فحديثنا عن فقه التخاطب مع الناس، فكما أن للصلاة فقهاً، وكما أن للزكاة فقهاً، وكما أن للحج فقهاً، وكما أن لسائر العبادات فقهاً؛ فكذلك للتخاطب مع الناس وللحديث معهم فقه، بث في كتاب الله وبث في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكثرة الكلام منافية للهيبة، ومذهبة للوقار، ومذهبة للبهاء، وموقعة في الزلل، وموقعة في الخطأ، ومدعاة لكثرة الحساب ولطول الحساب يوم القيامة، ثم هي أيضاً تجعل الناس يملُّون حديثك، ولذلك لما كان عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يتخوّل أصحابه بالموعظة كل خميس، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن ! لو حدثتنا كل يوم، قال: (إني أكره أن أملّكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ كراهية السآمة علينا). أي: كراهية أن يتسرب إلينا الملل.
ويتأكد الإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فامتنع عنه بالكلية، ولذلك قال هؤلاء الفتية النجباء العقلاء الأذكياء أصحاب الكهف -لما استيقظوا من منامهم-: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]أي: قال بعضهم: لبثنا يوماً، وقال آخر: لبثنا نصف يوم، أو ثلث يوم، فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19]وانقطع حينئذ الجدال، واتجهوا حينئذٍ إلى العمل، فقالوا: َابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، وفي نفس السورة قال الله سبحانه وتعالى موضحاً هذا الأدب من وجه آخر: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22]، ولما أقبلت مريم عليها السلام تحمل وليدها بين يديها، وعلمت يقيناً أن قومها لن يصدقوها إذا قالت لهم: أتاني الملك فنفخ فيّ من روحه، فلم يصدقها القوم حينئذ، ولذلك أمرت بالسكوت وأمرت بالصمت؛ إذ ليس للكلام فائدة قال الله لها: َإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي: صمتاً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]، وكذلك عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته في حديث الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، قالت: والله! قد رميتموني بأمر الله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني لبريئة لم تصدقوني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]).
الوجه الأول: أنهم إذا شُتِموا، أو سُبوا، أو لُعِنوا من أحد قابلوا ذلك بعفوٍ وبصفح وبإحسان، بل وبدعاء لمن ظلمهم ولمن أساء إليهم.
الوجه الثاني في قوله تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] أي: يتبعون السيئة الحسنة كما في قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وكما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فلزاماً عليك إذا تخاطبت مع الناس أن تتكلم بالكلمة الطيبة وبالكلام الجميل الحسن، فإن الكلمة الطيبة شعار للمتكلم بها، فالطيبون تصدر منهم الكلمات الطيبة، والخبثاء والشريرون تصدر منهم الكلمات الخبيثة، وتصدر منهم الكلمات الشريرة، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]وعلى رأي أكثر المفسرين أن المراد بها: الكلمات والعبارات الخبيثة تصدر من الخبيثين، وقوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]المراد بها: أن الصالح يحرص على الزواج بالصالحة والعكس بالعكس، وهذا أيضاً وجه للمفسرين.
فالكلمة الطيبة شعار لقائلها، وعلامة على طيب قائلها، وعلى حسن خلق قائلها، والكلمة الخبيثة عكس ذلك، ثم الكلمة الطيبة تصعد إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء قال الله سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، أما الكلمات الخبيثة فقد اجتثت من فوق الأرض كالشجرة الخبيثة مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، ثم إن الكلمة الطيبة صدقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الطيبة صدقة) ، ثم أيضاً الكلمة الطيبة تتقى بها النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، فبالكلمات الطيبة تذهب الشحناء وتزال من القلوب، وبالكلمات الطيبة تحل المشاكل بين العباد، وترفع الخصومات التي بينهم، وبالكلمات الطيبة تثبت المودة والمحبة في القلوب.
فكم من مشكلة حلت بسبب كلمة طيبة! وكم من جريمة دفعت بسبب كلمة طيبة! وكم من صلات قد قويت بين الأرحام بسبب كلمات طيبة.
وعلى العكس فكم من جريمة قد ارتكبت بسبب وشاية وبسبب كلمة خبيثة! وكم من نيران قد سعرت بسبب الوشايات من النمامين! وكلمات النمامين الخبيثة! بل حروب بين دول قد وقعت بسبب كلمات خبيثة وكلمات شريرة!
جاءت غنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيها سيفاً، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه. ثم غلبت
** .
وها هو كذلك عروة بن مسعود الثقفي يقول للقرشيين المشركين -أثناء صلح الحديبية يحثهم على الإقبال على رسول الله وهو مشرك معهم-: ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: ألستُ بالوالد -أي: بمثابة الوالد لكم-؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ وأهل كذا وكذا كي يقاتلوا معكم ضد محمد صلى الله عليه وسلم، فلما امتنعوا مني جئتكم بأهلي وولدي كي نقاتل معكم؟ قالوا: بلى نعلم ذلك، قال: فهل تشكون فيّ، قالوا: لا، قال: فإني أعرض عليكم خطة رشد، إن هذا الرجل أتاكم بخطة -يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم- فيها خير لكم، فدعوني حتى آتيه، فمثل هذه المقدمات قدم عروة بن مسعود حديثه مع المشركين حتى يقنعهم بمقالته، وهذا أسلوب مسلوك متبع في كتاب الله، قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84-85]، فأحياناً يتقدم الخطاب بسؤال للفت نظر المخاطب، ولهذا سأل الرسول أصحابه جملة من الأسئلة؛ لتنبيههم على الإجابات التي تأتي بعد هذه الأسئلة حيث قال: (أتدرون أي يوم هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (يوم النحر، (أتدرون من الرقوب فيكم؟) قالوا: الرقوب من لا ولد له يا رسول الله! قال: (لا، ولكن الرقوب من لم يقدم شيئاً من الولد)، فأحياناً يتقدم الكلام بتقديمات على حسب ما يقتضيه المقام، إن جئت تعاتب شخصاً فلا بأس أن تثني عليه وتمدحه بالحق بين يدي العتاب؛ وذلك لأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، فتقول للشخص أنت: سامحك الله لم فعلت كذا؟! أنت شاب نبيه وذكي من الأذكياء، فلم صنعت هذا الذي لا يليق بك ولا يليق بمستواك العقلي؟! فالانتقاد وإن كان شديداً منك، لكنه قدم بهذه الكلمات: نعهدك ذكياً، نعهدك تفهم دائماً فلم صنعت كذا؟! فيحاول المخاطب أن يرجع إلى أصله من الذكاء والنباهة فيعتذر عن الخطأ الذي صدر منه؛ كراهية أن ينفر منك، فلمّا خاطبته بهذا الخطاب الجميل أقر واعترف بخطئه، فلذلك يتقدم العتاب أحياناً بمثل هذه الكلمات: (عفا الله عنك) تثني عليهم، ثم بعد ذلك تدخل مع الثناء العتاب ضمناً، وهذا كما أسلفنا مذهب سُلِكَ، فأنت إذا جئت تكلف شخصاً بشيء ثقيل فانتظر حتى يأتي معه شيء من الأشياء الخفيفة على القلب والنفس، فأدخل هذه مع تلك، ونحو ذلك قال عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أخرج للناس بالمرة، أي: بالتكليف المر، أو بالكلمة المرة، فأنتظر حتى تأتي الحلوة، فأدخل المرة معها، فلذلك ينبغي أن تفهم هذا وأن تتجه إليه.
قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:74-75]ثم قال الله له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [هود:76]بعد قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ جاء بعد أن أثنى على إبراهيم بأنه الحليم الأواه المنيب، فقال الله له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا .، وضمّن أيضاً خطابك وانتقادك دفاعاً عن المنتقد ودفاعاً عن المخاطب، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم في شأن داود وسليمان عليهما السلام: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:78-79]فحتى لا يُتّهم داود بقلة الفهم من أقوام جاهلين، قال تعالى بعد قوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] : وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، ثم ذكر منته على داود بقوله: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:79]، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في شأن يعقوب عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا [يوسف:67-68]، ثم أثنى الله على يعقوب حتى لا يظن أحد ظن السوء بيعقوب صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى مثنياً عليه: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68] .
وانظر أيضاً إلى سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم، ومع من ظلمهم، واستفد من كتاب الله هذه الأخلاق الحميدة.
يوسف صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي اتهم من قبل امرأة العزيز، وقبل ذلك أُلقي في غيابة الجب إلى غير ذلك، وابيضت عينا أبيه من الحزن فهو كظيم لفقده، ويأتيه إخوته بعد ذلك فيقول لهم مقالة منبهة مذكرة: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ [يوسف:89-90]بتواضع وخضوع، ولم يقل: أنا العزيز يوسف، أو أنا الملك يوسف، أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، فقالوا حينئذ: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [يوسف:92]، (لا تثريب) أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، ويوفي بما عاهدهم عليه، فلما دخل عليه أبواه وإخوانه مصر قادمين من بلادهم قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100]ولم يقل: إذ أخرجني من غيابة الجب؛ حتى لا يُذَكِّرَ إخوانه بالذنب الذي صدر منهم، فقد وعدهم أنه لن يوبخهم ولم يؤنبهم، فلذلك قال: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100]، ثم حمّل الشيطان التهمة كلها بقوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].
فكما أسلفنا ينظر إلى أدب الطلب في قول موسى صلى الله عليه وسلم للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، ورد الخضر معتذراً لموسى أيضاً عليهما السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، ثم يلتمس له العذر، فيقول له: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى: (يا موسى! إنك على علم من الله علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني الله إياه لا تعلمه)، فهذا فيه التماس للعذر لموسى صلى الله عليه وسلم في عدم قدرته على التحمل في قول الخضر له: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]
فانظر إلى كتاب الله! وانظر إلى أساليب الخطاب التي سلكها الأنبياء مع الناس واقتبس منها! انظر إلى مقولة موسى لفرعون، وكيف اشتدّ موسى أيضاً مع فرعون مع أنه أمر في أول الأمر أن يقول لفرعون قولاً ليناً؛ لعله يتذكر أو يخشى، ولكن لما أبى فرعون هذا القول اللين، استعمل موسى طريقة أخرى في الخطاب يقتضيها المقام، فقال له فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24]، قال فرعون لمن حوله: أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:25-28]، قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) يقابل الجنون الذي اتهم به موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يكافئه، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون لما قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:101-102] أي: هالكاً، فكانت كلمات الشدة أحياناً تخرج على حسب ما يقتضيه المقام.
فمثلاً: رجل ضُرِبَ وجيء بك لتحقق، فإذا قلت: أين المضروب؟! وأين الضارب؟! نال منك المضروب مزيد من الإهانة بكلمتك: (أين المضروب) لكن إذا قلت: أين صاحب الحق؟! فحينئذ ترجع للمضروب شيئاً مما فقد منه، والمؤدى واحد.
روي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بقوم في بيتهم نار، فلم ينادي: يا أصحاب النار! وإنما نادى: يا أهل الضوء! فالمؤدى واحد، ولكن الرفق والتفاؤل مطلوب، والكلمات التي تشعر بإزعاج يجب اجتنابها، ففرق بين أن تقول: يا أهل النور! أو يا أصحاب الضوء! وبين قولك الآخر: يا أصحاب النار! أو يا أهل النار! مع أن المؤدى من هذا ومن ذاك واحد.
مثلاً: رجل متزوج بزوجة على زوجة فلا يستعمل لفظ: الزوجة القديمة والزوجة الجديدة، ولكن له أن يقول: الأولى أو الثانية، أو أم فلان وأم فلان والمؤدى واحد.
فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، فمن الذي هداهم؟
الذي هداهم يقيناً وقطعاً هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وأيضاً عليك أن تراعي مناسبات الحديث، فلكل مقام مقال كما قال الناس، بل وكما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسالك، فقد تجد من يذهبون إلى عرس ويذكرون الناس بالموت، ويستدل بعضهم بحديث (أكثر من ذكر هاذم اللذات) والحديث صحيح، لكن المناسبة لا تقتضيه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لعائشة - لما قدمت من عرس- يا عائشة! : (ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو)، فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك.
علي رضي الله عنه يقول: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني)لأن سؤال المحارم عما يتعلق بالجماع يؤذي المحارم، ويخدش حياء المحارم، أنت متزوج بفتاة، فكونك تتحدث في الجماع أمام أخيها أو أمام أبيها، أو أمام أقاربها، هذا يخدش -بلا شك- حياء الأخ، ويخدش حياء الأب، ولذلك قال علي : (كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني، فأمرت
وهذه الضرورات تقدر بقدرها وبحسبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فللكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه، إذا أردت أن تتكلم فاستأذنه بأسلوب مؤدب وبأسلوب مهذب، كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون.
جاءه اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! -والرسول يعرف قولهم جيداً، فهم يعنون: الموت لك-، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة -وشق عليها ما ذكروه لرسول الله- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا
تذهب إلى آخر وتقول: يا ابن العلماء! أبوك كان عالماً، وجدك كان فقيهاً، وأخوك كان قارئاً لكتاب الله، فأقبل على العلم، فحينئذٍ يقبل إحياء لمجد آبائه، وإحياء لمجد أعمامه وإخوانه.
تذهب إلى ثالث فتقول: يا ابن المحسنين! تصدق، أبوك أنشأ مسجداً، وعمك أنشأ مدرسةً، وخالك أنشأ مستشفى، فأقبل وتصدق إن الله يجزي المتصدقين، فيقبل حينئذٍ ويتصدق.
وشتان ما بين مثل هذا القول، وآخر مسموم محموم يقول: يا ابن الجهلاء! ويا ابن الأغبياء! ويا ابن البخلاء! فماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن البخلاء! من صدقة؟! ماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن الأغبياء! أقبل وتعلم؟! أكيد أنه سينفر عنك وسيفر منك، فعليك حينئذ أن تهيّج مشاعر الناس لفعل الخير، وأن تذكرهم دائماً بفعل الخير.
وعليك كذلك أن تستعمل عبارات تلفت أنظار الناس إليك، إذا كان ثَمّ أمر تريد بثه في عموم الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـجرير بن عبد الله في حجة الوداع: (يا
لك أن تذكر الناس أيضاً مع رفع الصوت وتضمِّن المسألة شيئين: رفع الصوت، مع التذكير بالخير، كما قال العباس للأنصار يوم حنين: يا أصحاب سورة البقرة! بأعلى صوته، يا من بايعتم تحت الشجرة! . فيذكرهم بالمناقب التي لهم خاصة، فسورة البقرة نزلت على رسول الله في المدينة، فاختص بها الأنصار، واختصوا بالبيعة أيضاً مع غيرهم، أي: كان لأغلبهم فضل في البيعة تحت الشجرة، فخاطبهم العباس بذلك: يا أصحاب رسول الله! يا أصحاب سورة البقرة! يا من بايعتم تحت الشجرة!. بصوت مرتفع غاية الارتفاع، وقد كان العباس مشهوراً بالصوت المرتفع، حتى قالوا: لقد زجر أبو عروة الأسد بصوته المرتفع رضي الله تعالى عنه.
لك أن ترفع الصوت أحياناً، وإن كان الأصل هو التوسط في الصوت، لا ترفع الصوت ولا تخفض إلا إذا دعت الضرورات لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات، ورأى الناس يتوضئون ولا يحسنون الوضوء، فيتركون الأعقاب بلا غسل، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار).
هذا شيء مما يتعلق بأدب الخطاب الوارد من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يهدينا إلى الطيب من القول، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وصلْى اللهُ وَسَلَّمَ وَباَرَكَ على نَبِينا محمد وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإجابة: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس جلسة استراحة في خطبة العيد، إنما هي خطبة واحدة على الصحيح، والذين قالوا بأن هناك جلسة استراحة قاسوها على خطبة الجمعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإجابة: نعم تجوز؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)، ولما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من الليل، فنظر إلى السماء وقرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، أي: أنه قرأ العشر الآيات قبل أن يتوضأ صلوات الله وسلامه عليه.
الإجابة: في إسناده ضعف.
الإجابة: لا يجوز لك ذلك، إنما إذا أردت أن تقسم التركة قسمت على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وتحفظها، ولا تمكن أحداً منها إلا بعد الوفاة كل يتسلم نصيبه؛ خشية أن يجور أحد على أحد، فلك أن تكتبها وتحفظها مع رجل من الصالحين، فإذا توفاك الله، فكل يأخذ قسمه الذي قسمه الله تبارك وتعالى له، هذا محله إذا خشيت أن يضيع على الصغار حقهم من هؤلاء الجائرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر