قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين).
قوله: (فهو بخير النظرين): النظران في قتل العمد؛ لأن قتل الخطأ فيه نظر واحد وهو الدية، أما العمد فله الدية وله القصاص، ومناسبة ذكر القتل في هذا الحديث: قالوا لأن حرمة مكة تعيذ القاتل من القتل، وتجعل من دخلها آمناً، حرمة مكة تعيذ من لجأ إليها، أي: أن من ارتكب جريمة خارج مكة ولجأ إليها دخل في نطاق الأمن، لكن مجيء هذا الحديث بهذا السياق يشعر بأن القاتل في مكة لصاحب الدم الخياران، فله أن يقتله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراجه من الحرم، والمعروف أنه يقتل حيث قتل، إذاً: الحديث هنا يشعر بأن حرمة تلك النباتات والحيوانات في الصيد وحرمة مكة لا تمنع القاتل من أن يقتص منه في الحرم، وهذا ما يرجح القول -وهو قول الأكثرين- بأن الجاني في مكة يقتص منه في مكة، بخلاف من جنى خارج مكة ولجأ إلى مكة؛ فإنه يخرج إلى الحل ويقتص منه.
وقوله: (فهو بخير النظرين) النظران هما: القصاص أو الدية، وفي قوله سبحانه: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] اتفق العلماء في هذه القضية على أن اليهود كان عندهم حكم واحد: وهو أن القاتل يقتل، ثم جاء النصارى وأصبح الحكم عندهم أن القاتل يدفع الدية، ثم جاء في الإسلام التخيير بين الأمرين.
وفي فقه المسألة عند الأئمة رحمهم الله: أنه إذا قبل أولياء الدم عن القاتل عمداً بالدية فعليه أن يدفعها.
وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أنه ليس لولي الدم على القاتل إلا نظر واحد إما القصاص وإما الترك، وهذا مذكور عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] .. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] ولم يذكر في العمد دية، فقالوا: الجاني إن لم يرض ويقبل بدفع الدية عند طلبها من ولي الدم فليس بملزم، بل إما أن يقتص ولي الدم أو يتركه، وفي المذهب المالكي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول هو هذا، وهو المشهور عن مالك .
القول الثاني: وافق فيه الجمهور: وهو أنه إذا طلب ولي الدم الدية فعلى القاتل أن يدفعها.
القول الثالث: التفصيل: فإن كانت الجناية في النفس، وطلب ولي الدم الدية، وكان الجاني واجداً، وجب عليه أن يدفع الدية، وإذا كانت الجناية في عضو؛ كأن اعتدى على يده أو عينه أو أذنه، فإن طالبوا بالقصاص فعليه أن يقدم القصاص، وإن طالبوا بالأرش ودية العضو فالجاني بالخيار ؛ إما أن يمتنع من دفع الأرش ويقول: اقتصوا كما جاء في الشرع، ولست ملزماً بالدية.
وفي هذه المسألة سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: الراجح أنه في قتل النفس إذا طلب الولي الدية فيتعين على الجاني أن يدفعها ؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، فإذا وجد الدية وعوفي من القصاص فلا يقل: اقتصوا؛ لأنه حينئذ يكون كقاتل نفسه ؛ لأن الدية تعفيه من القتل وهو يأبى إلا أن يقتص منه.
إذاً: الحديث هنا يرد على هذا القول، سواء كان عند مالك أو عند أبي حنيفة رحمهما الله.
لو أن ولي الدم تمسك بالقصاص، وعرض الجاني الدية، وبدلاً من أن تكون دية جعلها عدة ديات، فمثلاً: الدية مائة بعير، فهو يعرض مائتين وثلاثمائة أو أكثر، فإذا قبل ولي الدم فلا مانع، يعني: لا يقال: إن ولي الدم لا يحق له أن يأخذ من الجاني أكثر من الدية؛ بل إذا كان الحكم قصاصاً، فهو الآن لم يأخذ الدية إنما يأخذ الصلح عن التنازل عن القصاص، وهذا راجع للتراضي بين الطرفين، والحد الأدنى للدية هو مائة من الإبل، وهذا في قتل الخطأ، لكن في العمد يكون الطلب هو القصاص، وإذا تصالح الجاني عن قتل نفسه بعدة من الديات فلا مانع لولي الدم أن يقبلها.
قال العباس لرسول الله بعد أن ذكر حرمة شجر الحرم: (إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا، فقال: إلا الإذخر).
قول العباس رضي الله تعالى عنه: (إلا الإذخر يا رسول الله) (إلا) أداة استثناء، والإذخر نبات، فالإذخر مستثنى من قوله: (ولا يختلى شوكها) ومن قوله في الحديث الآخر: (ولا يختلى خلاها) والخلاء: هو النبات الذي ينبت في الأرض على الأمطار أو السيول أو غير ذلك، وهنا من ضمن الخلاء الذي ينبت في الأرض البيضاء: الإذخر، وهو نبت حجازي معروف، طيب الرائحة، وله خصائص مذكورة في كتب الطب، وقد كان يؤخذ الإذخر قديماً ويوضع على أفواه أكياس الفحم. فـالعباس رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستثني من الخلاء الإذخر، ولما كان معروفاً عندهم ما احتاج إلى تعريف، ثم علل رضي الله عنه موجب هذا الاستثناء فقال: (فإنا نجعله في قبورنا)، فقد كانت العادة أن أهل مكة يشقون وأهل المدينة يلحدون، والشق: هو أن يحفر القبر، ثم يحفر في الوسط خد على قدر الجسم ويمدد فيه، واللحد: بعد أن يحفر القبر في جهة القبلة قدر ما ينام فيه الميت ثم يسد عليه، وفي كلتا الحالتين يسد على الميت باللبن أو بالحجارة، وكان يتخللها فراغ، فإذا أهيل التراب على الميت تساقط التراب من بين الأحجار أو الطوب على الميت، فيجعلون الإذخر يسد المسام والفراغ الذي بين الحجر والآخر، وقد يتعذر عليهم استعمال الطين خاصة وأنه لا يوجد هناك؛ لأن الأرض رملية.
إذاً: العباس رضي الله تعالى عنه طلب استثناء الإذخر لمصلحتهم وحاجتهم:
الأولى: أنهم يضعونه في قبورهم.
والثانية: أنهم يضعونه في بيوتهم، وذلك حينما يسقفون بالخشب ويأتون بالجريد أو الأغصان ويضعون فوقها من الطين ما يحميها من الأمطار، فيكون بين الأخشاب فراغ، فيجعل الإذخر طبقة فوق الأغصان أو الجريد أو الخشب، ثم يوضع فوق ذلك ما يطلى به السقف من الطين.
الثالثة: قوله: (ولقيننا) واللفظ هذا موجود في بعض النسخ، القين: هو الحداد، وحاجة الحداد إلى الإذخر حينما يأتي بالحطب ليشعله ليذيب به الحديد، والحطب الكبير إذا أشعل فيه الكبريت لا يشتعل، فيحتاج إلى صغار الأغصان ودقائق النباتات، فيؤتى بالإذخر فيشتعل حالاً ثم توضع الأخشاب الكبيرة بعد ذلك، فنار الإذخر تحرق الأخشاب، وهكذا يكون وسيلة لإشعال الحطب، وإلا لما استطاع الحداد أن يشعل النار في الحطب الجزل، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم استثناء العباس ، وعرف حاجتهم إليه ؛ قال: (إلا الإذخر).
وهنا مسألة: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بعد السؤال مباشرة، أي: أنه لم يتربص مجيء الوحي ليجيبه عن هذا السؤال؛ بل أجاب حالاً، فهل تكون هذه الإجابة اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الوحي جاء سريعاً وأخبره بالحكم؟ فمكة حرام منذ أن خلق الله السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، فهو استثنى من ذلك الإذخر، فيقول ابن دقيق العيد : يحتمل أن هذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وقد أقره الله عليه، ويحتمل أن يكون الوحي قد جاء بسرعة ؛ لأن الوحي إعلام في الخفاء، فيكون جبريل عليه السلام قد جاءه بالجواب.
وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب العباس لحاجته، فهل كل ما نهى عنه رسول الله يباح للحاجة؟ قالوا: لا؛ لأن النص جاء باستثناء الإذخر بخصوصه، ولم يأت باستثناء الحاجة في الخشب لسقف البيوت، ولا لآلات البيت من النجارة وغيرها، ولم يأت باستثناء الخلاء للرعي، حتى قال بعض العلماء: الخلاء الرطب وهو المرعى الذي ترعاه الدواب لا يحل رعيه، ولكن أين يذهبون إذا كان عندهم دواب؟ يقال: هذا من نبت الله، المهم أنهم لا يعتدون.
إذاً: أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وأنها محرمة من قبل، وإنما أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت إلى يوم القيامة، ومن حرمتها أن يتجنب فيها قتل الصيد وتنفيره، وقطع شجرها، واختلاء شوكها، والتقاط لقطتها إلا لمنشد، وهنا يبحث الفقهاء فيمن ارتكب أحد هذه الأشياء المنهي عنها في الحديث السابق، فمن اختلى خلاها، أو اقتطع شجرها، أو نفر أو قتل صيدها، هل عليه في ذلك جزاء أم لا؟
من المعلوم أن المحرم إذا قتل الصيد فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] قالوا: وفي الحرم كذلك، فهناك لحرمة الإحرام خارج الحرم، وهنا لحرمة الحرم في الحج وفي غيره، للمحرم ولغيره، حتى قالوا في الشجرة الكبيرة فيها نعامة، والشجرة الصغيرة فيها شاة، قياساً على كبار الصيد وصغاره، ولكن لم أقف على نص مرفوع فيما يتعلق بجزاء النباتات والأشجار، والله تعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) متفق عليه].
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة) هنا إسناد التحريم إلى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهناك إسناد التحريم إلى الله سبحانه وتعالى، والحديثان كلاهما صحيح، وقد جمع العلماء بين هذين الخبرين: بأن الله قد حرمها فعلاً يوم خلق السموات والأرض، وأخبر ملائكته بذلك، ولكن العمل بهذا التحريم لم يكن إلا زمن إبراهيم عليه السلام، فيكون تحريم الله سابقاً تكريماً، وتحريمه في زمن إبراهيم عليه السلام تعليماً، وإنما التكليف حصل بتحريم إبراهيم عليه السلام، أو أن إبراهيم أظهر تحريمها بعد أن نسيه الناس وتوالت عليه القرون الطويلة، والذي يهمنا أن حرمة مكة أمر مقطوع به.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني -يسند النسبة إليه- حرمت المدينة) يقول بعض العلماء: إن حرمة المدينة قديمة أيضاً، وإنما أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في تاريخ الهجرة ومعالمها أنه صلى الله عليه وسلم قال (أريت دار هجرتي أرضاً سبخة ذات نخيل، أُراها هجر أو يثرب) وهجر هي الأحساء حديثاً، ويثرب هي المدينة المنورة، ويذكر في أخبار الإسراء والمعراج أن جبريل عليه السلام في رفقته للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى أنزله مرتين يصلي، ففي الأولى قال: (أعلمت أين صليت؟ قال: لا، قال: بيثرب، وهي المهاجر، والثانية في بيت لحم) إذاً: حرمة المدينة أو اختيارها إنما هو من ذي قبل، ولكن إعلان حرمتها إنما هو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا ربما تناول بعض العلماء المقارنة بين مكة والمدينة بأن تحريم مكة من إبراهيم، فيكون هناك المقارنة بين ما حرمه إبراهيم عليه السلام وبين ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوا هذا في باب المفاضلة بين مكة والمدينة، واستدل بذلك من يفضل المدينة على مكة، وهنا ينبه -كما يقول العلماء- إلى أن الخوض في المفاضلة بين مكة والمدينة إنما هو إشغال وقت وإثارة شعور لا طائل تحته، إنما ينظر فيما هو أفضل للمهاجر والمقيم، هل الأفضل له أن يهاجر إلى مكة أم إلى المدينة؟ وهل الأفضل أن يقيم في مكة مجاوراً أم في المدينة مهاجراً؟ هناك قول لبعض العلماء وعلى رأسهم مالك : أن الهجرة والإقامة بالمدينة خير من الهجرة والإقامة بمكة، والبعض يستدل على أن الإقامة بالمدينة أفضل: بأن مكة تتضاعف فيها الحسنات وكذلك السيئات، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] فيؤاخذ الإنسان في مكة بمجرد الإرادة ولو لم يفعل، أما المدينة فتضاعف فيها الحسنات ولا تتضاعف فيها السيئات، إن فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وهذا لا قول لأحد فيه، وهو صحيح بالإجماع، وجاء أن صوم رمضان في المدينة بألف، وجمعة في المدينة بألف، وهذان الخبران فيهما مقال.
وقد فضل بعض العلماء المقام في المدينة لأن الله اختارها مهاجراً لرسوله ومقاماً له، ثم كان فيها مثواه صلى الله عليه وسلم.
ونحن الآن نتكلم عن تحريم المدينة وليس عن تعداد فضائلها وخصائصها، فقد عدد بعض العلماء خصائص المدينة وأبلغها إلى حوالي مائة خصيصة، وهذا أمر يطول بيانه، لكن يهمنا تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم آمن)، فتسميته صلى الله عليه وسلم المدينة حرماً يرد على بعض العلماء المتأخرين الذين يقولون: لا يسمى حرماً إلا مكة، ولكن هذا صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرم آمن، ثم بين صلى الله عليه وسلم حكم الحرم المدني كما بين حكم الحرم المكي بأنه لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد، فذكر حرمة الخلاء والشجر في حرم المدينة إلا لحاجة علف دابته أو خشبه، فإن ذلك لا بأس به للحاجة، ومع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو أن يقطع شجرها إلا لحاجة، أو أن ينفر صيدها، اتفق العلماء -إلا ما جاء عن بعض المالكية- أن من قتل بها صيداً فإنه لا جزاء عليه كجزاء صيد مكة، لكنه آثم بانتهاكه حرمة الحرم، ويعزر من جانب ولي الأمر، بل قال بعض العلماء: يسلب، أي: تؤخذ ثيابه، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى غلاماً يصطاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه، فأبى أهله وطلبوا رد الثياب إليه، فقال: (حاشا، طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أردها عليكم، إن شئتم أعطيتكم قيمتها فعلت، أما هي فلا).
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بأهلها خيراً، وبين أن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار كما يذاب الرصاص، أو أذابه الله كما يذاب الملح في الماء.
ثم حث صلى الله عليه وسلم وحذر من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإحداث الحدث يراد به عند العلماء: الابتداع، أي: أن يبتدع في دين الله في المدينة ما ليس من دين الله، أو يبتدع أمراً لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا في ذلك فإننا نجد أن حرمة المدينة وتعظيم شأنها والحفاظ على أمر الدين فيها من ضروريات الدين ؛ لأن مكة بحرمها كانت وما زالت مأوى المؤمنين؛ وهي دار السلم والسلام: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، ولما ضيق على المسلمين في بادئ الأمر واضطروا إلى الخروج إلى مكان آمن كانت المدينة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المدينة أصبحت المدينة آنذاك عوضاً لهم عن مكة، وأصبحت العاصمة للعالم الإسلامي كله، يفد إليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان لزاماً أن يبقى الدين كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتى آتٍ من الآفاق وأراد أن يأخذ أحكام الدين وجدها نقية بعيدة عن أي الشوائب والعلائق.
وهكذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لكم تبع، ستفتح الأمصار، ويأتي إليكم رجال يطلبون العلم، فأقرئوهم وعلموهم).
وقد اعتبر مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة، وقد استدل به على أعمال عديدة لم يأت بها نص من الكتاب ولا من السنة، ولكن يستدل بمجرد عمل أهل المدينة -أي: عمل علمائها- ويقول: إنهم يأخذون ذلك خلفاً عن سلف، ويأخذونه كابراً عن كابر.
وقد جاء تطبيقاً لذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله لما جاء مع هارون الرشيد إلى المدينة ولقي مالكاً رحمه الله، تذاكرا العلم وتدارسا في المدينة، وسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فقال أبو يوسف : بل هو عندنا ثمانية أرطال، فقال مالك لجلسائه: من كان عنده صاع يؤدي به زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به غداً، ومن الغد اجتمعت عند مالك ما يقارب خمسين صاعاً، وكلهم يخبر عن أبيه أو عن أمه عن جده عن جدته أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو يوسف : فنظرتها فإذا بها كلها سواء، فأخذت واحداً منها وذهبت به إلى السوق، فعايرته بعدس الماش فإذا هو خمسة أرطال وثلث، فلما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث، قالوا: خالفت شيخ القوم -أي: أبا حنيفة رحمه الله- فقال: وجدت أمراً لم أجد له مدفعاً، أي: منقولاً عن ذاك العدد الكبير.
فكان عمل أهل المدينة وما ينقلونه عن سلفهم حجة، وكان ذلك عملاً لـمالك، وقد أحصي ما في موطأ مالك مما هو مسند لعمل أهل المدينة دون أن يورد عليه آية أو حديثاً أو قول صحابي أو خليفة فوجد أنه يزيد على ثلاثمائة وثلاث عشرة مسألة، وقد قورنت هذه المسائل مع ما عند الأئمة الثلاثة فما اختلفوا مع مالك إلا في مسألة واحدة انفرد بها ولم يوافقه غيره عليها، وأما بقية المسائل فقد شاركه فيها غيره، فقد يتفق معه إما الثلاثة أو اثنان أو واحد، فكان ذخيرة للمسلمين أوردها مالك في موطئه ليس عليها نص من آية أو حديث، ولا يتأتى لإمام غيره أن يحصل عليها ؛ لأنه أخذها مباشرة عن أهل المدينة المعاصرين له، وهم أخذوها عن أسلافهم فيما قبل.
إذاً: المدينة حرم آمن، وينبغي أن تظل بحرمتها إلى يوم القيامة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على تلك الحرمة، وحذر وزجر ونهى من إحداث البدع فيها أو إيواء محدث.
ثم حث على الإقامة فيها، بل والموت فيها لمن استطاع، بل قال: (من استطاع أن يتخذ له أصلاً في المدينة فليفعل) أي: من سكن أو زراعة أو غير ذلك، وقال: (من مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة)، قالوا: (شهيداً) فيمن حضره، و(شفيعاً) فيمن كان بعده.
ثم يذكر العلماء من الفضائل العديدة: أن أهل البقيع في المدينة أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة بعد القبور الثلاثة المشرفة، وهكذا دعوته صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة، ولأجل هذا ذكر المؤلف رحمه الله حرم المدينة وحرمتها بجوار ذكره لحرم مكة وحرمتها، وقد أشرنا إلى أن أحكام حرم المدينة كأحكام حرم مكة سواء بسواء، إلا أنه ليس فيه جزاء كجزاء مكة، إلا ما جاء عن بعض المالكية أنه رأى في حرم المدينة جزاء كجزاء حرم مكة.
وهناك حرم ثالث لا يطلق إلا بالقيد وهو: وادي وج، وهو وادٍ في الطائف، فيرى الإمام الشافعي رحمه الله أنه يطلق عليه حرم ولكن بملازمة الإضافة، فيحرم صيده، وله أحكامه المعلومة.
حدود حرم المدينة بحث قديم متجدد، وقد أطال العلماء البحث فيه، ولكن كل ما يطرأ من بحث حول حدود الحرم فإنما هو لتحقيق المناط ولتبيين المراد، وإلا فقد أجمع المسلمون على مسميات حدود الحرم، والمجمع عليه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها) واللابتان: الحرتان، واللابة: الحرة، أي: الحجارة السوداء، والمدينة محاطة باللابتين الشرقية والغربية، وهي في الحقيقة حرة واحدة لكن لها طرفان: طرف في المشرق وطرف في المغرب، وجنوب الحرة قد يمتد ويوغل في الامتداد حتى يصل إلى المهد أو يزيد أو ينقص، فهي مدورة حول المدينة.
يقول النووي رحمه الله: إن الحد هنا داخل في المحدود، أي: أن اللابتين داخلتان في مسمى الحرم، والحرتان طرفان أو حدان للحرم شرقاً وغرباً، فالطرف الشرقي يمتد من وادي قناة وينزل إلى مسامتة ما يقرب من وسط جبل أحد، والطرف الغربي يمتد وينزل إلى قريب من طريق سلطانة إلى جبل أبي عبيد، وهو خلف المعهد المهني بقليل.
أما من الشمال والجنوب فقد جاء في الصحيحين: (المدينة من عير إلى ثور) وجبل عير موجود في منطقة ذي الحليفة، ولم يختلف أحد من المؤرخين في موضعه، وإن خالف بعض من كتب في ذلك ونفى أن يكون بالمدينة جبل يقال له: عير، أو جبل يقال له: ثور، وحمل الحديث على تقدير المسافة بين عير وثور بمكة، ولكن التحقيق الذي عليه العلماء وتناقله الناس خلفاً عن سلف: أنه يوجد في المدينة جبلان: جبل عير، وجبل ثور، وعير يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من ذي الحليفة، أي: من مسجد الميقات، وهو مشهور لأهل المدينة جميعاً، فهذا حد الحرم من الجنوب، أما حده من الشمال فهو جبل ثور، وقد اختلف في مسمى هذا الجبل حتى قال البعض -كما ذكرنا-: لا يوجد في المدينة جبل يسمى: جبل ثور، ولكن المحققين أثبتوا ذلك وتناقلوه خلفاً عن سلف، وحقق المطري في تاريخه للمدينة وجود هذا الجبل، وقال: قد حققته بالمشاهدة، وكبار السن الموجودون الآن في تلك المنطقة يتناقلون أخباره وهو الذي يسمى: جبل الدقاقات، وهو يقع شمال الخط الجديد الذي يمر به، وبينه وبين الخط مسافة ميل، ويقول المؤرخون: إنه يقع شمال جبل أحد إلى الغرب، وهو أحمر مدور، وهو فعلاً على ما قالوا، وهو حد الحرم من الشمال، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات: (وجبل وعيرة) وجبل وعيرة: هو الجبل الذي بعد محطة الكهرباء الجديدة التي على خط المطار، وهو مسامت لجبل ثور من وراء أحد بالفعل.
وعلى هذا: فإن حرم المدينة الذي يحرم فيه الصيد إنما هو ما بين هذه المعالم الأربعة: الحرتان من الشرق والغرب، وعير وثور من الشمال والجنوب، وقد جاء في حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدد ذلك بالمسافة: بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف بالحساب الحديث، وعلى هذا يكون حدود الحرم إن اعتبرناه دائرة فيكون قطر الدائرة بريدان: بريد من الشرق وبريد من الغرب، وبريد من الشمال وبريد من الجنوب.
وبعضهم يقول: إن حدود الحرم من الجنوب الشرقي من البيداء وذات الجيش، والبيداء: هي التي يصعد إليها الحاج من ذي الحليفة، وقد قدم معنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل: أهل حينما سلم من صلاته في مصلاه، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحلته، ومن قائل: أهل بالبيداء، والبيداء ملاصقة لذي الحليفة، وبقربها أيضاً ذات الجيش، ومن جهة الشمال الحفياء، والحفياء تمتد خلف جبل ثور إلى مسافة ليست بعيدة، وأحكم الأقوال في ذلك والمتفق عليه بلا نزاع هو: بريد في بريد في بريد.
وعلى هذا يتعين على كل مقيم بالمدينة أن يحفظ هذا الحرم بحدوده، ولا يقطع الشجر إلى لحاجة، ولا يختلي خلاه إلا لحاجة، ولا ينفر صيده ولا يقتله، وإن قتله فهو آثم، ولكن لا عقوبة عليه.
والذين قالوا: لا عقوبة عليه، والذين قالوا: لا بأس بالصيد فيه - مع أنه مخالف للجمهور- استدلوا بقصة أبي عمير ، وأبو عمير غلام لـأبي طلحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاه كثيراً، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجد بيده طائراً يعرف عند أهل المدينة بالنغر، ولا يزال هذا الطائر موجوداً في البساتين إلى اليوم وله تغريد طيب في الصباح، فإذا به يلعب به، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، وفي عودته وجد الغلام يبكي والطائر ميت في يده، فقال (يا
وأجاب المانعون بأن هذا غلام، وليس على الغلام تكليف؛ فتركه صلى الله عليه وسلم، أو لعله أتى به من خارج الحرم، وهو في هذا خلاف حرم مكة؛ لأن من أدخل صيداً من الحل إلى حرم مكة أُجبر على إطلاقه، بخلاف المدينة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن إبراهيم دعا لأهل مكة) إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بأدعية كثيرة، منها قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126] وقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37] ودعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا زال أثرها باقياً حتى اليوم، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى حب القلوب وهفوها وميلها ورغبتها إلى مكة، سواء استطاع الشخص أن يأتي أو لم يستطع، فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها تجده يهفو قلبه إلى مكة، وكيف لا وهو في كل يوم خمس مرات على الأقل يتوجه إليها في صلواته، وقبلته الكعبة التي هي شرف مكة كما هو معلوم.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة:125]، فهو أمن لمن كان فيه، ومثابة للبعيد عنه، يأوي ويثوب إليه، أي: يرجع إليه، سواء يرجع إليه في لجوئه، أو يرجع إليه في هجرته، أو يرجع إليه في حجه وعمرته، أو يرجع إليه في صلواته كل يوم خمس مرات، فهذه بركة دعوة إبراهيم عليه السلام، قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126] يقولون: إنه توجد في مكة ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، قال تعالى: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].
وهذا خبيب رضي الله تعالى عنه لما أخذ أسيراً وبيع على أهل مكة لينتقموا منه لقتلى بدر، تقول المرأة التي حبس في بيتها: والله ما رأيت مثل خبيب ، كنت والله أراه يأكل في يده قطف عنب، وما على وجه الأرض في ذلك الوقت من حبة عنب، أي أنه في غير أوانه، ولكنها كرامة لهذا الصحابي الشهيد الذي ضحى بنفسه، والذي أعلن مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ووفائه وفدائه له حينما قدم ليضرب عنقه، فقيل له: أتود أن محمداً مكانك تضرب عنقه وتكون أنت آمناً في أهلك؟ قال: لا والله، ولا أن يصاب بشوكة في قدمه وأنا في أهلي. وهكذا كان فداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب من أن يشاك بشوكة في قدمه ويسلم من ضرب عنقه، ولذلك أكرمه الله في حال أسره أن جاءه بالعنب في غير وقت العنب وفي غير زمنه.
ونحن الآن نجد كل ثمرات العالم يؤتى بها إلى مكة والمدينة؛ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب، من آسيا ومن أوربا ومن أفريقيا؛ فكل الثمرات تجبى إلى مكة والمدينة.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة)، وفي بعض الروايات: (ومثليه معه) وقد جاءت نصوص عديدة أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة، وسيأتي الحديث الذي يبين تعلق البركة في دعواته صلى الله عليه وسلم.
هذا اختصار من المؤلف رحمه الله تعالى لحديث علي رضي الله تعالى عنه، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء؟ أي: هل خصكم بشيء دون الناس؟ فقال علي : لا والله، إلا رجلاً أعطاه الله فهماً في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا: وما فيها؟ فأخرج سيفه وأخرج من غمده صحيفة مكتوب فيها: فكاك الأسير، ودية القتلى، وأنصباء الأموال في الزكاة، وهذا الأثر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور)، وهذا نص من علي رضي الله عنه، والمؤلف أخذ المعنى فقال: عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور)، ثم قال: رواه مسلم، والتحقيق أنه متفق عليه، فقد جاء في صحيح البخاري: (المدينة حرم من عير إلى كذا) بالكناية، ولم يصرح بلفظ (ثور)، فأخذ العلماء من ذلك أن كلمة (ثور) ليست في صحيح البخاري، وقال البعض: الأصل: (المدينة حرم من عير إلى أحد)، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد جاء في البخاري : (من عير إلى ثور) ولكنه لم يذكره في بيان حرم المدينة، إنما الذي ذكره البخاري قوله باب: حرم المدينة من عير إلى كذا، ولم يصرح ما هو كذا، ولكن في باب الفرائض ذكر البخاري رحمه الله: ما بين (عير) إلى (ثور)، وصرح رحمه الله بذكر (ثور) مقابل (عير)، وهذا ما ينبغي التنبيه عليه؛ لأن ابن حجر رحمه الله أغفل ذلك وقال: لم يأت عن البخاري إلا: (عير وكذا) بينما هو موجود بالتصريح بلفظ (ثور) مع (عير) في باب الفرائض، فيكون لفظ (ثور) متفق عليه وليس قاصراً على رواية مسلم . وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر