أما بعد:
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة الشريفة وجمعنا على طاعته، وعلى ذكره بعد أداء فريضته، أسأله بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وزوجاتنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين.
التزمت ولكن!! عنوانٌ مثيرٌ للتساؤل، يبحث في مشكلة ويقدم الحلول المناسبة لها، هي في الأصل ليست مشكلة بل هي بارقة أمل، وصحوة قلب، ودليل عافية، وعملٌ لا بد منه.
الالتزام هو: التمسك بطاعة الله، وأداء فرائض الله، والبعد عن محارم الله، والاستقامة على منهج الله، هذا المعنى العام لكلمة الالتزام.
وظاهرة الالتزام: ظاهرة منظورة وملاحظة ومشهودة، ليس أدل عليها من حضوركم، فهذا الحضور الغفير، وهذا الجمع الكبير يبعث على الأمل، لا سيما إذا عرفنا أن معظم الجالسين من الشباب الذين سلكوا طريق الهداية إلى الله، وتركوا خلفهم كل طرق الغواية والضلال، ولم يستجيبوا لكل نداءات الشهوة والحرام، ولبوا نداء ربهم: لبيك اللهم لبيك، وبرهنوا على ذلك بتمسكهم بأوامر الله، والتزامهم بشريعة الله، واستقامتهم على منهج الله.
لكن، ماذا بعد الالتزام؟ وماذا يعني الالتزام؟
وماذا يطلب من الملتزم إذا التزم؟
وما هو البرنامج العملي الذي يجب أن يسير عليه حتى يصل إلى ساحل النجاة وبر الأمان، وحتى يدخل إلى جنة الرضوان، وينجو من عذاب النيران؟
أسأل الله سبحانه وتعالى كما هدانا أن يرزقنا الثبات حتى الممات، وأن يجعل لنا بصيرةً في أمرنا، ونوراً في قلوبنا، وعقولنا، وأبصارنا، وأسماعنا، وجوارحنا، ونوراً من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، فإنه لا نور إلا نوره، ولا توفيق إلا من عنده، هو الموفق يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يهب الخير إذا طُلب (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) اللهم اهدنا يا رب العالمين!
فقد كان سيد الهدى يطلب الهدى، ويقول فيما روته عائشة في الصحيحين : (كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم) وهو سيد الهدى، فاللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بعلمك وبإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
فإن هناك موفق وهناك مخذول، وهناك مضل وهناك مهدي، فلا مهدي إلا من هدى الله، ولا موفق إلا من وفقه الله.
اشترى قاضٍ من قضاة البصرة جارية -في عهد السلف - وفي أول ليلة وهي في بيته قام آخر الليل يتفقدها؛ لأنه لا يعرف أخلاقها، فلما دخل غرفتها إذا هي ليست في الغرفة، فأساء الظن. أين ذهبت؟ وحينما بحث وجدها في زاوية غرفتها وهي تناجي ربها في آخر الليل، وتقول وهي ساجدة: اللهم إني أسألك بحبك لي أن تغفر لي، -تسأل الله في حبه لها أن يغفر لها- فلم يستسغ الشيخ هذه العبارة وقال: إن الأولى أن تقول: اللهم إني أسألك بحبي لك -لأن الإنسان يتوسل بفعله وعمله- أن تغفر لي، فانتظرها حتى سلمت ثم قال لها -وهو عالم-: لا تقولي اللهم إني أسألك بحبك لي؛ وإنما قولي: اللهم إني أسألك بحبي لك، قالت له: ليس المهم أن تُحِب، لكن المهم أن تُحب، لولا حبه لي ما أيقظني وأغفلك، أي: حبه لي هو الذي جعلني أقوم.
وليس المهم أن تحب.. قد تحب شخصاً لكنه لا يحبك، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله حبه: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك إلي أحب من الماء البارد على الظمأ، -ثم يقول- اللهم ما أعطيتني مما أحب؛ فاجعله لي عوناً على ما تحب، وما زويت عني مما أحب؛ فاجعله لي فراغاً فيما تحب) انظروا الكلام العظيم! (اللهم ما أعطيتني مما أحب) لأن الإنسان يعطى أشياء يحبها، يعطى المال وهو يحبه، ويُعطى الزوجة وهو يحبها، ويُعطى المنصب وهو يحبه، ويُعطى الولد وهو يحبه، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم ما أعطيتني مما أحب -من هذه الأشياء- فاجعله عوناً لي على ما تحب) اجعل الزوجة عوناً لي على محبتك، واجعل المال عوناً لي على محبتك، واجعل الأولاد عوناً لي على محبتك، واجعل المنصب عوناً لي على محبتك؛ لأن من الناس من يُعطى مما يحب؛ فيكون ما يُحب قاطعاً له عن محبة الله، الزوجة التي يحبها تقطع الطريق بينه وبين الله، المال الذي يحبه يقطع الطريق بينه وبين الله، فيصبح حبه لهذه الأشياء مانعاً له من محبة الله عز وجل.
الالتزام -أيها الإخوة- يحتاج من الإنسان إلى فهم لمعناه، ولحقيقته ولمقتضياته.
أما معناه: فهو التمسك والاستقامة على دين الله ظاهراً وباطناً، التزامٌ في المعتقد، والتزامٌ في العبادة، والتزامٌ في السلوك والأخلاق، والتزامٌ في التعامل، هذا هو الالتزام الكامل، التزامٌ في الباطن، والتزامٌ في الظاهر، التزامٌ في المسجد، والتزامٌ في العمل، والتزامٌ في السوق، والتزامٌ في البيت، لماذا؟ لأنك خضعت: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
فالدخول في الدين والالتزام يجب أن يكون دخولاً كاملاً، ليس دخولاً جزئياً تشليحياً، يشلح الدين، يأخذ من الدين لحية وثوباً فقط، وذاك يأخذ من الدين صلاة فقط، لا. الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ما رأيكم! برجل ذهب للتشليح وأخذ له (دركسوناً) ووضع فوق رأسه (بوري) ومشى بالشارع ويضرب (بوري) هل هذه سيارة؟
لا. (بوري) و(دركسون) فقط؛ لكن أين السيارة؟ السيارة لها أجزاء لا بد من توفرها، كذلك الدين له أجزاء لا بد من توفرهما، لا تأخذ من الدين (البوري) ولا تأخذ فقط (الدركسون) و(الإشارة)، خذ الدين كاملاً كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].
منها أولاً: الجهل بما يجب أن يفعله بعد التزامه، يقول: التزمت؛ لكن ماذا أعمل الآن؟! ليس لديه منهج، وليس له برنامج، وليس عنده خطوات يمشي عليها، مجرد أنه التزم ثم أين يذهب؟
فيرتب له هذا الجهل الوقوع في بعض المعضلات، أهمها:
الانتكاس؛ لأنه إذا التزم ومشى فترة ولا يعرف ماذا يفعل، ماذا يعمل بعد ذلك؟ يرجع إلى ما كان عليه والعياذ بالله.
ومنها: الالتزام الأعوج، بدل أن يلتزم التزاماً مستقيماً؛ يلتزم التزاماً أعوجاً، أعوج في أخلاقه، أعوج في تصرفاته، أعوج في فهمه للنصوص، أعوج في تعامله مع نفسه، أعوج في تعامله مع زوجته وأولاده، أعوج في تعامله مع والده ووالدته، أعوج في تعامله مع مديره وزملائه في العمل، لماذا؟ لأنه التزام خاطئ، ما عرف الالتزام، ويظن أنه على هدى بسبب جهله بمعنى الالتزام، وبما تقتضيه عملية الالتزام من عملٍ بعد ذلك.
وفيها: الالتزام الأجوف، ونعني بالالتزام الأجوف: أن يلتزم الإنسان في الشكل، ولا يلتزم في المضمون، فيكون أجوف، ظاهره طيب، لكن باطنه خراب، هذا لا ينفع، لا بد من الالتزام الكامل الذي يشمل الظاهر والباطن.
ومنها: الفهم المغلوط للدين، لم يفهم الدين كما أراد الله، ولم يتلقاه عن كتاب الله، وسنة رسول الله؛ لكن فهمه فهم مغلوط، أو أحياناً يتلقى بعض الأفكار الضالة، والعقائد المنحرفة، كعقيدة الخوارج، أو كعقيدة المعتزلة ، أو كعقيدة الأشاعرة ، أو كعقيدة -والعياذ بالله- القدرية ، أو عقيدة المرجئة ، هذه عقائد كانت واندثرت؛ لكن بقيت مضامينها موجودة في الناس، قد يقول أحدكم: كيف؟
أقول: عقيدة الإرجاء تعتمد على: أن الإيمان ليس لـه علاقة بالعمل، إذ لا يضر مع الإيمان عندهم معصية ، ولا ينفع مع الكفر عمل، فيقولون: أنت تؤمن بالله، وتصدق بلسانك، أما العمل ليس من الدين وليس من الإيمان، هذه العقيدة ضيعت دين الله، وأذهبت شريعة الله، ولكنها الآن موجودة في كثيرٍ من الناس، عندما تأتي تكلمه عن أوامر الله مثل الصلاة في المسجد، وإطلاق لحيته، قال: يا شيخ! ربنا رب قلوب، إن الله لا ينظر إلى صوركم، الله ينظر للقلوب، أنا مؤمن بربي بس فقط، هذه العقيدة موجودة عند خمسين أو ستين في المائة من الأمة، يقول: يا شيخ! الدين في القلوب، الدين ليس في اللحية، ولا في الصلاة في المسجد، الدين في القلب، أنا قلبي طيب، بل بعضهم لا يعمل عملاً قط ويقول: قلبه طيب.
كنت مرة قبل فترة في قطر وأثناء وجودي في الفندق سمعت أزيز الموسيقى يكاد الفندق يرقص بآلة صاخبة لها ضجيج وأنا أطلع في المصعد أنظر من أين الصوت، وإذا هناك رجلٌ أبيضٌ، رأسه كبير وأصلع، عنده أجهزة موسيقى ضخمة، وهو الذي رج الفندق كله بدقته على هذه الأجهزة، قلت: إنه غربي، ثم بعد فترة نزلت أصلي وبينما أنا أنظر إذا به واقف عند العلاقات العامة للفندق فدعاني صاحب العلاقات يعطيني رسالة، فجئت وإذا بهذا يسلم علي، نفس الرجل الطويل الكبير الذي رأيته يعزف الموسيقى، قلت: أنت عربي؟ قال: نعم. قلت: مسلم؟ قال: نعم. قلت: من أهل السنة؟ قال: نعم. قلت: من أي بلاد الله؟ قال: من لبنان ، قلت له: أنت الذي كنت تدقدق وتغني؟ قال: نعم، هل أعجبك غنائي؟ قلت: أسألك سؤالاً بالله عليك، هل هذا الغناء والطرب وهذا اللعب ينفعك بعد الموت يوم تقف بين يدي الله؟ قال: لا والله يا شيخ! -باعترافه يقول: والله يا شيخ! ما ينفعني، وفعلاً لا ينفع- قلت له: فكيف تعيش على عمل لا ينفعك بعد الموت؟ قال: والله يا شيخ! أنا مؤمن بقلبي وهذه عقيدتي، قلت: يعني أنك لا تصلي، قال: لا والله لا أكذب عليك، قلت: لماذا؟ قال: أمي تصلي. أمه تصلي بالنيابة، انظر العقيدة! يعني: كون أمه تصلي إذاً سقط عنه التكليف، وكونه يؤمن بالله بقلبه؛ فلا يوجد تكليف.
هذا نموذج من الناس من مئات الملايين من المسلمين ليس في بلادنا فقط، الملايين من المسلمين ألف مليون مسلم، ليس في بلادنا إلا ستة عشر مليوناً من المسلمين، والبقية في العالم وهذه عقيدة أكثر الناس.
عقيدة الخروج والخوارج تأتي عند المتدينين الذين يفهمون الدين ويتحمسون لـه ويندفعون إليه، ثم يكبر في قلبهم الحماس حتى يتجاوزونه، ولهذا سموا المارقة، لماذا؟
لأنهم يمرقون من الدين، يقول عليه الصلاة والسلام فيهم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وعبادته إلى عبادتهم، ثم قال: يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه) يقرءون القرآن؛ لكن لا يجاوز حناجرهم، حظهم من القرآن التلاوة، لكن لا يفهمون منه شيئاً، ولا يدخل في قلوبهم منه شيء، موجودة هذه في كثير من المجتمعات تراه يتوقد ويحترق حماساً للدين، لكن ليس هذا هو الدين، الدين ما شرع الله، وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم.
من أين تأتي مثل هذه الأشياء؟ تأتي من الخطأ في الالتزام، الالتزام يحتاج إلى ضوابط، وإلى موازين بحيث لا ينحرف الملتزم فيضل أكثر من ضلال ذاك المفلوت؛ لأن المفلوت في الشر، والواقع في الغناء والزنا والمعاصي منحرف ويعرف أنه منحرف، ولذا يمكن أنه في يوم من الأيام يتوب، أما الملتزم خطأ، يمشي في الخطأ ويظن أنه على هدى، ولذا ليس هناك أمل أنك تصلحه؛ لأنه يحسب أنه على الهدى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة:37] فتأتي الخطورة في انحراف الملتزم من هذا الجانب.
هذا السؤال يتردد في ذهن كل شخص، ماذا أعمل بعد الالتزام؟
العمل بعد الالتزام كالتالي:
لأنك ملتزم تغيرت ما عدت كما كنت، عينك تغيرت، كانت تحب النظر في النساء، والآن لاتلتفت ولا تنظر، أذنك تغيرت كانت تسمع الغناء والآن لا تسمع، لسانك تغير كان يتكلم في الحرام والآن لا يتكلم، كل شيء تغير في حياتك، ويجب أن توطن نفسك، وتشعر نفسك، وتستشعر من قرارة نفسك أنك قد انتقلت من حياة إلى حياة، ومن وضعٍ إلى وضع، فينبغي لك أن تتكيف على الجو الجديد، وعلى المناخ الجديد، وأن تتعامل معه على هذا الأساس، هذا أول شيء، وهو شعور قلبي يترجم إلى واقع عملي ينبعث من عمق النفس البشرية، وهذا يتطلب منه الخطوة الثانية.
فلا بد أول شيء بعد الشعور أنك انتقلت إلى الحياة الإيمانية، أن تبدأ في الحياة العملية بطلب العلم، وترفق العلم بالعمل سواء، ولا تقل: أتعلم ثم أعمل، لا. كلما علمت تعمل، أي شيء تعرف أنه من الدين بدليل من الكتاب والسنة تطبقه مباشرة، فتتعلم وتعمل في آنٍ واحد.
يقول: سعيد بن المسيب : [والله ما نظرت إلى ظهر مصلٍ] يعني: لا يصلي إلا في الصف الأول، ويقول: [والله ما سمعت الأذان من خارج المسجد خمسين سنة، ولا خرجت إلى المسجد يوماً فلقيني الناس وقد انصرفوا] يقول: ما خرجت ولقوني وقد انصرفوا من الصلاة هذه هي العبادة، هذا هو الالتزام الصحيح، فتجري تغييراً في أسلوب أدائك للصلاة، بأن تؤدي الصلاة مع أول الناس، ثم في الصلاة كيف تصلي؟ الصلاة هي حركة جسد، وحركة قلب، فتكبر بتحقيق وتقرأ بترتيب، وتتأمل معاني القراءة، ثم تركع بخشوع، وتسجد بخضوع، وتجلس بيقين، وتتشهد بطمأنينة، وتسلم في رجاء، وبعد هذا لا تدري أقبلت صلاتك منك، أم ردت عليك.
يقول أحد السلف: والله لأن تختلج الأسنة بين كتفي أحب إليَّ من أن أذكر شيئاً من دنياي في صلاتي، فكيف بصلاتنا يا إخواني؟! -لا إله إلا الله- فيتغير وضعك مع العبادة، ثم يتغير وضعك مع النافلة، كنت قبل ذلك تصلي الفرض وتذهب، لا. الآن أنت ملتزم، تصلي الفرض وتصلي الرواتب، وتصلي النوافل وتقوم الليل، وتصلي ركعتي الضحى، هذه لا تتركها؛ لأنك ملتزم، والله إنه شيء يؤلم -أيها الإخوة- أن نرى في بعض المساجد أكثر من يقضي الركعات في الصلاة الملتزمين، وتجد العوام العاديين في الصف الأول، إذاً من الملتزم الحقيقي؟ الذي في الصف الأول، أما ذاك ولو كانت سيماه سيما الالتزام، لكن عمله ليس عمل التزام.
أيضاً في الإنفاق أنت ملتزم، يجب أن تدخر لك شيئاً عند الله، من مصروفك الشخصي إن كنت طالباً، أو من مصروفك العائلي إن كنت رب الأسرة، اجعل شيئاً لله من دخلك، ولو عشرة ريال في الشهر، أو خمسين أو مائة ريال.
وأيضاً في علاقتك بالعلماء، وفي علاقتك بمجالس العلم بالندوات، في علاقتك بكل عملٍ يحبه الله ويرضاه أجر تغييراً على الوضع.
أيضاً في السلوك والتعامل والأخلاق، كنت تمر في الشارع وتمشي بالسيارة، وتفحط وتسرع، لكن الآن بعد أن التزمت لا بد أن تمشي بهدوء. إذا شغلت السيارة قل: بسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا لـه مقرنين، تحركت السيارة تتحرك بأدب؛ لأنهم يقولون: القيادة فن وذوق وأخلاق، وأنا أقول: القيادة دين وذوق وأخلاق، تعرف دين الإنسان من قيادة السيارة، تمشي تمسك جانبك الأيمن، تريد أن تتجاوز؟ تتجاوز بأصول، أتيت الإشارة تقف، لا تسرع: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37] لماذا؟ لأن مشيك في الشارع وأنت ملتزم عبادة ودعوة، إذا رآك الناس وأنت تمشي في الشارع وجاء شخص يريد أن يدخل توقفت له لكي يمشي ونظر إليك وشكرك ورأى لحيتك؛ ماذا يقول؟ يقول: ما شاء الله! انظروا كيف هم المتدينون، الدين يا جماعة! خير عظيم، الدين يهذب الأخلاق، كيف تعلم هذا من الدين أن يترك لي فرصة السير، لكن لو أتيت ورأيته يريد أن يدخل، وهو داخل وأنت تريد أن تسبقه ونظر لحيتك، قال: انظر المطوع المعقد هذا، ولا أعقد من المطاوعة هؤلاء، هذا (أبو دقنة)، هذا يضايقني، مشيك في الشارع إما دعوة لك وإما دعوة عليك.
بل كنت مرة من المرات وأنا في أبها إمام مسجد، وأنا آتي من بيتي وفي شارع عام ذي اتجاهين يفصلني عن المسجد، فوقفت على الشارع أريد أن تمر السيارات وأمشي، فجاء أحد المصلين ووقف بجانبي، وأحد الإخوة جاء مسرعاً، ولحيته ما شاء الله! تملأ صدره؛ لكنه مسرع، وإذا بهذا الأخ يقول لي: انظر انظر لحيته يا شيخ! قلت: وما في لحيته؟ قال: يسرع، قلت: من الذي يسرع لحيته أم رجله؟ من الذي داس بنزين؟ قال: رجله، قلت: حسن ولماذا لا تقول: انظر أنفه أو انظر عينه؟ لماذا ما نظرت إلا للحيته، أم أنك لا تريد اللحية، قال: لا. هذا مطوع مفروض أنه لا يسرع، انظروا كيف الناس! يقول: المطوع من المفروض أن لا يسرع.
فأنت إذا التزمت؛ عليك أن تجري تغييراً حتى في قيادة السيارة. ثم تجري تغييراً في التعامل، وأنت موظف تدخل الفصل أو المكتب تقول: السلام عليكم، وتبتسم، وتقول: صبحكم الله بالخير يا إخوان! كيف حالكم؟ عساكم طيبين؟ بعد ذلك تكون سباقاً إلى الخير في الخدمة، والأخلاق، والكرم، وفي كل شيء؛ لماذا؟ لأنك ملتزم، علمك الدين الالتزام، كنت قبل ذلك لا تبالي، ليس عندك أخلاق، ولا عندك ذوق، ولا تراعي، ولا تكرم الناس، ولا تسلم على الناس؛ لكن عندما التزمت يفرض عليك التزامك أن تغير أخلاقك بأخلاق الإسلام.
لكن الحقيقة أن هناك الآن توجه عكسي، تجد بعض الشباب لديه أخلاق، فإذا التزم تغيرت أخلاقه، يدخل على زملائه في المكتب ينظر إلى لحاهم محلوقة فيجلس، ماذا هناك؟ قال: لا أسلم على العصاة، ما شاء الله! هل هذه دعوة؟ إذا كانوا عصاة في حلق لحاهم؛ فأنت أكبر عاصٍ في تعاملك السيئ معهم، عليك أن تسلم وأن تبش، وأن تبتسم، وأن تكرم، لكي تكسب قلوبهم، لكن إذا تعاملت معهم بهذا المنطق؛ تبغضهم في الله، ولا تسلم عليهم ماذا يعملون هم؟ يبغضونك، وإذا أبغضوك أبغضوا من؟ أبغضوا دعوتك ودينك، فتكون أنت بتصرفك هذا بدل أن تدعوهم تطردهم، تنفر الناس عن دين الله، فيجب أن يتغير وضعك.
لكن إذا التزم بعض الشباب وعنده زوجة، لم تعد تراه أبداً، تقوله له: أين كنت؟ قال: مع الإخوة في الله -من المغرب إلى الفجر- وإذا أتى في الصباح صلى الفجر وعاد للبيت ينام إلى الظهر، وخرج فتقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول: عندي رحلة، عندي التزام، عندي موعد، عندي ندوة، قالت: الله أكبر عليك! من يوم التزمت لم نعد نراك، وتكره الالتزام.
إذاً الالتزام يقتضي منك أن تكون موجوداً في بيتك.
أيضاً تعاملك مع والدك ومع والدتك، من يوم أن تلتزم تعود إلى الوالد.. تلتصق بالوالد.. تكون ظل الوالد، إذا خرج إلى السوق تخرج معه، أو تتقضى له أنت، وإذا جاءه ضيف ترحب به وتصب القهوة له، وتفتح البيت له، وقبل أن تخرج من البيت تقول: يا أبي تريد شيئاً؟! تريد أن تذهب إلى مكان؟ تأذن لي؟ إذا قال أبوك: اذهب؛ فاذهب، وإذا قال: اجلس، تقول: حاضر يا أبي! فماذا يكون انعكاس هذا على والدك، يقول: الحمد لله ولدنا منذ هداه الله والتزم بالدين والله إنه طيب، وأخلاقه صارت طيبة، وبدأنا نراه، والآن ينفعنا، ويقوم بلازمنا، ويحب الالتزام؛ لكن بعض الشباب إذا التزم انقطعت صلته بوالده، لماذا؟ قال: أبي عاصي لا تجوز خدمته، فيكره الوالد الولد، ويكره الالتزام، وإذا رأى ولداً آخر من أولاده يريد أن يلتزم ضربه، قال: لا. تريد أن تكون مثل فلان.
ثم أن تعمل لهذا الدين، الله هداك لهذا الدين فما موقفك؟ أن تعمل له، وأن تخدمه، وأن تدعوا إليه، وأن تمد حبال المجال للآخرين لكي تأتي بهم، حتى يكثر سواد المسلمين، ويكثر الخير، وينتشر الخير، ويعم الفضل، وهذا من مسئولياتك؛ لأنه إن لم تدع أنت وأنت الملتزم بالدين؛ فمن تتوقع أن يدعو إليه غيرك، إنها مسئوليتك، وجزءٌ من عملك أمام الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن القيم رحمه الله: انظر إلى الظبي وكلب الصيد، فالظبي إذا رأيته كأنه خلق للطيران -بطن الظبي لاصقة بظهره- وإذا أسرع في المشي تظن أنه لا يمس الأرض وأنه يسبح في الهواء، وكلب الصيد ليس سريعاً كالظبي، ولكن لماذا يمسك بالظبي؟ السبب أن الظبي يجري ويلتفت، يريد أن يتأكد هل الكلب وراءه أم لا؟ والكلب يجري ولا يلتفت وعينه إلى الأمام، فكلما التفت الظبي خارت قواه درجة، وزادت في قوى الكلب درجة؛ لأن الكلب يُعرف أنه لا يلتفت إلا وهو متعب، فذاك يشد وذاك يضعف، إلى أن يمسك به، لكن يقول ابن القيم : لو أن الظبي مشى ولم يلتفت؛ لا يطلبه الكلب ولا يصل إليه.
وأنت تمشي إلى الله مسرعاً، يقول الله: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] أي: سابقوا؛ لأن وراءك كلب يريد أن يمسك بك، وهو الشيطان، فإذا مشيت ولم تلتفت، لا يستطيع أن يقبض عليك؛ لأن الله يقول: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42] لكن إذا التفت إلى الأغنية التي كنت تسمعها، ومرت عليك في الراديو قلت: أريد أن أسمعها قليلاً، أمسك بك الشيطان، التفت إلى المرأة، التفت إلى القهوة التي كنت تسمر فيها، والاستراحة التي كنت تقعد فيها على الدش، قلت: سأذهب هذه الليلة، هذه بداية الانتكاس، فاقطع صلتك بالماضي، وافطم نفسك عنه بالكلية، حتى ولو للدعوة؛ لأن الشيطان قد يأتي بك بطريق مبرر، ويقول لك: زملاءك، أقرانك، أحبابك، إن الله هداك؛ فلماذا لا تذهب لتهديهم؟
أنت في هذا الطور لا تستطيع أن تهدي، بالكاد تتعافى فقط، ما نريدك أن تهديهم، اهد نفسك فقط؛ لأنك إذا رجعت إليهم تريد أن تهديهم؛ سحبوك، وأرجعوك إلى ما كنت عليه؛ لأنك لست مؤهلاً لعلاجهم؛ لأن العلاج لا يأتي إلا على طريق الأطباء، أما المرضى إذا تعافى المريض يعافي نفسه، أما أن يتحول من مريض إلى طبيب فإنه سيرجع مريضاً.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسِ |
الذي يريد الجنة يصبر على المكاره.
وما هي المكاره التي تقف في طريق الملتزم؟
أولاً: الضعف عن مقاومة الإغراءات، يوجد في الطريق إغراءات، وفي النفس شهوات طبع الإنسان عليها، مثل: شهوة النساء، وشهوة المال، وشهوة النوم، وشهوة اللعب، فيها حلال وفيها حرام، مغريات، النفس البشرية تدعوك إلى هذه المغريات، والعقل والقلب الإيماني يدعوك إلى الترفع عنها، فلا بد أن توطن نفسك على ألا تستجيب لهذه الإغراءات ولهذه الشهوات حتى تسلم، أما إذا ظننت أن بإمكانك أن تكون ملتزماً مع الاستجابة للشهوات، فتسمع الحرام، وتشرب الحرام، وتمشي وتسهر على الحرام، وتظن أنك ستبقى ملتزماً، هذا غير صحيح! ولا يمكن أن يكون، ولا يقبل.
أيضاً الضعف عن ممارسة واستمرار أداء العبادات؛ لأن العبادات فيها تعب، يقول الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] جعلنا الله وإياكم منهم، الصلاة والعبادة ليست عملاً تؤديه مرة فقط، لا. بل تؤديه وتؤديه وتؤديه إلى أن تموت، تصلي الآن العشاء وغداً تصلي الفجر، وبعد الفجر تصلي الظهر، وبعد الظهر تصلي العصر، وبعد العصر المغرب، وبعد المغرب العشاء، إلى متى؟ إلى أن تموت، فوطن نفسك على أنه لا بد أن تقوم بهذا العمل، فإذا جاء رمضان لا بد أن تصوم، وإذا جاء الحج جاء لا بد أن تحج، عندك مال لا بد أن تزكي، عندك والد لا بد أن تطيعه، عندك أم لا بد أن تبرها، عندك رحم لا بد أن تصلها، عندك أخ في الله لا بد أن تكرمه وتزوره، رأيت منكراً لا بد أن تغيره، القرآن لا بد أن تحفظه وتقرأه، الذكر لا بد أن تؤديه، فوطن نفسك على القيام بها وعدم التثاقل عنها؛ لأنك إن لم توطن نفسك، سيأتي يوم من الأيام تقول إلى متى؟
ثم وطن نفسك على مواجهة الضغوط الأسرية التي قد تواجه بها، قد يستقيم الشاب ويأتي البيت وإذا بالأسرة ليست معه، الأب له وضع، والأم لها وضع، والإخوان لهم وضع، والأخوات لهن وضع، وهو مستقيم فيجد أن أمامه أسرة تواجهه، وتحد من نشاطه، وتقف في طريقه وتمنعه، وربما تسخر منه وتستهزئ به، وربما يضربونه وربما يمنعون عنه المصروف، وربما يقولون له: أنت أخبل! أنت مجنون! أنت متطرف! أنت..وأنت..، وطن نفسك على هذا!
ولهذا ذكر الله لنا قصصاً في القرآن من أجل تربيتنا، أخبرنا الله عز وجل عن إبراهيم وأن ممن كفر به أبوه، حتى إذا جاء أبوك يردك تتذكر أن إبراهيم رده أبوه، فيكون لك قدوة.
وأخبرنا عن نوح أن ممن كفر به ولده، وأخبرنا عن لوط أن من ضمن من كفر به زوجته، وأخبرنا عن محمد صلى الله عليه وسلم وأن من ضمن من كفر به عمه. إذاً إذا أبوك ما أعانك؛ لك قدوة وهم الأنبياء، وإذا ولدك ما استجاب لك؛ لك قدوة وهم الأنبياء، وهكذا...
فيجب أن توطن نفسك على مواجهة الضغوط الأسرية التي تريد منك أن تترك الالتزام، وأن تعود إلى وضعك الحياتي الأول في الأسرة؛ لأنك تدخل الأسرة ولك أسلوب جديد، ولك منهج جديد، وتريد أن تجري تغييراً في البيت، وهم لا يريدون التغيير، يريدونه على ما كان عليه، فيضغطون عليك حتى ترجع؛ لكن لا ترجع؛ لأنك على الحق وهم على الباطل، فقط غير بالأسلوب الذي سوف نذكره إن شاء الله.
أيضاً وطن نفسك على مواجهة نظرة المجتمع إليك؛ لأن نظرة المجتمع تختلف من مجتمع إلى مجتمع، نحن في مجتمعنا والحمد لله، ينظر إلى الملتزم والمتدين نظرة إكبار، وتكريم، وتقدير، وحب؛ فإذا رأوا الرجل، أو الشاب تدين؛ قدره كل شخص، لكن في بعض المجتمعات المسلمة، لا. إذا التزم وتدين بدءوا يمقتونه، ويخافون منه، ويصفونه بالإرهاب والتطرف، وكل شخص إذا رآه يقول: انظروه! انظروه! بل في بعض الدول يعتبر مجرماً، فهذه تضغط على الإنسان، وتؤدي به في لحظة من اللحظات إلى أن يترك الالتزام ويرجع؛ لأن المجتمع له هيمنته، وله ضغطه الذي يمارسه على الإنسان.
ومن أهم وسائل الثبات:
أولاً: تحديد الغاية والهدف، وهي رضوان الله ودخول الجنة والنجاة من النار، وأنت تلتزم هكذا تقول: لماذا ألتزم؟ من أجل دخول الجنة والنجاة من النار، إذاً في سبيل هذا الهدف وهذه الغاية أستصغر كل صعب، وأتحمل كل بلاء، وأصبر على كل تضحية، لماذا؟ لأن هدفي الوصول، هذا أول شيء.
الأمر الثاني: تحقيق أركان الإيمان على الحقيقة بقول اللسان، واعتقاد القلب، وعمل الجوارح، فإن الإيمان إذا خلا من واحدة من هذه نقص، وإذا نقص ذهب، فلا بد أن يكون إيمانك مبني على الحقائق الثلاث، قولٌ باللسان تظهره، واعتقادٌ بالقلب توقن به، وعملٌ بالجوارح تذعن وترضخ له، فيكون إيمانك صحيح وأصيل وقوي ومتين، لا تزعزعه الأحداث، ولا ترده المناسبات وإنما يثبت؛ لأنه حقيقي.
أيضاً من وسائل الثبات حضور مجالس العلماء، وطلب العلم، وسماع الأشرطة الإسلامية، واستماع إذاعة القرآن الكريم، وقراءة الكتب الإسلامية، والمداومة على العمل، وعدم الحماس الزائد، وهو الذي يعبر عنه العلماء بالغلو؛ لأن الغلو هو عملية ردة فعل، فإذا غلوت في جانب؛ كان على حساب الوسطية، فتمشي في الغلو ثم لا ترجع غلى الوضع الطبيعي، وترجع إلى الانتكاس؛ لأن من أسباب الانتكاس الغلو في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق، فإنه لم يشاد الدين أحد إلا غلبه) فلا تتحمس الحماس الزائد للدين، وإنما اجعل حماسك منضبطاً بالكتاب، وبالسنة الشريفة.
أيضاً مجالسة الصالحين، هذا مثبت من مثبتات الإيمان.
البعد عن قرناء السوء.
قراءة القرآن وحفظه.
مراجعة كتب السنة وحفظها.
الحرص على مزاولة عمل أو دراسة.
ما دمت متلزماً احرص على العمل، أو واصل تعليمك، لماذا؟ لتثبت أن الالتزام مظهر عملي جاد، وليس مظهر فراغ؛ لأن بعض الشباب من يوم أن يلتزم يترك الدراسة ويقول: ماذا فيها هذه الدروس يا شيخ؟! فيها مشغلة وفيها منكرات، وفيها معاصي، أو عمل وضيفي، إذا كان عندك عمل أبدع فيه، كنت تأتي الساعة التاسعة، ولكن من يوم أن التزمت لا بد أن تكون منذ السابعة والنصف وأنت عند الباب، والساعة الثانية والنصف وأنت تخرج آخر واحد، تتواجد باستمرار، كنت وأنت غير ملتزم شاب مقصر في الدراسة مهمل؛ لكن بعد الالتزام أصبحت الأول، لماذا؟ حفظت وقتك، وشعرت بمسئوليتك، فتثبت على دين الله عز وجل.
الحذر من الذنوب ومن المعاصي فإنها تحجزك عن الله، وتردك عن طريق الله، وبالتالي تبعدك عن الالتزام.
ثم آخر شيء من وسائل الثبات: الدعاء، تدعو الله في كل وقت، وفي كل لحظة، وفي أماكن الاستجابة، وتقول: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] وتقول كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك).
اللهم ثبت قلوبنا على طاعتك رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
اللهم احفظ لنا ديننا، وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، ووفق ولاة أمورنا، وعلمائنا، ودعاتنا، ومشايخنا، وشبابنا، وشاباتنا، وجميع المسلمين وفقهم لما تحبه وترضاه، من الدعوة إلى دينك، وإلى مناصرة شريعتك، وإلى العمل بأحكام كتابك وسنة نبيك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: نعم. يصدق عليه أنه ملتزم، لكنه ملتزمٌ بالباطل، ملتزمٌ بالشر، ملتزمٌ بمعصية الله؛ لأن الالتزام إما التزامٌ بالحق، وإما التزامٌ بالشر، فالذي يلتزم بسماع الغناء، وبالعادة الشيطانية التي يسميها الناس (عادة سرية) من باب التلطيف لها، وإلا ليست سرية، سرية على من؟ على الناس؛ لكن الله يراك وأنت تفعل هذه الفعلة القبيحة المحرمة، التي لا تفعلها إلا القرود -والعياذ بالله- وأيضاً الملتزم بالأغاني، والأفلام والمسلسلات وماذا بقي معك من الالتزام؟
فيا أخي الكريم! هذه جنة لا تُنال باللعب، ولا تُنال بالتذبذب والتقلبات، هذه سلعة غالية، يبذل في الحصول عليها النفس والمال هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف:10-11].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] فالجنة سلعة غالية، ولا تنالها الهمم الضعيفة، والنفوس الخبيثة.
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ |
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غالية على الكسلانِ |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ بين الأراذل سفلة الحيوانِ |
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذووا إيمانِ |
يا سلعة الرحمن لولا أنها حفت بكل مكاره الإنسانِ |
ما كان عنها قط من متخلفٍ وتعطلت دار الجزاء الثاني |
لكنها حفت بكل كريهةٍ ليصد عنها المبطل المتواني |
وتنالها الهمم التي ترنوا إلى رب العلا في طاعة الرحمنِ |
فالطريق صعب، والله يقول في القرآن: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3] تريد أن تكون ملتزماً ولا تفتن بالأوامر، والنواهي، والطاعات، والمعاصي، والذنوب، ثم تنهزم وتقول أنك ملتزم؟! لا. إما أن تسلك الطريق بجد والتزام وتكون صادقاً، لا تكون مذبذباً، مرة هنا ومرة هناك لا يوجد لك خيار، سر في الطريق والزمه حتى تلقى الله.
الجواب: الحياة الإسلامية حياة متكاملة، فيها جد، وفيها أيضاً نوع من الترفيه في حدود المباح، لكن الترفيه في حياة المسلم مثل الملح في الطعام، فإذا كثر أفسد الطعام، وإذا قل صار الطعام سامجاً ليس لـه طعم، فنريد من الشباب أن يكون جل وقتهم جد، ولا مانع من بعض الأمور التي فيها نوع من الترفيه الحلال، مثل ما ورد في السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة ، وكذلك المصارعة رياضة، لكن لا تنظر إليها في التلفزيون، ترى مصارعة الكفار وهم شبه عرايا، وبعض النساء تطالع في هذه الأجسام الخبيثة، لا. لكن لو ذهبت رحلة مع زملاء وعملتم نوعاً من اللعب ليس هناك مانع، لكن في حدود الحلال، بحيث لا تكثر؛ لأنها إذا كثرت أفسدت الحياة، فلا بد منها، وهذه لها موازين دقيقة، مثل الذي يضع الملح في الطعام، بعضهم يضع قدراً وفيه مد رز، ويضع عليه كيس ملح، ما رأيكم في هذا؟ ما أصبح رزاً بالملح، أصبح ملحاً بالرز، فبعض الشباب حياته كلها ضحك، وعبث، ولعب، ورياضة، وكرة، وإذا قلنا: اقرأ كتاباً قال: يا شيخ! قد قرأنا من زمان، وقالوا: هذا ترفيه بريء، لا يصح، يجب أن تكون الحياة كلها جد، إلا فترات يحاول فيها الإنسان أن يجدد النشاط، لئلا تكون حياته سامجة، وليس فيها شيء من البراءة.
الجواب: بالعلم؛ لأنك تعيش في غربة الإسلام؛ ولأن لك أجر خمسين حينما تتمسك بالسنة، قالوا: (يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: منكم، ثم قال: أنتم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون) وأن تعرف أنك إذا تمسكت بدينك إنما تكون كالقابض على الجمر، ما رأيكم بشخص في يده جمرة وهو قابض عليها، هل هو مرتاح أم هو في صعوبة؟ ليس مرتاحاً؛ لأنها جمرة، كذلك الدين، القابض على الدين كالقابض على الجمر؛ لأن كثرة السهام والتصويبات من الأعداء موجهة إليه، خصوصاً في زمامننا هذا، كان الناس في الماضي المؤثرات سهلة، كان الشاب لا يعرف شيئاً، إلا غنم أبيه، وزرع أبيه وبستان أبيه، وثورٌ يقوده، أو غنم، والقرية محصورة، لكن اليوم العالم كله في يده، العالم كله في الدش عند بعض الناس، وجاء الإنترنت الأخطبوط الخبيث هذا وقلب الدنيا كلها، ثم تبرج وإغراء، المرأة في الماضي كانت لو خرجت في الشارع لا أحد ينظر إليها، قد يبست من التعب، ومن الغم، ومن الرعي، واليوم المرأة جالسة بالبيت تتحسن وتتدلع، وجلبوا لها جميع وسائل الزينة، لكي تفتن الناس، وتشتري براتبها -ثمانية آلاف- مساحيق وموديلات، ولا تعطي بعلها أو أباها ريالاً واحداً، لكي تفتن وتغري.
فأصبح وضع الإنسان الذي يريد الهداية أمام كثرة هذه الفتن والمغريات وضعٌ متعب، لكن لا خيار لك، إما أن تمشي في طريق الهداية؛ أو النار، إذا كنت تريد طريق النار؟! يقول الله عز وجل: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء:168-169] طريق جهنم مفتوحة، تريد أن تعود؟ فعد، وأنت أبصر بنفسك.
الجواب: غض البصر من أعظم الأعمال والقربات، ينال به الإنسان ثواباً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى، وله فوائد كثيرة:
وأول فائدة من غض البصر: أنه يصعد إلى درجة الإحسان، لماذا؟ لأنه ما غض بصره إلا لشعوره بأن الله يراه، وهذه مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فعندما رأيت امرأة وعرفت أن الله يراك غضضت بصرك، فهذه مرتبة الإحسان.
ثانياً: يفتح الله بصيرتك، فإن الجزاء دائماً من جنس العمل، فمن غض بصره أطلق الله بصيرته في دين الله، ومن فتح بصره أعمى الله بصيرته في دين الله، والجزاء من جنس العمل.
ثالثاً: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه).
رابعاً: حسنة؛ لأن العبد إذا هم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، هممت أن تنظر إلى امرأة ثم غضضت بصرك، ما الذي جعلك تغض؟ خوفاً من الله، فغضك للبصر ثواب.
خامساً: أن تعلم أن نظر الله أسرع إليك من نظرك إلى المنظور إليه، قالوا للحسن البصري : [بم نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه] فأنت تنظر والله ينظر فما هو موقفك؟! لو أن رجلاً معه امرأة ويمشي بها في الشارع، وجئت أنت أمامه وهو واقف بجانبها وأنت تنظر إليها وهو واقف، هل أحد يفعل هذا؟ لا يستطيع، يخجل ممن؟ من الزوج، أفلا تخجل من الله؟! هذه من محارم الله، وكل هذه الأمور يجب أن تستشعرها وتستعين بالله ثم تغض بصرك.
أيضاً: أن تعلم أن إطلاق البصر لا يفيد، يعني: مهما نظرت هل تشبع؟ مثل رجل يكاد أن يموت من الجوع، وهناك قدر مملوء من أحسن الطعام، ولكنه بعيد، وهو يشم، هل يشبع بالشم؟ لا يشبع إلا (بضرب الخمس) إذا أكل، كذلك هناك امرأة هل تشبع بالنظر؟ لا يشبع إلا (بضرب الخمس)، وجوع الجنس مثل جوع البطن، إذاً لماذا تعذب نفسك وتنظر في النساء؟ يقول الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أفضل لك، هذا ربك يقول: إن غض البصر أزكى لك.
ثم في غض البصر راحة القلب، فإن القلب مصب العين، فإذا صبت العين على القلب جمراً احترق؛ ولهذا يقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ |
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ |
والآخر يقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفـه فمن المطالب والقتيل القاتل |
وبعض الناس تجده يخرج من بيت أهله ليس عنده مشكلة، فإذا ذهب إلى السوق أو الشارع ورأى امرأة، نظر إليها ونظرت إليه، وعاد إلى البيت وهو مغموم مهموم، يقولون له: تعش، قال: لا أريد، ماذا بك؟ ما الذي حصل؟ نظرة.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ |
وماذا تعمل؟ غض بصرك، صحيح أن غض بصرك متعب؛ لكنه أسهل مليون مرة من تعب فتح البصر، طاعةً لله تبارك وتعالى، والله لا يقول لك غض بصرك دائماً، لا. غض بصرك إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت فافتح عينك على امرأتك إلى أقصى حد؛ لأنها معك، لكن أن تنظر في بنت الناس، ماذا تستفيد؟ ذهبت بيت أهلها، وأنت ذهبت بيت أهلك، وهب فرضاً أنك استطعت أن تصل إليها عن طريق الحرام، وأشبعت جوعة الجنس التي هي مثل جوعة البطن، نحن تغدينا قبل الساعة الثانية، والآن ما رأيكم هل أنتم جائعون؟ كذلك الذي يصل إلى الحرام بعد يومين يريد الحرام، وإلى متى وأنت في الحرام؟ أوقف الحرام إلى أن تتزوج ثم انظر إليها؛ لأنك تنظر في شيء في يدك، إذا أردتها فهي حاضرة وهي حلال ولك أجر على جماعك.
الجواب: الحل أن يعرف أن الطريق طويل وشاق، ومحاط بالشهوات والشبهات والمكاره، وإن الأمر يتطلب منه أن يستقيم إلى أن يموت، يقول الله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وما هو اليقين؟ الموت، وإذا لم يدرك الإنسان هذه المعاني فإنه سيسقط في الطريق ولن يواصل.
الجواب: هؤلاء مفتونون، وقعوا في الفتنة، وسوف يبتليهم الله سبحانه وتعالى، يقول ابن عساكر في تاريخ بغداد : إياكم ولحوم العلماء فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، ومن ابتدرهم بالثلب، ابتلاه الله قبل الموت بموت القلب.
العلماء واجهة الدين، وهم الممثلون لهذه الشريعة، وليسوا ملائكة معصومين، وليسوا أنبياء، وإنما هم بشر يخطئون ويصيبون، لكن خطأهم مغفور، إذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور، وإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة؛ لكن من ينتقدهم، أو يأكل لحومهم، أو يشوه سمعتهم، أو يجرحهم؛ هذا ليس له أجر بل هو على خطر، وسوف تقع به فتنة إن لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى طالب العلم أن ينصرف إلى العلم الشرعي، وحفظ كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لاحظ خطأً من عالم من العلماء فيسلك في تصحيحه مسلك أهل السنة والجماعة ، المعروف بأدب الخلاف، يتصل بالعالم، أو يذهب إليه، أو يرسل له رسالة، أو يثني عليه بما هو أهله، ويعترف له بالفضل، ثم يقول له: ولكن يا شيخ! لي ملاحظة لا أدري أنا على حق فيها أو أنت على الحق، لا تظن أن ملاحظاتك صحيحة، يمكن أنك تلاحظ ملاحظة وأنت مخطئ، والشيخ عنده عليها دليل، فتقول له: عندي ملاحظة ولا أدري هل أنا على صواب أو على خطأ أريد أن أسمع رأيكم في الموضوع، قلتم كذا، أو سمعت منكم كذا، أو ذكر عنكم كذا، فإذا سمعت كلامه، إما أن يقول: نعم. أخطأت أنا وأستغفر الله، أو يقول لك: لا يا أخي! ما هو بخطأ، والصواب كذا وكذا، ويبرر لك ويقنعك.
أما أن تأكل لحمه في المجالس وتشوه صورته وتغتابه، فأنت في هذا تضر نفسك؛ لأنك تعطي حسناتك لغيرك، وفي نفس الوقت إن لم يكن عندك حسنات؛ تأخذ ذنوبه على ظهرك، ثم بعد ذلك تخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
الجواب: أما النشرة التي فيها صورة بالكاريكاتير لجنازة عليها ثعبان هذه صورة رسم يد، وهي باطلة ولا تجوز، وقد سألنا عن صحة الخبر الذي ذكر أنه في البقيع في المدينة وعرف أن الكلام لا أساس لـه، وأن القصة مختلقة ومكذوبة.
أما ما ذكر عني من قصتي التي حصلت في الأردن فهذه القصة نقلها لنا الثقة والذي أخبرنا بها شاهد عيان رآها بعينه، وهو ثقةٌ لا نظن به كذباً، وهو المهندس علي بن غرم الشهري ، كان طالباً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران ، وجاءنا في أبها يتدرب أثناء الصيف، وهو متخصص في الحاسب الآلي، واشتغل معنا في شركة كهرباء الجنوب، وعرفنا منه الجدية والحماس للدين والدعوة، وهو رجل داعية نشيط، يعيش كل وقته لله وللإسلام، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، وأخبرنا أن القصة وقعت في الزرقاء في الأردن وهو موجود، وأنه رأى الثعبان الذي وجدوه في القبر عندما حفروه، وذهبوا إلى الشيخ وكان موجوداً معهم في المسجد، قال الشيخ: احفروا قبراً آخر، فحفروا قبراً آخر، فخرج لهم الثعبان نفسه من المكان الثاني، فأرادوا أن يقتلوه فقال الشيخ: ما دام أنه خرج معناه أنه ليس حنشاً، فأخرجوه ودفنوا هذا الولد، وهو شاب داست عليه سيارة، ووضع في القبر، وعندما وضعوه في القبر؛ تحرك الثعبان ودخل عليه في القبر، ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، ثم ذهبوا إلى بيت العزاء ووجدوا الوالد، فأخبروه فقال: كان لا يصلي، وكان يشرب الخمر، والعياذ بالله.
هذه القصة منقولة بالسند الثقة الذي لا مطعن فيه، وقلت هذا الكلام بعدما أخبرنا به الشيخ علي، وقلت له: أننقل عنك؟ قال: انقلوا عني، قلت هذه الكلمة في مسجد من مساجد قرى مدينة أبها ، وسجلت، وانتشر الشريط في عقوبة تارك الصلاة، ثم جاءت مكالمات من بعض المشايخ، فتثبت أكثر، واتصلت بالأخ علي قال: نعم. انقل عني وعلى ذمتي، بعد ذلك أردت التثبت من ذلك، وهل هذا ممكن من الناحية العقدية، فقرأت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في موضعين من الفتاوى، وقد سئل: هل يمكن أن يرى الناس في عالم المشاهدة شيئاً مما يحدث في القبور من نعيمٍ أو عذاب؟
قال: نعم. وقد حدث هذا كثيراً.
وهناك قصة لـابن عمر رضي الله عنه نقلها عنه ابن رجب الحنبلي في كتابه أهوال القبور أنه رأى رجلاً يطلع من قبرٍ والنار تشتعل من رأسه.
ونقل ابن القيم قصصاً كثيرة من هذا النمط.
فلا مانع من ناحية المعتقد، المهم أن يثبت الخبر بالنقل عن الثقة، فقصة الزرقاء هذه على مسئولية ناقلها وهو المهندس علي بن غرم الشهري .
أما قصة المدينة فيقولون أنها: ليست صحيحة ولا لها سند ثابت.
وأما النشرة الثانية نشرة حامل مفتاح الهجرة النبوية نزيل المدينة الشيخ أحمد الذي يقول أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أنه خجلان من ربه عندما يموت في كل يوم سبعين ألفاً على غير الإسلام، فهذه نشرة باطلة مكذوبة، قد صرح العلماء بأنها مختلقة وأنها خرافة، وممن صرح في ذلك سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه، فله رسالة في الرد على هذه الفرية، قال: إنها تظهر من زمان، من حوالي أربعين أو خمسين سنة ونحن نسمعها، وكلما ماتت قام شخص وطبعها ثلاثين مرة ووزعها، الذي يوزعها يأتيه شيء، والذي لا يوزعها تصيبه مصيبة.
وهناك نشرة ثالثة، نشرة السيدة زينب البنت التي عمرها ستة عشر سنة، التي أصيبت بالسرطان ورأت السيدة زينب في المنام فقالت لها: قولي هذه الكلمات، وانشريها على ثلاثة عشر شخص، وإذا لم تنشرها تحدث لك مصيبة.
هذه وأمثالها من النشرات الخرافية التي يروجها أعداء الإسلام بين الفينة والأخرى من أجل إظهار أن هذا الدين دين خرافة؛ لأنه إذا لم يوزعها ولم يحصل له شيء قال: والله إنها ليست صحيحة، إذاً الدين كله ليس صحيحاً.
الدين من عند الله، والدين قال الله قال رسوله، وليس الدين من الرؤى والأحلام، ومن الخرافات والخزعبلات، فإذا رأيت مثل هذه فواجبك أن تأخذها وأن تمزقها وترميها، أما أن تنشرها وتساعد على ترويجها فهذا حرام.
الجواب: أما السوني هذا فلا أعرفه حتى أحكم عليه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إلا إذا كان من أجهزة لعب الأطفال، وليس فيها شيء يؤثر على معتقدهم، وإنما لمجرد اللهو بها كلعبة من اللعب مثل اللعب التي تعلب بها الأطفال، فهذه فيها سعة، أما إذا كان لها علاقة بأخلاق أو معتقدات، أو بتصورات، أو تربية على شيءٍ لا يرضي الله فهذه تأخذ حكمها من نوعيتها.
الجواب: الإنترنت جهاز يسمونه الأخطبوط المعلوماتي، يجلب كلما تريد من المعلومات في الأرض، وهو سلاح كما ذكر الأخ ذو حدين، وهناك فلترة لـه من قبل المسئولين في مدينة الملك عبد العزيز العلمية، وقد قاموا بإجراء حصار عليه ومراقبة بحيث لا يدخل بعض الأشياء الخطيرة على دين الإنسان، وعقيدة الإنسان، وأمن هذه البلد؛ لكن مع هذا أيضاً أهل الشر يتفننون كلما سد باب فتحوا آخر، فأنت إذا كانت لك حصانة إيمانية، واستقامة شرعية تمنعك من أن تقع في هذا وعندك حاجة إلى مثل هذه المعلومات، وعرفت أنك إن شاء الله تضمن ألا تنحرف فلا بأس؛ لأنه سلاح ذو حدين مثلما عرفت.
أما إذا لم تكن عندك حصانة، وتشتري هذا الجهاز، ثم تقتحم ميادينه، وتخرج فيه إلى كل شر فهذا خطرٌ عليك، وقد أخبرني من أثق فيه بوقوع كثير من الناس في هذا الضلال، منهم شخص في مكة استطاع أن يتعرف على فتاة من خلال الإنترنت، ثم حصل له بها الضلال، وانحرف عن دين الله، فترك الصلوات، وترك بيته وزوجته وأطفاله، واستأجر شقة في جدة وكان يذهب يومياً بعد الدوام لكي يمارس فيها الشر عن طريق الإنترنت واللقاءات التي يحددها بمواعيد من الإنترنت، حتى انسلخ والعياذ بالله.
فهذا سلاح ذو حدين وأنت أعرف بنفسك إن كنت، تستطيع أن تمسك نفسك وتحجزها، فإذا رأيت أنه خطر عليك فلست بحاجة إلى أن تورد نفسك موارد الهلاك.
الجواب: جيد أن مسألة أنها حرام معروفة؛ لأن بعض الناس عنده شك في حرمتها، وقد صرح العلماء بحرمة وضعها في البيوت، بل أفتى سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين بأن من وضع الدش في بيته أنه يعتبر غاشاً لرعيته، وفي الحديث: (من مات غاشاً لرعيته لم يرح رائحة الجنة) هذا حديث صحيح، فالذي يضع الدش فوق بيته هل أخلص لرعيته وأولاده وزوجته أو غشهم؟
لا شك أنه غشهم وخدعهم، وأوردهم موارد الهلاك، لما تبثه هذه القنوات من شر ولما تلتقطه هذه الأطباق من باطل، ثم تدش به أهل البيت، واسم (دش) اسم على مسمى، وصدق من سماه دشاً؛ لأنك إذا تخاصمت أنت وشخص وتكلمت عليه تقول والله أعطيته دشاً، يعني: أغرقته بالكلام البطال.
كذلك هذا أعطاك دشاً، دش ماذا؟ خير؟ لا والله دش شر ودش باطل، فكك الأسر.. ضيع الأسر.. كانت الأسرة تجتمع على السفرة سوياً، ويستيقظون سوياً، ويسمرون سوياً، وينامون سوياً؛ لكن الآن بعدما دخل الدش البيت ما عدت تراهم معاً، الأب على الأخبار، والولد على المباراة، والبنت على المسلسل، والمرأة على طبق الطعام، تطبخ طبق اليوم، وكل فرد لحاله، يرقدون وكلٌ يرقد في موعد، ويأكلون لكن متفرقين، يذهب الأب المطبخ ويأكل وما عادت المرأة تعرف بعلها.
يقول أحد الناس: أدخلت الدش وأريد أن أنام يقول: أنادي المرأة ولا تأتي، يقول: فآتي وأسحبها من يدها، يقول: وأرقد قليلاً ثم أغمض وأفتح عيني وإذا بها قد قامت ووضعت المخدة، وذهبت لترى الفيلم، يقول: أولادي أرقدهم بالقوة، وأقوم بعد قليل، وإذا بهم قد شردوا وذهبوا كلهم يتابعون التلفاز؛ لأنه شر متواصل، شر لا يقف؛ لأن البث ينطلق من الأرض كلها، فعندما يكون عندنا ليل يكون عندهم نهار، فالبث متواصل خلاف أربع وعشرين ساعة مع الشيطان، حتى ضاعت أوقات المسلمين، وضاعت صلوات المسلمين، وضاعت أخلاق كثير من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاستمرار الناس في تركيب هذا الشيء أو عدم إزالته يدل على جهلهم في حقيقة إيمانهم، وحقيقة حياتهم، وحقيقة دورهم في تربية أبنائهم، وأسرهم، وإن لم يتوبوا؛ فسيندمون ندماً ولكن بعد فوات الأوان، والله أعلم.
الجواب: أيها الإخوة! إن أعظم مصاب تصاب به الأمة هو فقد علمائها؛ لأن علماءها مصابيح الدجى فيها، هم الأنوار في الأرض، هم الشموس، هم البدور، إذا انقطعت الكهرباء.. الآن في هذا المسجد هل يقوم أحد يبحث عن الكهرباء؟ هل نستطيع أن نسرج العمود ونقول: أسرج يا عمود؟! العالم مثل النور، فإذا مات العالم أظلمت الأرض، وقد سمي فعلاً هذا العام بعام الحزن؛ لأن الأمة فقدت فيها أبرز العلماء، ماتوا بقضاء الله وقدره، وبآجالهم، وكلهم قد تجاوز السبعين والثمانين بل بعضهم وصل التسعين، منهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز طيب الله ثراه، ونور الله ضريحه، وقدس الله روحه، وليست هذه -يا أخوان- عبارات بدعية، هذه يقولها شيخ الإسلام ، ومعنى قدس وأنا كان في نفسي منها شيء بحكم الجهل، ولما سمعت شيخ الإسلام يقول: قدس الله روحه قلت: الله يقدس؟ التقديس يكون من العبد، رجعت إليها في اللغة وإذا معنى قدَّس أي: طهر، ليس عظم، فـشيخ الإسلام يقول: قدس الله روحه، يعني: طهر الله روحه، ادخلوا الأرض المقدسة، يعني: الأرض المطهرة، فالتقديس لـه معنى عندنا وهو التعظيم، ولكنه لـه معنى في الشرع وهو التطهير، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لسماحة الوالد الشيخ.
بليت الأمة به بلاءً عظيماً، بل والله لقد تغير الجو، وتغير الليل والنهار في أنظار وأبصار كثير من طلبة العلم، وأنا حينما بلغني الخبر وكنت ذلك اليوم قد خرجت من المسجد الحرام وذهبت إلى البيت، ونمت قليلاً، ورأيته في المنام في ذلك اليوم نفسه وأننا نتجه إلى مكان نصلي الجمعة.. موكب من السيارات، والمشايخ، وطلبة العلم، وفجأة توقف موكب الشيخ، ووقف معه بعض طلبة العلم، فمشى أناس وأنا وقفت، وقلت: ما للشيخ وقف هنا لا يصلي؟ ونزلت وإذا بأحد العساكر المكلفين بحراسة الشيخ يقابلني، قلت له: ما به الشيخ لا يصلي معنا؟ فقال لي: الشيخ لن يصلي معكم هذه الجمعة، أي والله بهذا النص، واستمريت في المنام قليلاً، وإذا بالتليفون يضرب عند رأسي، ويتصل بي أحد الإخوة من منطقة الزلفي ، يقول لي: عندك خبر عن الشيخ؟ -صباح الخميس 28/ 1/- قلت: نعم. عندي خبر، الحمد لله خرج من المستشفى، وأمس استقبل الناس وهو طيب ووضعه تمام، قال لي بصراحة: أحسن الله عزاءك فيه، وحين قالها شعرت أن شيئاً كالرمح استقر في كبدي، ألم ما شعرت به في حياتي، فوضعت يدي على صدري وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اجبرنا في مصيبتنا وأبدلنا خيراً منها، مصيبة يا إخواني، مات رحمة الله عليه، ولكن لم يمت علمه، فعلمه موجود، وكتبه منتشرة وآثاره ظاهرة، وما علينا إلا أن نتعرف على سيرته وعلى منهجه، وعلى حياته؛ لنأخذ منه عبرة.
ثم بعد ذلك تبعه العلماء مات الشيخ علي الطنطاوي ، ثم مات الشيخ صالح المنصوب ، وقبله مات الشيخ عطية سالم بـالمدينة ، مات الشيخ مناع القطان في الرياض ، وآخر من سمعنا من موت العلماء الشيخ محمد ناصر الدين الألباني غفر الله لـه ورحمه وجمعنا به في جنات النعيم فقد كان خادم السنة، ومحقق الحديث، الذي قضى حياته كلها في خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، فهذه مصيبة.
ولكن أيها الإخوة! الخير في هذه الأمة، وهذه الأمة كالغيث؛ لا يدرى الخير في أوله، أو في آخره، يموت عالم، ويعيش ألف عالم، ها نحن نرى الآن والحمد لله طلبة العلم يملئون الجامعات، ويملئون المساجد، ويهزون المنابر بالخطب، ونرى منهم عودة صادقة إن شاء الله، فالدين باقٍ، والخير في هذه الأمة باق، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرحم ويغفر لعلمائنا، وأن يعوضنا منهم خيراً في أبنائنا وشبابنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر