بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جمعياً أيها الإخوة الكرام! وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
أيها الأحبة! إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يحتاج إلى زاد؛ فقبل أن تسافر إلى أي بلد غريب عليك أن تبحث عن الوسائل التي تعينك في هذا السفر، فتسأل عن العنوان، وتأخذ معك ما يعينك من الملابس والأموال والطعام والشراب.
فلابد أن تعلم أيها الحبيب الكريم! أنك في هذه الحياة الدنيا مسافر، ويجب عليك أن تعد الزاد لهذا السفر؛ لأن الدنيا وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظُمت فهي حقيرة، وليلك مهما طال لابد من طلوع فجره، وعمرك مهما طال لابد من دخول القبر، فلابد أن تبحث عن الزاد لهذا السفر؛ فإن السفر طويل، وإن السفر بعيد، وإن العقبة كئود، فكما تبحث عن زاد هذه الدنيا فيجب عليك أن تبحث عن زاد الآخرة؛ لأنك هنا في بوتقة اختبار، وفي دار ابتلاء، وفي مزرعة للآخرة.
فابحث من الآن عن هذا الزاد الذي يوصلك إلى رب العباد جل وعلا.
ما هو هذا الزاد؟
قال الله تعالى:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
وقد يسألني أحد الأحبة: أسمع كثيراً عن التقوى، لكن ما هي التقوى؟
والتقوى أيها الأخيار الكرام! أصلها: أن يجعل العبد بينه وبين الله تبارك وتعالى وقاية يتقي بها سخط الله وعذابه.
وهذه التقوى عرَّفها أئمتنا فقال
ابن مسعود: (التقوى هي أن يُطاع الله فلا يُعصَى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر).
وعرَّفها
طلق بن حبيب فقال: (التقوى هي: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله).
وعرَّفها
أبو هريرة رضي الله عنه حينما جاءه سائل فقال: (يا
أبا هريرة ! ما هي التقوى؟
فقال: هل مشيتَ على طريق فيه شوك؟
قال: نعم.
قال: فماذا صنعتَ؟
قال: كنتُ إذا رأيت الشوك اتقيته.
قال: ذاك التقوى).
فأخذ
ابن المعتز هذا الجواب البديع وقال:
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
فالتقوى أيها الحبيب! لها أركان، أقف مع هذه الأركان بإيجاز:
وسنأخذها من تعريف
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الركن الأول: أن يطاع الله فلا يعصى
الركن الثاني: أن يذكر فلا ينسى
الركن الثاني: وأن يُذكَر فلا يُنسَى:
أيها الأخ الحبيب! تستطيع أن تكون ذاكراً لله وأنت في جنديتك .. وأنت في حراستك .. وأنت في خدمتك، فإن صححت النية فأنت في طاعة وفي عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (
عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، فما المانع وأنت في خدمتك أن تذكر الله جل وعلا، وأن تصحح النية، وأن تكرر على قلبك وذهنك وسمعك ما حفظت من كتاب الله، وأن تحمل كتاب الله في جيبك دائماً؟! فإن استشكل عليك شيء فتحت كتاب الله سبحانه وأنت في موطنك الذي أنت فيه، وما المانع أن تكون ذاكراً لله بأي صيغة من صيغ الذكر؟! بل إن ذهبت إلى بيتك لتعاشر زوجتك ولتقضي شهوةً ركَّبها الله فيك فإن صححت النية وأنت في معاشرتك لزوجتك فأنت في طاعة لله جل وعلا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
وفي بضع أحدكم صدقة).
المهم أن تصحح النية، وأن تُقبل بنية أن تعف نفسك عن الحرام، وأن تعف امرأتك عن الحرام، وأن يرزقك الله ذرية، فتقول: يا رب! هذا نذرته لك، كما قالت
أم مريم :
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرَاً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35].
فمَن مِنا يا إخوة جاء على ولد من أولاده وقال: هذا وقف لله تبارك وتعالى؟!
وهل يصح أن يكون وقفاً لله؟!
الجواب: نعم، فأنا أربي هذا الولد على كتاب وعلى سنة رسول الله، وأؤهل هذا الولد ليكون في يوم من الأيام داعيةً إلى دين الله جل وعلا.
هذا هو الذكر، ولا تظن أن الذكر هو أن تقف بعد كل صلاة مع أذكار الصلاة، أو أذكار الصباح والمساء فقط، بل انظر إلى الذكر بشموله وكماله، وعليك أن تكون ذاكراً لله على كل أحيانك وأحوالك.
وأنا أقول لك: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء!
وأكررها: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، فلو حبسه المرض في فراش المرض فشُلت قدمه أو يده وكان قلبه شاكراً ولسانه ذاكراً فهذا هو الحي، وهذه هي الحياة الحقيقية، أما إن رأيت بطلاً منَّ الله عليه بالعافية والصحة، ومع ذلك فهو مدمن للمعصية، وعاكف على معصية الله، وعلى التحدي لشرع الله وأمر الله جل وعلا، فهذا ورب الكعبة قد مات قلبه في صدره، فإن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب.
جاء رجل إلى
سفيان الثوري فقال: يا
سفيان ! لقد ابتُليت بمرض البُعد عن الله، فصف لي دواءً.
فقال
سفيان : (عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن، وصفِّه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع، تشف من مرضك بإذن الله).
وهذا الدواء يحتاج إلى سنوات في تطبيقة: إخلاص وورع وصبر، هذه هي التقوى الحقيقية، والإنسان لا يستطيع أبداً أن يعيش دون أن يأكل أو يشرب، كذلك الروح قد تموت في القلب، وفي النفس، وفي البدن، وصاحبها لا يدري؛ لأن للروح دواءً، ولأن للروح غذاءً، ولأن للروح علاجاً، ولا يعلم دواء وعلاج وغذاء هذه الروح إلا خالقها، يقول تعالى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلَاً [الإسراء:85]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث
أبي موسى الأشعري : (
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) ألم أقل لك: إن الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، وإن الغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء؟!
الركن الثالث: أن يشكر فلا يكفر
الركن الثالث: أن يُشكَر فلا يُكفَر.
كم لله علينا من نعمة أيها الشباب؟! قال عز وجل
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وبكل أسف يظن كثير منا أن النعمة هي الدينار، ويقول: إن رزقني الله ديناراً فأنا في نعمة، وإن ضُيِّق علي في الدينار فلم يُنعم الله جل وعلا علي بأي نعمة، وهذه نظرة قاصرة ضيقة أيها الأخيار!
بل إن لله نعماً لا تُعد ولا تحصى، ووالله لو لم يكن لله عليك من نعمة إلا أن جعلك موحداً، وأرسل إليك محمداً، لكفى بها نعمة، فإياك ألا تعرف قدرها وفضلها، فإن غيرك لا يعرف له رباً! ولا يعرف غايته التي وُجد من أجلها! ألم تسمع قول المتسكع الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيتُ
وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ؟! كيف أبصرتُ طريقي؟! لستُ أدري!
ويظل يقطع الطريق كالسائمة، ولا يعرف له رباً، ولا يعرف لحياته معنىً، ولا يعرف له غاية، وقد قال الله في هذا الصنف:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فاشكر الله على نعمه، فإنها نعمٌ كثيرة.
وقد دُعيتُ مرةً لإلقاء محاضرة عندنا في مصر في المعالي، وطلب الإخوة القائمون على أمر المسجد أن نجمع تبرعات لنشتري ملابس لمستشفى الأمراض العقلية، فاشترينا الملابس وذهبنا إلى إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، وقدَّر الله أن يكون العنبر الأول للنساء، وإذا بامرأةٍ مكتملة الخلق جميلة، لكنها فقدت العقل، فأتت المرأة على موزع الملابس وإذا بها تأخذ الغترة وتجذب اللحية! فصَدَمَنا جميعاً مشهدٌ كاد أن يخلع قلوبنا! وهو أن فتاة في الثانية والعشرين من عمرها كانت تدرس في كلية الطب ولكنها فقدت عقلها! ففجأة تجردت من كل ثيابها! فأصبحت كما ولدتها أمها! فخرجنا وبكينا والله! وكأننا لم نبكِ من قبل، وقلت لإخواني من المشايخ يومها: والله يا إخوة! إنني ما عرفتُ نعمة العقل إلا في هذه اللحظة.
فهل فكرتَ في نعمة العقل؟!
هذه نعمة ربما أنك ما فكرت فيها، فأنت تجلس على الطعام: اليد تمتد، والأصابع تمسك الطعام وترفعه إلى الفم، والمقاطع تقطِّع، والأنياب تمزِّق، والضروس تطحن، واللسان يظل يسهِّل، واللعاب يفرز، والمريء ينزِّل إلى المعدة، والمعدة تشتغل، والبنكرياس والأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة تعمل، ثم يتحول إلى دم، والقلب يشتغل، وأذين وبطين وصمام! فمن الذي يوزع لنا الدم على هذا البدن؟! المخ يرسل إشارات إرسال واستقبال وأنت نائم في غفلة!
ألم تفكر في فضل الله عليك؟!
انظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض واتساعها، وإلى الجبال وأثقالها, وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها، وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن! فوالله إن الكل يقر بكمال الله، ويعترف بالتوحيد لله، ولا يغفل عن شكر وذكر مولاه إلا مَن كفر من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
قال عز وجل:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
وقال الشاعر:
النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
* * *
وقال الآخر:
هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدنِ
وانظر لمن ملَك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفنِ
قصيدة وعظية في أهوال القيامة
السؤال: نريد منك يا شيخ! القصيدة الوعظية الإيمانية: (مَثِّل لنفسك أيها المغرور)!
الجواب: إن شاء الله أعطيكم إياها؛ لأن المقام مناسب في هذا الوقت، ونسأل الله يتقبل منا ومنكم.
هذه الأبيات هي أبيات رقيقة؛ لأنها تذكر الناس بحقيقة الآخرة، وبما يحدث في ذاك اليوم الرهيب الذي يكاد يخلع القلوب، يقول الشاعر:
مَثِّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كُدور
وإذا الجبال تخلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابَه المنشور
وإذا الصحائف نُشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جنايةً كيف المُصِرُّ على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعَّرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يحرم وجوهنا وإياكم على النار.
الرفق في الدعوة ووجوب المحافظة على الصلاة
أهمية ذكر الله عند الجماع
السؤال: هناك حديث يقول: (
من أتى أهله وقال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ورزق من هذا الجماع ولداً لم يضره شيطان) هل معنى هذا أن الشيطان لا يأتي ذلك المولود؟
الجواب: الحديث حديث صحيح، ومعنى ذلك: أنك لو استعذت بالله جل وعلا من الشيطان حفظ الله تبارك وتعالى هذه النطفة، وحفظ الله جل وعلا بعد ذلك هذه الذرية، كما قال الله تعالى على لسان
أم مريم :
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، لكن ليس معنى ذلك أن هذا المولود الذي سمى والده أثناء الجماع إن خرج لا يأتيه الشيطان، كلا، وإنما يأتيه الشيطان ويوسوس له؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن شتان بين نطفة ذُكر اسم الله عليها واستُعيذ بالله من الشيطان حين إلقائها في الرحم، وبين نطفة أخرى ما خرجت إلا -والعياذ بالله- وقد باركها الشيطان!
فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجنبنا وإياكم مكائده، وأن يحفظنا وإياكم منه، إنه على كل شيء قدير. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.