أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أما بعد:
فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ستكون فتن، وستنقض عرى الإسلام عروة عروة، فأولها نقضاً الحكم وآخرها الخشوع).
ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقد نقض الحكم منذ زمن طويل، والناس قد حكموا بغير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى صار الحكم بغير ما أنزل الله تعالى مألوفاً في قلوب العامة، ثم كاد الخشوع أن يرفع فلا تكاد تجد خاشعاً، والخشوع لم يرفع بالكلية، بل الأمة فيها خير، والخير فيها مستمر إلى قيام الساعة.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ستكون فتن) أي: ستقع بين يدي الساعة فتن.
إن الناس يستعظمون الحكم بغير ما أنزل الله، وهو عظيم حقاً، وهو بلاء ما بعده بلاء، ولكن أشد منه بلاءً هم هؤلاء العلماء الذين ابتليت الأمة بهم، فهم بلاء عليها وعلى الإسلام، إنهم علماء ولكنهم غير عاملين بما علموا، وليس هذا فحسب؛ بل حملهم الحسد والبغض على محاربة أبناء الصحوة وشبابها زعماً منهم أن هؤلاء متطرفون وأنهم غير متعلمين، وغير متخصصين، وغير أزهريين.
إذاً: لم لا تفتحون أبواب الأزهر أمام الشباب المغرر بهم بزعمكم، حتى يتعلم وينهل من علمكم، ويستقيم كاستقامتكم؟ لم تدعونهم هكذا عرضة لكل من أراد أن يأخذ بنواصيهم إلى الشر كما تقولون؟! وإن هؤلاء الذين يبيتون كل ليلة هماً وغماً ونكداً وحسرة على ما وصل إليه المسلمون من ترد واضمحلال، بل ونزولاً عن أصول دينهم أصلاً أصلاً؛ لِمَ لا تعلمونهم؟!
وإذا كنا فعلاً متطرفين والعلاج عندكم في الأزهر؛ فلم فتحتم أبوابه ثلاثة أعوام ثم أغلقتموه بعد ذلك إلى الأبد؟! ثم هب أن الأزهر أغلق بغير سبب منكم، لم لا يكون لكل عالم من علماء الأزهر مسجد كهذا المسجد يدرس فيه العلم، ويجمع حوله الشباب ويربيهم كما يحلو له كما أمر الله تعالى ورسوله؟!
وإنا لا ندري هل نحن على ما أمر الله تعالى ورسوله أم نحن متطرفون وإرهابيون حقاً؟!
وهل إذا وقع الإرهاب من البعض ممن ينتسب للصحوة، فلينظر ما سبب هذا الإرهاب، وما علاجه، وما مظاهره، تبحث هذه المسائل حتى تجتث جذور الفتنة من أصلها، ولا تكتفون بكيل السباب والشتائم والتهم للصحوة وأبنائها؟
أما يكفيكم عاراً أن واحداً منكم لا يجرؤ أن يقول: أنا السبب في هذه الصحوة؟
أما يكفيكم شناراً أن أحداً فيكم لا يجرؤ أن يواجه هذه الصحوة بكلمة منذ أكثر من خمسين عاماً؟!
ولذلك فإن هذه الصحوة التي يمر بها الإسلام اليوم، وتمر بها الأمة إنما هي محض فضل الله عز وجل على يد أئمة وعلماء ليسوا من أبناء هذا البلد، ولكن الذي من أبناء هذا البلد هم شباب حملوا راية الدعوة وهمَّ الإسلام ونشره بين العامة والخاصة، فالله تبارك وتعالى كتب توفيقه لهؤلاء: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13].
إي والله! الأمر لا يعدو ذلك، ولن يعدو أمر الله تعالى فينا ولا فيهم، فالذي قدره الله تبارك وتعالى لهم ولنا لا بد أن يقع، وأنه سيكون إن عاجلاً أو آجلاً، فهؤلاء علماء نعترف لهم بالعلم، ولكنهم وظفوا علمهم لغير الدين، وطلبوا به الدنيا، والرئاسة، والجاه، ووقفوا به على أبواب السلطان، وقعدوا به على موائد الأمراء، فهل يكون هذا علم وهدى وتقوى؟! وعلموا كما علم غيرهم أن الصحوة هي عدوهم الوحيد، فلا بد أن يتخلصوا منها بأي سبيل، فقاموا بدس الوشايات بيننا وبين المسئولين حتى نقتل في مهدنا، وهيهات هيهات؛ فإنه دين الله عز وجل.
وإن الله تبارك وتعالى سخرنا لهذا، وإننا نعتبر أن هذا التسخير تكليف من الله عز وجل لا تشريف فيه، وهم يعتبرون أن ما هم عليه من لباس وعمائم وعلم إنما هو تشريف، ولذلك يكتفي الواحد منهم بأن يجلس في المجلس ويقول: أنا عالم أزهري، أو شيخ أزهري، أو محاضر في الجامعة، أو أستاذ في قسم كذا، وليس له من دينه وعلمه إلا التفاخر والعجب، فحسبنا الله تعالى فيهم.
وحسبنا الله تعالى في كل من وقف أمام هؤلاء الشباب الذين أمر العلماء بإكرامهم وإنزالهم في أحسن منزل، والتوسيع لهم في المجالس واللطف بهم، وحثهم على الاستمرار فيما هم عليه من خير، ليس التثبيط يتلوه التثبيط.
إن هؤلاء العلماء يلوون النصوص ويخرجونها عن مدلولها وعن مراد الله عز وجل منها، وعن مراد الرسول عليه الصلاة والسلام من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، يلبسون الحق بالباطل، بل يحسنون القبيح، ويقبحون الحسن لأجل أن يصلوا إلى مبتغاهم ومرادهم، ولكن لا يكون إلا ما قدره الله عز وجل، ومن أفضل آداب العالم أن يتواضع لله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يبغي بعضكم على بعض).
إذاً: فائدة التواضع رفع البغي عن الأمة، والبغي هو الظلم بغير الحق، وهؤلاء قد ظلموا أبناء الصحوة بغير الحق، واتهموها وسبوها في علمها وعقيدتها وشريعتها بغير حق، فحسبنا الله تعالى فيهم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل).
وهؤلاء الناس لا يقبلون أن يجلسوا في هذه المجالس، وإنما يجلسون في أعلى المجالس وفي صدر المجالس؛ لأن ذلك هو الذي يتناسب مع هذه الطواغيت والعمائم الحمراء والزرقاء تارة أخرى، والألوان كثر.
قال كعب الأحبار لرجل: اتق الله وارض بالدون من المجالس، ولا تؤذ أحداً؛ فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالاً ونقصاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)، فإن الواحد منهم إنما يعجب بنفسه كل الإعجاب، فتراه يجلس في المجلس قد صعر خده وتقعر في الكلام ولوى به لسانه كما تلوي البقرة لسانها بالمرعى أو بالطعام.
وقال عليه الصلاة والسلام: (وثلاث منجيات: تقوى الله في السر والعلن، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والاقتصاد في الفقر والغنى).
قال مسروق بن الأجدع رحمه الله: كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، ولذلك قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فكلما ازداد المرء علماً ازداد لله خشية، وهذه فائدة العلم بالله عز وجل، فإن عالماً لا يخشى الله ليس بعالم في الحقيقة، فالعالم هو من عرف المسائل بأدلتها من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإجماع أهل العلم، وعمل بمقتضى هذا العلم رغبة ورهبة، فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فليس في الحقيقة بعالم.
قال: (كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه)، يعني: عنده علم ولكنه يعجب بما عنده من علم، ولذلك خاطب الله عز وجل نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام فقال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فما بالك بمن هو دون النبي عليه الصلاة والسلام؟!
قال أبو الدرداء: علامة الجهل ثلاث) إذا توافرت هذه العلامات في شخص فليعلم أنه جاهل، وإذا توافر فيه واحد أو اثنين فليعلم أن فيه من الجهل على قدر ما فيه من هذه العلامات.
(أولها: العجب. ثانيها: كثرة المنطق فيما لا يعنيه)، أي: دخوله فيما لا يلزمه الدخول فيه.
(وأن يُنهى عن شيء فيأتيه) وفي رواية: (وأن يَنهى عن شيء فيأتيه).
وفسر الفضيل بن عياض التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه.
فالخضوع للحق والانقياد له هو العلم؛ لأن العلم والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها، ولا يضره أن يوجد العلم أو أن توجد الحكمة على فم عالم أو جاهل أو حتى كافر؛ لأنك تبحث عن العلم وتبحث عن الحكمة، فأينما وجدت أحدهما فاظفر بها تفز أيها العبد.
ثم قال: (والعجب يهدم المحاسن)، وهو آفة الألباب، كما أنه دليل على ضعف عقل صاحبه.
قال الشاعر:
المال آفته التبذير والنهب والعلم آفته الإعجاب والغضب
فضلاً على أنك لا تجد المعجب بعلمه إلا طالباً للرئاسة، وإذا لم يكن له غرض يصبو إليه من بعد عجبه إلا الرئاسة؛ فلم يعجب من علمه إذاً؟
وسماهم أئمة؛ لأنهم أئمة وخطباء ووعاظ وعلماء وقادة، وساسة، وخاف النبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء؛ لأنهم يزخرفون الباطل فيبدو في أعين الناس كأنه الحق الذي ليس بعده حق، ولذلك فإن عالم الدين يفسد في الدين وفي الأمة أكثر مما يفسده مائة قائد أو زعيم أو رئيس؛ لأن الناس ينظرون إلى هذا العالم على أنه صورة الإسلام، والواسطة بين الله عز وجل وبينهم في فهم كلام الله وترجمته لعامة الأمة، فإذا لوى النصوص، وحرف الكلم عن مواضعه، وبين للناس مراده هو من النصوص ولم يبين مراد الله عز وجل، مع علمه أنه يقول عن الله عز وجل ما لم يقله؛ فحسبه من ذلك جهنم.
وأول ما تسعر النار بالعالم الذي لم يعمل بعلمه والمرائي به الذي طلبه لغير الله عز وجل، إنما طلبه تفاخراً ورياءً وسمعة وإعجاباً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف عليكم تغير الزمان، وزيغة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلين يضلون الناس بغير علم).
وقال أيضاً: (يهدم الإسلام ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون).
(زلة عالم) أي: خطأ عالم مرة أو مرتين، أما أنه قائم على الزلل بالليل والنهار، وعلى حرب الإسلام وأهله بالليل والنار من تحت طربوشه الأحمر أو عمامته البيضاء؛ فليس هذا هو الذي عناه عمر ، إنما عناه هو ومن قبله النبي عليه الصلاة والسلام بـ(الأئمة المضلين).
وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى).
وعن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان) أي: فصيح بليغ.
ولذلك فهم يأتوننا بهؤلاء البلغاء الفصحاء فيتكلمون بكلام ما أروعه وما أجمله وما أحسنه وما أزينه! حتى يقول كل مشاهد وكل سامع: إن الحق في هذا الكلام، وإن هذا العالم هو العالم على الحقيقة، ثم يأتون بإنسان ليس أهلاً -في الحقيقة- للدعوة لدين الله عز وجل، يتكلم بكلام بعضه سخف وبعضه جهل، ثم يقول القائل: هؤلاء هم الشباب الذين يقال عنهم: شباب الصحوة أو شباب الدعوة.
ثم يأتون برجل يثور ثورة عارمة ويرفع صوته حتى تتقطع أحبال صوته، ثم لا يسمع من كلامه ولا كلمة واحدة فيأتون به في صورة مزرية إلى أقصى حد، ويقولون: انظروا إلى هذا الغضب الشديد الذي يتملكه مع أن أحداً لا يفهم منه شيئاً!
فهم يتخيرون أسوأ النماذج.
وأنتم لستم صادقين ولو أقسمتم بالله مليون قسم، فأنتم ملاحدة يا أبناء روز اليوسف، ويا أبناء الصحافة والإعلام، وأنتم مغرضون، لا يمكن أن يأتي الصدق من جهتكم، إنما أنتم تبدون بمظهر جميل وملمح عظيم، وملمس في وجوهكم وأبدانكم كملمس النساء في النعومة، ثم تتكلمون بكلام يقطر عسلاً، لكن هذا الكلام قد تكلم به -بل وبأحسن منه- عبد الله بن أبي بن سلول عليه لعنة الله، وأنتم لا تخفون على الله عز وجل.
ثم يأتون بعالم فصيح بليغ فيجلسون أمامه الواحد والاثنين والثلاثة للمناظرة، ونحن لسنا أهلاً للمناظرة، ولم ندع في يوم أننا علماء، إنما نقول: إننا طلاب علم نسعى في الوصول إلى الحق ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، أحياناً نتعثر وأحياناً نوفق، وهذا شأن البشر جميعاً، وعندنا من الأخطاء ما عندنا، لكن غيرنا عنده نفاق، وشتان ما بين الخطأ والنفاق.
وإنما نبتغي بهذا وجه الله تعالى، والله تبارك وتعالى حسيبنا بهذا، وغيرنا ممن يحاربنا ابتغى بعلمه ولسانه الدنيا، والله تبارك وتعالى يكافئ كلاً على نيته.
قال عمر : (إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان يتكلم بالحكمة ويعمل بالفجور).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في حديث مرفوع: (إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيمنعه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه شركه، ولكني أخاف عليها منافق عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رأيت بهجته، وكان ردءاً للإسلام؛ اغتره الشيطان -أي: أخذه من ناصيته- إلى ما شاء -أي: إلى ما شاء الشيطان-، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قال
وصدق حذيفة حيث قال: (المنافقون اليوم شر ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: إنهم كانوا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام يخفون النفاق، واليوم يظهرونه!)
بل قال: (إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما اليوم فهو الكفر بعد الإيمان).
وقال صالح بن سلمان: سمعت المشيخة الأولى يتعوذون بالله من العالِم بالسنة الفاجر، إذا رأوه في طريق سلكوا طريقاً آخر، يقولون: نعوذ بالله من هذا العالم؛ لأنه فاجر لا يعمل بعلمه، بل يتخذ العلم مدرجة لمحاربة إخوانه ويقوم على جاره بالسيف. أي: يقوم على أخيه بالسيف.
وقال صلى الله عليه وسلم: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام)، والشاهد: (يشتدقون بالكلام) يعني: يقولون كلاماً بين أشداقهم يعجز الصادقون أن يأتوا بمثل كلامهم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بألسنتها) والباقرة: جمع بقرة، ولذلك جاء مفرداً في رواية واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (قال في رجل تكلف الكلام بين يديه، فما أتى النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة ولا تكلم بحديث إلا تكلف هذا الرجل أن يأتي بكلام هو أبلغ وأفصح من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ولى هذا الرجل مدبراً قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يحب هذا وضرباءه -أي: وأمثاله وأشكاله- يلوون ألسنتهم للناس لي البقرة لسانها بالمرعى، كذلك يلوي الله ألسنتهم ووجوههم في النار).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بشرار هذا الأمة؟) لم يذكر أصحاب الكبائر من الزناة والعصاة والقتلة، وإنما قال: (الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) أي: الذين يتكلفون الكلام بالباطل وهم يعلمون الحق، ويكثرون منه؛ لأنه قال: (الثرثارون) أي: الذين يكثرون الكلام دائماً.
وفي رواية: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون).
وعن إبراهيم النخعي قال: (كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث).
وقال الأوزاعي : (عليك بآثار من سلف، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها بالقول؛ لأن الحق لا يعرف بالرجال)، إنما:
الحق قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما الحق نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه).
وقال هشيم : (كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه العلم نظرنا إلى سمته وهديه وإلى صلاته، ثم أخذنا عنه بعد ذلك).
ودين الله أحق ما طلب له العدول، إذا طلبت العلم فاطلبه من عدل ثقة مأمون على نقل هذا الدين إليك، وعلى نقل مراد الله ورسوله إليك، أما أن تطلب العلم على يد رجل إنما يتخذ العلم سلماً لنيل الأغراض والأعراض وغيرها، فهذا ما لا يعرفه سلفنا، بل حذرونا منه.
ولذلك قال خالد بن الخداج : ودعت مالك بن أنس فقلت: يا أبا عبد الله ! أوصني، قال: عليك بتقوى الله وطلب العلم من عند أهله.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربعة: بالديانة والأمانة، والصيانة والرزانة.
هذه الأربع إذا اكتملت في رجل فهو الكامل.
وعن أبي أمية اللخمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، فهم يحتجون بهذا الحديث ويقولون: نحن العلماء وهؤلاء صغار قوم أنى لهم العلم؟! ومتى حصلوا عليه؟! وعلى يد من؟! وفي أي مؤسسة؟!
أقسم بالله العظيم أنهم لا يعترفون بما اعترفت به الأمة وأجمعت عليه في إمامتهم وعلمهم وورعهم وتقواهم؛ لأنهم إلى الآن لا يعترفون لا بـابن باز ولا بـالألباني ولا بـابن عثيمين ولا بـابن جبرين ولا غيرهم من أهل العلم هنا وهناك، مع أن الأمة أطبقت على إمامتهم وعلمهم وفضلهم، وحازوا على جوائز شتى إثباتاً لجهودهم في بث الدعوة ونشر العلم بين الأمة شرقاً وغرباً، فليست القضية قضية شباب، وإنما القضية قضية أن من تخرج من الأزهر وإن كان من أفسق الناس فهو العالم، وما سواه فلا.
افتحوا للناس باب الأزهر، دعوا الشباب يتعلمون.
وحديث: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر) يقولون عنه: وهذا حديث صحيح أخرجه الترمذي وفلان وفلان! نعم، وهذا كلام جميل.
ثم إن المذيعة أو المقدمة التي جلست مع الشيخ على أحدث موديل، وأظهرت جميع مفاتنها إلا ما أخفته لزوجتها، وتضحك وتبتسم مع الكلام الجميل وهو يقابلها بنفس الشعور حتى لا يكون جلفاً!
ثم يقول: والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من هؤلاء وبين أنهم من أشراط الساعة ومن علاماتها، والدليل على ذلك ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أمية اللخمي .
أما تفسير أهل العلم للأصاغر. فقد قال عبد الله بن المبارك ومالك بن أنس وابن عبد البر وغيرهم من أهل العلم: الأصاغر هم أهل البدع. وأما صغير يؤدي عن كبير فليس بصغير، صغير يربطك بالله وبرسول الله وبسلف الأمة فليس بصغير على الحقيقة، بل الصغار هم أهل البدع، يلوون ألسنتهم لي البقر ألسنتها في المرعى، ويقولون: إننا خوارج العصر مع أننا نتبرأ من الخوارج بالليل والنهار، ومن منهجهم ومن أخلاقهم وسلوكياتهم، والخوارج هم شر خلق الله عز وجل بعد اليهود والنصارى، وربما يكونون قبل اليهود والنصارى، نقول هذا في كل وقت وحين.
إننا لسنا بخوارج، نحن طلاب حق، نتعثر ونصيب، ارحمونا، خذوا بأيدينا، ولو كنا ضللنا فاعلموا منا سبب ضلالنا وخذوا بأيدينا إلى النجاة والجنة إذا كنتم تزعمون أنكم على الحق المبين، ولذلك قال الشعبي : (ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فشد يداً به -يعني: فشد عليه يدك- وعض عليه بالنواجذ، وما حدثوك عن رأي فألقه في الحجر) وفي رواية: (فبل عليه)؛ لأننا لسنا في حاجة إلى آراء الرجال، وإنما حاجتنا إلى (قال الله) و(قال الرسول).
وقال الشافعي : إنما يتكلم في هذا الدين من كان مأموناً على عقيدة هذه الدين.
قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي : فأي مسلم يدين الله تعالى يستحسن أن يأخذ دينه ممن يستهزئ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزدري بأهله؟! وأنى يهدى السبيل من يبغيها عوجاً؟!
بل قد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالغلمان والصغار إلى طلب العلم، فعن أبي هارون العبدي وشهر بن حوشب أنهما قالا: كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: أنتم وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل العلم كلفوا أن يرحبوا بكم، قال أبو سعيد : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفتح لكم الأرض ويأتيكم غلمان حديثة أسنانهم -أي: صغار السن- يطلبون العلم ويتفقهون في الدين ويتعلمون منكم، فإذا جاءوكم فعلموهم، والطفوهم، ووسعوا لهم في المجلس، وفهموهم الحديث) هذه كلها أوامر النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الوجوب.
قال: (فإذا جاءوكم فعلموهم) لم يقل: صدوهم، واشتموهم، واتهموهم، وشوا بهم عند الحكام، وإنما قال: (علموهم والطفوا بهم، ووسعوا لهم في المجلس، وفهموهم الحديث).
نحن مستعدون أن نفتح جميع مساجدنا لعلماء الأزهر ولعلماء الأوقاف ليعلمونا، وهذا الكلام قلناه مراراً، ولكن وراء الأكمة ما وراءها، وتحت الجبة شيخ.
وعن الزهري قال: (كان مجلس عمر مكتظاً بالقراء شباباً وكهولاً، فربما استشارهم).
لماذا لم يقل عمر لهؤلاء الغلمان والشباب: اخرجوا والعبوا؟! أو: العلم للكبار؟ ولماذا لم يقل لهم: لا تتكلموا حتى نفتح لكم الأزهر؟!
قال: فيقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه؛ فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن العلم يضعه الله تعالى حيث يشاء.
قال ابن المبارك :
حسبي بعلمي إن نفع ما الذل إلا في الصنع
من راقب الله رجع عن سوء ما كان صنع
ما طار شيء فارتفع إلا كما طار وقع
ولذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، رب أعوذ بك من هؤلاء الأربع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع)، وفي رواية بزيادة: (وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة). أي: بطانة السوء التي تزين الباطل فتجعله حقاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه وأمته بذلك، ففي حديث جابر : (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع)
وفي حديث أم سلمة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الظهر وجلس في مصلاه يقول: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعد:
إن أعظم ما يعيب العالم أن يهين علمه وأن يجعله في الوحل، ولا أعظم وحلاً من دخول العالم على السلطان، إن على باب السلطان فتناً لا يعلمها إلا الله عز وجل، وإن العالم لأهون عليه أن يقطع وأن يمزق إرباً إرباً وخير له من أن يأتي باب السلطان، ولذلك ذم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وبين موطن الفتنة في هذا، فقال: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن).
وفي رواية: (وما ازداد عبد من سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً).
فـ(السلطان والقرآن سيفترقان، فدوروا مع القرآن حيث دار)، لا مع السلطان.
وأبناء السلاطين الآن لا يطلبون العلم.
و ربيعة هو شيخ الإمام مالك بن أنس ، وهو مفتي المدينة قبل مالك ..
فقال ربيعة : ما أحدث شيئاً. فلما خرج من عنده قال ربيعة لأصحابه: أما سمعتم هذا الذي يقول: يا ربيعة حدثنا كأنه يقول: يا ربيعة غننا!
فأخذ الرجل الرسالة وذهب إلى الأعمش فطرق الباب، وكان الأعمش يكره أن يدق عليه بابه، وكان الأعمش يعلف دابته، فلما دخل عليه ذلك الرجل قال الأعمش : من أين أتيت؟ قال: من عند الخليفة. قال: وما معك؟ قال: رسالة. قال: هات، فأخذ الرسالة وقطعها ثم لواها وناولها العنز فأكلتها. قال: يا أعمش! أقول لك: هذه رسالة الخليفة! قال: وما بها؟ قال: إنه يأمرك أن تحدثني. قال: والله لا أحدثك ولا أحدث قوماً أنت فيهم.
و الأعمش مع أنه كان من أفقر الناس في زمانه، إلا أن أذل الناس عنده كانوا هم السلاطين والأمراء.
وهم مشايخنا الذين نتحمل عنهم، فإن كانوا هم فالحق معنا، وإن لم يكونوا كذلك فدعونا على باطلنا وضلالنا نلقى الله تبارك وتعالى، فإنا قد رضينا أن يكون الأعمش ومالك والشافعي وأبو حنيفة وغير هؤلاء هم أئمتنا إذا فسد علماء زماننا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يكون عليكم الأمراء تعرفون منهم ما تنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع فأبعده الله. قيل: يا رسول الله! أفنقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) يعني: لا تقاتلوهم ما دامت الصلاة قائمة وأنكم تصلون بلا أدنى حرج.
وقال أبو حازم : إن العلماء كانوا يفرون من السلطان ويطلبهم، وهم اليوم يأتون أبواب السلطان والسلطان يفر منهم.
يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين
وتركك الدنيا ولذاتها وهجر أبواب السلاطين
تقول أكرهت فما حيلتي زل حمار العلم في الطين
لا تبع الدين بدنيا كما يفعل ضلال الرهابين
وقال ابن المبارك :
رأيت الذنوب تميت القلوب ويورثك الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة للقلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا ولم يغل في البيع أثمانها
لقد رتع القوم في جيفة يدين لذي العقل إنتانها
وقال أبو العتاهية :
عجباً لأرباب العقول والحرص في طلب الفضول
سلاب أكسية الأرامل واليتامى والكهول
والجامعين المكثرين من الخيانة والغلول
والمؤثرين لدار رحلتهم على دار الحلول
وضعوا عقولهم من الدنيا بمدرجة السيول
ولهوا بأطراف الفروع وأغفلوا علم الأصول
وتتبعوا جمع الحطام وفارقوا أثر الرسول
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن على أبواب السلطان فتناً كمبارك الإبل، والذي نفسي بيده لا تصيبوا من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينكم مثليه.
وقال وهب ابن منبه: إن جمع المال وغشيان السلطان لا يبقيان من حسنات المرء إلا كما يبقي ذئبان جائعان ضاريان سقطا في حظيرة غنم فباتا يدوسان حتى أصبحا.
وهذا المعنى يشهد له قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) .
لو أن المرء أو العالم حرص بعلمه على جمع المال أو أن يتصدر ويتوجه وأن يكون رئيساً أو زعيماً؛ فإنه يفسد في دين الله عز وجل أكثر مما يفسد السلاطين والأمراء وأصحاب الكبائر وظهور الفتن بالليل والنهار، إن العالم يفعل أعظم من ذلك كله إذا انحرف عن هدي طريق نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقال سفيان الثوري : كان خيار الناس وأشرافهم والمنظور إليهم في الدين الذين يقومون إلى هؤلاء الأمراء فيأمرونهم وينهونهم، وكان آخرون يلزمون بيوتهم ليسوا عندهم بشيء.
يعني: كانوا يسكتون لا ينصحون الحكام وكأنهم ليس لهم أي علاقة أبداً، هؤلاء هم الذين لم يكن لهم أي خير، أما الخير فكان في الذين يذهبون إليهم وينهونهم.
قال: وكان لا ينتفع بهم ولا يذكرون -أي: هؤلاء الساكتون-، ثم بقينا حتى صار الذين يأتونهم فيأمرونهم شرار الناس، والذين لزموا بيوتهم ولم يأتوهم فهم خيار الناس.
أي: انعكست الصورة وتغير الزمان.
قال قتادة رحمه الله: العلم كالملح، إذا فسد الشيء صلح بالملح، وإذا فسد الملح لم يصلح بشيء.
نعم، العلماء في الناس وفي الأمة كالملح، إذا فسدت الأمة أصلحها العلماء، فما بالك لو فسد العلماء؟!
وقيل للأعمش : يا أبا محمد ! لقد أحييت العلم بكثرة من يأخذه عنك، فيرحمك الله. قال: لا تعجبوا؛ فإن ثلثاً منهم يموتون قبل أن يدركوا، وثلثاً يكرمون السلطان فهم شر من الموتى، ومن الثلث الثالث قليل من يفلح.
وقالوا: شر الأمراء أبعدهم عن العلماء، وشر العلماء أقربهم إلى الأمراء.
وقال محمد بن سحنون : كان لبعض أهل العلم أخ يأتي القاضي والوالي بالليل يسلم عليهما، فكتب له أخوه كتاباً فقال: أما بعد: فإن الذي يراك بالنهار يراك بالليل، وهذا آخر كتاب أكتبه إليك.
قال ابن سحنون : لما قرأ ذلك فأعجبه قال: ما أسمج العالم أن يؤتى إليه في حلقته فلا يوجد، فيسأل الناس: أين العالم؟ فيقولون: عند الأمير أو عند السلطان.
والمعنى: ما أسمج هذا العالم، وما أغباه، وما أحمقه أن يترك هذه المساجد ويذهب ويرتع هنا وهناك جمعاً للدنيا والمال والحطام والكراسي والمناصب والرئاسة وغيرها.
قال سحنون : إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية بلا حاجة ولا عذر؛ فينبغي ألا تقبل شهادته.
فإني أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعصمني وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم هيأ لنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، اللهم اهد علماء الأمة، وشباب الأمة، ونساء الأمة، اللهم احفظ بنات الأمة، اللهم احفظ شباب الأمة، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله العظيم، اللهم إنا قد آمنا بك وبرسولك الكريم، وصدقنا كتابك، وآمنا بسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر