أيها الإخوة: إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، فهم أبر هذه الأمة نفوساً، وألينها قلوباً وأرقها، حملوا لواء الدعوة والجهاد حتى انتشر الإسلام في الأرض، وبنوا تلك القاعدة العظيمة للإسلام والمسلمين في أرجاء العالم، وهم المشكاة التي انبثق منها نور الهدى، وهم القدوة الذين نقلوا إلينا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نقلوا إلينا أحاديثه، فكل حديث نسمعه فنحن مدينون فيه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً عظيماً، لأنهم هم الرواة العدول الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث، فلو لم ينقلوها فعمن كان سنعرف سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
رضي الله عنهم وأرضاهم، تلك الصفوة المختارة من عباد الله، التي خصها الله تعالى بتلك الأفضلية العظيمة التي لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ ملء كف أحدهم أو نصيفه؛ لأن الله تعالى قد خصهم بهذه العناية العظيمة، واصطفاهم ليكونوا جند رسوله صلى الله عليه وسلم، يسيرون معه على الحق، ويطبقونه ويتخذونه ويعتمدونه شرعةً ومنهاجاً.
ولهذا كان لا بد من العناية بدراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم القدوة التي تحتذى، وهم الذين ينيرون لنا الدرب في ظلام الجاهلية، وهم الذين إذا اقتدينا بهم فنصل إلى الفوز بجنات النعيم، ونحن اليوم مع موعد مع صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلكم الرجل الفذ الذي هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ولا أخفي عليكم أيها الإخوة فقد تتساءلون: ما الذي دفعني لاختيار حياة هذا الرجل لعرضها في مثل هذا المقام؟ والحقيقة أن السبب كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، شيءٌ إذا دققت النظر فيه لاندهشت جداً، ولذهلت تماماً وأنت تتأمل في ذلك الحديث، إنه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (اهتز عرش الرحمن لموت
تأمل هذا المخلوق العظيم من مخلوقات الله عز وجل، هذا العرش العظيم الذي هذه صفته ونسبته اهتز لوفاة رجل من الناس إنه سعد بن معاذ ، فلماذا اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ ؟ هذا ما سنحاول الإجابة على شيء منه بعون الله وتوفيقه.
هذا الذي قال الشاعر تعظيماً لشأنه، في رفعة الإسلام:
فإن يُسلم السعدان يُصبح محمد بـمكة لا يخشى خلاف المخالف |
كان الشاعر يتوقع ويتمنى أن يسلم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ.
قال الذهبي رحمه الله: أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير، وكانت وفاة هذا الرجل في أواخر شهر ذي القعدة من سنة خمس للهجرة، وعندما نتتبع الروايات عن حياة سعد بن معاذ، فإن هناك مشكلة تواجه الذين يتتبعون الأحاديث في سير الصحابة؛ لأنك ستجد كثيراً من الأحاديث من رواية ابن إسحاق مثلاً، أو ليس لها سند وهي مشهورة في الكتب، فنحن سنعتمد في رواياتنا للأحاديث على الصحيح منها، مما حققه لنا أهل العلم بالحديث.
ولكن هناك بعض المواقف قد لا يجد فيها الباحث حديثاً صحيحاً مع شهرتها في كتب السير والمغازي، وهنا أذكر لكم ما ذكره شيخ المحدثين في هذا العصر، الشيخ/ ناصر حفظه الله، يقول لما سئل عن حكم استخراج الفوائد التربوية والعبر والعظات من مثل هذه الأسانيد التي قد تكون مرسلة أو ضعيفة؟ فقال: الشرط ألا يستخرج منها حكم شرعي، لأن الأحكام الشرعية أو ما كان في العقيدة فإنه لا يؤخذ إلا من الحديث الصحيح، أما استخراج العظات والعبر، فإنها تتفاوت بحسب الأحاديث، فإن بيَّن المتكلم ضعف الحديث فإنه لا بأس بعد ذلك أن يتكلم بما شاء، ونحن سنمر في بداية الحديث عن هذا الصحابي بقصة إسلامه، وهي قصة مشهورة رواها ابن إسحاق رحمه الله تعالى في حديثٍ مرسل، وكذلك رواها أبو نعيم في دلائل النبوة وبعض من ناقشتهم في شأن هذين الحديثين، قال: إن هذا الحديث يتقوى، وبعضهم قال: لا يتقوى، وعموماً فإن هذه القصة قد رويت عند ابن إسحاق وأبي نعيم بأسانيد مرسلة، فلعله يعتضد بعضها ببعض، ونحن من خلال كلامنا عن هذه الرواية لن نتطرق إلى الأحكام الشرعية، وإنما سوف نتطرق إلى بعض العظات والفوائد، فيقول ابن إسحاق رحمه الله تعالى بعد ما ذكر قصة بيعة أهل العقبة من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب إلى الأنصار لدعوتهم -أناس من أهل المدينة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، واستجابوا بعد أن رفضته سائر القبائل، وبعد أن امتنع عليه جميع العرب- قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قِبلك فيدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع).
فهؤلاء أهل المدينة يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً يدعوهم.. بماذا يدعوهم؟ يدعوهم بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع.
كان الوحي في نفوس الصحابة له منـزلة عظيمة، وكانوا يقدرونه تقديراً كبيراً، فلذلك طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً شخصية يدعو الناس في المدينة.. يدعوهم بأي شيء؟ بالقرآن الكريم؛ لأنه أحرى أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار.
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى قيمة القرآن في نفوس الصحابة، وتقديرهم له لوجدت البون شاسعاً جداً بين نظرة المسلمين اليوم إلى القرآن الكريم وبين نظرة أولئك الصحابة.. أولئك الصحابة كانوا يأخذون القرآن الكريم معيناً أساسياً للتربية الإسلامية الصحيحة.
كانوا يحتكمون إليه، ويرجعون فيما شجر بينهم من الخلاف إلى القرآن الكريم.. كانوا يأخذونه عشراً عشراً لا يتجاوزون العشر حتى يتعلموها ويعملوا بها.. كانوا يجلون هذا القرآن، أما المسلمون اليوم فإنك تجدهم إذا اعتنى أحدهم بالقرآن فإنه يعتني به كمصحف يضعه في سيارته كي لا تتعرض سيارته لحادثٍ، أو يضعه فوق رف من الرفوف ليزين به بيته، أو يتبرك به، أو تعلقه بعض الجهلة من النساء في أعناق أولادهن وأطفالهن ليحفظ الأولاد والأطفال من العين أو الحسد بزعمهم، هذا هو مقدار القرآن اليوم في نفوس الناس، إلا من رحم الله من بقايا الطائفة المنصورة الذين اعتمدوا كتاب الله شرعةً ومنهاجاً، وأخذوا منه واستقوا وانتهلوا، يعلمون الناس منه ويتعلمون، وهكذا يجب أن يكون القرآن، يجب أن نُقْبِل على كتاب الله عز وجل أكثر من أي كتاب آخر.
كثير من الناس اليوم يقرءون كتباً كثيرة، وقد يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون من القرآن، وتجد أحدهم يبكي في الدعاء في الصلاة ما لا يبكي إذا تليت عليه آيات القرآن، بينما كان الصحابة يبكون وينشجون وهم يستمعون إلى القرآن، وكانت آيات من كتاب الله سبباً في هداية قطاع طرق ولصوص وفسقة ومجرمين في الصدر الأول من الإسلام.
آيات من كتاب الله تهز مشاعر الناس هزاً لتخرجهم من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العزيز الذي جُهلت قيمته من قبل أبناء المسلمين اليوم لا بد من العودة إليه عودة تبنٍّ لما فيه من الأحكام والمواقف، واستفادةٍ واتعاظٍ بما فيه من العبر والمواعظ، وسلوك سبيل التربية لما فيه من المواقف الإيمانية التي تحدد موقف المسلم من الأحداث الجارية، والكلام في هذا طويل، ويكفي هنا هذه التذكرة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهدي كتابه.
القرآن مع رجل يعرف قيمته يفتح مدينة بأكملها، لا بد من تقدير هذا القرآن، وتقدير الرجال الأفذاذ الذين يحملون هذه الآيات، ليبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، فنـزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سراً فيفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بـمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، وهم قوم سعد بن معاذ وكان رئيسهم، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة الذي أسلم مع مصعب بن عمير فكان مرافقاً له في رحلته الدعوية، فدخل به حائطاً من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما، وكانا على الشرك، سعد بن معاذ كان رجلاً مشركاً جاهلياً لا يعرف الله عز وجل، ويخوض في أوحال الجاهلية كما يخوض غيره.
كيف سيقوم هذا الرجل إلى المقام الذي اهتز له عرش الرحمن؟ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لـأسيد : لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فانهرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً.
يقول سعد بن معاذ لـأسيد بن حضير : هذا أسعد بن زرارة ابن خالتي، وله مكانة في نفسي لا أستطيع أن آتي إليه وأنهره وأعنفه، فاذهب أنت واكفني هذه المئونة، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـمصعب : هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه.
أخلص لله وأنت تنصح هذا الرجل لأنه سيد قومه؛ فإذا هداه الله هدى به قوماً بأكملهم على يد هذا الرجل، انظروا -أيها الإخوة- كيف يتواصى الدعاة فيما بينهم، يتواصون بالإخلاص لأنه عصب الدعوة، وهو السلاح الفعال الذي يفتح الله به مغاليق القلوب، فيدخل نور الإيمان.. إخلاص الداعية هو سلاحه الأعظم وهو الواجب وهو يواجه الناس، وكثير من الدعاة الذين لا ينقصهم علم ولا جرأة ولا قوة في الشخصية أو جودة في أسلوب العرض يفشلون فشلاً ذريعاً، لماذا؟ لأنهم يفتقدون هذا العنصر الأساسي في دعوتهم إلى الله وهو عنصر الإخلاص، فلذلك يقول أسعد بن زرارة لـمصعب بن عمير : هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قل كلمة الحق ولا تخف، قال مصعب : إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتماً يشتم، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب : أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من إشراقته وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين.
ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ .
من المدهش -أيها الإخوة- أن ترى هذا الصحابي عندما دخل في الإسلام أول ما فهم كان من بدائيات وبدهيات الفهم، أن يفهم أنه لا بد أن يدعو للإسلام، ولا بد أن يشارك في الدعوة إلى الله، ولا بد أن يأتي لـمصعب برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله القوم على يدي هذا الرجل، رجل من المشركين يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله، كيف كان الصحابة الأوائل يفهمون الدين؟ كانوا يفهمونه فهماً يختلف كثيراً عن فهم المسلمين اليوم لدين الإسلام.
كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يفهمون من الدين إلا تلك الركيعات التي يركعونها بغير خشوع في المساجد أو في البيوت، ويخرجونها في كثير من الأحيان عن وقتها، أصبح الدين مجموعة من الرموز التي تؤدى بغير خشوع لله وخشية، فقد الدين حركيته واندفاعيته في قلوب كثير من المسلمين.
إن فقه الدعوة اليوم في خطر عظيم من تلك الانحرافات الكبيرة التي تعج بها أذهان المسلمين وقلوبهم، لا بد من إحياء فقه الدعوة في نفوس الناس؛ حتى ينطلقوا بهذا الدين إلى الناس كافة.. لا بد من إزالة هذا الجمود الذي سيطر على مشاعر المسلمين فجعلها متجمدة لا تتحرك ولا تحس فيها دفئاً وحرارة، لا بد أن تنطلق لتصدع بكلمة الحق مبلغة تلك القلوب الخاوية، فقد يفتح الله عليهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.
فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لـأسعد بن زرارة : والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وقال مشيراً لـمصعب بن عمير: علام تأتينا في دورنا لهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب؟ يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا؟ فرجعوا مرة أخرى مصعب وصاحبه مرة أخرى، ثم إنهم عادوا ثانية لبئر مرق أو قريب منها؛ رجاء أن يأتي سعد مرة أخرى، فأُخبر بهم سعد بن معاذ فتواعدهم توعداً دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد بن زرارة منه ليناً قال له وقال مصعب له: أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمراً -رغبت فيه- قبلت، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد : أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، وذكر موسى بن عقبة رحمه الله في مغازية أن مصعب قرأ على سعد بن معاذ أوائل سورة الزخرف، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فيه من إشراقته وتهلله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا: تغتسل، وتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم سعد بن معاذ بعد أن رجع إلى قومه مسلماً- قال: يا بني عبد الأشهل! كيف تعملون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأعيننا نقيبةً، بعدما عرف واستيقن منهم عن صورته وقررهم على سيادته عليهم، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام؛ حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
والله لا أكلم أحداً فيكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، بهذه القوة يعرض سعد بن معاذ دعوته على قومه، وبهذه الجرأة يصارحهم مصارحةً شديدة تناسب قوة هذا الدين وعظمته.
إن الجرأة في عرض الدعوة، وقوة الكلام حولها أمام الناس هو الذي يؤثر في نفسياتهم، ولذلك يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة ، مقام واحد، كلمات جريئة مندفعة من قلب مؤمن مستمدٍ من الله العون والتوفيق، يسانده الإخلاص، يؤدي إلى إسلام القوم بأكملهم، فأقام مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة عند سعد بن معاذ يدعوان الناس إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
وفي رواية أبي نعيم في دلائل النبوة: فرجع سعد وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر لهم الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير أو أنثى أو ذكر فليأتنا بأهدى منه، يقول لقومه: الذي يشك منكم في صحة هذا الدين فليأتنا بأهدى منه، حتى نتبعه، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب، ما تعلم سعد بن معاذ من الإسلام إلا الشهادتين، وكلمات بسيطة يسمعها من مصعب ، ماذا فهم؟
فهم أن هذا الدين لا بد أن تحز فيه الرقاب، أي: لا بد فيه من الجهاد، ولا بد فيه من البلوى، ولا بد فيه من الفتن والقتل والمقاتلة، انظروا إلى عمق الوعي الذي ارتكز في ذهن سعد بن معاذ عندما دخل في الإسلام، ما حجم الوعي الذي يدخل في عقول الناس اليوم عندما يهدي الله رجلاً واحداً منهم مثلاً؟ هل يفقهون من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أنه لا بد من نصر الإسلام، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.. هل يفهم الناس؟
فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرهم، وانتقل مصعب بن عمير إلى حماية سعد بن معاذ.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وساق بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنه حدث عن سعد بن معاذ أنه قال: أنه كان صديقاً لـأمية بن خلف ، أمية بن خلف كان مشركاً في الجاهلية كان سعد بن معاذ سيداً في المدينة في يثرب كان صديقاً لسيد من سادات مكة وهو أمية بن خلف ، وكان أمية إذا مر بـالمدينة نزل على سعد ، وكان سعد إذا مر بـمكة نزل على أمية، وكان هذا في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمراً، فنـزل على أمية بـمكة، فقال لـأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباَ من نصف النهار، ونصف النهار هو أهدأ الأوقات التي يقيل فيها الناس، فلقيهما أبو جهل لعنه الله، فقال: يا أبا صفوان ! من هذا معك؟
فقال: هذا سعد ، فقال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بـمكة آمناً، وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، أبو جهل لعنه الله يقول لـسعد بن معاذ.
الآن سعد بن معاذ وحيد في مكة ، والرجل المسلم المتميز بعقيدته في وسط قوم مشركين لا بد أن يخاف على نفسه، خصوصاً أمام هذا الوعيد الذي يأتي من عظيم قريش أبو جهل ، لو كان الواحد منا يا ترى في ذلك الموقف ماذا كان سيرد على أبي جهل ؟ أو هل كان سيرد عليه أصلاً، أو يبادر بسلوك سبيل الهزيمة، ويعتبرها غنيمة؟
فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك طريقك إلى الشام، وسأغير على قوافلك وأنت ذاهب إلى التجارة، فقال له أمية وقد أشفق: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي، قال سعد : دعنا عنك يا أمية ! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه قاتلك).
أيها الإخوة: إن قوة الشخصية والجرأة من العوامل التي توفرت في شخصيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نفتقدها اليوم في شخصيات المسلمين، كثير من المسلمين اليوم يفتقدون الجرأة في عرض الدعوة، بل إنهم يشعرون بالذل والخزي وهم يواجهون بأدنى كلمات الهجوم من الأعداء، وقد ينكصون على أعقابهم فلا يصمدون أمام الهجوم الجاهل، أما سعد بن معاذ فقد كان جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم، عندما يدخل الإسلام في النفس فإنه يغيرها فتتغير الموازين، كان أبو جهل عند سعد بن معاذ قبل أن يسلم رجل له شأن عظيم محترم، أما وقد دخل سعد في الإسلام فقد أصبح هذا الكافر الحقير لا يسوى شيئاً.
لذلك قام سعد في وجهه فهدده وتوعده بأشد مما تكلم به أبو جهل ، ولذلك سعد رضي الله عنه لم يرض أن يسب إخوانه المسلمين أمامه ويقول أبو جهل عنهم: إنهم صباة خرجوا عن الدين، بل رد على أبي جهل مقولته ودافع عن إخوانه، كثير من المسلمين اليوم لا يدافعون عن إخوانهم إذا اغتيبوا في مجلس، فكيف سيدافعون عنهم لو وجهت إليهم سهام النقد والتجريح من أعداء الإسلام الأقوياء؟
إن قوة الشخصية لها دور كبير في إقناع الناس بالإسلام.. قوة الشخصية تنشأ من الإيمان الذي يقذفه الله في النفوس، لا تنشأ من الفراغ.. لا تنشأ من لا شيء، إنها تنشأ من الإيمان الذي يغير الشخصيات، ولذلك يكون التغير الحاصل في شخصية كل إنسان هداه الله بحسب مقدار الإيمان الذي دخل في نفسه، فمن الناس من تجده قوياً في عرض دعوته، جريئاً مقداماً، ومن الناس من تجده يعرض الدعوة بشكل هزيل كأنه يربط على أكتاف الناس، ويقول لهم: أرجوكم وأتوسل إليكم أن تقبلوا بهذا الذي أقول، لم يكن الصحابة يدعون الناس هكذا، ولسنا نقصد بهذا الكلام أن يقوم الإنسان يسب ويشتم ويرغي ويزبد على الناس ويرفع صوته مهدداً ومتوعداً، كلا! ليست هذه هي الجرأة في الدعوة إلى الله، لا بد أن توافق الجرأة حكمة، أما أن يقوم الإنسان يلعلع في صوته، ويسب، ويلعن، فليست هذه بدعوة إلى الله، بل إن هذه من أكبر وسائل التنفير والصد عن سبيل الله، فأربأ بنفسي وبإخواني عن اتخاذ سبيل الشدة والعنف مع الناس؛ فإنها منفرة وسلبية جداً، وهناك فرق بينها وبين الجرأة في عرض الدعوة والقوة والوضوح في تكليم الناس عن مبادئ الإسلام، وهذا الفرق لا يعيه إلا رجل آمن بالله وصدق المرسلين وانتهج سبيل المؤمنين، ثم إن سعد بن معاذ ما اكتفى بهذا، بل جلس يخذل في أمية بن خلف ، ويقول له خبراً سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أمية ! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنه قاتلك) فقال أمية : بـمكة ؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً، فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان ! ألم تري ما قال لي سعد ؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم أنه قاتلي، فقلت له: بـمكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية : والله لا أخرج من مكة أبداً، فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس وأخرج أمية بالقوة بعد أن أحرجه، فخرج أمية وهو يقول: أخرج معهم مسافة وأرجع، فمازال أبو جهل يوصل أمية من منـزل إلى منـزل حتى أهلك الله أمية في معركة بدر، فقتلته أسياف المسلمين مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوردت روايات عن ابن مردويه من طريق محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي، ومرسلٌ آخر عند ابن عائد، ومرسلٌ آخر عند ابن أبي شيبة يقوي هذه الأسانيد بعضها بعضاً، وقد صحح الشيخ/ ناصر هذا الموقف، فقال الراوي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بـالروحاء خطب الناس، فقال: (كيف ترون؟ فقال
وذكر الأموي هذه الرواية وزاد فيها: "ما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت" تصور! الذي تأخذ منا أحب إلينا من الذي تتركه لنا، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، موقف جريء في لحظة حرجة، سعد بن معاذ يقرر الموقف الآن ويقول للأنصار الذين معه: إن هذا الموقف يجب أن يكون موقفهم جميعاً، فيقول عن نفسه ونيابةً عن قومه: إننا خارجون معك يا رسول الله.
كان لهذا الموقف أثر عظيم من آثار الصمود والانتصار لدين الله تعالى؛ مما نتج عنه انتصار المسلمين في غزوة بدر التي سماها الله تعالى يوم الفرقان، فرق الله بها بين الحق والباطل.
القوة في الرد على المشركين، فأصاب هذا السهم العرق الذي في وسط الذراع يسمى الأكحل، فدعا الله عز وجل سعد بن معاذ، فقال: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة، أو حتى تَقر عيني من قريظة].
بنو قريظة خانوا العهد، وضربوا المسلمين من الخلف، الأحزاب من المشركين من أمام الخندق ، وبنو قريظة خانوا العهد من الخلف، ويريدون أن يطبقوا على المسلمين، فوقع المسلمون بين نارين خانت بنو قريظة العهد الذي كتبوه من الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة عظمى استحقوا بها ما سيأتي.
كان سعد بن معاذ حليفاً لهم في الجاهلية، فقال سعد لما أصيب: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة] قالت عائشة: [وكانوا حلفاء مواليه في الجاهلية].
وقفة بسيطة عند هذا الدعاء! كان الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعوا الله تعالى تحس أن لدعائهم معنىً عظيماً، لا يدعون الله بأمور تافهة وأشياء بسيطة، ولكن يدعون الله بما يجيش في نفوسهم من علو الهمة، وما يفكرون فيه وما يهتمون به حقيقة.
الناس الواحد منا اليوم إذا اهتم بالمال قال: يا رب! لا تخسرني في الفلوس، يا رب! ربحني، يارب! أعطني كذا .. وكذا .. من الأموال، لماذا؟ لأنه يهتم بهذا الأمر وأصبح هذا هو شغله الشاغل، وترى الطالب في المدرسة هكذا، وترى الرجل، وترى الناس الذين يدعون الله، نحن لا نتكلم الآن عن الذين لا يدعون الله، هؤلاء أمرهم منتهٍ، نحن نتكلم اليوم عن المسلمين وهم يدعون الله.. الذين يدعون بماذا يدعون؟ هل نحن اليوم ندعو الله من قلوبنا إذا خلا الإنسان بنفسه في السجود؟ بعض الإخوان اليوم يدعو في التشهد أو يدعو مثلاً بعد الصلاة، ماذا يقول الواحد منا في دعائه؟ الغالب من الناس يدعو لنفسه.. يدعو أن يرزقه الله مالاً.. يدعو لأبنائه وزوجته، يدعو هذا شيء طيب وحسن، ونحن لا نقول: إن هذا الشيء حرام، لا، بل هو قربة وطاعة، ولكن أن يخلو دعاؤنا من أمر المسلمين هذه هي المآخذ التي نأخذها على أنفسنا، هل اليوم نحن ندعو إذا دعا الواحد منا ربه أن يرزقه مالاً أو صحة أو الولد هل يدعو الله أن ينصر عقيدة التوحيد، أو أن يرفع البلاء عن المسلمين المضطهدين في أنحاء العالم، أو ينصر المجاهدين في سبيل الله، أو أن يجمع كلمة المسلمين على السنة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة؟
هل نحن اليوم ندعو الله عز وجل بالأمور العظيمة التي يجب أن تكون هي شغلنا الشاغل، أم أننا نقتصر في الدعاء على طلب المال وطلب العافية والصحة؟
الحقيقة أيها الإخوة أن الإنسان إذا كان منشغلاً بقضية يتابعها ويصرف لها جهده ووقته فإنها ستظهر حتى في دعائه، أما إذا كان منشغلاً بأشياء أبسط من هذا بكثير فإنها ستظهر في دعائه أيضاً، فهل نحن نسأل الله عز وجل أن يحقق الأمور العظيمة التي هي اليوم البلوى التي وقعت في المسلمين، هذه نقطة ينبغي الانتباه إليها.
ثم بعد ذلك بعث الله عز وجل ريحاً على المشركين وكان الجرح الذي حصل في يد سعد بن معاذ اقترب من الشفاء واندمل إلا شيئاً يسيراً وبعث الله الريح على المشركين، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25] فلحق أبو سفيان ومن معه بـتهامة ولحق عيينة ومن معه بـنجد ، ورجع بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع السلاح وأَمر بقبة من أدمٍ فضربت على سعد في المسجد.
الآن سعد جريح تنزف منه الدماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بإخوانه المسلمين عناية كبيرة، وأمر المسلمين فضربوا خيمة في ساحة المسجد لـسعد بن معاذ ، يوضع فيها حتى يداوى من جراحه التي حصلت له.
وبعد ذلك جاء جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبا،رفقال: أوقد وضعت السلاح، والله ما وضعت الملائكة السلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصر بني قريظة حصاراً شديداً حتى طلبوا الصلح، قالوا: نستسلم لكن نريد أن تُحكم فينا واحداً منا.. من هو الشخص الذي رشحوه للحكم؟
إنه سعد بن معاذ؛ لأنهم كانوا حلفاء له في الجاهلية، فظنوا أن سعد بن معاذ سيرأف بهم، ويحكم فيهم حكماً معتدلاً، لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية وصديقاً لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنـزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتي به على حمار وقد حمل عليه، وحث به قومه، فقالوا لـسعد بن معاذ : يا أبا عمرو ! حلفاؤك، ومواليك، وأهل النكاية، وهم من قد علمت، أي: ارأف بهم، هؤلاء كانوا معنا أصلاً وأموالنا وأموالهم سواء، فلم يلتفت إليهم - سعد - ولا كلمهم أبداً، حتى إذا دنا من بئرهم التفت إلى قومه الذين قد أحاطوا به، فقال لهم: قد آن لي ألا تأخذني في الله لومة لائم؛ فلما قال هذه الكلمة، بعض الرجال الذين معه رجعوا إلى قومهم من بني عبد الأشهل فنعوا رجال بني قريظة قبل أن يحكم سعد عرفوا من هذا الكلمة: [لقد آن لـسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم] فرجعوا وهم يزفون خبر إعدام رجال بني قريظة إلى قومهم من بني عبد الأشهل قبل أن يتكلم سعد بشيء.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: أمر عليه الصلاة والسلام من هناك من المسلمين بالقيام له، قيل: سبب القيام لينـزل من شدة مرضه، لأنه لا يستطيع أن ينزل لوحده، فلا بد أن يقوم له أناس وينزلوه، وقيل: توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه.
السبب الثاني للقيام: أنه ربما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم هؤلاء الناس حتى يُظهر مكانة سعد، فعندما يحكم سعد يكون حكمه نافذاً، فقال: أنزلوه فأنزلوه، قال الشيخ/ ناصر في تعليقه على هذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول: اُشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: ( لسيدكم ) أي: قوموا لسيدكم، والرواية في هذا الحديث كما رأيت ( إلى سيدكم ) ليس (قوموا لسيدكم) وهناك فرق بين (قوموا لسيدكم) و(قوموا إلى سيدكم).
ولا أعلم للفظ الأول أصلاً (قوموا لسيدكم) وقد نتج منه خطأ فقهي وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره، واشتهر الاستدلال بالحديث عموماً (قوموا لسيدكم) على مشروعية القيام للداخل، فإذا تأملت السياق تبين لك أنه استدلال ساقط لوجوه أقواها قوله: ( فأنزلوه ) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: قوموا لمجرد القيام، قال لهم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) نصٌّ قاطع على أن الأمر بالقيام لأجل إنزاله لكونه مريضاً، قال الحافظ : وهذه الزيادة ( فأنزلوه ) تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المنازع فيه، وقد احتج به النووي كما في كتاب القيام، وكل من الفقهاء يصيب ويخطئ، ونحن ندور مع الدليل حيثما دار.
إذاً: القيام ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
1- قيام إليه، قيام الرجل إلى الرجل.
2- وقيام له.
3- وقيام عليه.
فأما القيام له: قيام الرجل للرجل إذا دخل واحد المجلس قام الناس يسلمون عليه ويرحبون به، هذا القيام للداخل، ممنوع شرعاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح.
وما كان قوم يحبون صاحبهم كحب أصحاب محمد محمداً، ولكنهم كما ثبت عنهم في الحديث الصحيح أنهم كانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، هل هناك أعظم من الرسول؟ هل هناك أعلم من الرسول؟ لا.
مع ذلك كان الصحابة لا يقومون للرسول إذا دخل عليهم، فلذلك الآن لا ينبغي القيام للداخل إذا جاء يسلم بل يسلم الناس عليه قعوداً لهذه الأحاديث التي عرفتموها الآن، ومن احتج بحديث سعد (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) فالرد عليه من وجهين أو أكثر.
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( قوموا إلى سيدكم ) ولم يقل قوموا لسيدكم.
الوجه الثاني: أنه قال: ( فأنزلوه ) ولم يقصد القيام مطلقاً.
فإن سألتني: ما هو الفرق بين (قوموا له) (وقوموا إليه)؟
فالجواب: أن القيام للشخص إذا دخل عليك وقمت له كما يفعل كثير من الناس اليوم، فهذا هو الممنوع، أما القيام إلى الرجل فهو أن تقوم للشخص الداخل لتفتح له الباب مثلاً، أو تأخذ له طريقاً في البيت حتى يدخل مثلاً، أو أن يكون الرجل قادماً من سفر فتقوم إليه لتعانقه، لأنه لا يمكن أن تعانقه وهو قائم وأنت جالس، لا بد أن تقوم إليه لتعانقه وهو قادم من السفر، فهذا يسمى: القيام إلى الرجل، وكذلك قيام المرأة إلى المرأة، أما الأول الذي يحصل في المجالس اليوم فيسمى القيام للداخل وليس إلى الداخل.
إذاً: إذا قمت إلى الداخل فقيامك صحيح مشروع بأدلة، منها: فعل طلحة بن عبيد الله في حديث توبة كعب بن مالك في البخاري ومسلم أن الراوي قال: [فقام إليه
وأما القيام عليه وهو النوع الثالث فهو محرم أيضاً، وهو قيام العبد على رأس سيده، أو الموظف على رأس رئيسه، يقوم عليه مثل الصنم أو التمثال؛ لأن هذا فيه زيادة تعظيم غير مشروعة، ولا ينبغي القيام إلا لله عز وجل: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، ولا أقصد وقوف العارض، كأن يأتي يعطي معاملة لرجل فيقف عنده حتى ينتهي، لا، إنما أقصد قيام التعظيم، رجل يقف هكذا مثل الصنم، فهذا لا يجوز، إلا كما ورد في استثناء قيام الناس أو المسلمين على رأس خليفتهم أمام الكفرة؛ حتى يظهروا للكفار عظمة خليفة المسلمين كما فعل الصحابة وهم واقفون على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمام الرجل الكافر.
هناك فتوى لـشيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن القيام للداخل؟ فقال: أن الأصل عدم القيام، ولكن لو أن الرجل من الناس خاف، إذا دخل رجل ولم تقم أن يكون عدم قيامك سبباً في إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبينه، يقول شيخ الإسلام : فإذا خشيت وقوع العداوة والبغضاء بينك وبين هذا الرجل فإنك تقوم اضطراراً وليس اختياراً، من باب الضرورة، مثل: أكل الميتة في الصحراء، ومن باب ارتكاب أدنى المفسدتين، قيامك له مفسدة لا يجوز، وعدم القيام إذا كان سيأخذ عليك في نفسه وتقع العداوة والبغضاء بينك وبينه مفسدة أكبر فيها تفرقة بين المسلمين فعند ذلك تقوم له، ولكنك تعلمه السنة بأنه لا ينبغي القيام.
مراعاة أحوال الناس مهمة، تطبيق الأحكام الشرعية يجب أن يكون من حال الناس وواقعهم، ولا يصح أن يكون تطبيق الأحكام بعيداً عن أحوال الناس، ولذلك كان من القواعد الأصولية المهمة أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة والعوائد والنيات.
وهناك رواية أخرى صحيحة عن رجل من الأنصار قال: (لما قضى
وقد جاء عند الإمام أحمد رحمه الله والحديث الصحيح: (لما أصيب أكحل
أيها الإخوة: إن للنساء في المجمع الإسلامي دور عظيم لا يجب أن يغفل عنه، وحتى النساء أنفسهن لا يصح أن يغفلن عن دورهن أبداً، هذه المرأة رفيدة يقول ابن إسحاق عنها: كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين.
هذه المرأة التي يقال لها: رفيدة كانت تحتسب الأجر عند الله عز وجل في خدمة من نزل به مصيبة من المسلمين، رجل جريح يحتاج إلى مداواة، أو أيتام يحتاجون إلى رعاية، أو أسرة تحتاج إلى معين، كانت هذه المرأة تتدخل، تحتسب بنفسها عند الله عز وجل خدمة لهذه الأسر المسلمة المنكوبة.
إذاً: ينبغي على نسائنا اليوم أن يقمن بدورهن في خدمة المجتمع المسلم والقيام على أحواله، بإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وهذه نقطة مهمة، فإن كثيراً من النساء يشعلن الفتنة بدلاً من أن يخمدنها بالنميمة ونقل الكلام من طرف إلى آخر، بينما يجب عليهن أن يقمن بدور المصلحات بين المتخاصمين والمتخاصمات، فإذا كان رجل وامرأة بينهما مشكلة، على النساء الخيرات اللاتي يخفن من الله أن يقمن بدور الإصلاح، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل يُصلح ذات البين حتى يعاد عود الأسرة قائماً، فلا تنهار الأسر ويتشتت الأطفال.
النساء اليوم يعرفن عن خبايا البيوت أكثر من الرجال، يعرفن عن أيتام، ويعرفن عن أرامل، ويعرفن عن فقراء ما لا يعلمه كثير من الرجال، فيجب على النساء أن يقمن بدورهن في إبلاغ من له أمر في هذه الأمور، أن ينقذ هؤلاء البؤساء من الفقر المدقع، والهلكة المحققة: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:14-16].
المرأة لها دور عظيم ليس هذا موقف الاستطراد فيه، ولكن الإشارة من خلال قصة هذه المرأة رفيدة التي كانت تداوي الجرحى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: (كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟) فيخبره سعد بحاله، حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها، فثقل فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل، وكانت حالته خطيرة جداً، و(جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يسأل عنه، وقالوا: قد انطلقوا به، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، فأسرع المشي حتى تقطعت شسوع نعالنا) الرسول صلى الله عليه وسلم يسرع يريد أن يدرك سعد بن معاذ قبل أن يموت، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، فشكا ذلك إليه أصحابه، قالوا: يا رسول الله! تسرع بنا سرعة شديدة، يا رسول الله! أتعبتنا في المشي، فقال: (إني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت
وورد في حديث صحيح آخر في صحيح الجامع أخرجه النسائي : عدد الملائكة الذين نزلوا من السماء لتشييع جنازة سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لم ينـزلوا إلى الأرض قبل ذلك لقد ضم ضمة - أي: في قبره- ثم أفرج عنه) سبعون ألف من الملائكة ما نزلوا من قبل، نزلوا لتشييع جنازة سعد بن معاذ، وفتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن، وقد ورد في رواية صحيحة سبب اهتزاز عرش الرحمن، وهذه مسألة قد يفكر فيها الكثير، وفي السلسلة الصحيحة المجلد الثالث بإسناد جيد من حديث الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت
هؤلاء المسلمون الصادقون الأوفياء يتعبون في الدنيا، وينصبون كثيراً، يتعبون كثيراً ويؤذون في الله، والله عز وجل ينتظرهم بفرح شديد لكي يكافئهم فيستريحوا من عناء الحياة الدنيا، ويستريحوا من لأوائها ونصبها وتعبها، يستريحوا عند الله تعالى، هذا الفرح ليس لأي أحد! إنه لأناس آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أبلوا في الله بلاءً حسناً، وقالت عائشة رضي الله عنها تبين الفراغ والقيمة، قيمة فقد سعد بن معاذ ، والحديث في فضائل الصحابة من تأليف الإمام أحمد قال المحقق: إسناده حسن عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما كان أحد أشد فقداً على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من
إن رحيل الأخيار عن الأرض وعن المجتمع المسلم يترك فراغاً مؤثراً في الأمة.. إن رحيل الكبار يترك فراغاً في النفوس، وألماً لفقد هؤلاء الذين كانوا في حياتهم مشعلاً يستضيء به الناس، وقدوة يحتذي بها المسلمون، فلذلك فإن إحياء ذكراهم، ونشر سيرتهم العطرة من أقل الواجبات تجاههم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغل وفاة سعد بن معاذ حتى في توضيح نعيم الجنة، فانظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: (أُهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من لين هذه؟! لمناديل
وهنا أيها الإخوة! أختم لكم بوصف عائشة رضي الله عنها لحال الصحابة عند موت سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بين أيديهم.
تقول عائشة : قال سعد بعد ما حكم في بني قريظة: [اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، قالت: فانفجر كلمه] هذا ليس دعاء على نفسه بالموت، لأنه قال في إحدى الروايات: [فافجر جرحي هذا] أو [افجر هذه واجعل موتتي فيها] سعد رضي الله عنه جرح في المعركة، فأراد ألا يفوته أجر الشهادة في سبيل الله، فدعا الله أن يميته من هذا الجرح الذي حصل له وهو يقاتل في سبيل الله، فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى لا يرى إلا مثل الخدش.
لما قضى سعد في بني قريظة وقتلوا، ودعا سعد الله قال: [اللهم إن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم] لكن لم يبق شيء من الحروب التي كان سيكون للمشركين فيها شأن، وما بقي من الحروب كان كله انتصارات للمسلمين.
[فاستجاب الله دعاءه؛ فانفجر كلمه، ورجع إلى قتبه الذي ضرب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، قالت: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي -هي في حجرتها والخيمة في المسجد في الساحة- وكانوا كما قال الله عز وجل: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. قال علقمة: قلت: أي أمه! فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته
إذاً: أيها الإخوة! هذا الموقف يعكس لنا حب الصحابة لبعضهم.. يعكس لنا تماسك المجتمع الإسلامي.. يعكس لنا أثر الفرد في المجتمع الإسلامي.. يعكس لنا رحمة الصحابة فيما بينهم، هذا المثل الذي يجب أن يكون قدوة لنا نحن الآن ونحن نعيش في مجتمع، نحاول أن نعيش في مجتمع من الأخوة الإسلامية، كثيرٌ من الناس اليوم فقدوا معاني الأخوة الإسلامية.. فقدوا الترابط.. فقدوا الحنان والعطف فيما بينهم.. فقدوا حسن الأخلاق والمعاملة.. فقدوا سؤال بعضهم عن بعض، فقدوا أشياء كثيرة.
إن هذه القصص كفيلة إن شاء الله بأن تعيد إلينا جميعاً روح الأخوة الإسلامية الصحيحة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم حتى تجعله جداراً صامداً أمام سهام الأعداء ومخططاتهم وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه وأن نسير عليه سيراً حسناً.
اللهم واجعلنا ممن يقتفون آثار نبيك وصحبه عليهم رضوان الله تعالى، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعل هذه الكلمات عوناً لنا في درب طاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر