أيها الإخوة والأخوات .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله هذه الوجوه وحرمها على النار، ونضرها بالنظر إلى المليك الغفار، في جنة المأوى ودار الأبرار، حياتنا فتن ومجاهدة وشهوات ومعركة، ميدان الشهوات كبير والصراع فيه خطير، إنها معركة الإنسان مع غريزته المستترة في أغوار نفسه، والهالكون في أغوار هذه المعركة من البشر كثير ، والناجون قليل قليل، يجتمع للمنتصر في معركته إقامة المروءة .. صون العرض .. وحفظ الجاه .. راحة البدن .. قوة القلب .. طيب النفس .. إقامة الفؤاد على الدين .. انشراح الصدر .. قلة الهم والغم والحُزن .. عز المكانة .. نضرة الوجه .. مهابة في قلوب العباد .. زوال الوحشة .. قرب الملائكة .. بعد الشياطين .. ذوق حلاوة الطاعة .. طعم حلاوة الإيمان .. زيادة في العقل والفهم.. وهكذا فضائل الدنيا وعظيم فضائل الآخرة.
لقد حذرنا سلفنا من خطورة الشهوة، قال يحيى بن معاذ: "من أرضى الجوارح باللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات".
وقال عبد الصمد: "من لم يعلم أن الشهوات فخوخ فهو لعاب".
وقال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم، ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم؛ قل سالكوها، وزهدهم فيها قلة علمهم، وما هيئوا له وما هيئ لهم فقل علمهم بذلك، واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعرت عليهم الطريق، وبعدت عليهم الشقة، وصعب عليهم مرتقى عقباتها وهبوط أوديتها وسلوك شعابها، فأخلدوا إلى الدعة والراحة، وآثروا العاجل على الآجل، وقالوا: عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة، فنظروا إلى عاجل الدنيا وأغمضوا العيون عن آجالها، ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها، ذاقوا حلاوة مبادئها وغاب عنهم مرارة عواقبها، اشتغلوا عن التفكر وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.
وقد حذرنا الله تعالى من خطر الشهوات، فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) وقال: (اتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
وهنا يأتي السؤال ويقول: لماذا خلقت الشهوة أصلاً؟ ما هي الحكمة من وجودها؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجيباً: إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمةً مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها كالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا؛ كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته.
قال تلميذه ابن القيم: اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن جعل فيها -أي: في النفس- بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته، فلو لم يوجد شهوة هل كان هناك زواج وأولاد وبقاء النسل البشري؟
وقال مذكراً ليتأمل المسلم كيف جمع الله -سبحانه وتعالى- بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه.. قال: جعل الله فينا أمرين: الشهوة والعقل، الشهوة لهذه الحكم، والعقل ليتحكم في الشهوة، ويصرفها فيما أراد الله.
لقد توعد الله تعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68]، وقبل هذا العذاب في النار يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم: (فقال لي الملكان: انطلق انطلق؛ فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم -من مكان الجريمة، أين مكان الجريمة؟ الأعضاء التناسلية، أين هي؟ تحت، من أين يأتيهم؟ من تحت- فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا- وارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت له: وما هؤلاء؟ قال: أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة، فمن يطيق ذلك؟!
وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات من النظر والكلام واللمس هي الخطوات الأولى في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها..
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتـها من الحرام ويبقى الوزر والعار |
تبقى عواقب سوء في مغبتـها لا خير في لذة من بعدها النار |
كل شهوة تستدعي ما دونها حتى يهلك الإنسان، لقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباده جاهداً في ذلك، قال تعالى عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17] إنه يسعى بكل وسيلة لإضلالنا وإغوائنا وإيقاعنا في الصغائر والكبائر.
لقد أخبرنا الله عن الذين فروا في أحد أنه استزلهم الشيطان، قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155] وهكذا الذين يسقطون في فخاخ الشهوة إنما استزلهم الشيطان، يستدرجك لإيقاعك في الصغيرة.. نظرة .. كلمة .. مغازلة.. ثم يقول بعد ذلك لك: استمر، ثم تقع الخسارة الكبرى ويقع الانحراف.
كان السلف يخشون سوء الخاتمة، بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أكل هذا خوفاً من الذنوب؟ قال: [الذنوب أهون! إنما أبكي خوفاً من الخاتمة]..
إن التعلق بالشهوات واستيلاؤها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة؛ فإن هذه الأشياء التي تشغل بال الإنسان من الحرام، وانشغاله بها وانهماكه، إذا نزل به الموت سيطفو على السطح، وسيظهر على لسانه، وحين تخونه قواه وتخور يطفو ما كان مخبأً من هذه الشهوات المحرمة.
يروى أن رجلاً عشق فتى واشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه حتى مرض ولازم الفراش بسببه، حتى أوشك على الهلاك، وأراد أن يراه فلم يستطع، فأسقط في يده وانتكس، وبدت عليه علامات الموت، فجعل يقول والموت نازل به:
أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنفِ النحيل |
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل |
فقيل له: يا فلان! اتق الله. قال: قد كان. فما أن جاوز باب داره حتى سمعوا صيحة الموت.
وآخر كان واقفاً بإزاء داره، فمرت به فتاة لها منظر جميل، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وكانوا من قديم يغتسلون في الحمامات العامة، فأغواه الشيطان فقال: هذا حمام منجاب، وأشار إلى باب داره، فدخلت المسكينة وهي لا تدري ما الأمر، فأغلق الباب فأسقط في يدها، لكنها كانت ذكية، فأظهرت البشر والسرور، وقالت: يصلح أن يكون معنا ما يطيب عيشنا من طعام، فخرج وترك الدار ولم يغلقها فهربت بذكائها وحسن تدبيرها، وهكذا الفتاة لو تآمروا عليها فهي صالحة وإيمانها يدفعها للنجاة، فلما رجع ووجدها قد هربت هام وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطريق كالمجنون، ويقول:
يا رب قائلة يوماً وقـد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب |
فبينما هو يوماً على ذلك إذ سمع صوتاً يقول له:
هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب |
فازداد هيامه حتى حضرته الوفاة، فكان آخر كلامه من الدنيا:
يا رب قائلة يوماً وقـد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب |
ولم ينطق بالشهادة، حمانا الله من مثل هذا المصير!
إن الذين تستغرقهم الشهوات المحرمة ويتحولون إلى عبيد لها تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فيخضعون، وإذا رأى الواحد هذه المرأة التي هام بها وأحبها يفعل مثلما فعل ذلك الذي أحب عزة فقال فيها شركاً وكفراً:
رهبان مدين والذين عهدتـهم يبكون من حذر العقاب قعوداً |
لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لـعزة ركعاً وسجوداً |
نعوذ بالله من الخذلان!
قال ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء: فلو خُيِّر بين رضاه -رضا المعشوق- ورضا الله لاختار رضا المعشوق على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه.. يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة إذا زاد شيء.
قد اتخذه وراءه ظهرياً، وصار لذكره نسياً.. إن قام في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه وفرح بها، خفيفةً لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولو نظرت في أشعار العاشقين والعاشقات وما يغني به المغنون والمغنيات لترى الأدلة على ذلك، اقرأ ما يكتبه هؤلاء من الأبيات والعبارات، وتأمل واعتبر بما يصنع الشيطان في أهل العشق والشهوة المحرمة.. هل يستحق هذا الهوى والغرام أن تختصر فيه الحياة كلها؟
إن من سنة الله تعالى -أيها الإخوة والأخوات- معاقبة من عصاه في الدنيا قبل الآخرة، ولمن يأتون الفواحش عقوبة من النوع الخاص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح.. وقد تحققت هذه السنة الربانية في عصر الفحش والفجور الذي نعيش فيه، فهؤلاء مصابون بالزهري والسيلان، ثم بالأخطر من ذلك بالهربز والإيدز، أعاذنا الله من هذا!
يبلغ الذين ينقل إليهم مرض الإيدز يومياً على مستوى العالم عشرة آلاف، في كل دقيقة يصاب ستة دون سن الخامسة بالمرض، وفي عام ألفين لقي ما يقارب ثلاثة ملايين شخص من حاملي المرض مصرعهم، وتسبب الإيدز في إضافة ثلاثة عشر مليوناً ومائتي ألف طفل إلى قائمة الأيتام، وعدد الذين أصيبوا به في عام ألفين أكثر من أربعة وثلاثين مليون شخص، أما الآن فقد وصلوا إلى خمسين مليوناً من الأشخاص، ثلثهم من الشباب بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين.. بقي أن تعلم أن ثلاثةً (73%) من هؤلاء من الذين يعملون عمل قوم لوط..!
وها هو أحد المصابين به وهو السينمائي الأمريكي روك هيدسون، يقول على فراش مرض الإيدز، فراش الموت: أنا في انتظار القدر، إنه يدق بابي، أستمع إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا وأنا في هذا المرض سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين وتهنئتي بالتماثل للشفاء، ومحاولاتهم رفع معنوياتي، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي في اللحظات الأخيرة.
وها هو أحد الشباب الذي كان يعاشر أحد الفتيات بالحرام خارج البلاد، لما أراد أن يعود وجد ورقةً قد كتب عليها: مرحباً بك عضواً في نادي الإيدز. فضاق عليه الأمر وصعق، يعودون من الإجازات فيعانون الأوجاع والالتهابات، فيعملون التحليلات ويكتشفون النتائج الفاجعات؛ فيعتزلهم الناس أشد من اعتزال الأجرب، نعوذ بالله من هذا المسلك وهذا المصير!
عفوا تعف نساؤكم في المـحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم |
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم |
من يزن يزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم |
وفي رواية:
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعـاً سبل المودة عشت غير مكرمِ |
لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ ما كنت هتاكاً لحرمة مسلمِ |
من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ |
إذاً: من يتجرأ على انتهاك عرض الآخرين معرض أن يرى ذلك في ابنته أو أخته، ومن لا يبالي بمحارم الله قد تخونه زوجته، ومن تتجرأ على ذلك معرضة أن تراه في بناتها ونسلها.. جنبنا الله كل مكروه!
فحافظ أخي وحافظي أختي على هذا العرض، واعلموا أنه قد يجازى الإنسان من جنس عمله فيقع لأهله ما أوقعه بالناس.
ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بهذا لقابله أسوأ مقابلة.
ومنها: سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين.
ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره، فتذهب حرمة الفاعل، وتسلب أحسن الأسماء من أسماء العفة والبر والعدالة، ويتصف بعكسها كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن، يسلب اسم المؤمن.. (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فإذا زنا العبد خرج من الإيمان ولم يخرج خروجاً كلياً إلا بالكفر، ويعرض نفسه لسكنى التنور، يفارق الوصف الطيب.. والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26] ويلزمه الوصف الخبيث .. الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، وقد حرم الله على الجنة كل خبيث، وجعلها مأوى الطيبين، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32].. وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله جهنم دار الخبثاء، ويوم القيامة يميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه في جهنم.
ومن عقوبات الزاني والزانية: الوحشة التي يجعلها الله في هذه القلوب الموحشة، فتعلو الوجه، ويزول الأنس.. هذه الوحشة التي يراها حتى أقرب الناس إليه.. تفوح رائحة الزنا منه.. ضيق الصدر وما يحصل له من الغم والهم بسبب هذه المعصية.. معذب يقول: في بطنها، في أحشائها ولد مني، ما هو واجبي؟ ماذا علي؟ هل علي نفقته؟ هل علي تربيته؟ هل علي أن أضيفه لاسمي؟ ماذا أفعل؟ لقد تورطت، ويعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، وإذا كان الله يعاقب لابس الحرير في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة، وشارب الخمر في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة إلا إذا تاب، وكذلك الزاني معرض للحرمان من الحور العين.
هذا الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة العيال.. هناك أناس ضيعوا الزوجات والأولاد بسبب السفر إلى أماكن الحرام، زوجته تستغيث وتقول: هل يجب علي أن أطلب الطلاق؟ هل يجوز لي الفراق؟ لم أعد أتحمل.. أأسكن؟ أأعاشر شخصاً في الفراش وأنا لا أعلم هل ينقل إلي مرضاً في هذا الوقاع أم لا؟ ما حال أولادي؟ هل انتقل إليهم المرض أم لا؟ وهكذا يكون العذاب.. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
بعد القمار والمخدرات الفاحشة، أماكن الحرام في أمريكا أكثر من مطاعم ماكتونلد بثلاثة أضعاف، كانوا فيما مضى يحاربونها بالقوانين، لكن نجحت الاستديوهات في تخفيف المراقبة على الأفلام وتغيير مفاهيم الإباحية؛ حتى صارت كثيرٌ من الأفلام التي كانت تحت بند "x" قد أعيد تقويمها اليوم لتصبح تحت بند "r" الأخف؛ وبذلك تعرض على الكبار والصغار، وإلغاء قانون العفة في الاتصالات مما نجحوا به أولياء الشهوات هناك؛ فزالت كثير من القيود القانونية.
أمريكا أول دولة في العالم في إنتاج المواد الإباحية، تصدر سنوياً مائة وخمسين مجلة إباحية بثمانية آلاف عدد، تجارة تأجير الأفلام زادت من خمسة وسبعين مليون دولار في عام (1985م) إلى ستمائة وخمسة وستين مليون دولار في عام (1996م)..!
هؤلاء الناس الذين اتبعوا الشهوات وأرادوا نشرها في العالم، وترسل هذه المغلفات بألوان معينة -بزعمهم- للحماية، أنشئت هذه المواقع العجيبة، حتى أن إحدى شركات الإباحية تدعي أن أربعة ملايين وسبعمائة ألف زائر يزور موقعهم أسبوعياً!! قامت بعض الشركات بدراسة عدد الزوار في صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت، ففي شركة " ويب سايد ستوري" بعض هذه الصفحات يزورها مائتان وثمانون ألفاً وأربعمائة وثلاثون زائراً في اليوم الواحد.. حسب إحصائيات هذه الشركة المسئولة عن الإحصائيات، وهناك أكثر من مائة صفحة مشابهة تستقبل كل صفحة أكثر من عشرين ألف زائر يومياً، وأكثر من ألفي صفحة مشابهة تستقبل أكثر من ألف وأربعمائة زائر يومياً.
هناك أحد المواقع استقبلت خلال سنتين ثلاثةً وأربعين مليوناً وستمائة وثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة زائر، وواحدة من هذه الجهات تزعم أن لديها أكثر من ثلاثمائة ألف صورة خليعة تم توزيعها على الشبكة أكثر من مليار مرة، وقام باحثون في جامعة "كارنيجي ميلُن" بإجراء دراسة إحصائية على تسعمائة وسبع عشرة ألف وأربعمائة وعشر صور من الصور استرجعت ثمانية ونصف مليون مرة من ألفي مدينة في أربعين دولة، نصف الصور المستعادة هي صور إباحية، ثلاثة (83%) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية "نيوز جروبز" في الإنترنت صور إباحية، مؤسسة "زوجبي" في مارس عام (2000م) وجدت أن أكثر من (20%) من سكان أمريكا -وليس من المستخدمين في أمريكا - يزورون المواقع الإباحية.
المواقع الإباحية لا تمثل إلا (1%) من عدد المواقع الكلية في الإنترنت، لكن نحو (90%) من المشتركين في الإنترنت يدخلون على هذا الـ(1%).
مواقع الحرام تبدأ -كما يقولون هم- بفضول بريء، ثم تتطور إلى إدمان مع عواقب وخيمة؛ كإفساد العلاقات الزوجية وتبعات الشر، يغلقون الأبواب على أنفسهم.. الزوجات يشتكين من الأزواج، وتنتهي العملية بشراء الدش واقتناء القنوات الخليعة، وهذه الرسيفرات المبرمجة والمشفرة، والبطاقات، هذه القضية التي وجدت اليوم طريقاً للربح بثمانية عشر مليار دولار.. التجارة الإلكترونية (8%) منها دعارة.. تسعمائة وسبعون مليون دولار حجم التجارة يتوقع أن يرتفع إلى ثلاثة مليارات دولار في عام (2003م).. حجم التجارة الإباحية على الشبكة لم يسبق في فترة من تاريخ العالم أن وصلت القضية إلى هذه الدرجة.. (63%) من المراهقين يرتادون صفحات وصور الدعارة ولا يدري أولياؤهم عنهم بأنهم يدخلون إليها.. أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين سن اثنتي عشرة سنة وسبع عشرة سنة!
ثم يصدرون الإباحية إلينا.. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، الغرب في زماننا بقيمه الفاسدة وأمراضه الخبيثة ومبادئه الذميمة لم يكتفِ بإفشاء الرذائل والمنكرات واستدعاء غضب الجبار، لكن يتمادى إلى محاولة تصدير هذه المصائب إلينا؛ ولذلك نجد جمعية مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتس" تذم وتنكر أية محاولات لدول الخليج العربي لحجب الإنترنت، ويدعونها إلى الانفتاح والحرية!!
أما القنوات الفضائية الإباحية التي تعرض الأفلام والأغاني الجنسية، وتعرض الدعايات الجنسية والاتصالات الهاتفية المباشرة المصورة، وما يسمى بخطوط الصداقة، والغرف الجنسية، وأفلام محاكاة الواقع بالمناظير، والغرف المظلمة، والمسارح، وحفلات الفنادق، وغرف التأجير، والشقق المفروشة، وسفن الدعارة، اليخوت الراسية على الموانئ العائمة؛ شيء هائل وشر مستطير، زد على ذلك أسطوانات الليزر المدمجة، والمجلات، وما يتبادله الطلاب في المدارس من الدسكات، وما يرسل بالبريد الإلكتروني.. النكت القذرة.. رسائل الجوال المهيجة للغرائز.. الكلام الفاحش... لقد صار البلاء عاماً أيها الإخوة!!
وما حول الشباب والصغار والكبار اليوم جنس في جنس؛ عورات مكشوفة .. أعمال محرمة .. أوحال .. قاذورات .. مستنقعات .. عفن .. قرف .. أشياء تدعوا أصحاب الفطر السليمة للتقيؤ والمرض والهم والغم لما آل إليه الأمر وصار إليه الحال، والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان!
والجواب: إن شريعتنا وإسلامنا وديننا الحنيف فيه العلاج لكل مشكلة ومرض ومعضلة، وهذه نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فتعالوا نتعرف على قواعد المواجهة، قواعد الصراع مع الشهوات، كيف نتغلب وكيف نفوز:
إن الإيمان بالله والخوف منه صمام الأمان العاصم للعبد من مواقعة الحرام والانسياق وراء الشهوات .. مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] قالها يوسف عليه السلام فأعاذه الله وصرف عنه الكيد.. إني أخاف الله، يقولها الذين يستظلون بظل العرش في يومٍ لا ظل إلا ظل الرحمن.. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) قال الحافظ ابن حجر : والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه؛ إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها ويقيم الحجة، ويحتمل أن يقولها بقلبه.
وقال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوفٍ من الله تعالى ومتين تقوى وحياء، ولا تصدر مثل هذه الكلمة وما كان من جنسها: مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] في ذلك الموطن إلا ممن راقب الله في سره وفي علانية أمره، وخافه في الغيب والشهادة.. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ [ق:31-33] أين؟ أين خشي الرحمن؟ بِالْغَيْبِ [ق:33] إذا غاب عن الناس وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:33-34].
فالمؤمن إذا تربى على مراقبة الله، ومطالعة أسرار أسمائه وصفاته كالعليم والسميع والبصير والرقيب والشهيد والحسيب والحفيظ والمحيط والمهيمن؛ أثمر ذلك خوفاً من الله في السر والعلانية، وانتهاءً عن المعصية، وصدوداً عن الشهوة المحرمة.. قال الشعبي رحمه الله في معنى "المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً. ويجب على العبد أن يتذكر لحظة عرض الشهوات عليه هذه النصوص التي جاءت في رقابة الله عليه، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب:52].. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4].. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لـها إن الذي خلق الظلام يراني |
أيها المسلم:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب |
فالمؤمن إذا تربى على معاني هذه الآيات السابقة وعمل بمقتضاها أصبح إنساناً سوياً، ونشأ شاباً تقياً، لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة، ولا يتسلط عليه الشيطان، ولا تعمل النفس الأمارة بالسوء فيه، بل يصرخ إن دعته الشهوة: إني أخاف الله، وإذا وسوس إليه الشيطان صرخ فيه: إنه ليس لك علي سلطان. وإذا زين له قرناء السوء شيئاً في هذا من الفاحشة أسكتهم بقوله: لا أبتغي الجاهلين.
من فوائد قول الله عن يوسف: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص:14] قال: إنما أعطاه ذلك إبّان غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة.
إن هذا العبد المتربي على الخوف من الله جل وعلا هو الذي تؤثر فيه كلمة "اتق الله" إذا قارب الحرام يوماً وجاءت "اتق الله" أثرت ونفعت، تأمل ذلك الرجل في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة الذي قال: اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي -لكن ما أرادته وتزوجت غيره- فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين -قحط وجوع- فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك -رمت بآخر سهم في جعبتها، المرأة تحت ضغط الحاجة ولا يجوز لها أن تفعل ذلك، لكن تحت ضغط الحاجة جاءت، فلما قعد بين رجليها قالت آخر شيء يمكن أن تبذله في ذلك الحال- اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -(اتق الله) كلمة كبيرة- قال: فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها.. كم أعطاها حسب الحديث؟ مائة وعشرين ديناراً، والدينار كم يبلغ غراماً من الذهب؟ أربعة وربع، مائة وعشرون في أربعة وربع يساوي قرابة نصف كيلو من الذهب، وإذا قلت: إن كيلو الذهب بحوالي أربعين ألفاً، فيكون أعطاها عشرين ألف ريال، وقام عنها وهي أحب الناس إليه وترك المال..!
قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً. بسبب هذا الرجل الذي عمل هذا العمل، هذه كلمة "اتق الله" أثرت فيه، ما الذي أثر فيه؟ مراقبة الله والخوف منه (اتق الله) صار لها معنى.
لا خير فيمن لا يراقب ربه عند الهوى ويخافه إيماناً |
حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى يخشى إذا وافى المعاد هواناً |
ولذلك يقوم عن الحرام ولا يأتيه، ومتى أصلح العبد قلبه وعمره بالتقوى دخل في زمرة عباد الله المخلصين، هؤلاء يحفظهم الله.. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] وهو الذي قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40] إذاً.. من أراد النجاة من مستنقع الشهوات فعليه أن يربي نفسه تربية إيمانية متكاملة يضمنها معاني التقوى والمراقبة والخوف من الله ورجاء الله ومحبته .. وهكذا، ثم يحاسب نفسه ويسائلها ويعاتبها، يتفقد قلبه ويفتش عمله، يستعرضه، ما نصيب الذكر من يومه؟ ما نصيب القرآن من قراءاته؟ ما نصيب الرقائق من مسموعاته؟
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] قال: ما يجد في نفسه من الشهوة، قال العلامة الأمين الشنقيطي : فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، والعبد موقوف بين يدي الله، مسئول عن حواسه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] إنها النظرة، السهم المسموم، رائد الشهوة، النظر المحرم يثمر في القلب خواطر سيئة، وأفكاراً رديئة، تتطور لتصبح عزائم وإرادات وأعمال، وتأمل الآية كيف ربطت بين أول خطوات الحرام وآخره، ذلك في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] فيه ربط بين أول خطوات الحرام وهو النظر، وآخر ذلك وهو الوطء، قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عنما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر.
مشكلتنا في النظر.. مشكلتنا في الصور.. مشكلتنا في تتبع هذه الأشياء.. الإدمان على النظر إلى الحرام في الأسواق .. في المستشفيات .. في المكاتب .. الشركات .. على أبواب مدارس البنات .. في الشاشات .. في المجلات.. وهكذا، إدمان، نظر وراء نظر، والعقل يخزن في ذاكرته الصلبة، فماذا تتوقع أن تكون المستعادات إذا فتح الجهاز؟!
أيها الإخوة.. النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، النظرة ألم ما بعده ألم..
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر |
لا تستهن بالنظر..
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بين القوس والوتر |
والعبد ما دام ذا طرف يقلبـه في أعين الغيد موقوف على الخطر |
يسر مقلته ما ضر مهجتـه لا مرحباً بسرور عاد بالضرر |
يورث الحسرات والزفرات والحرقات، يرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
فترى المرأة المتزوجة في الشارع تسير، وتقلب فيها النظر، فيتعلق بها القلب، ولا يستطيع الانصراف عنها ولا التقدم لخطبتها لأنها مشغولة بزوج، ولذلك يسعى كثير من الفساق إلى تطليق المعشوقات من أزواجهن، وفي هذا قصص متعددة.
ثم مرسل النظرات يقع صريعاً لها..
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته حتى تشحق بينهن قتيلاً |
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكاناً في قلب الناظر!
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهـداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب |
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب |
وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً فيتبعه جرح على جرح، ثم لا تمنعه آلام الجراحة من استدعاء تكرار النظر!
ما زلت تتبع نظرة في نظـرة في إثر كل مليحة ومليح |
وتظن ذاك دواء جرحك وهـ ـو في التحقيق تجريح على تجريح |
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح |
حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.. احبس نظرك أولاً أسهل من المعاناة بعدها، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (زنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) رواه البخاري.. تأمل التقبيح بوصف هذه النظرة للحرام بالزنا، الشارع يريد أن يكرهنا في النظرة المحرمة، فقال: (زنا العين النظر) حتى نكره النظر إلى الأشياء المحرمة، وحتى نكره النظر إلى ما حرم الله.
إن حال من ينظر إلى الحرام كحال من يشرب من ماء البحر المالح، أفتراه يروى؟ لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشاً، فهو بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججاً وشدة، بعض الناس المساكين يظنون أن النظر يخفف من غلواء الشهوة، يظنون أن متابعة النظر تسكن من آلام النفس.. كلا والله!
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
يقول ابن الجوزي : فاحذر يا أخي -وقاك الله- من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، غير أن علاجه في بدايته قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر فصعب العلاج.
إنه كأس مسكر، فاحذر هذا السهم من سهام إبليس؛ في المجلات والجرائد ومواقع الإنترنت وخادمات في البيوت.
هناك نظر يقع فجأةً، نحن الآن نعيش في مجتمع فيه كثير من التبرج والسفور، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، وأكثر النساء ولو حرصت لسن بمتمسكات بالحجاب، يقع النظر على الصور الواقعية الموجودة التي تمشي على الأرض، وعلى الشاشات، قال عليه الصلاة والسلام لـجرير بن عبد الله عندما سأله عن نظر الفجأة، قال: (فأمرني أن أصرف بصري) والفجأة: البغتة، أن يقع البصر على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم في أول الأمر، لكن يجب أن يصرفه في الحال وإلا أثم، من استدام النظر عوقب.. (يا
وليحذر العاصي المصر على المعاصي من بطش الله وأخذه الأليم الشديد؛ لأن الذي أعطى الحواس قادر على سلبها والمعاقبة بحرمانه.. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46] فهدد بهذا، فالبصر نعمة من الرب، وينبغي على العبد أن يخشى الرب ولا يصرف هذه النعمة في الحرام، استعمل النعم في شكر المنعم.
وغض البصر فيه فوائد كثيرة: امتثال أمر الرب جل وعلا يمنع وصول السهم المسموم إلى قلبك.. يورث قلبك أنساً بالله ولذةً لا تجدها ولا يجدها من أطلق بصره في الحرام، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، وغض البصر يكسب البدن والقلب نوراً، كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة.. وغض البصر يورث العبد فراسةً صادقة، ويورث القلب شجاعة، ويجمع الله لصاحبه بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ويسد أبواب الشيطان، ويفرغ القلب للأفكار الصالحة، لتدبر مسائل العلم.
لو أن شخصاً دائماً ينظر ويفكر، ودائماً يتصور ويتخيل، إذا رأى امرأةً في الطريق تصورها عارية، هكذا يصور له الشيطان، كيف شكلها من تحت هذا الجلباب؟ هذا كيف يفكر في مسائل العلم؟ أو كيف يدعو إلى الله؟ أو كيف يتفكر في عيوب نفسه؟ أو كيف يفكر حتى في مصالحه الدنيوية؟ هؤلاء طلاب يذاكرون في الاختبارات ويفتحون الكتب، كيف يركزون في الفصول الدراسية؟ إذا كان كل الشغل النظر وتخزين الصور في الذهن، واستعادة المناظر، قال عليه الصلاة والسلام مبيناً المنفذ بين العين والقلب، وأن الجنة لمن صدق في غض البصر.. (اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حديث صحيح.
مبدأ الخير والشر خواطر، ترتقي بعد ذلك في القلب، أول ما يطرق القلب الخاطرة، فإذا دفعها استراح، وإذا لم يدفعها قويت، وصارت وسوسة، وصار دفعها أصعب، هذه الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنى باطلة كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39] خطرات تتحول إلى إرادات محرمة تحول بينك وبين العفة.. بينك وبين الطاعة.. بينك وبين التفكر في أسماء الله وصفاته وآياته وآلائه.
الخواطر رحمانية وشيطانية ونفسانية، شيء من الله؛ تفكر في آياته، وشيء من الشيطان؛ تفكر في الحرام، وشيء عادي؛ تفكر في هموم الدنيا، ولا بد من العلاج من المبدأ، ولا بد من استدراك القضية من البداية، أنت لم تعط إماتة الخواطر لكن أعطيت القدرة على المجاهدة ودفع هذه الخواطر، أنت إذا تأذيت منها وكرهتها فأنت بخير، ولكن إذا استروحت إليها، هذه هي المشكلة مع الخواطر -يا إخوان- إذا استروح العبد إليها صار ينساق معها.. هذه هي المشكلة، ولذلك اطردها من البداية، استعذ بالله من الشيطان، أشغل نفسك بالمفيد، فكر في الأشياء المفيدة، دافع الخطرة، دافعها! أصلح الخواطر، أقبل على الله وأخلص النية له.
وهكذا؛ فإنه رأس الأمر -يا إخوان- أن الإنسان يصلح خواطره، ويجعل هذه الخواطر مع الله سبحانه وتعالى.. عش مع ربك .. مع القرآن .. مع سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، يا أخي! عش مع مآسي المسلمين في فلسطين وغير فلسطين، إذا استحييت من الله ستطرد الخواطر الرديئة، إذا أجللته وخفته وآثرت الله لن تسكن قلبك هذه الخواطر الرديئة، كل قضايا الحرام والشهوات والفواحش تبدأ بخواطر، تبدأ بأفكار فدافعها، وتأمل أن الرقيب على الخواطر هو الحي القيوم الرقيب سبحانه وتعالى.
هذا النكاح مأمور به، قال عليه الصلاة والسلام: (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا -هذا أمر- فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح -هذا الأمر الثاني، أي: ذا قدرة- ومن لم يجد فعليه بالصيام؛ فإن الصوم له وجاء) صحيح سنن ابن ماجة .
لا تتم عبادة الشاب حتى يتزوج كما قال العلماء، والزواج نصف الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (من رزقه الله امرأةً صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب .
شهوة الفرج لا تتحصن إلا بالمرأة الصالحة، احرص عليها، خير متاع الدنيا على الإطلاق المرأة الصالحة، إنها مصالح عظيمة، يحصل بالنكاح الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، والجماع مع تصحيح النية إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف وإعفاف نفسه وابتغاء الولد، هذه حسنات في ميزانه يوم القيامة، وقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الناكح الذي يريد العفاف معان من ربه، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله عونهم) حق على الله، هو الذي جعله حقاً على نفسه.. (المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء) المكاتب الذي يكاتب سيده، يدفع له أقساطاً ليحرر نفسه (والناكح الذي يريد العفاف) حديث حسن.
وعدك الله بالمعاونة يا أيها الشاب إذا أردت إعفاف نفسك بالزواج، ويا أيتها الشابة.. إذا قلتِ: كيف أطبق حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ التطبيق: ألا تحولي بينك وبين الذي يتقدم إليك إن كان صاحب دين وخلق، وألا ترفضي لا لأجل إكمال دراسة، ولا لأجل شهادة، ولا لأجل وظيفة، ولا لأجل لهو ولعب في مقدم العمر، وبعد ذلك نتفرغ للجد.. كما يقول العابثون والعابثات!! يقول: خذها أول سهالة، استمتع بحياتك، العب قليلاً، بعد ذلك لاحقين على الهم.. سبحان الله! وإذا نصحت بعض الناس بتزويج أبنائهم قالوا: لا يزال صغيراً، لن يتحمل المسئولية!
إن نقص تحمل المسئولية عنده مفسدة، لكن تركه هكذا مفسدة أكبر، أو هذه التي يتعلمها بالتدريج، إذا تزوج الشخص في بداية الزواج هناك مصاعب دائماً في الغالب، لكن تحمل المصاعب والتغلب عليها أسهل أم معاناة الحرام أسهل؟ يجب على الأب القادر مالياً أن يزوج ولده العاجز مالياً.
ثم -يا أيها المتزوج- العلاجات الآن في قضية الصراع إذا لم تندفع الشهوة بزوجة واحدة فالتعدد، والمرأة يعرض لها ما يمنع الرجل من وطئها كالحيض والحمل وغير ذلك، فالسبيل الشرعي لتسكين الشهوة هو التعدد.. هذا الحل، ثم هناك قضية أخرى مهمة، وهي: أن من رأى امرأةً أعجبته في الشارع .. في الشاشة .. في الإنترنت .. في الصورة، في أي مكان وهو متزوج فعليه أن يأتي أهله.. هذه وصية مهمة، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً فأتى امرأته زينب، مع أنه عليه الصلاة والسلام منزه عن هذه الشهوات المحرمة، لكن ليعلم العباد، وإذا وقع نظره على شيء فهو نظر فجأة، أتى زينب وهي تمعس منيئةً لها، أتى وزينب رضي الله عنها تدبغ جلداً لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) رواه مسلم .
وفي رواية لـأحمد عن أبي كبش الأنماري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله! قد كان شيء؟ قال: أجل، مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء -وليس شهوة هذه المرأة- فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال) قال الألباني: في السلسلة الصحيحة: إسناده حسن.
الله يعلم ما يصلح النفس البشرية، وهذا وحي منقول إلينا الآن بالكتاب والسنة، المرأة الأجنبية يصورها الشيطان بأجمل مما هي عليه، ولو كانت قبيحة يراها الناظر جميلة، ولذلك قال: (تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) ولذلك عدد من الزوجات العفيفات اللاتي ابتلين بأزواج فسقة، إذا رجع الزوج من السفر ورأت صورة هذه التي عاشرها بالحرام وكان معها، ربما رأت صورتها أقبح من الزوجة بكثير، حتى تقول له: أف لك، هذه المرأة التي ذهبت معها بالحرام؟ قارن بيني وبينها، فالشيطان يزين الحرام، فلو كان فيه قبح ستر قبحه وجمله، وهذا معنى الحديث: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان) وإذا كانت جميلةً زادها جمالاً، وإذا كانت عادية أظهرها بأنها جميلة؛ ولذلك لا مفر من غض البصر والتحصن إلا بالزواج.
إن قال قائل: هل من العلاج أن يأخذ دواءً لكي يقلل الشهوة؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : واستدل به الخطابي -أي: بحديث: (فعليه بالصوم)- على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في شرح السنة، وينبغي أن يحمل -أي: كلام الخطابي- على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالةً.
إذاً: لا يجوز تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، وإذا كان هناك دواء يجب ألا يكون له أضرار؛ لأن بعض الأدوية لها أضرار جانبية، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، وعندنا علاج أفضل من هذا وهو الصيام.. (فإنه له وجاء) وهذه هي القاعدة التي بعدها..
قال القرطبي: كلما قلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جُنة) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع شهوته من أجلي) فالصيام جنة ووقاية من النار وعبادة عظيمة.. الإثنين والخميس .. أيام البيض .. شعبان .. محرم .. صيام يوم وإفطار يوم، وهو صيام داود عليه السلام.
الحب أول شيء يهيم به قلب المحب فيلقى الموت كاللعب |
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ومزحة أشعلت في القلب كاللهب |
كالنار مبدؤها من قدحـة فإذا تضرمت أحرقت مستجمع الحطب |
يا أيها الطالب الجامعي.. غرفتك غرفتك! اجعل فيها نصيباً من صلاتك .. افتح مصحفك .. أقبل على الله .. استغفر بالأسحار .. واصل الدعاء .. (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
عمرك ستسأل عنه سؤالاً عاماً (وعن عمره فيما أفناه) وسؤالاً خاصاً (وعن شبابه فيما أبلاه) بماذا أبليت الشباب؟ إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزلة بلا ضرورة، إن الولد إذا اختلى إلى نفسه وقت فراغه ترد عليه الأفكار الحالمة، والهواجس السارحة، والتخيلات الجنسية المثيرة، فلا يجد نفسه إلا وقد تحركت شهوته وهاجت غريزته أمام هذه الموجات من التأملات والخواطر، فعندئذ لا يجد بُداً من أن يلجأ إلى الحرام ليخفف من طغيان شهوته ويحد من سلطانها..هذه هي العادات السيئة السرية.
إذاً: لا بد من إشغال النفس بالطاعات .. بكر إلى الصلوات .. حافظ على الجماعات دائماً .. انقل نفسك من عبادة إلى عبادة؛ قراءة كتاب .. حفظ سورة .. مذاكرة مادة .. زيارة أخ في الله .. حضور درس .. حفظ حديث .. دعوة إلى الله .. كتابة مقالة .. إعداد برنامج دعوي .. زيارة مقبرة .. محاسبة نفس .. تبكير إلى صلاة .. قراءة طيبة ونافعة .. صلة رحم .. زيارة الجيران، أشغل نفسك بالطاعة.
ثم الترهيب من استرسال الرجل مع شهوته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى) حديث صحيح وقال: (حفت النار بالشهوات) النار حفت بالشهوات، ليس هناك طريق إلى النار إلا بالشهوات، فإذا أردت دخول النار فأطلق لنفسك العنان وارتع في الشهوات، لا بد أن يعظ الإنسان نفسه، ولا بد أن يقاوم داعي العودة إلى الجاهلية، قاوم العودة إلى الجاهلية.. بعض الشباب تاب الله عليهم لكن تركوا آثاراً من الجاهلية؛ مفكرات فيها أرقام هواتف.. أرقام مخزنة في الجوال لا زالوا يحتفظون بها.. عناوين للحرام، أتلف كل شيء يتعلق بالماضي.
ثم قد تتعرض لموقف محرج تذكرك فيه امرأة بعلاقة محرمة، فماذا تفعل؟ اسمع معي هذه القصة..
الصحابة الذين كانوا في الجاهلية يفعلون ما يفعلون، ولما نور الإسلام قلوبهم استعلوا على شهواتهم، واستجابوا لأمر ربهم، وهذا سبب نزول قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] روى الترمذي وهو حديث صحيح أن رجلاً من الصحابة يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، كان مُهرباً في الإسلام لكن ماذا كان يهرب؟ كان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، يذهب إلى مكة دار الحرب في ذلك الوقت ليهرب إخوانه المستضعفين من المسلمين واحداً وراء الآخر، يهربهم إلى المدينة ، وفي ليلة من الليالي بينما كان متسللاً إلى مكة مواعداً رجلاً مسلماً ضعيفاً ليحمله ويهربه إلى المدينة، وفي ظل القمر، في الظلام، رأى امرأةً بغياً يقال لها: عناق، وكانت صديقةً له -هذه في الرواية، هذه "girlfriend" معروفة عندهم في الجاهلية- كانت صديقةً له، وكان قد وعد رجلاً أن يحمله من أسرى مكة، وإن عناقاً رأته فقالت له: هلم فبت عندنا الليلة.. على العادة التي كانت في السابق، فقال: يا عناق قد حرم الله الزنا. فقالت: يا أهل الخيام، هذا الذي يحمل أسراكم. هذه المرأة إذا دعت إلى الحرام وأبى الرجل يمكن بمكرها وكيدها -إن كيدهن عظيم- أن تنتقم من الرجل الذي يرفض دعوتها إلى الحرام.
قالت: يا أهل الخباء، هذا الذي يحمل أسراكم. والرجل غامر بنفسه فقام الكفار في الليل يبحثون عنه، قال: فأعماهم الله.. ما رأوه ولا رأوا الرجل الذي كان يهربه، فلما ذهبوا حمل صاحبه وذهب به، قال: فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله، أتزوج
إذاً: أيها الإخوة: لو دعا شخصاً داعٍ من الجاهلية لا يستجيب، عليه أن يصبر.
إياك والتساهل في الحرام! إياك ومثيرات الشهوة! إياكم والجلوس على الطرقات! لماذا؟ يقال في حق الطريق: غض البصر؛ لأنه يمر النسوة منه، انتبه إذا دخلت البقالة، قال أحدهم: رأيت الشاب في البقالة يقلب المجلات، وينظر في صور النساء وينظر حوله، فإذا اطمأن نظر في صور المجلات ثم نظر حوله، انظر إلى ربك ستراه في قلبك إذا كنت مؤمناً.. لا لمجالس الاختلاط، لا للمتزوجين ولا لغير المتزوجين، لا للسفريات المحرمة، لا للذهاب إلى الحفلات الماجنة، ولا لعبور الجسر، ولا لحضور حفلات هناك.
والنساء وما أدراك ما النساء! حتى عندما تأتي للعبادة يجب عليها أن تتقي ربها؛ فلا تضع طيباً، ولا تتبرج، وصفوف النساء خلف الرجال.. لا للمعاكسات الهاتفية، ولا للاستجابة لهذا الغثاء، ولا للغناء الذي ينبت النفاق في القلب والشهوة.. انتبهوا لخطورة الخادمات، ولج علينا من باب الخادمات شر كثير، وكثير من الناس لا ينتبهون، وإذا انتبهوا لا يتعظون، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم، ويسمع أن قارعةً حصلت قرب داره ولا يتعلم.. بلادة حس.. عدم مراقبة لله.. ترك الخادمة الشابة الجميلة مع هؤلاء الشباب في البيوت ما معناه وهي متبرجة؟ يخرج أهله ويتركونه في البيت مع الخادمة، تخرج الزوجة وتترك الزوج مع الخادمة، ما معنى ذلك؟ ثم لا نشتكي إلا بعد ذلك، نشتكي من ماذا؟
ما هي الأدعية؟ اللهم ثبت قلبي على دينك.. (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.. (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي) دعاء نبوي في سنن أبي داود ، وهو حديث صحيح.
ولا تأمن مكر الله، بعض الناس يقولون: نحن شباب ملتزمون ودعاة، ونحن طلبة علم.. لا أحد فوق مستوى الشهوات، يتطرق إلى الجميع، إبراهيم عليه السلام لم يأمن على نفسه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] إبراهيم يخشى أن يعبد الأصنام، يقول: وَاجْنُبْنِي [إبراهيم:35] إبراهيم وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35].. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء:74].
إذا لم يكن عون من الله للفتـى فأول ما يجني عليه اجتهاده |
انتبهوا -يا إخواني- لهذا المزلق، إنه مزلق خطير جداً، يرتكب العاصون معصية واثنتين وثلاثاً، ثم تتابعوا في الحرام، وكلما خطر لأحدهم خاطرة توبة قالت له نفسه الأمارة بالسوء: إنها توبة فاسدة وكذلك الشيطان.. يا أخي! هذا المبدأ دمر كثيراً من الشباب.. لماذا تصاب باليأس والإحباط؟ لماذا تقول: فاسدة فاسدة؟ لو حصل الحرام عشرين مرة أليس هناك رب غفور رحيم؟ أليس هناك باب للتوبة مفتوح؟ البغي من بني إسرائيل غفر الله لها بسقيا كلب.
إن الشيطان يحرص على أن تيئس من روح الله، فلا تيئس مهما تكررت المعاصي، كل مرة تب إلى الله، فإن قائل قال: العادة السرية كل مرة أقع فيها، قلنا: كل مرة تب إلى الله يا أخي، ولا تيئس أبداً.
لنطبق المنهج الإسلامي في المجتمع وفي قضية علاج الشهوات.. أما وضع حداً للزنا؟ أما قبحه وقال: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]؟ أما قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]؟ أما قال: (الثيب بالثيب رجم بالحجارة)؟ أما حرَّم القذف وجعل الذي يقذف بالزنا ويشيع الفاحشة في المؤمنين عليه حد ثمانين جلدة؟ أما شرع الاستئذان حتى للصغار؟ أما شرع غض البصر؟ أما شرع الحجاب؟ لماذا أمر المرأة بالقرار في البيت؟ لماذا حرم الخلوة بها؟ لماذا حذر من الدخول على النساء؟ لماذا حرم على المرأة السفر من غير محرم؟ لماذا شرع النكاح وحث عليه؟ لماذا أمر بالاستعفاف؟ إجراءات يجب أن تطبق في المجتمع.
قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23] عندما كان صادقاً أراه الله البرهان، : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف:24] ودعا ربه فخلصه.
كم سبب ليوسف في الوقوع في الحرام؟ أولاً: رجل؛ والشهوة مركبة في الرجال للنساء، وشاب؛ وداعي الزنا عند الشاب أكبر من الصغير والكبير، وأعزب؛ وداعي الشهوة عند الأعزب أكثر من المتزوج، وغريب لا يستحي مثل ما يستحي ابن البلد الذي يخاف الفضيحة، والمرأة ذات منصب وجمال، والعزيز لا يختار في العادة إلا أجمل النساء، والمرأة ليست آبية ولا معترضة، بل هي التي دعته وألحت وقالت: هيت لك، وأسقطت كل الحواجز النفسية، ثم هو في دارها وتحت سلطانها، ثم تهددته بالسجن، ثم لا يُشك فيه لو دخل أحد؛ لأنه عبد عندها وخادم، واستعانت بكيد النسوة، وهو مملوك عندها، ودياثة الزوج سبب، ومع ذلك ما زنا يوسف ولا وقع في الحرام.. لماذا؟
كان يخاف الله، والله وفقه وأعانه.. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] همه هذا هم وخاطرة، أما همها فهو فعل، وهناك فرق بين همها وهمه، ثم إن الله تعالى أعانه، فر من المعصية، استبقا الباب، شرد منها ودعا ربه واستجاب الله له، وهو صاحب دين وتقوى، ولذلك لما دخل السجن لاحظ عليه أهل السجن أنه من عباد الله المخلصين: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].
والثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة مثال آخر، ذاك الذي هرب من الحرام لكلمة "اتق الله".
جريج العابد تعرضت له هذه الزانية المومسة وكلَّمته فأبى، فانتقمت منه لإبائه وصبر على الأذى حتى تبينت البراءة.
الربيع بن خثيم كان يغض بصره فمر به نسوة، فأطرق حتى ظن النسوة أنه أعمى، وأمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ألف درهم -عصابات- فلبست أحسن ما قدرت عليه وتطيبت، ثم تعرضت له حين خرج من المسجد، فأسفرت عن وجهها، فراعه ذلك المنظر، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخةً سقطت مغشياً عليها، فوالله لقد أفاقت يوم أفاقت فبلغت من العبادة حتى ماتت يوم ماتت وإنها لجذع محترق، أثرت فيها الموعظة.
قال ابن القيم: ذكر أبو الفرج أن امرأةً جميلةً كانت في مكة وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، والمرآة والمرأة متصاحبتان، فقالت لزوجها هذه المغرورة: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتتن به؟ قال: نعم. وهذه مصيبة! قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فلأفتننه -الزوج الديوث- قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، دخلت المسجد وهو في ناحية المسجد، ولما اقتربت منه ظنها تستفتي، فأسفرت عن وجه كفلقة القمر، فقال: يا أمة الله، استتري. قالت: قد افتتنت بك. قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو دخلت قبرك وأُجلست للمساءلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين أتنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتق الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك. فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فتفرغت للعبادة وانشغلت عن الزوج، فكان زوجها يقول: ما لي ولـعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً فصيرها راهبة.
أما عطاء بن يسار فقد خرج مع أخيه سليمان بن يسار ومع أصحابهما من المدينة، ونزلوا بـالأبواء وضربوا الخيام، وكان هناك امرأة من الأعراب جميلة أرادت أن تفتن عطاء بن يسار الزاهد العابد، فدخلت عليه في خيمته لما ذهب أصحابه وبقي وحيداً، وكان في صلاة، فأوجز لأنه ظنها محتاجة، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قال: ما هي. قالت: قم فأصب مني، وقد تقت ولا بعل لي. قال: إليك عني.. لا تحرقيني ونفسك بالنار. وجعل يبكي، وغشي عليه من البكاء، فرأت المرأة الرجل يبكي فتأثرت من هذا الذي وعظها وجلست تبكي، والرجل يبكي وهي تبكي، فجاء أخوه سليمان بن يسار فوجد الاثنين يبكيان ولا يدري ما القضية، فغلبته نفسه فتأثر وانخرط في البكاء، وجاء بقية أصحابهما، ودخلوا الخيمة، فرأوا عطاء يبكي، وسليمان يبكي، والمرأة تبكي، فتأثروا من المشهد، ولا يدرون ما القصة، فانخرطوا جميعاً في البكاء، وجلس الجميع يبكون ولا يدرون ما القضية..! إلى أن سكنوا وهدءوا فقامت المرأة وانسحبت، وقام أولئك وانسحبوا، وآوى كل إلى فراشه..
تهيب سليمان أن يسأل أخاه عطاء ما السبب، ومضت الأيام، وسافرا إلى مصر، فلما ناما ليلةً بـمصر في غرفة واحدة استيقظ عطاء يبكي، فقام سليمان على بكاء أخيه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة. قال: وما هي؟ فأصر عليه حتى يخبره بها، فأخذ عليه عهداً من الله ألا يحدث بها في حياته، قال: رأيت يوسف النبي في النوم، فجعلت أنظر إليه، فلما رأيت حسنه بكيت -في المنام- فنظر إلي وقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه. فقال له في المنام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بـالأبواء؟ -يقول له في المنام- فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكياً. وقص عليه قصة المرأة التي كانت بـالأبواء؛ وحفظ سليمان السر، ولما مات عطاء نشره، فكانت القصة مشهورة في المدينة .
وكان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً، دخلت عليه امرأة بيته فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت: إذاً أفضحك، فخرج هارباً عن منزله وترك المنزل لها.
وكان السري بن دينار بـمصر، وفيه امرأة جميلة تفتن الناس، فجاءته وكشفت نفسها له، فقال: ما لك؟ قالت: هل لك في فراش وطيء وعيش رخي. فأقبل عليها وهو يقول:
وكم بي معاصٍ نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا |
تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا |
فوا سوءتاه والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا |
أبو بكر المسكي، قيل: إن سبب تسميته بهذا الاسم أن امرأة استدرجته إلى بيتها وكان يبيع، فدخل، ثم أرادته بالحرام، فأغلقت الأبواب، ماذا يفعل؟ قال: أريد دورة المياه. فدخل الخلاء، قيل: إنه لطخ نفسه بالقاذورات، فلما خرج قرفت منه، وفتحت الباب، ومشى، فقيل: كان رائحته مسكاً بعد ذلك.
وهذه المرأة في عهد عمر بن الخطاب، كما أن الرجال يصبرون على الحرام، كذلك النساء يصبرن، قال سعيد بن جبير: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بـالمدينة ، فإذا رأى شيئاً ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه |
فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السرير جوانبه |
مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه |
ثم تنفست الصعداء، وقالت: هان على عمر ما لقيت الليلة. لأنه أرسل زوجها في الجهاد، فضرب باب الدار، فقالت: من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة؟ قال: افتحي. فأبت، فلما عرفت أنه عمر وجهر لها بصوته، قال: أعيدي علي ما قلتِه. فأعادت عليه، فقال: أين زوجك؟ قالت: في بعث كذا وكذا. فأرسل إلى الأمير فرده إلى المدينة ، ثم دخل عمر على حفصة، فقال: أي بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت: شهراً واثنين وثلاثة، وفي الرابع ينفد الصبر. فجعل عمر أربعة أشهر وفي رواية: ستة أشهر الأمد النهائي، لا أحد يتغيب ويرسل للجهاد إلا ويرجعه مرةً أخرى.
وذكر ابن النجار في تاريخه أن رجلاً كان يطلب العلم يقال له: ابن السقة ، كان عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، فسأل الشيخ مسألة وأساء الأدب مع الشيخ، فقال أبو إسحاق : اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر.. هذه فراسة، ما تؤول إلا فراسة، فاستغرب الحاضرون؛ طالب علم يسأل شيخاً، والشيخ يقول: اجلس.. إني أرى منك رائحة الكفر! وكان حافظاً للقرآن، حصل أن خليفة المسلمين أرسل هذا الرجل بعد ذلك برسالة إلى ملك الروم، فذهب وافتتن ببنت ملك الروم وطلب زواجها، وامتنعوا إلا أن يتنصر فتنصر، ورئي في القسطنطينية مريضاً وبيده مروحة يذب بها الذباب عن وجه، فسئل عن القرآن فذكر أنه نسيه إلا آية واحدة: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
قال ابن القيم: وكان بـمصر رجل يلزم الأذان والصلاة، صعد المنارة يوماً على عادته وكان تحت المنارة دار لنصراني فاطلع فيها فرأى بنت صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها وطرق الباب، فقالت: أنتم لستم من أهل هذه الأمور، أنتم مسلمون. النصارى يعرفون أحوال المسلمين في الغالب. قال: أريدك. قالت: لماذا؟ قال: لأنك سلبتِ لبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً. انظر.. النصرانية لا تقول بالحرام، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك. قال: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل. فتنصر ليتزوجها، وصعد سطح الدار فزلت قدمه، فوقع على عنقه فمات.
أيها الإخوة .. إن الذي يصبرنا أشياء: الفلاح، وابتغاء رضا الله، وابتغاء الأجر: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5] ثناء الله يكفينا، الجنة والنعيم المقيم.. أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] خذ الدليل، الجنة مقابل حفظ الفرج: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري.. وهكذا اسأل هؤلاء الذين يريدون العبادات ما هي الغاية؟ الجنة ووجه الله.. طمأنينة وراحة البال إلى صبرنا.. لذة الانتصار على النفس، إذا كان أهل الحرام يجدون لذة بالحرام فأصحاب الإيمان والعبادة يجدون لذة أكبر
صبرت عن اللذات لما تولـت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت |
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن طمعت تاقت وإلا تسلت |
إذا صبرتها صبرت، وإذا أطلقت لها العنان انطلقت.. رب مستور سبته شهوة فتعرى ستره فانتهك.. صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكاً.. أي عبادة شاقة لو مارستها فترة ارتحت، وذهب عناء العبادة.. أي شهوة محرمة مهما كانت لذيذة لو مرت ماذا يحدث؟ تنسى لذتها، إذاً هذا ينسى وهذا ينسى، لكن ما الذي يبقى في الصحائف؟ أجر ذاك ووزر هذا، لذلك شعارنا "الموت ولا الحرام".
جاء رجل إلى الشافعي برقعة كتب فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع |
فكتب له الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجـده ويصبر في كل الأمور ويخضع |
فأخذها وذهب بها، ثم ردها للشافعي وكتب عليها:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم غصةً يتجرعُ |
فكتب الشافعي الجواب:
فإن هو لم يصبر على ما أصابه فليس له شيء سوى الموت أنفعُ |
إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نعظ أنفسنا بالموت وما بعده..
قد كان عمرك ميـلاً فأصبح الميل شبرا |
وأصبح الشبر عقـداً فاحفر لنفسك قبرا |
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وارزقنا العفة والعفاف والصبر عن المحارم والمحرمات، واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.
والحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر