[ ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه، فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي.
وأما المرتاب فيقول: هاه هاهز لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، وتنشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى : وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقرون بها ].
وهذا عام شامل وسيذكر لنا أمثلة مما يجب أن يؤمن به، وإلا فالتفاصيل كثيرة جداً، وقد جاء ذلك في كتاب الله جل وعلا وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما لو كتب فيه مجلدات لما وسعت ذلك، فلم يأت نبي من أنبياء الله بمثل ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم في تفاصيل يوم القيامة، وذلك لأنه آخر الأنبياء وعلى أمته تقوم الساعة، ولهذا جاء بذلك مفصلاً مبيناً موضحاً، وجاء بأشياء لا تقبل التأويل ولا تقبل الصرف عن ظاهرها، ولهذا كان من أنكر ذلك خارجاً عن الدين الإسلامي.
المقصود بفتنة القبر سؤاله، ويكون لكل ميت سواء قبر أو لم يقبر، وكذلك العذاب؛ لأن القبر اسم لما بعد الموت، سواء دفن الميت في الأرض، أو ألقي في البحر، أو أكلته السباع، أو احترق بنار، أو ترك على وجه الأرض أو غير ذلك، فلا بد من السؤال، وبعد السؤال لا بد من العذاب أو النعيم.
وهذا شيء عام، إلا أن الأحاديث جاءت باستثناء بعض عباد الله، مثل الذي يموت مرابطاً في سبيل الله، ومثل الشهيد الذي يموت شهيداً في المعركة، ونحوهما مما جاءت الأخبار به؛ فإنه قد صحت الأخبار بأنه يأمن من فتنة القبر.
وأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، ومعنى الفتنة الاختبار، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ والمقصود بالرجل كل ميت من ذكر أو أنثى، وقد اختلف في الصغار هل يفتنون أم لا؟
فمن العلماء من أثبت ذلك، واستدل بعمومات جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنه غير مكلف فلا يفتن. وجاءت بعض الآثار تنص على أنه يسأل في قبره.
قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، فالتثبيت في الحياة الدنيا أن يكون ثابتاً على عقيدة الحق ولو ابتلي وامتحن أو قتل أو حرق، فيثبته الله على ذلك إذا أراد به الخير.
وأما في الآخرة فالمقصود به ما بعد الموت، وذلك إذا وضع في قبره، وقد تواترت الأحاديث بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإنسان إذا وضع في قبره وانصرف عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان بعدما تعاد إليه روحه، فيسألانه يقولان: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ أما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما يدريك -أي: ما دليلك على ذلك-؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به. وأما المنافق والكافر فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، وفي رواية: (فيقول: لا أدري رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته. فيقولان له: لا دريت ولا تليت. فيضربانه بمطرقة من حديد لو ضربا بها جبلاً لتدكدك، فيلتهب عليه قبره ناراً، فيصيح صيحة يسمعه كل من يليه ما عدا الجن والإنس).
فقوله: (كل من يليه) أي: من الشجر والحجر والبهائم القريبة منه. وليس كل شيء يسمع صوته، ولكن يسمعه من كان قريباً من صوته من حجارة وشجر وبهائم، وقد جرب الناس ذلك قديماً، فكانوا إذا استمسك بطن الفرس أو الناقة أتوا بها إلى المقابر فترتاع وتهرب، فينطلق بطنها من شدة الخوف الذي سمعته وهي بهيمة، وهذا من باب التجربة، وقد أطلع الله جل وعلا من يشاء من خلقه على أشياء كثيرة من هذا.
والسؤال يكون عاماً في الظاهر كما في هذا الحديث؛ فإنه للمؤمن والمنافق والكافر، ووقع الخلاف في الأطفال، ولم يأت نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يسألون ولا أنهم يسألون، وإنما أخذ ذلك من عمومات النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا اختلف العلماء، فمنهم من أثبت ذلك كـالقرطبي في التذكرة وغيره، واستدلوا بأشياء ذكروها من الآثار ومن الأحاديث الصحيحة بمفهومها، ومنهم من نفى ذلك وقال: إنهم غير مكلفين، وإنهم ولدوا على الفطرة. واستدلوا بأشياء أيضاً، والله أعلم.
وإذا كان منافقاً أو فاجراً فإنه يضيق عليه قبره ويلتهب عليه ناراً، ويفتح له باب إلى النار ويقال له: انظر إلى مكانك ومنزلك الذي أعد الله لك. عند ذلك يقول: رب! لا تقم الساعة. لأنه يعرف أن ما بعد هذا الوقت أشد منه، وأن النار هي العذاب الشديد، نسأل الله العافية.
ثم التثبيت في هذا السؤال يكون حسب ما كان عليه الإنسان في الدنيا، فإذا كان ثابتاً في الدنيا على العقيدة ليس عنده شك ولا ارتياب فإنه يثبت في القبر؛ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبقى في قبره على ما كان عليه في الدنيا، وكذلك يبعث على ذلك.
أما إذا كان عنده شك وتردد أو ريب فهذا الذي يتلعثم ولا يستطيع أن يجيب؛ لأن القبر من منازل الآخرة، فهو محل الجزع، فلا يستطيع الإنسان أن يحدث شيئاً يقوله يمكن أن ينفعه، وإنما يكون على حالته التي خرج بها من الدنيا، فإن كان ثابتاً موقناً مؤمناً فإنه يثبت بإذن الله وفضله عند السؤال، وإن كان بخلاف ذلك فإنه لا يثبت.
فإذاً يكون العذاب في القبر على نوعين:
النوع الأول: نوع يستمر ويكون ما بعده أشد منه.
والنوع الثاني: يكون مؤقتاً. وهذا التوقيت يجوز أن يكون طويلاً ويجوز أن يكون منقطعاً بسبب أن جزاء الذي يستحقه غير طويل.
ويقول الله جل وعلا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فقوله: (غدواً وعشياً) أي: في أول النهار وآخره. ويقول جل وعلا: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21] يقول العلماء: العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والأكبر هو عذاب جهنم. نسأل الله العافية، والآيات في هذا كثيرة، وأما الأحاديث فهي صريحة واضحة جلية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن وتوضحه.
والعلماء متفقون على أنه لا يعذر الإنسان بجهلها؛ لأنه يأتي السؤال عنها لكل أحد، إلا ما وقع فيه اختلاف وهم الأطفال، أما من كان بالغاً من ذكر وأنثى فإنه لا يعذر.
ومعنى (من ربك؟) أي: من الذي خلقك وأوجدك وأوجب عليك عبادته ولهذا يقولان بعد ذلك: (وما ذينك؟)
أي: الذي تعبد به ربك. فدل على أن معنى الرب هنا الرب المعبود، والرب يأتي بمعنى (الإله).
ومعنى (ومن نبيك؟) أي: من الذي جاءك بالدين الذي تتدين به وتتعبد به؟ فلا بد أن يكون الإنسان عارفاً ذلك وعاملاً به، أما مجرد معرفة بدون عمل فلا تجزي.
في رواية في البخاري أنه يقول: (لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت).
معنى (لا دريت): ما علمت العلم الذي يجب أن تعلمه وتنجو به.
(ولا تليت)، أي: ما اتبعت كتاب الله وتلوته وآمنت به حتى يكون ذلك طريقاً إلى نجاتك وإلى إجابتك، وفي هذا أن تقليد الناس لا يجوز؛ لأنه يقول: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فلم ينفعه ذلك شيئاً، ولذلك يجب أن يعلم بنفسه وأن يتيقن ذلك، وإذا لم يجب الجواب الذي يقتنع به ويكون في قرارة قلبه فإنه يعذب؛ لأنه ترك ما يجب عليه.
يعني أن المكلفين لا يسمعونها ولو كانوا بجواره، وقد يسمع المكلف شيئاً من ذلك تذكرة وعظة، والوقائع في هذا كثيرة جداً، وقد ألف فيها العلماء مؤلفات، وذكروا أشياء بلغت حد التواتر في ذلك، فمن ذلك أنه لما دفن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأدلوه في حفرته وصاروا يصفون عليه اللبن سقطت قلنسوة الذي يتولى صف اللبن في اللحد، فأدخل رأسه ليأخذها فصاح، قيل: ما لك؟ فقال: رأيت القبر لا مدى له، قد فسح ونور نوراً لا أرى أقصاه، وشممت منه رائحة المسك.
وأشياء كثيرة من هذا القبيل جربها الناس ورأوها، ولكن لا يكون إيماننا مبنياً على كوننا نرى الشيء أو يرى لنا أو يسمع، بل إذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كفى، ثم إن هذه أمور غيبية لا نعرف حقيقتها ولا نعرف كيفتيها، أي: لا نعرف كيفية العذاب وكيفية النعيم؛ لأن المقبور إذا وضع في لحده وأتيته بعد وقت وحفرت فإنه يكون على وضعه، فهذا الوضع لا يدل على أنه لم يعذب ولم ينعم، بل يعذب وينعم وهو على هذا الوضع، ويأتيه من الشدائد أو من الراحة والنعيم الشيء الكثير وهو على وضعه.
بل يقول العلماء: إن القبر قد يوضع فيه أكثر من واحد، فقد يوضع فيه جماعة فيكون واحداً منهم منعماً والآخر معذباً، فالذي ينعم لا يصل إلى المعذب من نعيمه شيء وإن كان بجواره، وكذلك المعذب لا يصل إلى المنعم من عذابه شيء، وقدرة الله جل وعلا لا تحد، والمقصود أن هذا من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها ولو لم نعرف ذلك.
والمقصود أن الذي ينفع هو الإيمان بالغيب الذي يخبر عنه، أما إذا صار الأمر مشاهداً فيتساوى الناس فيه.
وقوله: (ولو سمعها لصعق)؛ الصعق يطلق على الموت ويطلق على الغشي، والمعنى أنه لو سمع العذاب لغشي عليه أو مات؛ لأنه لا يتحمل ذلك؛ لأنه أمر شديد لا يشبه الأمور التي تقع في الدنيا.
قوله: (إلى أن تقوم القيامة الكبرى) يدلنا على أن هناك قيامتين: قيامة صغرى وقيامة كبرى، وهو كذلك، أما القيامة الصغرى فهي الموت، وكل إنسان بخاصته إذا مات فقد قامت قيامته الصغرى، أما الكبرى فهي العامة التي هي النفخ في الصور.
والصواب أن النفخ في الصور نفختان فقط وليست ثلاثاً، فأما قوله جل وعلا:
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87] فهذه النفخة المقصود بها نفخة الصعق التي ذكرت في قوله جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وهذه الآية واضحة في أن النفخ في الصور يكون مرتين فقط.
والصعق معناه الفزع، فيفزعون أولاً ثم يصعقون بعد ذلك، ولهذا جاء في الحديث أن أول من يسمع النفخ في الصور راعيان يلوطان حوضيهما، وجاء أنه ينفخ في الصور والرجلان قد نشرا ثوباً ليتبايعاه فيبقى بين يديهما، وأن الرجل يعمل عملاً ثم يبقى عمله بين يديه إذا سمع ذلك، فمعنى النفخ في الصور أنه أولاً يموت من كان حياً، وهذه هي النفخة الأولى، وقد استثنى الله جل وعلا من استثنى، والله أعلم بهم.
وقد اختلف العلماء فيهم، ففي قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] من العلماء من قال: المستثنى هن الحور العين اللاتي في الجنة؛ لأن ما في الجنة لا يموت. ومنهم من قال: هم الأنبياء والشهداء.
ولكن الأنبياء والشهداء قد ماتوا فكيف يستثنون؟ لأن النفخة الأولى في الصور لا يحس بها الأموات، إنما هي لمن كان حياً، وهذه لها مقدمات هائلة مثل تشقق الأرض وزوال الجبال حتى تصير كالعهن المنفوش، فزلزلة الأرض كما في قوله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] مقدمة لخروج الأثقال، والأثقال هي من كان في بطنها من الأموات، فإنهم يخرجون، ولكن في النفخة الثانية.
ومما يدل على ذلك ويؤكده أنه ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون)، فلو كانت ثلاثاً لقال: بين النفخة الأولى والثانية، أو: بين النفخة الثانية والثالثة. ولكن قال: (بين النفختين أربعون) قيل لـأبي هريرة : أربعون سنة؟ قال: أبيت. قيل: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. يعني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أربعون فقط، ولم يذكر التمييز هل هو سنة أو يوم أو شهر، والظاهر أنه أربعون سنة بين النفخة الأولى والثانية، والله أعلم.
وقد اختار بعض العلماء مثل ابن كثير رحمه الله وغيره من العلماء أنها ثلاث؛ لأن الله ذكر الثلاث بأوصاف مختلفة، قال في سورة النمل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [النمل:87] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وهناك حديث صريح وهو حديث أبي هريرة الطويل أنه ينفخ في الصور ثلاث مرات، فتكون النفخة الأولى نفخة للفزع، والنفخة الثانية للصعق، والثالثة نفخة البعث، ولكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، بل هو روايات مزعومة بعضها من أقوال الذين لا يجوز أن يثبت بأسانيدهم ورواياتهم حكم، مثل الكلبي وغيره، فهذا الحديث لا يعتمد عليه.
كذلك قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2] فترى الإنسان كأنه سكران، ولكنه مثلما قال الله جل وعلا: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، وذلك من شدة الأهوال، فالإنسان تنتظره أمور هائلة جداً، فيجب أن يتذكر ذلك ويؤمن به، ثم يتذكره ويكون على باله أنه سوف يقع له.
وقد أجمع المسلمون واليهود والنصارى وجميع الأمم التي جاءتها الكتب على قيام الساعة، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، فقد جاء في الحديث أنه بعد النفخة الأولى ترسل السماء بمطر كمني الرجال لا يُكِنُّ منه مدر ولا وبر، أي: لا يمنع منه بيوت ولا غيرها، مع أن الناس قد ماتوا وزال كل شيء، فيبقى أربعين يوماً يصب على الأرض، ثم بعد ذلك ينبت الناس من قبورهم.
وقد جاء في الحديث أن ابن آدم كله يبلى إلا عجب الذنب، وعجب الذنب جزء صغير جداً في أسفل الظهر كالبذرة، ينبت الإنسان من هذه البذرة، فيبنت من قبره كأنه نبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الطراسيس)، والطرسوس نبت معروف مستقيم يقع في بعض الأرض، ثم إذا تكاملوا لو أن الإنسان مر على إنسان يعرفه لعرف أنه فلان، وذلك إذا اجتمعت الأجزاء التي تفرقت في الأرض وكانت تراباً فصارت عظاماً ولحماً ولكن بلا روح.
ثم ينفخ في الصور، والصور -مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم- قرن عظيم ينفخ فيه إسرافيل، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه وحنى جبهته ينتظر الأمر) أي: ينتظر متى يأمره الله جل وعلا بالنفخ. فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية ذهبت كل روح إلى جسدها ودخلت فيه، وهذا هو البعث، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكره في كتابه كثيراً، قال جل وعلا: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]، وقد اتفق العلماء على أن منكر البعث الجثماني كافر، وأما الملاحدة الزنادقة فإنهم يؤولون ذلك، ولكن تأويله صعب جداً لأنه واضح صريح.
يعني على هيئة خلقتهم التامة حتى الجزء الذي قطع من ذكر الإنسان يعود فيه، وهو معنى قوله: (غرلاً)، أي: غير مختونين. ليذوق كل جزء من الإنسان العذاب الذي يستقبله والمحاسبة أو يذوق النعيم، ويكونون حفاة بلا نعال ولا خفاف، وعراة رجالهم ونساؤهم، ولما سمعت ذلك عائشة قالت: (واسوأتاه! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من ذاك يا
ثم إذا قاموا من القبور يحشرون، والحشر أنهم يساقون إلى مكان معين يجمعون فيه، ثم بعد ذلك يقفون لرب العالمين، والوقوف أن يكونوا قياماً على أرجلهم، وتدنو منهم الشمس وتكون واقفة على رؤوسهم، وهذا يوم طويل ويوم عسير، يقول الله جل وعلا: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:1-10]، يُبَصَّرُونَهُمْ أي أنه يبصر كل حبيب حبيبه وقريبه، ولكن لا يسأل أحدهما الآخر، بل يود المجرم أن يفتدي من هذا العذاب بكل ما يملك ولو ببنيه وزوجته وأمه وأبيه، بل كل ما في الأرض لو كان يملكه واستطاع أن يفتدي به من عذاب ذلك اليوم لفعل، ولكن لا يمكن.
وهذا اليوم هو الذي مدح الله جل وعلا الخائفين منه، وهم الذين يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ثم يقولون: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان:9-10] قال تعالى: فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:11-12] الآيات، وقد ذكر جل وعلا آيات كثيرة جداً يخوف عباده من ذلك، وهذا اليوم ليس فيه ظل ولا شراب ولا أكل، ومع ذلك تكون الشمس فوق الرءوس، ويشتد الكرب على الناس فيعرقون عرقاً هائلاً، حتى جاء أن عرقهم يأخذ في الأرض سبعين ذراع.
ولكنهم يختلفون فيه، فمنهم يكون عرقه لجاماً له، أي: يصل إلى فمه. ومنهم من يكون إلى ثدييه، ومنهم من يكون إلى رقبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ولكن من عباد الله من لا ينالهم عرق ذلك اليوم وشره، بل يكونون في ظل العرش، وليس هناك ظل إلا ظل العرش، وأحوال الناس في هذا اليوم تكون على خلاف ما نعرف، وإلا فكيف يصل العرق إلى هذا الحد؟ ما ذلك إلا للشدة والكرب والهول، فهي على خلاف ما يعهد في الدنيا، وكل ذلك يجب أن يؤمن به.
الجواب: دعوة نبي الله نوح عليه السلام على حسب وعد الله له؛ فإنه وعده أن ينجيه وأهله، فظن أن ابنه من أهله، فلما سأله ذلك أخبره الله جل وعلا أنه عمل غير صالح وأنه من غير أهله؛ لأن أهله المؤمنون، أما الكافر وإن كان ولداً له فليس من أهله.
الجواب: على الروح والبدن معاً وإن كان قد فارقته الروح بالموت، ولكن ليست المفارقة مفارقة كلية، وقد ذكر ابن القيم أن تعلق الروح بالبدن خمسة أنواع:
النوع الأول: تعلقها به وهو في بطن أمه، فهذا نوع ليس كاملاً.
النوع الثاني: بعدما يخرج من بطن أمه يكون أكمل، فهذا التعلق الثاني.
الثالث: تعلقها به حالة النوم، فإنها تفارقه نوع مفارقة ولكن لها به تعلق، حيث إنه إذا أوقظ استيقظ.
النوع الرابع: تعلقها به في القبر بعد الموت، فإنها لا تفارقه مفارقه كاملة بل تكون معه في القبر، وقد تعاد إليه كما جاء في الحديث أنها تعاد إليه روحه وأنه يحيى، ولكن حياة لا نعرف حقيقتها؛ لأنها حياة برزخية.
النوع الخامس: تعلقها به بعد البعث، وهو التعلق الكامل الذي لا يقبل المفارقة، فيبقى حياً أبداً إما منعماً وإما معذباً، فالعذاب أو النعيم في القبر كلاهما يكون على البدن والروح، والبدن وإن تفتت وصار تراباً لكنه ينعم أو يعذب، وهذا من الأمور الغيبية والتي يجب الإيمان بها كما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذي يقول: العذاب أو النعيم على الروح فقط فقوله غير صحيح.
الجواب: الصواب أنها عامة، فقد قال تعالى عن فرعون وآله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وهي في الذين من قبلنا، وكذلك أخبر جل وعلا عن قوم لوط أنهم أرسل عليهم حجارة من سجيل ثم خسف بأبدانهم فهم يعذبون بعد ذلك إلى يوم القيامة.
فعذاب القبر عام للأمم السابقة، ولكل من يموت من هذه الأمة أو غيرها، أما الذي يقول: إنه لهذه الأمة خاصة -مثل ابن عبد البر رحمه الله- فإن هذا قول غير صحيح.
الجواب: إذا ماتوا سئلوا، وقد ذكرنا أن القبر اسم لما بعد الموت، فإذا مات هؤلاء سئلوا ولو لم يكونوا مقبورين، وقد صح أن بين النفختين أربعين، فهم يسألون بعد موتهم، ثم يعذبون أو ينعمون، ولكن في صحيح مسلم أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأنها لا تقوم حتى لا يقال في الأرض: الله الله. أي: لا يعرفون الله.
السؤال: ذكرتم أن الإنسان قد يسمع صيحة الميت في القبر، وقد يرى بعض ما يحدث في القبر، أليس هذا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)؟
الجواب: هذا شيء خارج عن العموم، والخارج عن العموم ليس له حكم، ويكون ذلك آية، وقد تظهر أشياء من ذلك موعظة وذكرى لمن يشاء، فلا يكون ذلك منافياً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (يسمعها كل من يليه إلا الجن والإنس).
الجواب: إذا لم يعذب في القبر لم يعذب في الآخرة؛ لأن عذاب القبر من الجزاء، وهو أول منازل الآخرة.
الجواب: ليس كذلك، ولكن والده يؤجر على تعليمه إذا كان يربيه ويعلمه، مع أن الولد هو الذي يؤجر وإن لم يبلغ.
الجواب: ينظر في صحة الحديث قبل مناقشة المعنى.
الجواب: الذي جاء أن من هم أعلى أهل الجنة ينظرون إلى ربهم بكرة وعشيّاً، وعموم أهل الجنة ينظرون إليه يوم الجمعة، كما في حديث أبي هريرة؛ فإن يوم الجمعة يسمى يوم المزيد، وهو وقت يعرفه أهل الجنة، وليس عندهم شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، ولكنهم يعرفونه بعلامات يجعلها الله جل وعلا لهم، فإذا كان يوم الجمعة يخرجون إلى مكان معين في الجنة، فيأتيهم الله جل وعلا فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] يسلم عليهم، فيعودون إلى منازلهم وأهليهم وقد ازدادوا حسناً وطيباً، فهذا عام، أما كونه يراه متى ما شاء فلا أعرف فيه شيئاً، والله أعلم.
الجواب: الوقوف يختلف باختلاف الأعمال، ولكنه عموماً يوم طويل، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27] و(ثقيلاً) أي: طويل وشديد وعظيم، وليس كمثل ما بين صلاة العصر إلى صلاة الظهر، ولكنه قد يكون كذلك على من يشاء الرب جل وعلا.
وقد جاء في بعض الآثار أن الناس يحاسبون، وأن هناك من عباد الله من يأكل ويشرب، فالذين أمضوا أيامهم في هذه الحياة صياماً وقياماً فإن الله جل وعلا لا يضيع أجرهم، ولكن هذا نادر.
ولما ذكر الله جل وعلا القيامة الكبرى في أول سورة الواقعة قال: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] أي: تخفض قوماً وترفع آخرين. وذكر أن أقسام الناس ثلاثة: سابقون، وأصحاب يمين، وأصحاب شمال، فلما ذكر السابقين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر