إسلام ويب

لقد علمنا ديننا الإسلامي الحنيف كيف نتخاطب مع بعضنا البعض، وكذلك مع الأعداء، وبين لنا ما الذي يجوز من القول وما الذي لا يجوز، فأمرنا بحسن الكلام، ونهانا عن البذاءة والفحش واللغو والرفث، وما ذاك إلا لنسد على الشيطان الرجيم الأبواب التي يدخل منها ليفسد ذات البين، وينزغ بين المسلمين.

فقه التخاطب مع الناس

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فحديثنا عن فقه التخاطب مع الناس، فكما أن للصلاة فقهاً، وكما أن للزكاة فقهاً، وكما أن للحج فقهاً، وكما أن لسائر العبادات فقهاً؛ فكذلك للتخاطب مع الناس وللحديث معهم فقه، بث في كتاب الله وبث في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

مراقبة الله في الأقوال

وابتداء ينبغي أن يعلم العبد أن ألفاظه وكلماته مسجلة عليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول سبحانه: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، ويقول سبحانه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، ويقوله سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فأفادت هذه النصوص كما أفاد غيرها كذلك: أن كلمات العبد تسجل عليه، وقال فريق كبير من أهل العلم: حتى المزاح، وحتى اللهو، وحتى قول الرجل لجاريته: ناوليني الطعام، أو هذا الطعام ناقص الملح، أو زائد السكر، فكل ذلك يسجل على العبد، فإذا كانت الكلمات تسجل على العبد، فجدير بالعبد أن يقلل الكلمات قدر الاستطاعة، وعلى هذا حثنا ربنا سبحانه في كتابه، قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الإيمان: والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وقال سبحانه كذلك في شأنهم: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقال سبحانه كذلك: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وكذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وتقدم مراراً قول الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا استوى عندك الوجهان في الكلام، ولم تدر هل في الكلام خير أو ليس فيه خير، لزمك الإمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من صمت نجا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (إن الله كره لكم قيل وقال)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وإن من أبغضكم إليّ الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)، قال الترمذي رحمه الله تعالى: والثرثار: هو كثير الكلام، ولذلك كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كلاماً لو عدّه العادُّ لأحصاه)، وقالت: (لم يكن صلوات الله وتسليماته عليه يسرد الحديث كسردكم، إنما يتكلم كلمات لو عده العادُّ لأحصاه). هكذا تصف أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكثرة الكلام منافية للهيبة، ومذهبة للوقار، ومذهبة للبهاء، وموقعة في الزلل، وموقعة في الخطأ، ومدعاة لكثرة الحساب ولطول الحساب يوم القيامة، ثم هي أيضاً تجعل الناس يملُّون حديثك، ولذلك لما كان عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يتخوّل أصحابه بالموعظة كل خميس، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن ! لو حدثتنا كل يوم، قال: (إني أكره أن أملّكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ كراهية السآمة علينا). أي: كراهية أن يتسرب إلينا الملل.

ويتأكد الإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فامتنع عنه بالكلية، ولذلك قال هؤلاء الفتية النجباء العقلاء الأذكياء أصحاب الكهف -لما استيقظوا من منامهم-: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]أي: قال بعضهم: لبثنا يوماً، وقال آخر: لبثنا نصف يوم، أو ثلث يوم، فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19]وانقطع حينئذ الجدال، واتجهوا حينئذٍ إلى العمل، فقالوا: َابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، وفي نفس السورة قال الله سبحانه وتعالى موضحاً هذا الأدب من وجه آخر: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22]، ولما أقبلت مريم عليها السلام تحمل وليدها بين يديها، وعلمت يقيناً أن قومها لن يصدقوها إذا قالت لهم: أتاني الملك فنفخ فيّ من روحه، فلم يصدقها القوم حينئذ، ولذلك أمرت بالسكوت وأمرت بالصمت؛ إذ ليس للكلام فائدة قال الله لها: َإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي: صمتاً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]، وكذلك عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته في حديث الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، قالت: والله! قد رميتموني بأمر الله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني لبريئة لم تصدقوني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]).

ضرورة الإمساك عن الكلام إلا الكلام الحسن

فإذا لم يكن في الكلام فائدة فأمسك عن الكلام فهو خير لك، واحفظ ماء وجهك أمام الناس، وإذا كان لزاماً أن تتكلم وأن تتخاطب مع الناس فلا يسعك حينئذ إلا الامتثال لأمر الله، ألا وهو: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وقوله: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]وقوله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، وقال سبحانه كذلك: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وقال تعالى في شأن أهل الإيمان أولي الألباب: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22]، وفيها وجهان لأهل العلم:

الوجه الأول: أنهم إذا شُتِموا، أو سُبوا، أو لُعِنوا من أحد قابلوا ذلك بعفوٍ وبصفح وبإحسان، بل وبدعاء لمن ظلمهم ولمن أساء إليهم.

الوجه الثاني في قوله تعالى: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] أي: يتبعون السيئة الحسنة كما في قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وكما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فلزاماً عليك إذا تخاطبت مع الناس أن تتكلم بالكلمة الطيبة وبالكلام الجميل الحسن، فإن الكلمة الطيبة شعار للمتكلم بها، فالطيبون تصدر منهم الكلمات الطيبة، والخبثاء والشريرون تصدر منهم الكلمات الخبيثة، وتصدر منهم الكلمات الشريرة، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]وعلى رأي أكثر المفسرين أن المراد بها: الكلمات والعبارات الخبيثة تصدر من الخبيثين، وقوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]المراد بها: أن الصالح يحرص على الزواج بالصالحة والعكس بالعكس، وهذا أيضاً وجه للمفسرين.

فالكلمة الطيبة شعار لقائلها، وعلامة على طيب قائلها، وعلى حسن خلق قائلها، والكلمة الخبيثة عكس ذلك، ثم الكلمة الطيبة تصعد إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء قال الله سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، أما الكلمات الخبيثة فقد اجتثت من فوق الأرض كالشجرة الخبيثة مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، ثم إن الكلمة الطيبة صدقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الطيبة صدقة) ، ثم أيضاً الكلمة الطيبة تتقى بها النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، فبالكلمات الطيبة تذهب الشحناء وتزال من القلوب، وبالكلمات الطيبة تحل المشاكل بين العباد، وترفع الخصومات التي بينهم، وبالكلمات الطيبة تثبت المودة والمحبة في القلوب.

فكم من مشكلة حلت بسبب كلمة طيبة! وكم من جريمة دفعت بسبب كلمة طيبة! وكم من صلات قد قويت بين الأرحام بسبب كلمات طيبة.

وعلى العكس فكم من جريمة قد ارتكبت بسبب وشاية وبسبب كلمة خبيثة! وكم من نيران قد سعرت بسبب الوشايات من النمامين! وكلمات النمامين الخبيثة! بل حروب بين دول قد وقعت بسبب كلمات خبيثة وكلمات شريرة!

جواز استخدام الكلمات الشديدة عند الحاجة

فلا يسعك حينئذ إذا أردت الكلام إلا أن تتكلم بالكلم الطيب، الذي به يرضى الله سبحانه وتعالى عنك، ولكن أحياناً يحتاج الأمر إلى شدة في الألفاظ، وأنت حين تشتدّ ينبغي أن تكون كالطبيب المعالج، فالطبيب الذي يعطي للمريض الإبرة يعلم تمام العلم أن الإبرة تؤلمه وتوجعه، والطبيب الذي يقضي ببتر ساق المريض يعلم أن بتر الساق يؤلم؛ ولكنه لدفع شر أعظم، واتجهوا إلى هذا العلاج إذا لم يكن ثَمّ وسائل أخر تقوم مقامه، ثم يقلع عن هذا النوع من الدواء إذا ارتفع المرض، وكذلك الكلمات، الأصل استعمال الكلم الطيب؛ لقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ولقوله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، فهذا الأصل في التعاملات مع الناس وفي التخاطبات معهم، لكن إذا احتاج الأمر منك إلى لفظ لاذع وشديد فبحسبه، يستعمل اللفظ اللاذع والشديد ثم يقلع عنه إذا ارتفع الداء، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، فقال: (من تعزى بعزاء الجاهلية فعضوه بهن أبيه)، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعروة بن مسعود الثقفي : اذهب فامصص بظر اللات. إذاً: يجوز استعمال كلمات شديدة في هذا الباب، على ألا تكون ديدناً متبعاً في كل الأحيان، بل عند وجود المرض فقط، إذا كان الذي أمامك لا ينزجر إلا بكلمة شديدة فاشتدّ حينئذ حتى ينزجر ثم ارجع إلى مقامك الأول من حسن الخلق وطيب الكلام.

جاءت غنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيها سيفاً، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه. ثم غلبت سعداً نفسُه، فقال: نفلنيه يا رسول الله! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ضعه. ثم غلبته نفسه كذلك، فقال: نفلنيه يا رسول الله! قال: فحد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، فقال: ضعه من حيث أخذته)، واشتدّ الرسول في اللفظ، وهكذا سلك الخضر مع موسى عليهما السلام لما قال موسى له -وكان قد أخذ عليه العهد ألا يسأله عن شيء إذا أراد اتباعه-: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:71-72] ثم لما رجع موسى إلى السؤال مرة ثانية، قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]فاشتدد له الخضر في الكلام، فاستعمل كلمة زائدة عن الكلام الأول قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75]، فأدخل كلمة (لك) التي تفيد الشدة في اللفظ، فينتقل الأسلوب ويتغير على حسب حال من هو أمامك، إذا احتاج إلى شدة استعملت معه، وإلا رجعنا إلى أصلنا من الكلم الطيب والحديث الحسن العذب.

ضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم

وينبغي أن تخاطب الناس على قدر أفهامهم، وعلى قدر عقولهم، أما إذا خاطبتهم بطريقة واحدة تخاطب عالمهم وجاهلهم بأسلوب واحد، وتحرص على ألا ينزل خطابك عن درجة معينة؛ فأنت حينئذٍ لست بمسدد ولست بموفق، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما أنت بمحدث الناس حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة : (بأن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وخرج أبو هريرة ليخبر بذلك الناس، فكان أول من لقيه عمر ، فأخبر عمر بذلك، فضربه عمر ضربة أسقطته على استه على الأرض، فرجع أبو هريرة مذعوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص عليه نبأ ما دار بينه وبين عمر ، ودخل عمر في إثره، فقال: يا رسول الله! إذن يتكلوا ويتركوا العمل يا رسول الله! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً: فلا تخبرهم يا أبا هريرة !)، ونحو ذلك حديث معاذ بن جبل حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبشرهم فيتكلوا)، ولكن معاذاً أخبر بها عند موته تأثماً، أي: خشية الوقوع في الإثم.

** .

ضرورة التواضع والطلاقة عند مخاطبة الناس

وعليك عند خطابك للناس أن تكون متواضعاً مقبلاً عليهم بوجه طلق، لا تكلمهم وأنت مصعر الخد لهم، فقد قال لقمان لولده: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، ووصف الله صنفاً من أهل النار بقوله: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج:9]فثناء العطف والإعراض بالوجه أثناء الحديث، كل ذلك ينافي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقبل عليهم بوجه طلق أثناء الحديث معهم؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) وليشعر منك أخوك بالتواضع أثناء الحديث، فهذه رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة من الملوك : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]لم يسطرها: من الملك الأعظم ملك الإنس والجن والطير، لم يسطرها بالملك الذي يفهم لغة الطير وسخرت له الرياح، ولكن قال مقالة رجل متواضع يشعر بعبوديته لله سبحانه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ [النمل:30]، وجرد كل المقدمات ليس من الدكتور سليمان، ولا من الملك سليمان، ولا من المهندس سليمان، ولا من الأستاذ ولا من الوزير، إنما بيسر وسهولة: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]، ونحو ذلك صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم)، وفي أثناء الرسالة ما يشعر بالعبودية إذ فيها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وكذلك قول عموم الرسل لأقوامهم: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم:11]فهكذا عليك أن تشعر من أمامك بالتواضع له أثناء الحديث، وبخفض الجناح له أثناء الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن تواضع لله سبحانه أعزه الله سبحانه وتعالى.

الإتيان بمقدمات واعتذارات بين يدي التخاطب مع الناس عند الحاجة

ولتقدم بين يدي حديثك وخطابك مع الناس مقدمات إذا احتاج الأمر إلى مقدمات، فالمواضيع ذات الأهمية الكبرى تحتاج أحياناً إلى مقدمات وإلى استهلالات وإلى استفتاحات تتقدم بها بين يدي حديثك، وبين يدي خطابك، والمقدمات تتنوع بحسب المواقف، قد تتقدم الأسئلة، والكلمات باعتذارات بين يدي السؤال، كما قالت أم سليم تقدمة بين يدي سؤالها المحرج أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن الله لا يَسْتَحْيِي من الحق -فهكذا قدمت هذه المقدمة- فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم إذا رأت الماء)، وقدمت أيضاً أم سليم رضي الله تعالى عنها مقدمة حسنة بين يدي إخبار زوجها بوفاة ولده، فقالت: يا أبا طلحة ! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية، ثم جاءوا يطلبونهم عاريتهم فمنعوهم فما رأيك في هؤلاء القوم الذين منعوا العارية أن يردوها؟ قال: ما كان ينبغي لهم أن يجحدوا العارية، وما كان ينبغي لهم أن يتبرموا إذا طلبت منهم العارية، قالت: فإن الله سبحانه قد أعارك ولدك ثم قبضه إليه، فانظر كيف أتت بهذه المقدمات الحسان رضي الله تعالى عنها بين يدي حديثها.

وها هو كذلك عروة بن مسعود الثقفي يقول للقرشيين المشركين -أثناء صلح الحديبية يحثهم على الإقبال على رسول الله وهو مشرك معهم-: ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: ألستُ بالوالد -أي: بمثابة الوالد لكم-؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ وأهل كذا وكذا كي يقاتلوا معكم ضد محمد صلى الله عليه وسلم، فلما امتنعوا مني جئتكم بأهلي وولدي كي نقاتل معكم؟ قالوا: بلى نعلم ذلك، قال: فهل تشكون فيّ، قالوا: لا، قال: فإني أعرض عليكم خطة رشد، إن هذا الرجل أتاكم بخطة -يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم- فيها خير لكم، فدعوني حتى آتيه، فمثل هذه المقدمات قدم عروة بن مسعود حديثه مع المشركين حتى يقنعهم بمقالته، وهذا أسلوب مسلوك متبع في كتاب الله، قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84-85]، فأحياناً يتقدم الخطاب بسؤال للفت نظر المخاطب، ولهذا سأل الرسول أصحابه جملة من الأسئلة؛ لتنبيههم على الإجابات التي تأتي بعد هذه الأسئلة حيث قال: (أتدرون أي يوم هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (يوم النحر، (أتدرون من الرقوب فيكم؟) قالوا: الرقوب من لا ولد له يا رسول الله! قال: (لا، ولكن الرقوب من لم يقدم شيئاً من الولد)، فأحياناً يتقدم الكلام بتقديمات على حسب ما يقتضيه المقام، إن جئت تعاتب شخصاً فلا بأس أن تثني عليه وتمدحه بالحق بين يدي العتاب؛ وذلك لأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، فتقول للشخص أنت: سامحك الله لم فعلت كذا؟! أنت شاب نبيه وذكي من الأذكياء، فلم صنعت هذا الذي لا يليق بك ولا يليق بمستواك العقلي؟! فالانتقاد وإن كان شديداً منك، لكنه قدم بهذه الكلمات: نعهدك ذكياً، نعهدك تفهم دائماً فلم صنعت كذا؟! فيحاول المخاطب أن يرجع إلى أصله من الذكاء والنباهة فيعتذر عن الخطأ الذي صدر منه؛ كراهية أن ينفر منك، فلمّا خاطبته بهذا الخطاب الجميل أقر واعترف بخطئه، فلذلك يتقدم العتاب أحياناً بمثل هذه الكلمات: (عفا الله عنك) تثني عليهم، ثم بعد ذلك تدخل مع الثناء العتاب ضمناً، وهذا كما أسلفنا مذهب سُلِكَ، فأنت إذا جئت تكلف شخصاً بشيء ثقيل فانتظر حتى يأتي معه شيء من الأشياء الخفيفة على القلب والنفس، فأدخل هذه مع تلك، ونحو ذلك قال عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أخرج للناس بالمرة، أي: بالتكليف المر، أو بالكلمة المرة، فأنتظر حتى تأتي الحلوة، فأدخل المرة معها، فلذلك ينبغي أن تفهم هذا وأن تتجه إليه.

قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:74-75]ثم قال الله له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [هود:76]بعد قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ جاء بعد أن أثنى على إبراهيم بأنه الحليم الأواه المنيب، فقال الله له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا .، وضمّن أيضاً خطابك وانتقادك دفاعاً عن المنتقد ودفاعاً عن المخاطب، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم في شأن داود وسليمان عليهما السلام: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:78-79]فحتى لا يُتّهم داود بقلة الفهم من أقوام جاهلين، قال تعالى بعد قوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] : وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، ثم ذكر منته على داود بقوله: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:79]، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في شأن يعقوب عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا [يوسف:67-68]، ثم أثنى الله على يعقوب حتى لا يظن أحد ظن السوء بيعقوب صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى مثنياً عليه: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68] .

ضرورة التجاوز عن الزلات عند التخاطب مع الناس

خذ العفو من أخلاق الناس أثناء حديثك معهم، فإذا صدرت من بعضهم بذاءات في شأنك وحسنات، فخذ الحسنات وتجاوز عن الهفوات، وتجاوز عن الزلات، وأمعن النظر في كتاب الله سبحانه، وانظر إلى مقولات الأنبياء وأهل الفضل والصلاح إذ اتُهموا، فكيف دافعوا عن أنفسهم وقت الاتهام! وإذ ظلموا، كيف دافعوا عن أنفسهم أمام الظالمين! فهود عليه السلام، قومه يقولون له: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66]، فينفي ويقول: لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ [الأعراف:67]، ونوح يقولون له: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60]، فيقول: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الأعراف:61]، فنوح ينفي عن نفسه الضلال، وهود ينفي عن نفسه السفه، فهما لم يردا المقالة بمثلها، فهو لم يقل لهم: بل أنتم السفهاء، ونوح لم يقل لهم: بل أنتم الضلال، لا يريدان أن يسعرا حرباً أخلاقية معهم، لا فائدة فيها ولا محصلة من ورائها، ولكن غاية ما صنعا أنهما نفيا عن أنفسهما السفاهة والضلال.

وانظر أيضاً إلى سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم، ومع من ظلمهم، واستفد من كتاب الله هذه الأخلاق الحميدة.

يوسف صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي اتهم من قبل امرأة العزيز، وقبل ذلك أُلقي في غيابة الجب إلى غير ذلك، وابيضت عينا أبيه من الحزن فهو كظيم لفقده، ويأتيه إخوته بعد ذلك فيقول لهم مقالة منبهة مذكرة: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ [يوسف:89-90]بتواضع وخضوع، ولم يقل: أنا العزيز يوسف، أو أنا الملك يوسف، أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، فقالوا حينئذ: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [يوسف:92]، (لا تثريب) أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، ويوفي بما عاهدهم عليه، فلما دخل عليه أبواه وإخوانه مصر قادمين من بلادهم قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100]ولم يقل: إذ أخرجني من غيابة الجب؛ حتى لا يُذَكِّرَ إخوانه بالذنب الذي صدر منهم، فقد وعدهم أنه لن يوبخهم ولم يؤنبهم، فلذلك قال: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100]، ثم حمّل الشيطان التهمة كلها بقوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].

ضرورة إمعان النظر في الكتاب والسنة للاستفادة من آدابهما

فأمعن النظر في كتاب الله واستفد هذه الآداب، أمعن النظر في كتاب الله، واستعمل الوسائل التي تربطك بالمخاطب، إذا كان ثَمّ تكليف منك يصدر إليهم، أو طلب منك تطلبه منهم.

فكما أسلفنا ينظر إلى أدب الطلب في قول موسى صلى الله عليه وسلم للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، ورد الخضر معتذراً لموسى أيضاً عليهما السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، ثم يلتمس له العذر، فيقول له: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى: (يا موسى! إنك على علم من الله علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني الله إياه لا تعلمه)، فهذا فيه التماس للعذر لموسى صلى الله عليه وسلم في عدم قدرته على التحمل في قول الخضر له: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68]

فانظر إلى كتاب الله! وانظر إلى أساليب الخطاب التي سلكها الأنبياء مع الناس واقتبس منها! انظر إلى مقولة موسى لفرعون، وكيف اشتدّ موسى أيضاً مع فرعون مع أنه أمر في أول الأمر أن يقول لفرعون قولاً ليناً؛ لعله يتذكر أو يخشى، ولكن لما أبى فرعون هذا القول اللين، استعمل موسى طريقة أخرى في الخطاب يقتضيها المقام، فقال له فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24]، قال فرعون لمن حوله: أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:25-28]، قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) يقابل الجنون الذي اتهم به موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يكافئه، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون لما قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:101-102] أي: هالكاً، فكانت كلمات الشدة أحياناً تخرج على حسب ما يقتضيه المقام.

ضرورة انتقاء الألفاظ الحسنة عند التخاطب مع الناس

انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال.

فمثلاً: رجل ضُرِبَ وجيء بك لتحقق، فإذا قلت: أين المضروب؟! وأين الضارب؟! نال منك المضروب مزيد من الإهانة بكلمتك: (أين المضروب) لكن إذا قلت: أين صاحب الحق؟! فحينئذ ترجع للمضروب شيئاً مما فقد منه، والمؤدى واحد.

روي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بقوم في بيتهم نار، فلم ينادي: يا أصحاب النار! وإنما نادى: يا أهل الضوء! فالمؤدى واحد، ولكن الرفق والتفاؤل مطلوب، والكلمات التي تشعر بإزعاج يجب اجتنابها، ففرق بين أن تقول: يا أهل النور! أو يا أصحاب الضوء! وبين قولك الآخر: يا أصحاب النار! أو يا أهل النار! مع أن المؤدى من هذا ومن ذاك واحد.

مثلاً: رجل متزوج بزوجة على زوجة فلا يستعمل لفظ: الزوجة القديمة والزوجة الجديدة، ولكن له أن يقول: الأولى أو الثانية، أو أم فلان وأم فلان والمؤدى واحد.

فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، فمن الذي هداهم؟

الذي هداهم يقيناً وقطعاً هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).

وأيضاً عليك أن تراعي مناسبات الحديث، فلكل مقام مقال كما قال الناس، بل وكما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسالك، فقد تجد من يذهبون إلى عرس ويذكرون الناس بالموت، ويستدل بعضهم بحديث (أكثر من ذكر هاذم اللذات) والحديث صحيح، لكن المناسبة لا تقتضيه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لعائشة - لما قدمت من عرس- يا عائشة! : (ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو)، فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك.

علي رضي الله عنه يقول: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني)لأن سؤال المحارم عما يتعلق بالجماع يؤذي المحارم، ويخدش حياء المحارم، أنت متزوج بفتاة، فكونك تتحدث في الجماع أمام أخيها أو أمام أبيها، أو أمام أقاربها، هذا يخدش -بلا شك- حياء الأخ، ويخدش حياء الأب، ولذلك قال علي : (كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اغسل ذكرك وتوضأ)، فللكلام مناسبة. وانظر إلى فقه الأنصار وإلى ذكاء الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لما وقع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسر، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيداً، وأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقولوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لعمك فداءه، فحينئذ إذا قالوا هذه المقالة، استشعر منها أنهم يمنون ويتفضلون على رسول الله؛ لأن لعمه الفداء، ولكن انظر إلى هذا الأدب الذي تأدبوا به، فقالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لابن أختنا فداءه)، فالأنصار أخوال العباس ، فلم يقولوا: ائذن لنا أن نترك لعمك حتى تكون المنة منهم عليه، ولكن قالوا: ائذن لنا أن نترك لابن اختنا فداءه؛ حتى يقلبوا المنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فانتق هذه الألفاظ وتحدث بها بين الناس، والفاهم من فهمه الله سبحانه وتعالى.

عدم ذكر مرتكبي الأخطاء بأسمائهم في المجامع الكبرى إلا لضرورة

كذلك لا تذكر أسماء أشخاص بأعيانهم مهما ارتكبوا، لا في المجامع الكبرى، ولا في خطب الجمعة؛ فإن رسولنا محمداً عليه الصلاة والسلام ابتلي غاية الابتلاء، وأوذي غاية الأذى من عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان من ذلك أن قذف ابن سلول زوجةَ رسول الله بالزنا، ومع ذلك يصعد الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر فيقول: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت عن أهلي إلا خيراً) حتى قال الصحابة: من هو هذا الرجل يا رسول الله؟! أخبرنا من هو؟! وقال سعد بن معاذ : (إن كان منا من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمه مع شدة الأذى، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)، فلا تذكرالناس بأسمائهم بما أذنبوا وما أسرفوا فيه، ولذلك قال ربنا جل ذكره: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]ثم أرشد إلى العفو بقوله: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149] فينبغي ألا تذكر أحداً بسوء في المجامع الكبرى، إلا إذا لم يكن هناك بد من إزالة شره إلا بمثل هذا، فتكون حينئذ ضرورة تخرجنا عن أصلنا الذي هو عدم ذكر الأشخاص، والضرورة تقدر بحسبها، وقد ورد في هذا الباب حديث الرجل الذي كان له جار يؤذيه فذهب إلى رسول الله يشكوه، فما ازداد الجار إلا أذى لجاره، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج متاعه إلى قارعة الطريق، فأخرج متاعه إلى قارعة الطريق، فكان الناس يمرون به ويسألونه: لم أخرجت متاعك إلى قارعة الطريق؟ قال: جاري فلان يؤذيني، جاري يؤذيني، فكلما مر به قوم ورءوا ذلك، سبوا هذا الجار ولعنوه، فجاء الجار مهرولاً قائلاً: ارجع إلى بيتك ولن ينالك مني بعد ذلك إلا الخير.

وهذه الضرورات تقدر بقدرها وبحسبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جواز التغيير في الألفاظ المعتادة عند التعبير عما في النفس بما يؤدي الغرض

عليك إذا أردت التعبير عما في نفسك أن تغير في الألفاظ تغييرا يؤدي الغرض، ولا يخدش كذلك، قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة (إني أعرف غضبكِ عليّ من رضاك) قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟!، قال: (إن كنت عليّ غضبى قلت: ورب إبراهيم، وإن كنت عني راضية، قلت: ورب محمد)، قالت: (أجل والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله!)، فأم المؤمنين تريد أن تعبر عما في نفسها لرسول الله بأسلوب حكيم مؤدب ومهذب؛ لأن رب محمد هو رب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولكن تخاطب سيد الأنبياء وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، فيشعر بالتغيير في الألفاظ، فحينئذ يدرك أن هناك شيئاً ما قد حدث فيفتش في هذا الشيء، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لبيباً فاهماً، وهي رضي الله عنها كانت على قدر كبير من الفهم والذكاء؛ فكان الرسول يدخل عليها كل يوم يمازحها ويقرأ عليها السلام، ولكن لما كان حادثة الإفك كانت يدخل فيقول: (كيف تيكم؟)، فشعرت أن شيئاً ما قد حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها.

ضرورة التأدب مع الكبار عند التخاطب معهم

عليك أن تعرف أثناء الحديث مع الناس أخبار الناس، فلا تبادر وأنت صغير بالحديث بين يدي الكبير، بل كن ورعاً وكن مؤدباً متخلقاً بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللكبير حق وله سابقة في الخير، وعليك أن توقر وأن تحترم الكبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يعرف لكبيرنا حقه) وفي رواية (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) وجاء حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثان، فذهب أصغرهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر! كبر!) وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه سؤالاً، فقال لهم: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم فإذا أنا أصغر القوم، فهبت أن أتكلم فسكت..) الحديث.

فللكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه، إذا أردت أن تتكلم فاستأذنه بأسلوب مؤدب وبأسلوب مهذب، كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون.

ضرورة اجتناب أهل الفحش والبذاءة والجهل ومداراتهم

ثم اتقِ أيضاً فحش الفاحش البذيء، فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قدداً، منهم الذي يفهم وقد امتلأ ذكاء واستنارت بصيرته، ومنهم الجاهل الغبي الذي لا يفقه ولا يفهم، فجدير بك أن تتعامل مع هذا الجاهل بحذر، وأن تتقيه قدر الاستطاعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله! قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟! قال: أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)، فلم يدخل رسولنا معه في ثرثرات أو مجادلات لا فائدة فيها.

جاءه اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! -والرسول يعرف قولهم جيداً، فهم يعنون: الموت لك-، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة -وشق عليها ما ذكروه لرسول الله- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إن الله لا يجب الفحش ولا التفحش) قالت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟!، قال: (قد علمت وقد رددت عليهم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا)، فالمداراة أصل، فبذيء الأخلاق يُتقى وينفرد عنه، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وهذه الآية لها مناسبة، فقد تلاها الحر بن قيس رضي الله تعالى عنه على أمير المؤمنين عمر لما جاءه عيينة بن حصن الفزاري -وكان من المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله- فجاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس وهو من القراء الذين كان يدنيهم عمر منه، فكان عمر يقرب من مجلسه حملة كتاب الله، فيستشيرهم في مسائله، فكان الحر من هؤلاء الحملة لكتاب الله فقال: يا ابن أخي! إن لك وجهاً عند هذا الأمير -يعني: عمر - فاستأذن لي عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر، فأذن له عمر، فما هو إلا أن رأى عمر فقال له: يا ابن الخطاب ! -بهذه اللهجة لهجة البدو الغلاظ الشداد- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فتعجب عمر من هذا الداخل بهذه الصورة الشديدة اللاذعة في الكلمات، فَهَمّ عمر أن يبطش به، فقال الحر بن قيس -وهذا من بركة كتاب الله وحمله-: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وهذا من الجاهلين، قال ابن عباس : فوالله! ما تخطّاها عمر ولا تعداها، كان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل، فوقف عمر عند الآية ولم يتجاوزها، ولم ينزل بالرجل عقوبة، وقد أحسن في ذلك الصنيع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع أكثر من ذلك من عيينة بن حصن ومن غير عيينة بن حصن، ولم يؤاخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر منهم، وبما خرج من أفواههم من قبيح الحديث والكلام.

إثارة كوامن الخير عند الناس

وعليك إذا خاطبت الناس أن تثير الكامن فيهم من خير، وهذا باب قد تقدمت مباحثه مراراً، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3]أي: يا ذرية الصالحين المؤمنين المحمولين مع نوح في الفلك؛ لأن المحمولين مع نوح كانوا مؤمنين، فكونوا صالحين مؤمنين كآبائكم، ونحو ذلك قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]أي: يا أولاد النبي الصالح والنبي الكريم إسرائيل كونوا صالحين كأبيكم إسرائيل صلى الله عليه وسلم، ونحوه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: يا من آمنتم بي، وصدقتم رسلي، فهذه أساليب تحيي خصال الخير في القلوب، فتذهب إلى رجل فتقول له: يا ابن الشجاع! الذي بارز الأبطال، أبوك كان شجاعاً وأخوك كان مغواراً، وجدك قتل في سبيل الله، فتقدم وبارز الأبطال، وأحيي مجد آبائك وأجدادك، فيقبل على القتال مندفعاً إليه.

تذهب إلى آخر وتقول: يا ابن العلماء! أبوك كان عالماً، وجدك كان فقيهاً، وأخوك كان قارئاً لكتاب الله، فأقبل على العلم، فحينئذٍ يقبل إحياء لمجد آبائه، وإحياء لمجد أعمامه وإخوانه.

تذهب إلى ثالث فتقول: يا ابن المحسنين! تصدق، أبوك أنشأ مسجداً، وعمك أنشأ مدرسةً، وخالك أنشأ مستشفى، فأقبل وتصدق إن الله يجزي المتصدقين، فيقبل حينئذٍ ويتصدق.

وشتان ما بين مثل هذا القول، وآخر مسموم محموم يقول: يا ابن الجهلاء! ويا ابن الأغبياء! ويا ابن البخلاء! فماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن البخلاء! من صدقة؟! ماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن الأغبياء! أقبل وتعلم؟! أكيد أنه سينفر عنك وسيفر منك، فعليك حينئذ أن تهيّج مشاعر الناس لفعل الخير، وأن تذكرهم دائماً بفعل الخير.

وعليك كذلك أن تستعمل عبارات تلفت أنظار الناس إليك، إذا كان ثَمّ أمر تريد بثه في عموم الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـجرير بن عبد الله في حجة الوداع: (يا جرير! استنصت الناس -أي: أسكتهم- ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً صوته: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).

لك أن تذكر الناس أيضاً مع رفع الصوت وتضمِّن المسألة شيئين: رفع الصوت، مع التذكير بالخير، كما قال العباس للأنصار يوم حنين: يا أصحاب سورة البقرة! بأعلى صوته، يا من بايعتم تحت الشجرة! . فيذكرهم بالمناقب التي لهم خاصة، فسورة البقرة نزلت على رسول الله في المدينة، فاختص بها الأنصار، واختصوا بالبيعة أيضاً مع غيرهم، أي: كان لأغلبهم فضل في البيعة تحت الشجرة، فخاطبهم العباس بذلك: يا أصحاب رسول الله! يا أصحاب سورة البقرة! يا من بايعتم تحت الشجرة!. بصوت مرتفع غاية الارتفاع، وقد كان العباس مشهوراً بالصوت المرتفع، حتى قالوا: لقد زجر أبو عروة الأسد بصوته المرتفع رضي الله تعالى عنه.

لك أن ترفع الصوت أحياناً، وإن كان الأصل هو التوسط في الصوت، لا ترفع الصوت ولا تخفض إلا إذا دعت الضرورات لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات، ورأى الناس يتوضئون ولا يحسنون الوضوء، فيتركون الأعقاب بلا غسل، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار).

لفت النظر بتكرار الكلمات عند مخاطبة الناس

ثم طريقة أخرى للفت النظر إليك إذا كان لحديثك شأن، ألا وهي تكرار الكلمات كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت).

هذا شيء مما يتعلق بأدب الخطاب الوارد من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يهدينا إلى الطيب من القول، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وصلْى اللهُ وَسَلَّمَ وَباَرَكَ على نَبِينا محمد وآله وصحبه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

خطبة العيدين واحدة بلا جلوس أثنائها

السؤال: قرأتُ أن لخطبة العيدين جلسة استراحة ولكن أئمتنا لا يعملون بذلك فما هو الوجه في ذلك؟

الإجابة: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس جلسة استراحة في خطبة العيد، إنما هي خطبة واحدة على الصحيح، والذين قالوا بأن هناك جلسة استراحة قاسوها على خطبة الجمعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم قراءة القرآن بدون وضوء

السؤال: هل تجوز قراءة القرآن بدون وضوء؟

الإجابة: نعم تجوز؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)، ولما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من الليل، فنظر إلى السماء وقرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، أي: أنه قرأ العشر الآيات قبل أن يتوضأ صلوات الله وسلامه عليه.

ضعف حديث: من قرأ آيات خواتم الحشر في ليلة

السؤال: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (من قرأ آيات خواتم الحشر في ليلة.. فقد ضمن له الجنة) ما صحة هذا الحديث؟

الإجابة: في إسناده ضعف.

حكم من أراد أن يكتب لبعض أولاده بشيء من المال

السؤال: رجل كبير السن تزوج امرأتين توفيت الأولى وأنجبت منه ثلاثة، ثم تزوج الثانية وأنجبت ثلاثة، ولكن الثلاثة الذين أنجبتهم الأولى جائرون على إخوتهم الصغار الذين هم من الزوجة الثانية؛ لأنهم صغار، فهل يجوز له أن يكتب للثلاثة الصغار نصف البيت؟

الإجابة: لا يجوز لك ذلك، إنما إذا أردت أن تقسم التركة قسمت على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وتحفظها، ولا تمكن أحداً منها إلا بعد الوفاة كل يتسلم نصيبه؛ خشية أن يجور أحد على أحد، فلك أن تكتبها وتحفظها مع رجل من الصالحين، فإذا توفاك الله، فكل يأخذ قسمه الذي قسمه الله تبارك وتعالى له، هذا محله إذا خشيت أن يضيع على الصغار حقهم من هؤلاء الجائرين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أدب التخاطب للشيخ : مصطفى العدوي

https://audio.islamweb.net