الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه) رواه مسلم ].
بدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن صوم يوم عرفة، وغيره من المؤلفين ربما بدءوا بحديث صوم يوم عاشوراء؛ لأنه أسبق، والنصوص فيه أكثر، وهو بالترتيب الزمني في محرم وهو أول أشهر السنة، ثم يأتي بعده رجب، ويأتي بعده شعبان، وبعده رمضان، وبعده شوال وهكذا إلى العشر من ذي الحجة، إلى التاسع وهو يوم عرفات، ثم الأيام المنهي عنها: يوم العيد، وأيام التشريق.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل)، وكونه سئل أي: أنه لم يأتِ الأمر منه صلى الله عليه وسلم ابتداءً كأن يقول: (صوموا يوم عرفة، فإن فرضه كذا وكذا)، ولكنه في هذا الحديث سئل فأجاب، ومن هنا يقول بعض العلماء: ما كان جواباً عن سؤال قد يكون قضية عين، ولكن قضية العين تتعلق بشخص أو جماعة محدودة بأعيانهم، وأما السؤال هنا فهو عن اليوم.
يوم عرفة -كما يقولون- في تاريخ المناسك: أنه سمي عرفة؛ لأن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما نزل من السماء إلى الأرض، واختلف هو وحواء، ساح في الأرض ما شاء الله ثم لقيها في ذلك المكان فتعارفا فسمي عرفة، هذا القول الأول، وأعتقد أن هذا بعيد، فما هو الذي فرق بينهما لما نزلا من الجنة وهما نزلا معاً؟!
القول الثاني: في سبب تسميته بعرفة أن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما بنى البيت وأُمر أن يؤذن في الناس بالحج، قال: رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا [البقرة:128]، فأرسل الله له جبريل وخرج معه إلى منى، وبيّن له مواقع الجمرات، وذهب معه إلى المشعر الحرام، وأخيراً ذهب معه إلى عرفات، وبيّن له الموقف، ثم قال له: (أعرفت المناسك؟ قال: عرفت) فسميت عرفات؛ لأنه استعرفه على ما عرّفه عليه من المناسك.
وهناك قول ثالث وهو: أنه سمي عرفات؛ لأن العالم الإسلامي يأتي من كل فج عميق فيتعارفون في ذلك المكان، ومهما يكن من سبب التسمية فقد أصبحت الآن كلمة عرفة مشهورة، وعرفات علم وتنوسي فيه الوصف، كما تقول: العباس والضحاك، فالعباس: قد يكون بشوش الوجه، فتنوسي وصف العبوسة فيه، وأصبح علماً، والضحاك: قد يكون عابس الوجه كئيباً، فتنوسي وصف الضحك فيه وأصبح علماً.
وهكذا في عرفة لا علاقة للتسمية بعمل النسك.
وصوم هذا اليوم يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (يكفر سنتين: سنة قبله، وسنة بعده)، سنة قبله أي: قبل السنة التي هو فيها؛ لأنه في آخر أشهرها، وهو شهر ذي الحجة، والسنة التي فاتت، قد يحمل الإنسان فيها بعض ما قدر عليه من الأخطاء والذنوب؛ لأنه ليس معصوماً، وصوم يوم عرفة يكفرها ولكن السنة التي بعده ماذا يكفر فيها وهو لم يرتكب فيها شيئاً بعد؛ لأنه ما عاصرها ولا عاشها، فكيف يُكفر شيء لم يوجد؟! استشكل العلماء هذا، وأجابوا عنه بأجوبة:
منها: أن الله يسدد هذا الشخص لفعل الخير ويبعده عن ارتكاب الآثام، ومنعه من ارتكاب الآثام بمثابة تكفيرها.
ومنها: أنه إذا ارتكب شيئاً من الذنوب وفق للعودة إلى الله وسرعة التوبة، فيكون ذلك تكفيراً لها.
ومهما يكن من شيء فإن بعض العلماء يقولون: لا ينبغي أن تفسر أحاديث الوعد والوعيد، بل تترك على ما هي عليه بنصها ومدلولها العام، كي يكون وقعها في قلب المؤمن أكثر.
ونحن نقول: الحمد لله، قبلنا البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66]، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح. ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت.
فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر. فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟
الجواب: لا. ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة. فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً.
إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: (خذوا عني مناسككم).
ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: (خذوا عني مناسككم).
إذاً: اتفق أهل مكة الوثنيون وأهل المدينة اليهود الكتابيون على صومه، فصام اليهود هذا اليوم؛ لأنه يوم مبارك نصر الله فيه الحق على الباطل، وهناك تاريخ مسبق يذكره بعض العلماء -والله تعالى أعلم بحقائق التاريخ- يذكرون أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح واستوت على الجودي، وأنه هو اليوم الذي أطفأ الله فيه نار النمرود التي أوقدها على إبراهيم، وأنه كذلك هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون ونجى فيه موسى، فيذكرون في التاريخ أن هذه الأحداث وقعت في يوم عاشوراء، ويذكرونها إما متسلسلة وإما متباعدة. والله تعالى أعلم.
والذي عندنا من النقل الصحيح هو من بداية موسى مع فرعون، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم من اليهود عن سبب صومهم لهذا اليوم، قال: (نحن، وفي رواية: أنا أحق بموسى منكم) سبحان الله! بعد آلاف السنين يكون صلى الله عليه وسلم أحق منهم بموسى مع أنهم أمته الذين بعث فيهم؛ لأنهم غيروا ما كان عليه موسى أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغير كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].
فآمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت الأمة بموسى وبجميع الأنبياء وبما جاءوا به من عند الله، أما اليهود فمعلوم أنهم غيروا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. قال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم)، فصامه وأمر الناس بصيامه وفي بعض الروايات: (نحن أبناء علات ديننا واحد)، والعلات جمع علة وهي: المرأة تأتي بعد المرأة تحت الرجل الواحد أي: أن أممنا متفاوتة ولكن الأصل لنا جميعاً واحد وهو الوحي من عند الله، فصام هذا اليوم وأمر بصيامه.
ويأتي هنا سؤال: هل صومه صلى الله عليه وسلم كان تبعاً لليهود؟ الجواب: لا؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه) أي: قبل البعثة.
إذاً: صومه كان معروفاً ولكن السؤال جاء عن سبب صوم اليهود، وقريش كانت تصوم يوم عاشوراء، وتجدد فيه كسوة الكعبة، وهذا يعني: أنه كان معروفاً لهم، ولكنه هنا سأل فوجد سبباً جديداً، وهو تجدد نعمة من الله على عباده، وهي نصرة الحق على الباطل، وهذه نعمة متجددة تقابل بالشكر، وسيأتي في حق النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين أنه ولد وبعث فيه، وهذه كذلك نعمٌ متجددة تقابل بالشكر.
وذكر ابن عبد البر آثاراً عن التابعين في يوم عاشوراء وذكر حديثاً يقول عنه المنذري : إن سنده ضعيف وهو: (من وسع على عياله فيه وسع الله عليه طيلة العام)، ويذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: قد جربناه وكان صحيحاً، وبعضهم يذكر هذا في يوم النصف من شعبان، والله تعالى أعلم.
يهمنا أن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وقد جاء عن ابن عمر أنه لم يكن يصومه إلا إذا صادف صوماً له، وقال: كان فرضاً فنسخ، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وعلى هذا فصوم يوم عاشوراء باتفاق الجميع سنة، وليس بواجب، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وإذا صامه فإنه يكفر سنة، والله تعالى أعلم.
وقول مالك في الموطأ: (فيه تقوم الساعة وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة). قوله: (ما من دابة ) فيه أن الدواب كلها تعرف أيام الأسبوع، فإذا كان يوم الجمعة أصاخت من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، تنظر هل تأتي النفخة أي: النفخة ليوم القيامة إلى أن تطلع الشمس ثم تنصرف، يا سبحان الله العظيم! هذه الدواب العجماء، وهذه الحيوانات العجماوات تعلم يوم الجمعة، وتخشى قيام الساعة، وتتسمع من أجله. فقالوا: يوم الجمعة أحداثه مرتبطة بآدم، وبمناسبة كون الساعة تقوم فيه، نجد الفقهاء يستحبون في صلاة فجر يوم الجمعة قراءة سورة السجدة؛ لأن فيها قصة آدم، وفيها البعث، وفيها الجزاء، وكذلك قراءة سورة الدهر هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ [الإنسان:1] إلى آخر السورة؛ لأن فيها أحوال يوم القيامة، فقالوا: في قراءة هاتين السورتين في هذه الفريضة يتناسب اجتماع الذكر مع التاريخ فيكون أدعى لأن يتذكر الإنسان مبدأه، وحياته، ومصيره، ليأخذ من حياته إلى ما بعد مماته.
إذاً: سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صوم يوم الإثنين؟ فعدد نعماً، وهذه النعم هي التي يقول عنها العلماء: لا كسب للعبد فيها وهي ثلاث نعم، ليس للعبد فيها كسب أو تسبب، وليس له فيها عمل، وليس له سعي في الحصول عليها، بل هي محض نعمة من الله عليه، أو محض إنعام من الله بها عليه، وهذه النعم هي: إيجاده من العدم، وإسلامه، ودخوله الجنة، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولدت فيه) وهو الإيجاد من العدم، وإذا فتشنا أنا وأنت حينما جئنا إلى الدنيا ماذا فعلنا لكي نأتي إلى الدنيا؟! ما عملنا شيئاً، فقد كنا في العدم، وغاية ما يمكن أن يقول القائل: إن الأبوين تسببا، فنقول: هما قضيا حاجتهما ولا يملكان بتلك الحاجة أن يأتيا بالولد؛ لأن الولد هبة من الله، كما قال سبحانه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:49]، وهذا الملك ليس مثل ملك الملوك في الدنيا، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الشورى:49]، وفي هذا القدرة والعظمة، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً [الشورى:49-50]، فمن جعله الله عقيماً، والله! لن يخصب ولن ينجب أبداً.
إذاً: الولد هبة، وإن تسبب الأبوان في وجوده، فتسببهما ليس بلازم أن يأتي بالولد.
ونعمة الإسلام، فالإنسان في عالم العدم كما يقول علماء الجدل: جائز الوجود، بمعنى جائز أن يوجد وجائز أن يبقى في العدم، وهما نظريتان متعادلتان، فكون واحدة ترجح على الأخرى فلابد من مرجح والمرجح هو الله، فإذا رجح وجود الإنسان على بقائه في العدم فمن أين وجد؟ كان من الممكن أن يوجد من أبوين بوذيين، أو أبوين وثنيين، أو أبوين يهوديين، أو نصرانيين أو غير ذلك، ولكن كون الله أختار له أبوين مسلمين وولد بين أبوين مسلمين فسينشأ مسلماً، وهل كان له اختيار أو جهد أو كسب في أن يوجد من أبوين مسلمين؟ ليس له فيه كسب بل هو فضل من الله عليه، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (وأنزل علي فيه).
والإسلام أساساً ما أنزله الله على رسوله إلا بالرسالة، والرسالة إلى رسول الله محض فضل من الله، فقد اصطفاه الله لذلك قبل أن يوجد، وقد بحث العلماء هذا عند قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:219] فقالوا: اصطفاه وهو في أصلاب آبائه، وآباء آبائه إلى آدم، واختاره نبياً قبل أن توجد الدنيا، وكل شيء قد سجل في اللوح المحفوظ، والرسل مصطفون عند الله من قبل أن يوجدوا، فهذه رعاية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رعاه الله سبحانه وتعالى في أصلاب آبائه، وصانه من دنس الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح لا من سفاح)، وكانت أنواع الولادات في الجاهلية متعددة، كما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان الزواج أو النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: تخطب المرأة من وليها فيزوجها كما تفعلون اليوم، وتؤخذ المرأة بالسيف، وتنصب المرأة الراية، وتتخذ الأخدان) فولد صلى الله عليه وسلم من النكاح الذي تخطب فيه المرأة من وليها فيزوجها، كما في القصة التي ذكرها ابن هشام في السيرة وفيها أمر يذهل العقل، لما أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله في قضية زمزم فلما وقع السهم عليه، وذهب ليذبحه منعته قريش، وتحاكموا إلى الكاهنة، وقالت: فادوه بعشر من الإبل واستهموا عليه بالقرعة، فإذا طلعت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشراً، فاستهموا وفعلوا إلى أن كملت الإبل مائة فخرجت القرعة على الإبل، ثم نحرت، وفي عودته مع أبيه تلقته امرأة قريبة لـورقة بن نوفل -وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة- فقالت: يا عبد الله ! وهو والد محمد بن عبد الله، هل لك أن تذهب معي إلى بيتي الساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ قال: نعم، ولكني الآن مع أبي فأنظريني حتى أصل معه إلى البيت ثم آتي إليك، ولكن أباه لم يذهب به إلى بيته، إنما ذهب به إلى بني زهرة، وخطب له آمنة فتزوجها، ودخل عليها من ليلته ثم لما كان الغد خرج فلقيته تلك المرأة فأعرضت عنه، فتعرض لها فأعرضت عنه، فتعرض لها وقال: ما لك بالأمس تتعرضين لي واليوم تعرضين عني؟! قالت: كنت بالأمس أرى نوراً أو وبيصاً بين عينيك رغبت أن أظفر به ولكن ظفرت به آمنة بنت وهب ، فهذا النور يتفقون أنه نور النبوة، ولكن ما كل إنسان كان يراه.
وبعض الناس يشكك في هذه القصة، ويؤكد ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه صين عن سفه الجاهلية وأنكحتها، وتنقل في أصلاب نكاح صحيح سليم إلى أن حملته آمنة ووضعته وأدت الأمانة ومات أبوه، وماتت أمه وبقي في كفالة ربه، فنشأ يتيماً ولكنه كفل الأيتام، وربَّى الكبار والصغار.
إذاً: رعاية الله كانت تحوطه، فهو نبي ومرسل، وقد جعل الله ذلك له ولبقية الأنبياء من أول ما أمر الله القلم: (اكتب ما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة).
قوله: (يوم ولدت فيه ، وأنزل عليّ فيه) كان بدء الوحي في غار حراء عند أن كان يتحنث فيه، وكان في يوم الإثنين، ثم بعد ذلك واصل الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان وصوله إليها في يوم الإثنين، وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وبقي يوم الثلاثاء، ودفن في يوم الأربعاء؛ لاشتغال الناس بالبيعة في السقيفة وبالخلافة وما وقع فيها، ولما فرغوا من أمر الخلافة جاءوا لدفنه صلى الله عليه وسلم، فهنا يقول العلماء: تلك نعم متجددة، فقوله: (ولدت فيه)، وهذه نعمة الإيجاد من العدم، وقوله: (أنزل عليّ فيه) وهذه نعمة الرسالة، وليس بعدها نعمة، فكان يشكر هذه النعم بأن كان يصوم يومها.
وهكذا موسى لما نجاه الله من فرعون صام ذلك اليوم. وقد ذكرنا سابقاً ما ذكره علماء السيرة: أن أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة استدعاهم النجاشي ذات يوم، فجاءوا إليه مذعورين، فلما دخلوا عليه إذا به جالس على أرض تراب ليس عليها فراش، حاسر الرأس، لابساً ثوباً قديماً خلقاً، مصوباً بصره إلى الأرض، فقال: أتدرون لمَ دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: نصر الله نبيكم محمداً، أو نبينا محمداً على عدوه في هذا اليوم، فقد التقى مع قريش في وادٍ يقال له: وادي بدر فنصره الله عليهم، ذاك وادٍ يكثر فيه الأراك، وقد كنت أرعى فيه إبلاً لبني فلان، فقال له جعفر : وما هذه الصورة التي نراك عليها فقد أفزعتنا؟ قال: إن فيما أنزل الله على عيسى أنه قال له: (إني أحب إذا جددت نعمة على عبدي أن يجدد لي شكر النعمة)، فأنا على هذه الحالة شكراً لله على نصره محمداً على أعدائه، ولهذا جزم كثير من العلماء أنه مؤمن، ويؤكد ذلك أن اليوم الذي مات فيه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الجنازة.
قال: (يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه)، وهاتان نعمتان عظيمتان، فشكرهما صلى الله عليه وسلم بصيامهما، لا بلعب ولا بعيد، ولا بلهو ولا بنحو آخره، فصام للذي أنعم عليه مرضاة له سبحانه.
هذه مسألة صيام ست من شوال، ساق فيها المؤلف رحمه الله تعالى: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)، وجاء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسنة بعشر أمثالها)، ورمضان بعشرة أشهر، وستة في عشرة بستين، فتعادل هذه الست شهرين، وبذلك تكون السنة كاملة.
هذا مع اتفاق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد.
وهكذا علل الأحناف، وذكر ابن عقيل في حاشيته أن إطلاق الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة وأبي يوسف ليس صحيحاً، وإنما الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة ، وعن أبي يوسف إنما هي طبق الكراهية وسببها هو الذي نقل عن مالك رحمه الله، ألا وهو إلصاق ست من شوال برمضان حتى يظن الجهال أنها منه، أما مطلق صومها بدون الصورة التي توهم أنها من رمضان أو من لوازمه، فهذه ليس فيها كراهية، وعامة السلف عليها، والعمل جارٍ على هذا عند الأحناف وكذلك عند المالكية.
وننبه الإخوة أننا كنا قد جمعنا عمل أهل المدينة المذكور في الموطأ بناءً على كتاب محمد بن الحسن الحجة على أهل المدينة، وكان يحتج عليهم في تمسكهم بما آثروه نقلاً عملياً عن أهل المدينة؛ لأن مالكاً ذكر في الموطأ وقال: إن الستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم يصومها. ولهذا علل الكراهية بما تقدم، فهي من نقل مالك عن عمل أهل المدينة، ولما قمت بجمع مسائل عمل أهل المدينة في الموطأ زادت على الثلاثمائة مسألة، ثم عرضتها على بقية المذاهب الأربعة، أي: المذاهب الثلاثة مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، فوجدتها كلها لم ينفرد بها مالك إلا في ثلاث مسائل فقط، وكلها قال فيها: هذا ما عليه العمل ببلدنا، هذا ما أدركت عليه أهل العلم عندنا، هذه السنة القائمة عندنا، ولم يذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خبراً عن صحابي، وإنما يذكر ما شاهده من عمل أهل المدينة في زمنه أو نقل إليه.
وتلك المسائل الثلاث التي لم أجد من يوافقه عليها هي: المسألة الأولى: فيما يتعلق بصوم الستة أيام من شوال أنه كان يكرهه، والمذاهب الثلاثة -قبل أن أقف على مذهب أبي حنيفة - كلها تستحب ذلك، فظننته انفرد بها، ولكن وقفت على قول القرطبي وقول الشوكاني ينقلان عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنهما وافقا مالكاً في هذا، فخرج عن كونه انفرد بها.
والمسألة الثانية: قوله بصوم يوم الجمعة، وأن أهل العلم يتحرون صومه، والذي كنا نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم، أو تفرد ليلة الجمعة بقيام، ثم وجدنا في الاستذكار لـابن عبد البر أنه ذكر نصوصاً عديدة فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، حتى ذكر عن ابن عباس من طريق طاوس وعطاء ، أنهما لم يريا ابن عباس مفطراً يوم الجمعة قط، وذكر آثاراً أخرى، فيكون إسناد مالك صوم يوم الجمعة إلى عمل أهل المدينة قد وجد له مستند عن ابن عباس وغيره، وجاء ذلك مرفوعاً من طريق علي رضي الله تعالى عنه: (أن من صام ثلاثة أيام فليجعل فيها يوم الجمعة، أو صوموا من كل شهر ثلاثة أيام، وصوموا يوم الجمعة) إلى غير ذلك على ما سنأتي عليه إن شاء الله.
والمسألة الثالثة: عند مالك أن من قتل عمداً لا يدفع الدية وإنما عليه القصاص أو يعفو عنه أولياء الدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فيه أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، فقال مالك : ليس على القاتل عمداً أن يدفع دية، وليس لولي الدم إلا أن يقتل، أو يعفو.
وكنت قد سمعت والدنا الشيخ الأمين يقول في هذه المسألة: إن ولي الدم إذا قال: أنا لا أريد قصاصاً وأريد الدية، فإن جمهور العلماء يقولون: عليه أن يدفع الدية ويستبقي نفسه. ولكن وجدنا في مذهب مالك ثلاث روايات عنه فيما إذا كانت الجناية في غير النفس، في اليد أو في السن أو في العين، يقول مالك : هو مخيّر بين أن يدفع أرش الجناية، وبين أن يسلم نفسه ليقتص منه، فهنا خرج عن كونه يقول: ليس لهم إلا القصاص، فكذلك إذا كان في النفس يتعين على الجاني أن يدفع الدية ليبقي نفسه. وهذا الذي سمعته من والدنا الشيخ الأمين : أنه يلزم مالكاً أن يقول: إن من قتل عمداً وطلبت منه الدية فعليه أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29] ، وهذا توجه إليه القتل ووجد طريق العفو بالدية فيلزمه أن يدفع الدية، ثم وجدنا هذا القول بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وبهذا أيها الإخوة! يكون كل ما سجله مالك رحمه الله في الموطأ من مسائل عمل أهل المدينة لم ينفرد ولا بواحدة منها، ويكون قد انتهى ما كنا نظنه أنه انفرد به، وقد سجلنا ذلك في الرسالة التي جمعناها وطبعناها، ولكن لزم التنبيه على أنه لم تبق مسألة انفرد بها مالك فيما ذكره من عمل أهل المدينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)، وهذا على ما تقدم بيانه من أن الحسنة بعشر أمثالها؛ فالشهر بعشرة أشهر، والستة أيام بستين يوماً أي: بشهرين، فذلك تمام السنة، وهو تمام الدهر فيما إذا عاش وفعل ذلك كل سنة.
ويلتمس العلماء سبب ربط الستة الأيام من شوال برمضان فيقولون: إن من كان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً ورغبة ومحبة فإنه لا يستكثر على نفسه أن يواصل صوم ستة أيام من شوال وكأنه يدلل على أن صومه الثابت ليس عن إكراه، وليس عن كراهية، وإنما عن رغبة وهاهو يواصل صوماً نافلةً بعد رمضان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر