من شركنا؛ لأنكم إذا قلتم: إن صفات الله أزلية مع الله إذاً جعلتم مع الله أكثر من إله، فبسبب هذا النقاش قال المعتزلة: إخلاص التوحيد هو أن ننفي عن الله جميع الصفات؛ لأننا لو أثبتنا لله أي صفة وقلنا إن هذه الصفة أزلية لله فقد أثبتنا مع الله إلهاً آخر، فأدى بهم هذا الفهم القاصر إلى نفي جميع الصفات عن الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال مناهجهم العقلية الباطلة، وضربوا بالكتاب والسنة ونصوصها عرض الحائط، وأعملوا فيها تأويلاً وتحريفاً وتعطيلاً.
وقد وصلوا في الدولة العباسية إلى مناصب كبرى، ومنها وصول
أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتزلة وشيخهم وكبيرهم إلى أن كان قاضي القضاة والمقرب من الخليفة، وقد أثر هذا القاضي المعتزلي على الخليفة حتى أقنعه بهذه البدعة، بل وأقنعه بأنها هي الحق الذي لا حق غيره، وأنه ينبغي له أن يلزم الناس بها، وفعلاً تبنت الدولة آراء المعتزلة، وتحولت قضية الاعتزال من خلاف بين أهل السنة وبعض المخالفين إلى أن تعلن الدولة قراراً حاسماً قوياً بأن هذه البدعة هي الحق، بل ويجب على كل إنسان أن يقول رأيه فيها، وأن يقول الرأي الموافق للمعتزلة، فنشأت فتنة القول بخلق القرآن.
إذاً: هي ليست قضية جزئية، وإنما هي مسألة جعلت عنواناً لقضية أكبر في باب الاعتقاد وفي باب المنهج وفي باب الصفات، وفعلاً امتحنت الدولة ومن خلفها من أئمة الاعتزال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مما كان تحت سلطانهم، وكانت تحت سلطانهم كل البلاد الإسلامية في ذلك الوقت الذي اتسعت فيه الفتوحات؛ إذ بلغت إلى حد كبير جداً في نهاية القرن الثاني، واستمر على ذلك مجموعة من الخلفاء:
المأمون و
المعتصم و
الواثق، يوصي بعضهم بعضاً، وكانوا ينشرون مسألة القول بخلق القرآن، وأصدروا قرارات: من لم يقل بخلق القرآن يعزل إذا كان قاضياً في بلد أو كان فقيهاً أو كان إماماً! وحاربوا أرزاق الناس.
وهذا الشيء مؤسف جداً، حيث يتحول الاختلاف في الرأي إلى أن يتجه الأقوى إلى حرب الناس في أرزاقهم؛ فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، لكنه منهج الضعفاء، فمنهج الضعفاء أن تحارب الناس في أرزاقهم، وأن تظن أنك إذا قطعت الرزق قد قضيت على صاحبه، ولهذا فإن بعض العلماء اضطر إلى التورية، فكان بعضهم إذا سئل محاكمة: هل تقول بخلق القرآن؟ قال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور هذه مخلوقة، ويقصد يديه.
ثبات الإمام أحمد رحمه الله في قضية القول بخلق القرآن
لكن الإمام
أحمد بن حنبل تحول في ذلك الوقت إلى أن تتجه الأنظار إليه؛ لأن صمود الإمام
أحمد بن حنبل صار فيصلاً بين قضيتين كبيرتين، ومن هنا ثبت الله الإمام
أحمد ، فصار الاسم له، وإلا فهناك غيره من العلماء من وقف موقفه رحمه الله تعالى؛ فالإمام
أحمد بن حنبل امتحن وسجن وعذب وضرب، وطلب منه الإقامة الجبرية، وامتحن في هذه العهود، ثم امتحن بالرخاء في عهد
المتوكل.
فالإمام الزاهد
أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مر بجميع أنواع الابتلاء التي يمكن أن يمر بها مؤمن صادق وداعية صادق، وكان الإمام
أحمد في علمه وفي زهده جبلاً، فهو الذي كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث يحدث بها، ولا شك أن الناس أحوج ما يكونون إلى علمه، فكيف يترك ليسجن ويضرب ويموت تحت التعذيب؟! فجاءه بعض الناصحين وقالوا له: يا إمام! إن الناس يرون فيك فضلاً وعلماً فأبق على نفسك! أي: أبق على نفسك لا لنفسك وإنما للناس، فلو أنك وريت كما ورى غيرك وانتهت المشكلة؛ لكن الإمام
أحمد وقد تحدد الأمر بالنسبة له كان يفقه القضية بعمق، وكان يعرف أن الناس ينتظرون مقالته، وأنه لو قال بخلق القرآن ولو كان مورياً فلربما عذر نفسه أو عذره اثنان بجانبه، لكن ملايين من خلفه ستأخذ الأمر على ظاهره؛ ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحاكموا الإمام
أحمد بعد التعذيب لينطق، يكونون قد جمعوا الناس معهم الأقلام حتى يسمعوا مباشرة؛ لأنه لو نقل عن الخلافة أنه أجاب لما صدق أحد، ولكنهم كانوا يجمعون الناس من باب التوثيق، وما كان عندهم توثيق بالصوت والصورة مثلما عندنا، وإنما كان التوثيق أمام الناس، فيجمعون الناس ويدخلونهم قصر الإمارة ومعهم الأقلام؛ ليسمعوا ماذا يقول الإمام
أحمد.
وكان الإمام
أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في السجن، فجاءه أحدهم قبل لحظات من المحاكمة المتكررة، وقال له: يا إمام! لو أنك وريت فأبقيت على نفسك! فقال لهذا الرجل: انظر من خلفك، فنظر من خلفه فإذا ألوف قد جلسوا ينتظرون ماذا يقول الإمام
أحمد، فقال له الإمام
أحمد : يا هذا! لو أن الإمام
أحمد ورى ما يدري هؤلاء أن الإمام
أحمد يقول بالتورية، من يتحمل أثر إضلال هؤلاء وظنهم أن الإمام
أحمد قال بخلق القرآن؟!
وفعلاً ثبته الله سبحانه وتعالى، وكان يقول لهم: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون له: ماذا تقول فيه؟ فيقول: القرآن كلام الله، فيقولون له: هل تقول: إن القرآن مخلوق أم أنه كلام الله منزل غير مخلوق؟ فيقول: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ائتوني بدليل!
ولو أردنا أن نستطرد ما جرى في تلك القصة لطال المقام؛ فإن فيها عبراً كثيرة جداً، فإنهم حاولوا معه محاولات كثيرة، حتى إنهم حاولوا محاولات فكرية، وبحثوا عن الحجج والدلائل ليجدوا ما يلزمونه به حتى يقول بخلق القرآن، ومع ذلك نقض كل شبهة، بل إنه رحمه الله تعالى قد ثبته الله سبحانه وتعالى حتى بنصائح من داخل السجن، وقد كان مسجوناً مع اللصوص وغيرهم، ولهذا كان بعد الإفراج عنه يترحم على أحد السجناء اللصوص، فأحد أبنائه قال له: يا أبتِ! كثيراً ما تترحم على هذا؟ قال: هذا واحد من اللصوص التقيت به في السجن، قال: ولماذا تترحم عليه؟ قال: كنت جالساً في السجن فأتاني أحد أصحابي وجاء ليثبتني ويقول لي: اثبت يا إمام! فقلت له: إنما أخاف ألا أقوى على الضرب؛ يعني: أن الإمام
أحمد قد يخاف ألا تقوى نفسه على تحمل الضرب فيقول غير الحق، فكان بجانبه أحد اللصوص يسمع الحوار، فقال له: اثبت يا إمام على الضرب، فو الله إنني لأثبت على الضرب وأنا على باطل، أفلا تثبت على الضرب وأنت على الحق؟! فكان الإمام
أحمد بن حنبل يدعو لهذا الإنسان؛ لأنه أعطاه درساً.
المهم أن فتنة القول بخلق القرآن هي البدعة التي وردت في هذه القصة، وجعلها المعتزلة عنواناً لمنهج فكري عقدي في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، فليست كما يقول البعض: لماذا كبرت هذه المشكلة؟ ولماذا ضخمت؟ ونحن نقول: والله لو لم يكن فيها إلا صفة الكلام لله وقد ابتدعها هؤلاء، لكان حقيقاً أن يتحمل الإنسان في سبيل إثبات منهج أهل السنة والجماعة ما تحمل الإمام
أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
شرح قصة الأذرمي مع المبتدع والعبرة منها
وأما قصة
عبد الله الأذرمي فإنها كما حكاها
ابن الجوزي في ترجمة الإمام
أحمد ، وحكاها أيضاً
الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في المجلد الحادي عشر أيضاً في ترجمة الإمام
أحمد بن حنبل هي:
أن هذا الرجل الأذرمي أتي به مقيداً ليمتحن بالقول بخلق القرآن، وكان كل من يرد الامتحان يكون الخليفة حاضراً، وقاضي القضاة حاضراً، وكانت المسألة نوعاً من المحاكمة والنقاش، فدخل وهو في قيوده، ويقال: إن الفتنة كانت في عهد
الواثق ، والذي يحكيها ابنه: فقال هذا الشيخ: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال الخليفة: لا سلام عليك ولا رحمة؛ مذنب مجرم مرتكب لبدعة إثبات كلام الله سبحانه وتعالى، وأنه يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال هذا القاضي بكل أدب: بئس ما علمك مؤدبك، إن الله يقول:
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، هنا انتبه
أحمد بن أبي دؤاد ؛ حيث كان يظن أن أمامه شيخ عادي، فقال
أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي: يا أمير المؤمنين! إن الرجل صاحب حجة، فدعني أحاجه؟! قال: تفضل، فبدأت المحاجة بينهما:
فقال هذا الشيخ الأذرمي لـ
أحمد بن أبي دؤاد : أسألك أو تسألني؟ فقال
أحمد بن أبي دؤاد -من باب أن يعرف ما عنده-: اسأل أنت.
فقال له الشيخ: هذا الذي تدعو إليه -القول بخلق القرآن- أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أبو بكر و
عمر ؟ فالمعتزلي قال: لا، فقال له: سبحان الله! شيء علمته ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
أبو بكر ولا
عمر ، والله ما هذا علم ينفع، فانقطع.
ولهذا جاء في بعض الروايات أنه قال للخليفة: هذه واحدة، يعني: سجلنا عليه نقطة في انقطاعه في الحوار، فقال
أحمد بن أبي دؤاد : أقلني، يعني: أقلني عن الجواب الأول، فإنني أقول: قد علموها.
إذاً: صارت النتيجة أن
أحمد بن أبي دؤاد يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم و
أبا بكر علموا هذه البدعة التي قال بها، فقال له ذلك الرجل: لما علموها هل تكلموا بها ودعوا الناس إليها؟ فقال له: لا، لم يتكلموا بها ولم يدعوا الناس إليها، فقال له: أفلا وسعك ما وسعهم؟ يعني: أمر وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أبا بكر و
عمر و
عثمان و
علياً، ولم يسعك أنت إلا أن ترغم الناس وتلزمهم بذلك؟!
فصار الخليفة يردد عبارته الأخيرة: وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أبا بكر و
عمر أفلا يسعنا ما وسعهم؟! ويكررها ويفكر فيها، ثم قال في الحال: فكوا قيوده. ففكوا قيوده، وأطلقوا سراحه.
ويقال: إنه بسبب هذه القصة توقف الخليفة
الواثق في آخر أمره عن القول بخلق القرآن، حتى يقال: إنه ما مات إلا وقد تاب من ذلك.
ولننظر إلى منهج هذا الإمام في النقاش؛ حيث قال له: هل علموها أو لا؟ لأن هذا الإنسان ابتدع بدعة جديدة، فإذا كانوا لم يعلموها فكيف صرت أعلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ بل أعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
ثم بعد ذلك أيضاً لما قال له إنهم علموها، قال: هل دعوا الناس إليها؟ وفعلاً هم ما دعوا الناس إلى القول بخلق القرآن، فلما تبين أنهم لم يدعوا إليها قال: ألا يسعنا ما وسع هؤلاء؟ فانقطع الرجل المبتدع وأخرس، ولا شك أن هذا من توفيق الله سبحانه وتعالى.
إذاً: العبرة من هذه القصة هي منهجية هذا الإمام، وكيف أنه أسكته لا بحجج عقلانية وغيرها، وإنما بالحجة القوية اليسيرة في عرضها وفهمها، لكن لأنها كانت منهجية كانت قوية في إفحام هذا المبتدع؛ لأنها كانت تعتمد هذا المنهج الصحيح في أن الأمور ترجع إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن من ابتدع بدعة فقد أحدث، وكانت نتيجة ما وفق الله سبحانه وتعالى هذا الإمام لهذا العرض القوي: أن قال الخليفة -وكان حاضراً-: (لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم).
من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليه
قال
ابن قدامة رحمه الله تعليقاً: [ وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت؛ فلا وسع الله عليه ].
فما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان يجب أن يتبع.
وقوله: (بإحسان)؛ لأنه قد وجد في التابعين من كان منحرفاً، لأنه لم يتبع الصحابة رضي الله عنهم بإحسان، فلا يتبع.
وقوله: (والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم)، ولا شك أن من أعظم علامات الرسوخ في العلم هو أن يرجع الإنسان فيما لم يعلم إلى من يعلم؛ ولهذا كل من كان راسخاً في العلم فإنه يقول عن الشيء الذي لا يعلمه: لا أدري؛ فالإمام
مالك وهو الإمام
مالك سئل عن أربعين مسألة؟ فأجاب عن أربع، وقال عن ست وثلاثين منها: لا أعلم، فكيف بباب أخبار الصفات؟ فالراسخ في العلم هو الذي يقف عند الخبر الصادق، وهذا لا شك أنه من أعظم الرسوخ في العلم.
وقوله: (من تلاوة آيات الصفات)، يعني: الواردة في القرآن العظيم.
وقوله: (وقراءة أخبارها) أي: أخبار الصفات الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأئمة يتلون القرآن، ويعلَّمونه الناس، وإذا مروا على آيات الصفات لا يعطلونها ولا يشبهونها، وإنما يثبتونها، لكن جاء من بعدهم وقال: إذا جئتم عند قوله تعالى:
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] وقوله:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: قفوا ولا تفهموا من الآية ظاهرها؛ لأن هذه الآية لو وقفنا عند ظاهرها لوقعنا في التشبيه، ولذا يقول: استوى بمعنى استولى، ووجهه بمعنى ذاته؛ وهكذا يعمل فيها تأويلاً، والأئمة من قبله كانوا يقرءونها ويتلونها ويفسرونها بلا تأويل.
وكذلك أيضاً قراءة أخبار الصفات: كان الأئمة يحدثون بالأحاديث ولا يفرقون بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، وإنما كانوا يحدثون بها جميعاً؛ وتعلمون أن مناهج الأئمة في تخريج الحديث على أقسام:
منهم من صنف الحديث على الأبواب، مثلما فعل
البخاري و
مسلم و
أبو داود و
الترمذي و
النسائي و
ابن ماجة وغيرهم، فهؤلاء بوبوا: الصلاة.. الزكاة.. الإيمان.. القدر.. إلى آخره.
ومنهم من ذكر الأحاديث حسب الأسانيد، إما حسب أسانيد الصحابة، مثل مسند الإمام
أحمد وغيره من المسانيد، أو حسب معجم شيوخه، مثل معجم
الطبراني في الصغير، فالذي ذكر أسانيد الصحابي -كالإمام
أحمد بن حنبل مثلاً- يذكر كل مرويات هذا الصحابي، ولا يفرق بين العقيدة ولا بين غيرها، ولا يقول: لا تقل إلا أحاديث الأخبار والأحكام فقط، أما أحاديث الصفات فهذه أمرها عظيم، ونخاف أن تشبهوا، ونخاف أن تمثلوا، لم يقل أحد منهم ذلك، بل كانوا يقرءونها ويوردونها ويتلونها ويحدثون بها، ولا يفرقون بينها وبين غيرها من الأحاديث، وهذا منهجهم.
ثم قال: (وإمرارها كما جاءت)، ثم دعا عليه في الأخير فقال: (فلا وسع الله عليه).
قوله: (إمرارها كما جاءت) سبق أن شرحناها في عبارة سابقة، أي: أنهم يوردونها كما جاءت بالإثبات؛ فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من معنى، لكن كيفية هذه الصفة يفوضون علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وكما قلنا سابقاً: فإن عبارة أمروها كما جاءت، أو تمر كما جاءت ليست حجة لأهل التفويض؛ لأن الأئمة ذكروها حتى في غير باب الصفات، وقد سبق شرح ذلك في الدرس الأول.
ونقف عند ما ذكره من نماذج الصفات، ونستكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم.
معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (وببصر نافذ كفوا)
السؤال: قول
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (وببصر نافذ كفوا) هل هي من كفَّ أم من كفى؟
الجواب: الذي يظهر لي أنها من كف، وليست من كفى، ويجوز أن تكون من كفى، يعني: وببصر نافذ كفاهم الله مؤنة القول في البدع ونحو ذلك، لكن الأدب أن تكون العبارة: (وببصر نافذ كفوا عن الخوض، وليس عن عجز) أي: ليس عن عجز منهم، وإنما ببصر نافذ كفوا عن ذلك، والعلم عند الله تعالى.
عدم التأويل والتكييف يشمل جميع أبواب العقيدة
السؤال: هل عبارة الإمام
أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى خاصة في باب الأسماء والصفات أم شاملة في جميع العقائد؟
الجواب: عبارة الإمام
أحمد شاملة لجميع العقائد، سواء كانت في باب الصفات أو في باب مسائل الإيمان أو في باب القدر أو في غيره، لكن أحياناً تكون مسائل الصفات هي محك للفارق بين أهل السنة وبين غيرهم من أهل البدع.
حكم تكفير المعتصم العباسي
السؤال: هل
المعتصم كافر؛ لأنه دعا إلى هذه البدعة؟
الجواب: أئمة السلف رحمهم الله تعالى قالوا كلاماً عاماً، قالوا: من قال بخلق القرآن فهو كافر! لأن القول بخلق القرآن من القضايا الكفرية؛ لأنه من تأويل الصفات وتأويل الصفات كفر، ويجب على الإنسان أن يحذره، لكن ليس كل من قال بشيء من هذا يكون كافراً بعينه إلا بعد توفر شروطه وانتفاء موانعه، فلو أنه قالها متأولاً وهو صادق في تأويله فقد يكون معذوراً ولا يكفر، ولو أن شخصاً آخر قالها راداً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومكذباً به لكان كافراً، ولهذا فإن أئمة الأمة الإسلامية ما كفروا كل من قال بخلق القرآن؛ بل قالوا: من قال بخلق القرآن فهو كافر، لكن ما كفروا أحداً بعينه، وإنما ورد عن بعض السلف تكفير معينين؛ سئل عن فلان المعروف برده للنصوص وببدعته وبغير ذلك، فقال: فلان كافر، فكفره لصفات ولأمور استقرت عنده بأن هذا الشخص غير معذور، وأنه كافر؛ لهذا فالقول بتكفير
المعتصم أو
المأمون يدخل ضمن هذه القاعدة، فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يكفر؛ لأنه متأول.
حكم المخالطة والسلام على من ينفي الصفات والقدر ويسب الصحابة رضي الله عنهم
السؤال: هناك طائفة من الطوائف غالية في باب نفي الصفات غلواً فاحشاً؛ حيث ينفون الرؤية واليدين وسائر الصفات؛ بحجة التشبيه، ويقولون: إن المعاصي ليست من قدر الله، ويسبون بعض الصحابة الذين قاتلوا
علياً رضي الله عنهم أجمعين؛ فهل يجوز مخالطتهم والسلام عليهم مع إصرارهم؟
الجواب: هذه الطائفة تجمع بين شيء من التشيع وبين تبني أقوال المعتزلة، ومعلوم أن بعض الطوائف -كالرافضة والزيدية- تبنت مذهب المعتزلة في باب القدر والصفات، بل الإباضية -وهم خوارج- الذين على الضد تماماً من الرافضة تبنوا أيضاً أقوال المعتزلة في الصفات والقدر والقول بخلق القرآن ونفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهذا الذي قالوه هو مذهب المعتزلة؛ وما ذكروه من نفي الصفات ونفي الرؤية وأن المعاصي ليست من قدر الله هذا قول المعتزلة القدرية.
وأما هل تجوز مخالطتهم والسلام عليهم، فهذا أمر يضبط بضابط الموقف من أهل الكتاب؛ لهذا نفرق بين الداعية إلى البدعة منهم وغير الداعية، ونفرق بين من كان منهم عارفاً بالحق تاركاً له عن قصد ومن كان منهم مقلداً لشيخه، فالواجب علينا أن نرد عليهم، وأن نبين ضلالهم في هذا الباب، وأن ندعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كنا نريد أن ندعوهم إلى الله فلابد أن نختلط معهم، ونبين ما عندهم من ضلال.
ثم مع ذلك كله نكره ما عندهم من بدع؛ فما دامت بدعهم قد لا تصل إلى حد الكفر فإننا يجب أن نحفظ لهم ما شاركونا فيه، وهو الإسلام، ونكره ما هم فيه من بدعة، وهذا منهج السلف: الولاء لجميع المؤمنين، والبراء من جميع الكافرين، فمن لم يرتكب منهم ناقضاً لا يكفر، أما من ارتكب منهم ناقضاً من نواقض الإسلام فحكمه حكم الكفار، فالولاية تكون لجميع المؤمنين، والبراءة تكون من جميع الكافرين؛ فالمسلمون المرتكبون لبدعة أو الواقعون في فسق أو كبيرة يوالون على قدر إيمانهم، ويعادون على قدر بدعتهم أو فسقهم إذا كانت بدعتهم غير مكفرة، أما إذا كانت مكفرة يخرج الإنسان بها عن دائرة الإسلام مثل بعض الفرق والطوائف فهؤلاء حكمهم حكم الكفار.
الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد والأحكام
السؤال: هل أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد؟ وما رأيك فيمن يقول: إن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد؟
الجواب: هذا منهج ضخم جداً من مناهج أهل البدع وعلى رأسهم المعتزلة، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من متكلمي الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية الذين تبنوا عقائد الأشعرية والماتريدية يميلون إلى هذه القضية، وهي أن أخبار الآحاد يؤخذ بها في باب الأحكام، لكنها تفيد الظن، ومن ثمّ لا يؤخذ بها في باب العقائد، وهذا المنهج لا شك أنه منهج مخالف تمام المخالفة لمنهج السلف.
وأما حكاية الخلاف في هذه القضية، فإن كثيراً منهم يحكي أن الجمهور يرون أنه لا يفيد العلم، ولا يحتج به في باب العقائد؛ وقلة من الحنابلة أو من غيرهم يرون أنه يفيد العلم ويحتج به في باب العقائد؛ وحكاية الخلاف بهذه الطريقة حكاية معكوسة، بل إن جماهير العلماء يرون أنه يفيد العلم، ويحتج به في باب العقيدة، وقلة ممن تبنى مذاهب المتكلمين من المعتزلة ومن غيرهم قالوا: إنه يفيد الظن، ولا يحتج به في باب العقيدة، ومن تأمل أحوال الأمة الإسلامية في نقلهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتفرغ جهابذة العلماء وخاصة علماء الجرح والتعديل يقطع بأن القضية ليست خبر آحاد، وإنما القضية قضية تبديل الرسالة؛ لأن من قال: إنها تفيد الظن، وقال: لا يحتج بها في باب العقائد، معناه أنه جعل لنفسه سلماً للطعن في جميع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونتيجتها: أن الله سبحانه وتعالى لم يبلغ، ولم يرسل إلينا هذا بطريقه الصحيح!
أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الصحابة، والصحابة بلغوها من بعدهم، ووصل إليهم بالأسانيد والطرائق الصحيحة، والإمام
البخاري استخرج صحيحه سبعة آلاف حديث من أكثر من ستمائة ألف حديث، والإمام
أحمد بن حنبل كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث الموضوعة المكذوبة الضعيفة.
فالقضية ليست سهلة، القضية ممحصة ومبينة، ومن ثم فإن القول بأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقائد يناقض ما كان على عهد الصحابة والقرون الثلاثة المفضلة؛ وجماهير العلماء كلهم في منهجهم يقررون أن خبر الآحاد إذا كان صحيحاً ثابتاً بالإسناد الصحيح، ليس فيه علة، وليس فيه شذوذ، ولم يتكلم العلماء فيه؛ فهو يفيد العلم، ومن ثمَّ نأخذ به في باب العقيدة كما نأخذ به في أي باب من أبواب الأحكام الأخرى؛ وتفصيل هذا لعله تأتي له مناسبة أخرى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.