إسلام ويب

الزواج العرفيللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الزواج العرفي قضية خطيرة، انتشرت في المجتمعات الإسلامية انتشار النار في الهشيم، وقد بين العلماء صورته وحكمه وأضراره، وأسباب انتشاره وعلاجه، فينبغي على الدعاة تحذير الناس منه، وتبيين آثاره السيئة، ومفاسده الكبيرة.

    1.   

    الزواج آية ربانية وسنة نبوية ومملكة إيمانية

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله. أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الزواج العرفي: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذه الليلة الكريمة الطيبة، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية. ثانياً: الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً. ثالثاً: الضحايا يعترفون، والمأساة مروعة!! رابعاً: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج. وأخيراً: فهل من توبة؟!! فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء من الأهمية والخطورة بمكان. والله أسأل أن يجعلنا ممن: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]. أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية: أحبتي في الله! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي، ويرقيها إلى المستوى الإنساني الطاهر، الذي يليق بالإنسان الذي كرمه الله جل وعلا كما في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70]. من أجل ذلك، فإنه يقيم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من المشاعر النبيلة الراقية الرقيقة الطاهرة النظيفة، والتي تنبني على السكن النفسي والبدني والمودة والرحمة، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. فالزواج آية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وسكن للغريزة الجسدية، أما بيت الزوجية فمملكة كريمة إيمانية، الزوج ملكها وربانها، والمسير لشئونها وأمورها، بما جعل الله له من قوامة في قوله جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، والزوجة ملكة متوجة هي الأخرى في هذه المملكة الإيمانية؛ لأنها شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، والرعية في هذه المملكة بين هذين الملكين الكريمين، هم ثمرة الفؤاد.. ولب الكبد.. وزهرة الحياة الدنيا.. هم الأولاد، قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].هذه المملكة الإيمانية إن ظلل سماءها منهج رب البرية وسيد البشرية، وروي نبتها بماء المودة والرحمة الندية؛ آتت ثمارها كل صبح وعشية، وأينعت فيها زهرات الحب والوفاء والأخلاق العلية.

    الزواج يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها

    هذا الزواج الشرعي -أيها المسلمون- هو السبيل الوحيد الذي يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها، وللأولاد مكانتهم وحقوقهم في المجتمع؛ لأن الزوج مسئول عنهم مسئولية كاملة في الدنيا والآخرة؛ لقوله الله عز وجل: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، ولقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر - : (كلكم راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف). هذا الزواج الذي يباركه الله جل وعلا، ويمضيه شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهده المجتمع الإسلامي ويفرح به؛ هو الذي عرفه المسلمون منذ بداية الوحي إلي أن صرنا إلى هذا الزمان، زمان الفتن، فتن الشهوات والشبهات، ذلكم الزمان الذي ضاعت فيه المقاييس الصحيحة للحلال والحرام!! وتجرأ فيه كثير من الناس على محارم الله جل وعلا!! فرأينا فيه ظاهرة جديدة وخطيرة تنتشر الآن في مجتمعات المسلمين انتشار النار في الهشيم، وقع فيها كثير من الشباب والفتيات، إما جهلاً بالدين وإما جرأة على الدين، تلك الظاهرة التي تسمى بـ(الزواج العرفي) هي عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء المهم.

    1.   

    الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً

    الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً، ونظراً لخطورة هذا العنصر فاسمحوا لي أن أركز فيه الحديث مع حضراتكم في المحاور التالية: أولاً: صورة الزواج العرفي القائم. ثانياً: بطلانه عرفاً. ثالثاً: بطلانه شرعاً.

    صورة الزواج العرفي

    أولاً: صورة الزواج العرفي القائم الآن: تتلخص في التقاء الرجال بالنساء أو الشباب بالفتيات في العمل أو في المدارس أو الجامعات في اختلاط رهيب مدمر، فيترصد الشاب لفتاة مستهترة!! يعرفها الشباب جيداً، فهي تعلن عن نفسها بصراحة ووضوح من خلال ثوبها العاري أو الضيق الذي يظهر كل مخبوء من مفاتنها، ومن خلال شعرها المكشوف، وعطرها الأخاذ، وصوتها المؤثر، وحركاتها المثيرة، فيترصد الشاب لها، ويلهب مشاعرها بوابل من كلمات الحب والعشق والغرام التي حفظها من كتب الأدب المكشوف، والمسلسلات والأفلام، ويقسم لها أنه يحبها حباً قد أحرق فؤاده، وأنه مصر على أن يتزوج بها، ولكن ظروفه لا تسمح الآن!! ومن هنا يحاول إقناعها بالزواج في السر بغير ولي -أي: بدون علم والد الفتاة- وبغير إشهار، ولا إعلان، ولا مهر، ولا نفقة، ولا مسكن، وليكمل فصول خديعته الكبرى يأتي بورقة، ويشهد عليها زميلين من زملائه المقربين ممن يعرفون علاقاته المحرمة والمشبوهة؛ ليكون هو الآخر بدوره شاهداً لواحد منهم على عقد عرفي باطل جديد، هذه هي الصورة المشئومة للزواج العرفي المزعوم، التي نراها الآن في مجتمعات المسلمين.

    بطلان الزواج العرفي عرفاً

    هل يقر عرف الناس هذا الزنا؟! الجواب: لا ورب الكعبة، بل العرف يبطله، وهذا هو المحور الثاني، فالعرف عند علماء الأصول: هو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم، وقد يكون هذا العرف معتبراً شرعاً، وقد لا يكون معتبراً شرعاً، بمعنى: أن الشرع المطهر قد يقر عرفاً، وقد يبطل عرفاً آخر، ومن ثم فالعرف المعتبر شرعاً: هو الذي لا يخالف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة. وعلى هذا التأصيل، فإن الناس لم يعرفوا أبداً هذا الزواج العرفي المزعوم، ولم يعتادوا في تزويجهم لأبنائهم وبناتهم على هذه الصورة الخبيثة، والعلاقة المحرمة التي تتم في السرية والظلام والخفاء، والتي تقوم على النفاق والغش والخداع والخيانة بين شاب وفتاة، بين شاب مستهتر خان أهله ومجتمعه بعد أن خان الله ورسوله، وفتاة مستهترة خانت أهلها ومجتمعها بعد أن خانت الله ورسوله، وإن توهم أحدهم وخادع نفسه، وظن أنه متزوج بالحلال، وأن ذلك هو عرف الناس اليوم، فأنا أسأله وأرجو أن يصدق في الجواب: لماذا أخفيت هذا الزواج عن أقرب الناس إليك إن كنت تعلم أنه زواج شرعي صحيح؟ لماذا أخفيته عن أهلك الذين لا زالوا ينتظرون اللحظة التي ستتخرج فيها من الجامعة؛ ليفرحوا بك وأنت مع زوجتك في الحلال الطيب؟ ثم ألا تشعر بالخيانة والنفاق والخداع وأنت تأخذ المصروف في الصباح من والدك، وتذهب بعد ذلك من الجامعة إلى شقة مفروشة أو إلى غرفة مظلمة لتزني بفتاة بدعوى الزواج؟! ثم لماذا تتلصص وتبحث عن مكان خفي لا يراك فيه أحد من الناس لتقضي وقتاً في الرذيلة والحرام مع فتاة تدعي أنها زوجتك؟ ثم هل تقبل أن يأخذ شاب من زملائك في الجامعة أختك أنت إلى نفس الشقة المفروشة ليزني بها بدعوى أنها زوجته؟ ثم هل تقبل بعد ذلك أن تخرج ابنتك إلى الجامعة؛ لترجع إليك بحمل في بطنها بدعوى أنها متزوجة، وأنت لا تعلم عن هذا الأمر شيئاً؟! أخي! أجبني بصدق وتذكر قول القائل: يا هاتكاً حرم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرم من يزني في قوم بألفي درهم في قومه يزنى بربع الدرهم إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم ثم لا تنسى أبداً قول الله تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، وردد كثيراً قول الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. وأنت أيتها الفتاة الجريئة! يا من وضعت رأس والدك في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من وضعت شرف العائلة بأسرها في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من ضيعت أطهر وأشرف وأغلى ما تعتز به كل فتاة طاهرة شريفة، يا من دنست طهرك بأوحال الرذيلة والعار؛ لا تخدعي نفسك بأنك متزوجة في الحلال الطيب، وإن كنت لا زلت تتوهمين وتظنين ذلك، وتدعين أنك أيضاً متزوجة في الحلال، وأن هذا هو عرف الناس اليوم؛ فأنا أسألك وأرجو أن تصدقي في الجواب: هل يعقل أن تتزوج فتاة طاهرة شريفة في السر والظلام بدون علم والدها المسكين، وبدون علم أمها التي سهرت وربت، بل وهي لا زالت إلى الآن تتضرع إلى الله أن يرزقك بالزوج الصالح، وهي مسكينة لا تدري أنك متزوجة؟! ثم ألا تشعرين بالخيانة والنفاق والخداع وأنت ذاهبة في الصباح إلى الجامعة أمام الأهل والأسرة، ومنها إلى شقة مفروشة أو غرفة مظلمة بين أحضان شاب في الحرام؟ يا للعار!!! يا للخيانة!!! يا للخداع!!! وبعد ذلك تكذبين وتزعمين وتتوهمين أن هذا هو عرف الناس اليوم!!! لا والله، بل العرف يبطله، بل وكذلك شرع الله يبطله، وهذا هو المحور الثالث.

    بطلان الزواج العرفي شرعاً

    أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إن الزواج في الإسلام ميثاق غليظ له قدسيته ومكانته، وله أركانه وشروطه، ولا يحل للزوجين أن يستمتع كل منهما بالآخر إلا على الوجه الذي شرعه الله عز وجل، إلا بالقبول والإيجاب والولي والشهود والإعلان والمهر. أما القبول والإيجاب: فهما ركنان عظيمان، وهي صيغة العقد المعروفة، ومذهب جمهور العلماء أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه. أما الولي: فهو شرط لا يصح العقد إلا به بنص القرآن والسنة في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأي ظرف من الظروف، قال الله عز وجل: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، والعضل: هو المنع والتضييق والتعسير، قال الإمام الشافعي : وهذا أبين ما في القرآن على أنه لا نكاح إلا بولي، وبهذا قال جمهور المفسرين، وستعجبون إذا علمتم سبب نزول هذه الآية، فلقد نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه الذي زوج أخته لرجل، وأحسن إليه وأكرمه، ولكن الرجل طلق أخت معقل بعد فترة من الفترات ، فلما انقضت عدتها عاد الرجل مرة أخرى إلى معقل بن يسار ليرد المرأة، فقال له معقل بن يسار : زوجتك وأكرمتك فطلقتها! ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل قوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فلما قرأ الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم على معقل بن يسار قال: (الآن أفعل يا رسول الله) وفي لفظ: (سمعاً وطاعة) فزوجها إياه، وأعادها إليه بعقد جديد. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها حتى ولو كانت ثيباً لهذه الآية؛ لأن أخت معقل بن يسار لم تكن بكراً وإنما كانت ثيباً، والآية الكريمة نص صريح لا تأويل فيه. وقال الله عز وجل: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها؛ لقوله تعالى: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ)، وقال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] هذا خطاب من الله لأولياء المرأة، وترجم الإمام البخاري بهذه الآية باباً بعنوان: لا نكاح إلا بولي. وقال تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، وهذه الآية قد استدل بها أيضاً جمهور المفسرين على أن المرأة لا تزوج نفسها؛ لأنه خطاب من الله عز وجل لأولياء المرأة. وتأتي السنة النبوية المطهرة بعد كتاب الله عز وجل لتؤكد تأكيداً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض ولا تأويل بطلان الزواج الذي يتم بدون الولي، في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأيِّ ظرف من الظروف، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبغوي والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) تدبروا قول الحبيب النبي: (لا نكاح إلا بولي)، وفي رواية: (لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له)، وفي الحديث الصحيح الصريح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والبغوي والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). ماذا تريدون أيها المسلمون بعد ذلك؟! ماذا تريدون أيها الشباب وأيتها الفتيات من أدلة صحيحة صريحة بعد ذلك على بطلان هذا الزواج العرفي المزعوم المشئوم، الذي لا يعلم عنه ولي البنت شيئاً على الإطلاق؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الزانية هي التي تزوج نفسها. وقال ابن عباس : البغي هي التي تزوج نفسها، وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وأذنها سكوتها) فالمراد عند جمهور أهل العلم: أن الولي لا يجوز له أن يزوج الثيب إلا بأمرها ورضاها، فإن زوجها وليها بغير أمرها ورضاها فالنكاح مفسوخ، كما في حديث خنساء بنت خزام الذي رواه البخاري وأحمد : (فقد زوجها أبوها وهي امرأة ثيب فكرهت ذلك، فاشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي نكاحه).

    عدم جواز رد الأدلة الصريحة لقول أبي حنيفة رحمه الله

    لا يجوز -يا مسلمون- لأيِّ منصف على وجه الأرض بعد هذه الأدلة الناصعة من القرآن والأحاديث الصحيحة الصريحة من سنة النبي عليه الصلاة والسلام أن يحتج علينا بقول لـ أبي حنيفة رحمه الله أجاز فيه النكاح بدون ولي محتجاً بالقياس على البيع، بمعنى: أن المرأة تستقل ببيع سلعتها ومن ثم فلها أن تزوج نفسها! هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قياس مع وجود نص، والقاعدة الأصولية تقول: لا قياس مع النص، هذا باتفاق علماء الأصول، والذي أدين به تبجيلاً مني لـ أبي حنيفة رحمه الله: أن الدليل الصريح في هذه المسألة لم يبلغه، وهذا لا يقدح في علم أبي حنيفة فإن من الصحابة رضي الله عنهم من لم يبلغه الدليل في كثير من المسائل، بل وأنا أكاد أجزم أن أبا حنيفة لو بلغه الدليل في هذه المسألة -أي: الدليل الصريح- لقال به، ولم لا! وأبو حنيفة رحمه الله هو القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا؟ وستعجبون إذا علمتم أن الإمام الطحاوي رحمه الله قد ذكر في شرح معاني الآثار: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن -وهما أتبع الناس لـ أبي حنيفة ، وأعلمهم بقوله- خالفا أبا حنيفة في هذه المسألة، بل وفي كثير من المسائل الأخرى وقالا: لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها إلا بإذن وليها، فهل يجوز بعد ذلك لمسلمة أو مسلم أن يقدم قول أبي حنيفة على قول الله جل وعلا أو على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

    شروط عقد الزواج

    يا أيها الشباب! ويا أيتها الفتيات! اعلموا بأن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل.. باطل.. باطل.. وإن سجل في أوراق عادية، بل ولو سجل في وثيقة زواج رسمية، وأكرر أقول: إن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل وإن سجل في ورقة كراسة عادية، بل وإن سجل في وثيقة زواج رسمية عند مأذون. واعلموا أن أيَّ زواج يباركه الولي، ويأذن به ويعقده بنفسه، ويشهد عليه الشهود، ويعلن، ويفرح به المجتمع الإسلامي؛ فهو زواج شرعي صحيح، وإن لم يسجل أو يوثق في وثيقة رسمية عند مأذون، فهذه الوثيقة من باب المصالح المرسلة لضمان حقوق النساء في زمان خربت فيه الذمم، وقل فيه أهل الأمانة. إذاً: كل زواج يتم بدون إذن الولي فهو زواج باطل بنص القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الشرط الأول الشرط الثاني من شروط العقد: الإعلان والإشهار: فلقد أوجب الإسلام إعلان الزواج وإشهاره، فالإسلام لا يعرف ولا يعترف بالزواج في السر أبداً، ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني بسند حسن من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح)، وفي رواية للطبراني بسند حسن بشواهده من حديث يزيد بن السائب : (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: هل يرخص لنا في اللهو عند العرس؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح.. إنه نكاح لا سفاح، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أشيدوا النكاح) أي: أعلنوه وأظهروه ولا تسروه. الشرط الثالث من شروط العقد: المهر، فالمهر واجب على الرجل، وهو حق كامل للمرأة، قال الله جل وعلا: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، وقد حث الإسلام على التخفيف وعلى التيسير في المهر، بل وستعجبون إذا علمتم أن النبي صلى الله عليه سلم قد زوج رجلاً بامرأة بما يحفظه من كتاب الله تعالى، والحديث في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لقد وهبت نفسي لك)، وأود أن أبين أيضاً: أن الوهب أمر خاص بالنبي، فلا يجوز لامرأة على وجه الأرض أن تهب نفسها لرجل أياً كان، هذا أمر خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام: (فلما لم يخطبها النبي لنفسه قال رجل من الصحابة: زوجنيها -يا رسول الله- إن لم يكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهل معك من شيء تصدقها إياه؟ يعني: تقدمه لها مهراً، قال: لا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فعاد الرجل وقال: يا رسول الله! لا أملك إلا إزاري، فقال له النبي: لو أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، اذهب فالتمس شيئاً قال: لا أجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل تحفظ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، أحفظ سورة كذا وسورة كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن). الشرط الرابع: الشهود، ففي الحديث الذي رواه ابن حبان والبيهقي والدارقطني وصححه الألباني في إرواء الغليل من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين)، وفي رواية عمران بن حصين التي صححها الألباني بشواهدها في إرواء الغليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) والشاهد العدل باتفاق علماء الأصول يشترط فيه: الإسلام، والبلوغ، والعقل، وعدم الفسق، هذه صفات مجمع عليها عند علماء الأصول في الشاهد العدل. والله لقد أرسلت إلي فتاة جامعية رسالة سطرتها بدموع الندم يوم لا ينفع الندم تقول: إن زميلها في الجامعة قد خدعها بهذا الزواج العرفي المزعوم، وكانت تلتقي معه في شقة مفروشة حتى فوجئت يوماً بأنها حامل، ففزعت وأسرعت إليه لتتوسل بين يديه أن يتقدم لأهلها ليتزوجها زواجاً صحيحاً، فتنكر لها ومزق الورقة بين يديها وقال لها: ومن يدريني أنه ولدي؟! ولا تعجبوا! فلقد نشرت جريدة الأهرام الرسمية في ملحقها خبراً خطيراً بالبند العريض يقول: اثنا عشر ألف طفل ثمرة الزواج العرفي لا يعرفون آباءهم، إنها كارثة حين يتنكر الشاب للفتاة بعد أن يخدعها. تقول: وكانت الكارثة الأخرى، والصدمة العنيفة، أن أتى إليها شاب من الشابين اللذين شهدا على العقد العرفي الباطل، وطلب أن يزني بها، فلما رفضت هددها بأنه سيفضحها بزواجها العرفي، وتسألني وتقول: هل تمكنه من نفسها ليزني بها؛ حتى لا تفضح نفسها في الجامعة أو بين أسرتها؟ وكثير من هؤلاء يذهبن بعد ذلك إلى طبيب لا يتقي الله -عز وجل- ليعيد إليها غشاء البكارة مرة أخرى، وهي تظن أنها خدعت بذلك المجتمع، خدعت أسرتها وخدعت زوجها الذي سيتقدم إليها بعد ذلك في الحلال الطيب، ولكن أين ستذهب من الله عز وجل الذي يسمع ويرى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟! هؤلاء -يا مسلمون- هم الشهود العدول الذين يشهدون اليوم لبعضهم البعض على ورقة الزواج العرفي المزعوم المشئوم الباطل! أيها المسلمون! أيها المسئولون! أيها الشباب! أيتها الفتيات المسلمات! هل يستطيع مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن هذا الذي نراه الآن زواج شرعي؟ لا والله، إنها حيلة باطلة حقيرة، وعلاقة محرمة خبيثة لا يقرها الشرع، ولا يقرها العرف. والذي يدمي القلب أنهم يتمسحون بالدين، فيلبسون الباطل ثوب الحق، ويلبسون الحرام ثوب الحلال، ويلبسون الزنا ثوب الزواج، وهذا والله لا يمكن أن يكون أبداً حتى ولو تغيرت الأسماء، فالعبرة بالمسميات والحقائق لا بالأسماء والأشكال، فلو سميت الخمر بالشمبانيا أو الكنياك أو البرانزي أو الوسكي فالمسمى واحد، وهو الخمر الحرام، ولو سمي الربا بالفائدة أو العائد أو المعاملة، فهذا لا يخرج الربا عن كونه رباً حرمه الله عز وجل. فالزواج العرفي المزعوم ظاهر البطلان، وعيش في الحرام، وصورته الزنا، فهو نكاح السر، ونكاح البغايا، وهو زواج نفاق لا يباركه الرحمن، بل يباركه الشيطان، ولا أظن أن مسلماً على وجه الأرض يرضاه لأمه أو لأخته أو لابنته أو حتى لابنه؛ لأنه خروج عن الدين والأخلاق والفطرة السليمة، بل هو مكر وخداع وخيانة واستهزاء ولعب بشريعة الله المحكمة، وتحليل للمحرمات، وانتهاك للأعراض والحرمات يأباه رب الأرض والسموات، بل إن الواقع المر الأليم الآن ليؤكد تأكيداً جازماً أن المأساة مروعة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.

    1.   

    الضحايا يعترفون.. والمأساة مروعة

    ثالثاً: الضحايا يعترفون.. والمأساة مروعة!! وسأكتفي بذكر ثلاث حالات فقط لنقف على خطورة المأساة. فهذه فتاة جامعية تقول: شكلت أنا وزميلي ثناء عاطفياً كان محل أنظار الجميع، وفي السنة الرابعة قررنا أن نتزوج زواجاً عرفياً مزعوماً لنضع الأسرتين أمام الأمر الواقع!! تقول: وبالفعل كنا نلتقي في شقة أسرتي أثناء غيابهم أو في شقة زميل من زملائه سافر أهله إلى الخارج، تقول: ويوم أن ظهرت النتيجة اتصلنا بالأسرتين لنخبر الأسرتين معاً بخبر نجاحنا، تقول: فاتصلت بأمي، وأعطيتها بعد ذلك هذا الزوج المزعوم ليخبرها بخبر زواج ابنتها أي: بهذا الزواج العرفي، فلما اتصل الفتى على أم هذه الفتاة وأخبرها الخبر صرخت صرخة عالية، تقول البنت: سمعتها وأنا إلى جواره في التلفون، وأسرع الوالد إلى هذه الأم المسكينة ليتعرف على الخبر، فلما أخبرته بأن ابنته متزوجة أي: زواجاً عرفياً وهو لا يعلم، وأمها لا تعلم، سقط الوالد على الأرض، وحملوه إلى المستشفى في التو واللحظة، وفي غرفة العناية المركزة قال الطبيب: لقد أصيب هذا الرجل المسكين بجلطة في المخ تسببت في شلل نصفي، هذه ثمرة مرة من ثمار الزواج العرفي المشئوم المزعوم الباطل. وهذه مضيفة جوية قتلت وأحرقت جثتها بسبب الزواج العرفي المزعوم، ونشرت الجريمة تحت عنوان: الطيار قاتل المضيفة يعترف ويقول: هددتني بإعلان زواجنا، فقتلتها بالسكين في شقتها، ثم أحرقت جثتها بعد ذلك. وهذه حالة ثالثة: زوج أراد أن يتزوج على امرأته، لكنه خاف من زوجته ومن المجتمع الظالم الذي انقلبت فيه الموازين، وراح المجتمع ينظر إلى التعدد الحلال الذي شرعه الله على أنه جريمة وفضيحة، فتزوج في السر بهذا العقد العرفي الباطل، واستطاع لسنوات طويلة أن يخفي أمر زواجه العرفي عن أسرته الأولى، بل وعن المجتمع، فلقد تزوج المرأة الثانية بالعقد العرفي في بلد بعيد عن بلده الذي يسكن فيه مع أسرته الأولى حتى لا يفتضح أمر زواجه العرفي، ورزقه الله من زوجته الأولى بالأولاد، ورزق من المرأة الثانية أيضاً بالأولاد، ويقدر الله عز وجل أن يدخل ولده من زوجته الأولى إلى الجامعة، وأن تدخل البنت من المرأة الثانية إلى الجامعة، ويقدر الله أن يلتقي الشاب بالفتاة، ويحب كل منهما الآخر، فقررا الزواج العرفي، وسبحان الله! علم كل واحد منهما التطابق الكامل في الاسمين، ومع ذلك قال أحدهما للآخر: هذا من يمن القدر حتى الأسماء متطابقة إلى هذا الحد! وفي يوم من الأيام تقول الفتاة: شعرت بالحمل في أحشائي، وذهبت إلى هذا الشاب لتصرخ بين يديه ليتقدم إلى أهلها ليطلبها رسمياً، وحددت له موعداً، وفي اليوم المحدد، أتى هذا الشاب إلى أسرة هذه الفتاة ليطلبها، وكانت المفاجأة، وكانت الصدمة الحادة العنيفة، وهو يطرق الباب، والباب يفتح، من الذي يفتح الباب؟! إنه أبوه، ما الذي جاء به إلى هنا؟! فلما ظهرت الحقيقة، وعرف الشاب الخطر، ألقى بنفسه منتحراً، ولما علم الوالد الحقيقة سقط على الأرض وأصيب بأزمة قلبية، ولما علمت الفتاة الخبر أصيبت بحالة من الذهول، وفقدت النطق، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126]. هذه ثمرة مرة للإعراض عن شرع الله، وللبعد عن منهج الله جل وعلا. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه: أليست هذه الظاهرة الخطيرة بكل ما تحمله من مآس مروعة نتيجة مؤكدة وطبيعة لأسباب محددة؟ والجواب بملء الفم وأعلى الصوت: نعم نعم. فما هي أهم هذه الأسباب وما علاجها؟

    1.   

    هذه هي الأسباب وهذا هو العلاج

    عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج:

    البعد عن الله

    السبب الأول: البعد عن الله عز وجل، وضعف الإيمان، وقلة الخوف من سخط الله وعذابه في الدنيا والآخرة، والجرأة على محارمه، والاستهتار بشرعه وحدوده، كل هذا مع كثرة الفتن بنوعيها ألا وهما فتنة الشهوات والشبهات. ولا شك أيها الإخوة! أن القلب الذي لم يعرف الله عز وجل، ولم يتذوق صاحبه حلاوة الإيمان، ولم يرتجف إجلالاً لله وخوفاً منه سبحانه، لا شك أن صاحب هذا القلب يعيش في ظلمة ووحشة وضنك، وإن كان يتقلب في النعيم المادي الزائل، ولا شك أن صاحب هذا القلب يعيش فريسة سهلة للشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، هذا عندي هو أول وأخطر الأسباب للوقوع في هذه المصيبة والكارثة، بل وفي كل مصيبة وكارثة، وإن أردتم الدليل العملي على قولي، فعليكم أن تنظروا نظرة سريعة إلى أولئك الشباب الطاهر الطائع، وإلى أولئك الشباب التائه الضائع، كلهم شباب.. في سن واحدة.. في بيئة واحدة.. يتعرضون لنفس الفتن والمؤثرات، ولكن شتان شتان بين شاب يقف بين يدي الله جل وعلا متذللاً متضرعاً يخاف الفتنة، ويخشى الوقوع في المعصية، ويهرع إلى المساجد، وإلى مجالس العلم، ويحرص على مصاحبة الأطهار، ويبتعد عن الاختلاط الحرام، ويذهب إلى الجامعة وهو يحمل هموم أمته ودعوته وأسرته، شتان شتان بين هذا وبين شاب لا يعرف الله جل وعلا، ولم يتذوق حلاوة الإيمان، ولم يعرف طريق المسجد، ولم يحضر مجالس العلماء، ولم يستمع إلى القرآن، بل ولا يفارق سمعه الغناء الماجن والموسيقى الصاخبة، ولا يستحي أن يخلو هنا أو هنالك بفتاة متبرجة لا تعرف للدين حرمة، ولا للحياء مكانة، فما العلاج؟! العلاج يكمن أيها الشباب! وأيتها الفتيات! في العودة إلى الله عز وجل، فو الله ثم والله لا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا في صدق اللجأ إلى الله جل وعلا، قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم وابن ماجة والحاكم والبغوي بسند صحيح بشواهده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي: إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعة الله). نعم أيها الشباب! وإذا رأيتم شاباً على المعصية وقد أعطاه الله من النعيم ومن فضله فاعلموا بأنه مستدرج من الله جل وعلا، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلم بأنه مستدرج من الله تعالى، وقرأ النبي قول الله عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45]).

    غياب الأسرة وضياع القدوة وانعدام الرقابة

    السبب الثاني: غياب الأسرة، وضياع القدوة، وانعدام الرقابة بدعوى الحرية المزعومة للأولاد والبنات، وهذا من باب التقليد الأعمى للغرب الذي تصطدم سلوكياته وأخلاقياته مع عقيدتنا وأخلاقنا وقيم مجتمعنا الإسلامي اصطداماً مباشراً، فالوالد لا يفكر أن يسأل ابنته عن جدول محاضراتها في الجامعة، ولماذا تتأخر؟ وأين تذهب؟ ومع من تمشي؟ ومع من تتكلم في التلفون كل هذه الساعات؟ والأم هي الأخرى لا تفكر في هذا، بل ويترك الأب الوقور المحترم ابنته الجامعية تخرج في الصباح إلى الجامعة بهذه الثياب الضيقة والزينة الخطيرة، ولم يسأل نفسه مرة: لماذا كل هذا؟! وأين ستذهب البنت بهذا الشكل المثير؟! وما علاقة هذا بالعلم في الجامعة؟! ولم يغضب لله مرة، بل ولا حتى للرجولة مرة فوقف وقفة ليمنع ابنته أن تفارق البيت بهذه الصورة المزرية، التي لا تمت إلى الدين ولا إلى الأخلاق بأدنى صلة، بل ولم تفكر الأم هي الأخرى في شيء من ذلك، بدعوى الحرية المشئومة. والعلاج أن ترجع الأسرة إلى الله عز وجل، وأن يعي الوالدان المسئولية العظيمة التي سيسألان عنها بين يدي الله تعالى، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها). بل وتذكر أيها الوالد! وتذكري أيتها الأم! حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث معقل بن يسار : (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الحنة).

    التبرج والاختلاط والخلوة

    السبب الثالث: التبرج والاختلاط والخلوة بين الرجل والمرأة، وبين الطالب والطالبة، وهذا سبب من أخطر الأسباب أيضاً؛ لأن الميل بين الرجل والمرأة أمر فطري عميق في التكوين البشري؛ لأن الله قد أناط به امتداد النسل البشري على ظهر الأرض، والجسم العاري، والنبرة المؤثرة، والرائحة المؤثرة، كل هذا يشعل نار الفتنة بتحريك الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة، فإذا تم الاختلاط بين الرجال والنساء والشباب والفتيات على هذه الصورة الخطيرة، كانت الكارثة أعظم، وسبحان من قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فما حرم الإسلام الاختلاط والتبرج والخلوة إلا لأنه يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر نظيف، ولقد استوقفتني كلمات خطيرة لكاتبة إنجليزية تسمى اللاديكوك تقول: على قدر كثرة الاختلاط يكثر أولاد الزنا، ولا شك أن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط والخلوة حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المزرية، التي تمثل صفعة قوية على وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، فعلى الذين تربوا على موائد المدنية الزائفة، وأطلقوا العنان للرجال والنساء في الخلوة والاختلاط المحرم بدعوى أن الظروف قد تغيرت، وأن المرأة قد تعلمت وتثقفت وتنورت، وهي محل ثقة الزوج والأب والأسرة، على هؤلاء جميعاً أن يعلموا أنهم يرتكبون جرماً عظيماً وحرمة كبيرة، وعليهم في الوقت ذاته أن يراجعوا بعد ذلك الدراسات والإحصائيات والجرائم الكثيرة المنتشرة التي يعلن عنها يومياً؛ ليعلموا يقيناً أنه لم تقع ولن تقع جريمة ينهش فيها العرض، ويذبح فيها العفاف، ويضيع فيها الشرف إلا بسبب الجرأة والتعدي على حدود الله جل وعلا، فمحال -يا أصحاب العقول الراشدة- أن نسكب البنزين على نار مشتعلة ثم نقول للنار: إياك والاشتعال، محال أن نقيد شاباً بالحبال وأن نلقيه في اليم ثم نقول: إياك والغرق، إياك أن تبتل بالماء! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا محال، والعلاج في العودة إلى شرع الكبير المتعال، أن نذعن لحكمه، ونحن على يقين أن السعادة في الدنيا والآخرة بالتسليم المطلق لأمر الله ورسوله، ويجب أن نتخلص من التقليد الأعمى للغرب، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فدعوه).

    الإعلام بكل وسائله

    السبب الرابع: الإعلام بكل وسائله، فهو يقدم كل ألوان الخلاعة والإغراء، بدءاً بما يسمى بالأدب الجديد وهو الأدب المكشوف، أدب الجنس الماجن الخليع، ثم تأتي الأفلام الغرامية التي تعرض على شاشات السينما والتلفزيون، ثم تأتي المسرحيات الهابطة الساقطة التي تعرض على خشبات المسرح، ثم يأتي الغناء الماجن، والموسيقى الصاخبة، والرقص المثير، والصور، كل هذا مع العزف المستمر على وتر التمجيد لأهل الفن، وتشويه الدين وأهله، هذا كله -ورب الكعبة- يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]. والعلاج في كلمات قليلة: أن يعود الإعلام إلى الهدف الذي من أجله أقيم، أن يعود القائمون على الإعلام إلى الحق وإلى الفضيلة، يجب أن يقوم الإعلام بنشر الأخلاق والفضيلة، وقتل الشر والرذيلة، وليس العكس؛ لأن دوره الآن خطير، فهو يوجه ويحرك، ولا ينكر منصف على وجه الأرض خطر البرامج الإعلامية في كل الوسائل التي تقدم للشباب والشابات، فإن هذه البرامج تهيج الغرائز الهاجعة، وتثير الشهوات الكامنة.

    المغالاة في المهور وتكاليف الزواج

    السبب الخامس: وهو من أخطر الأسباب على الإطلاق: المغالاة في المهور وتكاليف الزواج بصورة خطيرة زادت عن الحد، وفاقت كل تصور، فكم من شبابنا أصبح عاجزاً عن تكاليف الزواج! وكم من فتياتنا أصبحن عوانس فاتهن سن الزواج، كل هذا بسبب تعنت كثير من الآباء والأمهات في المغالاة في المهور ونفقات الزواج. فيا أيها الآباء! ويا أيتها الأمهات! ارحموا الشباب والفتيات، فهناك الذي يفني زهرة شبابه، وأجمل سنواته، في تحصيل القليل من تكاليف الزواج. ارحموا البنات فورب الكعبة لولا حياؤهن لصرخن في وجوهكم: ارحموا ضعفنا، واستروا عوراتنا، وخلوا بيننا وبين شاب مسلم ولو كان فقيراً، لنكون عوناً لبعضنا البعض على أمر الدين والدنيا. والعلاج بلا ريب يكمن في العودة إلى الإسلام، إلى أوامره الربانية الطاهرة، فالإسلام يأمر بتيسير الزواج، ويحرم المغالاة في المهور، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وفي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وغيره من حديث أبي هريرة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عريض). نداء إلى الآباء والأمهات أن ييسروا أمر الزواج لشبابنا وبناتنا، فإن الأمر والله في غاية الخطورة. أسأل الله عز وجل أن يلقى هذا النداء قلوباً رحيمة، وآذاناً وعاية، فإن الخطر يهدد الجميع.

    المدارس والجامعات التي لا تربي على الإيمان

    السبب السادس: المدارس والجامعات ومناهج التعليم التي تحسن أن تعلم أبناءنا وبناتنا المعارف والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع، كيف ذلك مع هذا الاختلاط الرهيب بين الشباب والفتيات في سن خطيرة، وتجاهل لمادة الدين؟! والأمر يحتاج والله إلى وقفة صادقة من كل القائمين على أمر التعليم؛ لمناقشة هذه الحلول العملية التي أقدمها كعلاج لهذا السبب الخطير من أسباب هذه الظاهرة. أولاً: إلغاء الاختلاط بين الطلاب والطالبات ولو في الفصول الدراسية على الأقل، وذلك أضعف الإيمان. ثانياً: جعل مادة الدين من المواد الأساسية، ومن مواد الرسوب والنجاح، على أن يقوم بوضعها نخبة من العلماء الأجلاء والأساتذة الفضلاء؛ ليختاروا المعلومة الدينية الصحيحة الهادئة الهادفة، التي تتناسب مع أعمار كل مرحلة من مراحل التعليم. ثالثاً: إلغاء الرحلات المختلطة بين الطلاب والطالبات إلغاءً تاماً وكلياً؛ لأنها من أخطر أسباب الانحراف. رابعاً: إلغاء الدراسة المسائية للطالبات في الكليات العملية والنظرية. خامساً: المحافظة على قيم الجامعة ورسالتها، وعدم السماح لأي طالبة تدخل إلى الجامعة بلبس خليع ضيق أو عار مكشوف لا يتفق أبداً مع المكان الذي ستدخله، وعدم السماح لهذه الثنائيات المشبوهة بين الطلاب والطالبات التي تنتشر هنا وهنالك في زوايا الجامعات. سادساً: وضع عقوبات شديدة رادعة لكل طالب وطالبة يأتي بسلوك يخالف القيم والأخلاق في الجامعة. سابعاً: فتح الباب بصورة منظمة للعلماء والدعاة الصادقين للدخول إلى المدارس والجامعات لإلقاء المحاضرات الدينية الهادئة الهادفة، على أن يتولى الأمر بنفسه رئيس الجامعة أو وكيل الكلية، على أن يدعى لهذه المحاضرة الكبيرة المدرسون والمدرسات والطلبة والطالبات. ثامناً: مراعاة أوقات الصلوات أثناء وضع الجدول الدراسي، والسماح للطلاب والطالبات بأداء الصلاة مع أساتذتهم. هذه بعض الحلول العملية التي أسأل الله أن تجد قلوباً وآذاناً عند أساتذتنا الأجلاء الفضلاء من القائمين على أمر التربية والتعليم في المدارس والكليات والجامعات، فإن المشكلة ليست لفئة دون فئة، بل إن الخطر ورب الكعبة يهدد الجميع.

    عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها

    وأخيراً: من الأسباب الخطيرة أيضاً: عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها الذي يجب أن تقوم به، والعلاج يكمن في أن تهتم وزارة الأوقاف والأزهر بهذا الأمر الخطير، وأن تكون الدعوة تدور حول مشاكل الشاب، وعلى مستوى فكر الشباب، ولا ينبغي في ظل هذه الظروف الحرجة أن نفصل بين الدعاة الرسميين والدعاة غير الرسميين ممن فتح الله عز وجل عليهم، وجعل لهم قبولاً بين المسلمين والمسلمات، وبين الشبان والفتيات، بل يجب الآن على كل من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الشرعي الهادئ الهادف الصحيح أن يتحرك لدين الله تبارك وتعالى. أحبتي في الله! وأحب بعد هذه الأسباب والعلاج أن أذكر شبابنا وبناتنا وأخواتنا بهذه الكلمات: قلنا أأنـت تباهي بالـزنا فـرحـاً أأنت تعبث بالأعـراض تـياها فقال بل ذاك شـرع صار مـتبعـاً كـم تاه غيري قـبلي وكم باها فقلنا: ألـست تخـاف الله منتقـماً فقـال في كبـر: لا أعـرف الله ويح الشباب إذا الشيطـان نـازعهم علـى الـقول فأوهاهـا وألغاها قد علمتهـم أفـانين الخـنا وسـائل غشى بصـائرها زيغ وأعمـاهـا ومطربة ومطـرب في المـذياع لقنهم ألـحان فـحش وزكـاها وغناها ووالد غافـل لاهٍ ومدرس نظامـهـا مـن نـظام الديـن أقصـاهـا لـو أن لـي قـوة في أمـتي ويـداً ألزمت حـواء مـثواها ومـأواها البيت كـان لـها ملـكاً تـعز بـه وفيه كانت ترى السلطان والجـاها فقوضت بـيديها عـرشها وغـدت رعية وذئـاب الأرض ترعـاهـا هـذي الحـضارة دين لا أديـن به إني كفرت بـمبناها ومعنـاهـا

    1.   

    هل من توبة؟

    وأخيراً: فهل من توبة؟! أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إنني أعلم أن من سقط في هذا المستنقع الآثم ينقسمون إلى فريقين من الناس: الأول: من وقع في هذا الحرام جهلاً بأنه يزني ويأتي الفاحشة، وقد غرر بهم الشيطان وأغواهم وأعمى بصائرهم، وخيل لهم أنهم متزوجون في الحلال، وأن ما هم فيه ضرورة للبعد عن الزنا، وهم في مستنقع الزنا ذاته، وهذا الجهل لا يعفيهم من المسئولية العظيمة، ولا يرفع عنهم الإثم الخطير، فالطريق إلى النار يفرش أحياناً بالنوايا الطيبة، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً: أن هؤلاء مهما ظنوا أنهم لم يخالفوا الشرع فإن في داخلهم هاجساً دائماً وشعوراً بالذنب، وخوفاً من أن يكونوا قد وقعوا في الحرام، وإلا فلماذا استتروا، وبالغوا في التخفي والسرية والكتمان؟ فالحلال لا حاجة فيه إلى السراديب تحت الأرض، والحق دائماً لا يخشى الظهور في النور. أما الفريق الثاني: وهو الأكثر عدداً، فهو يعلم جيداً أنه يتلاعب بالأعراض، وينتهك الحرمات، ويخادع وينافق ويتمسح بالدين للوصول إلى غرضه الدنيء الحقير، وهؤلاء يتجرءون على الدين، ويستهزئون بالشرع، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ويزدادون إصراراً على التنقل في أوحال الرذيلة والعار؛ لأن أحكام الله معطلة، وحدوده مهملة، والمسلمين في غفلة، ومع ذلك فإلى هؤلاء وهؤلاء أقول: فهل من توبة؟! هيا أيها الشاب! وهيا أيتها الفتاة! يا من وقعت في هذه الرذيلة، ويا من وقعتي في هذا المستنقع! توبوا إلى الله عز وجل، أقلعوا عن هذا الذنب، واندموا على ما مضى، وتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى أن يغفر ما قد سلف، واعلموا يقيناً بأن الله جل وعلا يفرح بالتائب حين يتوب إليه، وهو الغني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى الذي يفتح باب التوبة لعباده، يقول سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. وينادي سبحانه وتعالى أهل الإيمان بالتوبة وتجديدها، فإن الإنسان لا ينفك عن معصية صغيرة أو كبيرة، ومن ثم فالله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، ويقول سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وما من يوم -أيها المسلمون! وأيها الشباب! وأيتها الفتيات!- إلا ورب العزة جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله، ويقول سبحانه: (أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى -في الحديث القدسي-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).

    رحمة الله بعباده

    وأختم هذا اللقاء بهذا الحديث الجليل الكريم الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فأثر هذا المشهد الرقراق الحاني في قلب النبي الكريم، فسأل النبي أصحابه فقال: (هل ترون أن هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). فهيا أيها الشباب! وهيا أيتها الفتيات! إلى التوبة.. إلى رب الأرض والسموات. وا أسفاه إن دعيت اليوم إلى التوبة وما أجبت.. وا حسرتاه إن ذكرت الآن بالله وما أنبت. ماذا ستقول لربك غداً؟! وماذا ستقولين لربك غداً؟! تذكر أيها الشاب.. وتذكري أيتها الفتاة.. تذكروا أيها المسلمون: تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستـوحشاً قـلق الأحـشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق علـى العصاة ورب العرش غـضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مـهـل فهل ترى فيه حرف غـير ما كـانا فلما قـرأت ولم تنـكر قـراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا مـلائـكتي وامضوا بعبـد عـصى للنار عطشانا المشركـون غـداً في النار يلتهبوا والمؤمنـون بـدار الخـلد سـكانا عد إلى الله، وتذكر أنك ميت، لا تغتر بشبابك، ولا تغتر بصحتك، ولا تغتر بقوتك، فالموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، ولا شاباً ولا شيخاً، ولا رجلاً ولا امرأة. وأنت أيتها الفتاة! لا تغتري بشبابك ولا بجمالك ولا بصحتك، ولا بخديعتك لأسرتك ولا للمجتمع، فستقفين يوماً بين يدي الله جل وعلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. أيها المسلم! أيتها المسلمة! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكـان حـين نـسـيته بل أثبتاه وأنت لاه تلـعـب والروح منك وديعـة أودعتـهـا ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك الـتي تسـعى لهـا دار حقيقتها متـاع يذهـب الليل فـاعلم والـنهار كلاهـما أنفاسنا فيهـما تعـد وتحسب وصدق ربي جل وعلا إذ يقول: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:26-40]. أسأل الله أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً. رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]. اللهم استر نساءنا وبناتنا، واحفظ شبابنا وردهم إلى الحق رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين. أحبتي في الله! هذه صرخة ونصيحة من أخ يحبكم في الله، أسأل الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها المسلمين والمسلمات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768432709