إسلام ويب

الأحاديث المعلة في الصلاة [11]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة بين السواري شيء، ولكن الصحابة عليهم رضوان الله كانوا يتجنبون ذلك ويتقونه، وقد جاء عن أنس بن مالك أنه قال: (كنا نتقي ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: الصلاة بين السواري)، وهذا أحسن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب. مع أنه قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته في جوف الكعبة أنه صلى بين ساريتين، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته في جوف الكعبة ليس على سبيل الاضطرار وليس هذا من الأمور الواجبة، ولم يثبت في ذلك نص، فإذا كان في ذلك نهي كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن فعله.

    1.   

    حديث: (كنا ننهى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بين السواري)

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنكمل ما سلف من الأحاديث المعلة في أبواب الصلاة.

    وأول أحاديث هذا المجلس: هو حديث معاوية بن قرة عن أبيه أنه قال: ( كنا ننهى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بين السواري ) .

    وهذا الحديث قد رواه ابن ماجه في كتابه السنن، ورواه الطبراني ، و البيهقي وغيرهم من حديث هارون بن مسلم أبو مسلم عن قتادة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث وقع فيه عدة من العلل:

    أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به هارون بن مسلم وهو أبو مسلم يرويه عن قتادة ، و هارون بن مسلم من البصريين ولكنه مجهول، وقد تفرد بهذا الحديث عن قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله، وتفرده بمثل هذا الحديث مع جهالته مما يستنكره الحفاظ وذلك من وجهين:

    الوجه الأول: لجهالته.

    الوجه الثاني: أن قتادة من أئمة الرواية في البصرة وممن يعتنى بحديثه ويؤخذ به، فلما انفرد عنه مثل هذا المجهول دل على نكران هذا الوجه، وهذا من العلل والأمور المعلومة أن الراوي إذا كان مشتهراً بالرواية ومن أهل الثقة والعدالة والضبط فإن الأئمة عليهم رحمة الله لا يقبلون تفرد المتوسط فضلاً عن تفرد المجهول.

    ولهذا نقول: إن هذا الخبر خبر منكر، وقد أعل هذا الحديث غير واحد من الحفاظ، أعله ابن المديني رحمه الله فقال: هذا الحديث ليس إسناده بالصافي، ويريد بذلك جهالة هارون بن مسلم ، و هارون بن مسلم كما تقدم مجهول كما قال ذلك علي بن المديني ، وقال ذلك أيضاً أبو حاتم وغيرهم.

    وكذلك أيضاً من العلل في هذا الحديث: أن هذا الحديث لا يعرف إلا بهذه السلسلة عن قرة عليه رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مثل هذا الحديث إنما هو نهي عام لجميع من شهد الصلاة، ومثل هذا في الغالب يضبط وينقل، ولما كان نقله لم يأت إلا من هذا الوجه من رواية هارون بن مسلم يرويه عن قتادة عن معاوية بن قرة عن أبيه دل على النكارة.

    والعلماء عليهم رحمة الله يقبلون مفاريد الأبناء عن الآباء كحال تفرد هنا معاوية بن قرة عن أبيه، وكذلك تفرد قتادة عن معاوية مما يقبل؛ وذلك لأن قتادة من أئمة الرواية المكثرين، ولكن تفرد هارون بمثل هذا الإسناد بالمرور بمثل هذه الطبقة مما يشكل خاصة أن قتادة من أئمة الرواية وممن يعتنى بحديثه كثيراً خاصة في العراق وهو ممن ارتحل كثيراً وأخذ وسمع الأحاديث وسمع منه كذلك؛ ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر.

    1.   

    حديث: (عليكم بالصف الأول وعليكم بميمنة الصف وإياكم والصلاة بين السواري)

    الحديث الثاني: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بالصف الأول، وعليكم بميمنة الصف، وإياكم والصلاة بين السواري ) ، المراد بالصلاة بين السواري هي بين الأعمدة أن يصلي الإنسان بينها.

    هذا الحديث رواه الطبراني ، ورواه الحاكم في كتابه المستدرك، ورواه أبو نعيم في كتابه تاريخ أصفهان جاء من حديث إسماعيل بن مسلم عن أبي يزيد المدني عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الحديث أيضاً معلول بعدة علل:

    أول هذه العلل: أن هذا الحديث قد تفرد به إسماعيل بن مسلم المكي ، و إسماعيل بن مسلم المكي ينسب إلى مكة ولم يقم فيها لأنه كان تاجراً يأتي من البصرة إلى مكة، وإتيانه من البصرة إلى مكة لا يعني إقامته فيها، ولما كان عند أهل البصرة يكثر الذهاب إلى مكة سمي بها، وإلا لم يكن من أهل الإقامة فيها.

    وقد نص على هذا غير واحد من الحفاظ، قد أشار إلى هذا يحيى بن معين رحمه الله، وإن كان الأئمة حينما يترجمون له يقولون: إسماعيل بن مسلم المكي ولا يقولون: البصري مع أن إقامته في البصرة أكثر من إقامته في مكة.

    إسماعيل بن مسلم المكي حديثه ضعيف، وهو في ذاته منكر، قد حكم عليه بالنكارة الإمام أحمد رحمه الله كما في العلل برواية ابنه عبد الله ، وكذلك أيضاً فقد ترك حديثه غير واحد من الحفاظ كما ذكر ذلك عمرو بن علي قال: ترك حديثه يحيى بن سعيد القطان ، و عبد الرحمن بن مهدي يعني: حديث إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو في ذاته ضعيف في حفظه، قد ضعفه غير واحد كـيحيى بن معين ، وكذلك عبد الله بن المبارك وغيرهم.

    وهو وإن كان ثقة في دينه إلا أنه من جهة الرواية ضعيف؛ ولهذا الأئمة يتركون حديثه مع أن عبد الله بن المبارك روى عنه شيئاً يسيراً، ومما روى عنه هذا الحديث فقد رواه عنه عبد الله بن المبارك كما جاء عند أبي نعيم في تاريخ أصفهان عن إسماعيل بن مسلم عن أبي يزيد عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وقد جاء من وجه آخر توبع عليه عبد الله بن المبارك ، ولكن عبد الله بن المبارك يروي عنه من الأحاديث ما لم يتفرد بمتنه أصلاً.

    وهذا المتن بالتحذير من الصلاة بين السواري أو الصفوف بين السواري لم يتفرد به إسماعيل بن مسلم في الدنيا وإنما جاء من وجوه ومنها ما تقدم الإشارة إليه في حديث هارون بن مسلم في روايته عن قتادة عن معاوية بن قرة عن أبيه بالنهي عن الصلاة بين السواري.

    ولهذا نقول: إن العلة في ذلك هي أولها في إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف، وقد ضعفه كما تقدم غير واحد من العلماء، وقال: ليس بشيء أبو حاتم رحمه الله؛ ولهذا نقول: إن أوهى وأشد العلل في هذا الحديث هو تفرد إسماعيل بن مسلم به وهو ضعيف.

    ومن علله أيضاً: أن هذا الحديث يرويه أبو يزيد المديني يرويه عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وهذا من وجوه الإعلال، يروي الحديث أبو يزيد المديني عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وانظروا إلى تركيبة هذا الإسناد، أبو يزيد مديني من المدينة، و إسماعيل بن مسلم بصري يرد إلى مكة، و عكرمة يعد في المكيين، فهو بصري ثم مكي ثم ذهب إلى المدينة ثم رجع إلى مكة وأصبح غريباً في سائر الطبقات من هذا الوجه.

    أبو يزيد المديني هو قليل الرواية وهذه علة أيضاً في مثل هذا الحديث، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عنه فقال: لا أعرفه، وقد ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل عن أبيه أنه سأله عن اسم أبي يزيد فقال: لا أعلم، يعني: لا يعرف اسمه وإنما يعرف بكنيته.

    أبو يزيد المديني في ذاته عدل وذلك لعدة اعتبارات, من هذه الاعتبارات: أنه من أهل المدينة، ومن قرائن التعديل كون الراوي مدنياً لأن البدع لم تكن معروفة في المدينة، كذلك أيضاً فإن أهل الحجاز عموماً في مثل هذه الطبقة أنهم كانوا أهل عدالة وديانة وأهل ضبط، والقلم لم يجر في أيديهم كثيراً، والقلم ينافس الحفظ، فمتى ما أكثر الإنسان من حمل القلم قل حفظه، وهذا أمر معلوم.

    والعرب لم تكن أمة كتابة, وإنما هي أمة أمية؛ لهذا نقول: إن أبا يزيد المديني هو في ذاته ثقة وهو قليل الرواية، وقلة الرواية في أبواب العلل هي من الأمور المشكلة في تقييم الراوي, وذلك أننا إذا كانت روايات الراوي قليلة لم نستطع أن نحكم عليه لقلة المادة التي نحكم بسببها على الراوي، بخلاف من كان مكثراً كأن يكون لديه مثلاً مائة ومائتين حديث فنستطيع حينئذٍ أن نحكم ونسبر رواية الأحاديث التي جاء بها، ونحكم على ذلك الحديث، أما أبو يزيد المديني فأحاديثه في ذلك يسيرة، وإنما قلنا بتعديله لكونه مدني.

    الأمر الآخر: أنه يروي عنه بعض الثقات الحفاظ أهل الضبط وذلك كــــأيوب بن أبي تميمة السختياني فإنه يروي عن أبي يزيد المديني ، وهذه مسألة من الأمور أيضاً المهمة أن بعض الرواة يكون في ذاته قليل الرواية وقد يدخل في دائرة الجهالة، ودخوله في دائرة الجهالة يرفعه منها إذا روى عنه ثقة.

    ذكر الآجري عن أبي داود أنه سأل الإمام أحمد عن أبي يزيد المديني فقال: تسألني عن رجل روى عنه أيوب ، يعني: لا يسأل عنه؛ ولهذا نقول: إذا روى إمام حافظ ثقة ضابط عن راوٍ بقي على أصله من الستر فإن هذا يرفعه ويوصله إلى مرتبة العدالة والضبط.

    ولهذا نقول: إن الحديث في ذاته في طبقته الأولى ابن عباس ، والثانية عكرمة ولا إشكال فيه، أبو يزيد المديني هو في ذاته عدل، وهذا الحديث في ذاته من جهة المتن لا إشكال عندنا فيه، ويأتي تفصيل الكلام في قضية الصلاة بين السواري، والإشكال الذي يرد في كلام بعض الفقهاء في هذه المسألة، ولكن النكارة في ذلك أن هذا الحديث يرويه إسماعيل بن مسلم عن أبي يزيد المديني ولا يعرف.

    لفتة في مسائل العلل أود أن يتنبه لها قبل أن تقيد وهي أن الراوي إذا كان مقل الرواية والأصل فيه الستر في بلده أنه لا يقصد من الآفاق، فهل يقصد شخص لا يعرفه أحد إلا جاره؟ كيف يقصده رجل آفاقي ليس من أهل بلده يقصده من بين هذا البلد ثم يأخذ منه ذلك الحديث؟ أليس هذا منكر؟ هذا من مواضع النكارة.

    ويدل على ذلك أن مالكاً بلديه لا يعرفه، ثم يعرفه إسماعيل بن مسلم الذي يأتي تاجراً من البصرة إلى مكة لا إلى المدينة، وهذا من مواضع النكارة؛ ولهذا نقول: إن الراوي إذا تفرد بحديث عن غير أهل بلده والذي تفرد عنه راوٍ لا يعرفه بلديه فهذا من أمارات النكارة، أو كان مقل الرواية وأهل بلده يلتقطون مثل هذه الأحاديث وما روى عنه إلا شخص بعيد من غير أهل بلده، فنقول: إن هذا من مواضع النكارة.

    وإسماعيل بن مسلم كما تقدم الإشارة إليه هو في ذاته ليس متهماً بالكذب ولكنه ضعيف في حفظه؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله يجود روايته فيما يرويه عن الحسن في أبواب القراءات؛ فما كان من أحاديث القراءات يرويه إسماعيل بن مسلم عن الحسن فإنه مما يقبله الأئمة عليهم رحمة الله، مما يدل على أن المطعن ليس في ديانته، وليس أيضاً في مسألة تعمده الكذب أو عدمها وإنما هو في حفظه؛ ولهذا ترك الأئمة عليهم رحمة الله تعالى ذلك، ويعضد ذلك أيضاً أن ابن المبارك يروي عنه تارة ويتركه أخرى.

    ولهذا قد ذكر غير واحد من الأئمة أن عبد الله بن المبارك يروي عنه مرة ويدع روايته، يعني: في بعض حديثه، وموضع النكارة كما تقدم: هو تفرد ذلك البصري عن مدني كون هذا المدني في ذاته مغموراً في بلده فروى عنه آفاقي، فالذي يروي عنه في مثل هذه الحال ولو كان أعلى مرتبة من إسماعيل بن مسلم من جهة ضبطه للحديث من الرواة المتوسطين فروى عن أبي يزيد المدني وهو في المدينة ولا يعرفه المدنيون وعرفه الآفاقي فهذا من موضع النكارة؛ لأن المستورين يعرفهم أهل بلدهم خاصة أنه في مثل هذا الحديث مما يشتهر ويستفيض.

    ثم أيضاً إن هذه المسألة ليست من مواضع الإجماع في النهي عن الصلاة بين السواري، لو كانت مسألة قطعية لاحتمل أن نقبل هذا الحديث إذا جاء من غير طريق إسماعيل بمن هو أولى منه بالحفظ ولو كان متوسطاً أو ربما كان مستوراً كستر أبي يزيد المديني ؛ لأن مسائل الإجماع عند العلماء مما لا يعتنون برواية الأحاديث فيها عناية تامة، وإنما يكلون ذلك إلى الإجماع؛ ولهذا تجد الأحاديث التي يجمع العلماء على معانيها لا تستفيض شهرة عند الأئمة من جهة النقل في كثير من المواضع لا في الأكثر.

    ولكن نقول: إن الصلاة بين السواري لما كانت من مواضع الخلاف عند الفقهاء كان الحكم في ذلك مما تتداعى الهمم على نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر لي والله أعلم أن مثل هذا الحديث مما يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا: ( عليكم بالصف الأول، وعليكم بميمنة الصف، وإياكم والصلاة بين السواري )، مثل هذا اللفظ المغلظ ينبغي أن يأتي بإسناد قوي وذلك لجمع جملة من المسائل وعلى الأخص ما يتعلق بميمنة الصف, ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ميمنة الصف شيء من قوله، ومثل هذا لو ثبت لنقل عنه عليه الصلاة والسلام.

    الذي يظهر أن هذا الحديث هو من قول عبد الله بن عباس لا مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤيد ذلك ويؤكده أن عبد الرزاق في كتابه المصنف قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني غير واحد عن عبد الله بن عباس أنه قال: ( عليكم بالصف الأول، وعليكم بميمنة الصف، وإياكم والصلاة بين السواري )، جعله من قول عبد الله بن عباس وقال: حدثني أو أخبرني غير واحد، وهؤلاء في الغالب أنهم من أصحاب عبد الله بن عباس ، و ابن جريج مكي، ويروي هذا الحديث عن غير واحد.

    ومن أصحاب عبد الله بن عباس المكيين الذين أدركهم ابن جريج مما يقوي هذا الحديث أنه موقوف: عطاء إمام أهل المناسك، و عمرو بن دينار أيضاً من أئمة الفقه في مكة؛ ولهذا نقول: إن في قول ابن جريج أخبرني غير واحد عن عبد الله بن عباس الأصل في هذا أنه من أصحاب عبد الله بن عباس ؛ ولهذا نقول: إن هذا الحديث هو عن عبد الله بن عباس موقوف، ولا يصح رفعه، وقد يقول قائل: إن هذا الحديث لو نظرنا إلى حديث إسماعيل بن مسلم في روايته لهذا الحديث عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن عبد الله بن عباس نجد أنه أقرب إلى القوة من رواية مجاهيل، نقول: لا.

    أولاً: هؤلاء المجاهيل هم من أصحاب عبد الله بن عباس هم من المكيين، والمكيون يختلفون عن غيرهم.

    الأمر الآخر: أنهم أكثر من واحد، ويحتمل أن يكون أحد الواسطة في ذلك عكرمة , و ابن جريج لم يسمع من عكرمة , ولكن يحتمل أنه رواه بواسطة بعض الرواة عن عكرمة فكان موقوفاً عن عبد الله بن عباس ، ويعضد ذلك أنه رواه عن غير واحد عن عبد الله بن عباس مما يدل أنه جاء عنه من أكثر من وجه, ولو كان وجهاً واحداً لذكره.

    ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد اجتمع فيه جملة من قرائن التعليل التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها.

    لدينا مسألة: وهي ما يتعلق بالصلاة بين السواري، هل ورد فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام بإسناد صحيح نهي؟ لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله كما في كتابه الأوسط قال: لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، يعني: في النهي عن الصلاة بين السواري، ولكن الصحابة عليهم رضوان الله كانوا يتجنبون ذلك ويتقونه، وقد جاء في هذا ما رواه الإمام أحمد في كتابه المسند وغيره من حديث عبد الحميد يرويه عن أنس بن مالك أنه قال: ( كنا نتقي ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: الصلاة بين السواري ) ، وهذا أحسن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب, ولكنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

    الأحاديث التي جاءت في النهي في الصلاة بين السواري جاء النهي في ذلك عاماً أخذه بعض الفقهاء حتى في صلاة المنفرد، يأتي منفرداً بين ساريتين يقول بعض الفقهاء: أن هذا يكره أخذاً بالعموم، ولكن نقول: إن الأحاديث التي جاءت في ذلك لا تثبت ونردها وننكرها مع إعلالنا لها بذاتها أنه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته في جوف الكعبة أنه صلى بين ساريتين، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته في جوف الكعبة ليس على سبيل الاضطرار وليس هذا من الأمور الواجبة، ولم يثبت في ذلك نص، فإذا كان في ذلك نهي كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن فعله.

    ولهذا نقول: إن الأحاديث على الإطلاق يدل على نكارتها فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وأعل هذه الأحاديث بإطلاقها البخاري رحمه الله قال في كتابه الصحيح: باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، و البخاري رحمه الله في إعلاله يعل في بعض التراجم أحاديث بتقويته أو ببيان حكم غيرها، وأعل ذلك أيضاً ابن حبان رحمه الله في كتابه الصحيح, فقد ترجم بنحو ترجمة البخاري رحمه الله على حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة, وعقب على ذلك بقوله صراحة قال: إذا كان في غير جماعة فلا ينهى عنه، وإذا كان في جماعة فينهى عنه.

    وإنما قلنا بالنهي لثبوت ذلك عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم كانوا يتقونه كما جاء عند أحمد في حديث يحيى بن هانئ عن عبد الحميد عن أنس بن مالك قال: ( كنا نتقي ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وجاء ذلك: ( أنهم صفوا في الصلاة فريضة خلف أمير من الأمراء بين السواري, فقال أنس: كنا نتقي ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

    وإنما كان هذا الاتقاء لأن السواري تقطع الصفوف فنهي السلف الصالح من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في ذلك، وقد يقول قائل هنا في حديث أنس بن مالك الذي صح هنا في حديث يحيى بن هانئ عن عبد الحميد عن أنس بن مالك أنه قال: كنا نتقي ذلك زمن النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: في عهده فإذا نسب الشيء إلى زمنه فعلاً أو تركاً خاصة في أمور العبادات فإن هذا مما يدل على رفعه.

    نقول: نحن إنما نعل هذه الأحاديث بعينها؛ لأن هناك من الفقهاء من يحتج بها على إطلاقها، فلو قلنا بتقويتها لألزمنا بكراهة الصلاة بين السواري حتى للمنفرد؛ ولهذا من فقه البخاري رحمه الله ومن دقته في أبواب العلل قال: باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، مما يدل على إعلاله لإطلاقه تلك الأحاديث وعلى الأقل فيما يفهم من تلك الأحاديث أن النهي في ذلك على سبيل العموم، وإنما هو مخصوص فيما يتعلق بصلاة الجماعة.

    وأما إذا أراد المصلي أن يصلي بين ساريتين جماعة والصف لا يتجاوز الساريتين، كأن يصلي ثلاثة أو أربعة خلف إمام في صلاة مثلاً فائتة أو الجماعة قليلون ثم صلوا بين ساريتين، فهنا السواري هل تقطع الصف أو لا تقطعه؟ لا تقطعه، وهل ينهون عن ذلك أم لا؟

    على أحاديث الإطلاق ينهون؛ لأن النص جاء في ذلك عاماً للمنفرد والجماعة؛ ولهذا نقول: ليس كل جماعة تنهى عن الصلاة بين السواري, وإنما الصلاة التي يمتد الصف في ذلك حتى يتجاوز الصف تلك السارية، وأما المنفرد والجماعة التي تكون بين الساريتين لا تمتد فإنه لا يقع عليها في ذلك النهي لأن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إنما قيدوا ذلك فيما كان بين الساريتين حال امتداد الصفوف كما جاء في الإشارة في ذلك إلى حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى.

    وجاء لحديث أنس بن مالك عليه رضوان الله وجه آخر رواه أبو نعيم في كتابه تاريخ أصفهان من حديث أبي سفيان عن ثمامة بن أنس عن أنس بن مالك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين السوراي )، وهذا الحديث حديث منكر, وذلك لتفرد مجموعة من الرواة في هذا الإسناد ممن لا يحتج العلماء بمثلهم فضلاً عن انتظام هذا الإسناد بوجه غريب.

    كذلك أيضاً أن هذا الحديث مما تفرد به تفرد بإخراجه أبو نعيم في تاريخ أصفهان، ومن القرائن في أبواب إعلال الأسانيد: أن الإسناد في حديث مشتهر إذا لم يكن معروفاً من وجه آخر فجاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرد به أحد الآفاقيين من الأئمة أن هذا من علامات النكارة.

    ولهذا نقول: إن ما يتفرد به أبو نعيم مرفوعاً إلى رسول الله في الأحكام أن هذا منكر، كذلك ما يتفرد به الحاكم وهو آفاقي أيضاً ومتأخر بالنسبة لطبقة المتقدمين قبله له في الرواية وتفرده في ذلك أيضاً منكر، تفردات ابن عساكر في المرفوعات في الأحكام، الخطيب البغدادي ، الضياء أيضاً في المختارة، وأشباههم كـالبيهقي رحمه الله في تفردات هؤلاء في الأحاديث في أمور الأحكام فيما لم يروه غيرهم فإن هذا من قرائن النكارة.

    ومن وجوه النكارة أيضاً في المتن: أن هذا الحديث حديث أنس بن مالك يرويه يحيى بن هانئ عن عبد الحميد عن أنس بن مالك قال: ( كنا نتقي ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا الحديث حديث أنس بن مالك الذي يرويه أبو سفيان عن ثمامة بن أنس عن أنس بن مالك قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فجعل النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم منسوباً إليه، وما جاء في حديث أنس بن مالك إنما جعل الاتقاء أنهم كانوا يتقون ذلك من أنفسهم إما أن يكون لفهم فهموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعلاً فعله النبي عليه الصلاة والسلام فقدمهم أو أخرهم عن السارية، ومعلوم أن الفعل يختلف عن القول، فالقول في ذلك أقوى.

    ولهذا نقول: إن النهي الوارد في هذا الحديث في حديث أنس بن مالك منكر لو جاء منفرداً كيف وقد جاء حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله من وجه آخر كما جاء عند الإمام أحمد ، وكذلك عند أبي داود و الترمذي وغيرهم من حديث يحيى بن هاني عن ثمامة بن أنس عن أنس بن مالك عليه رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه نهى عن الصلاة بين السواري ).

    1.   

    حديث: (أنه صلى خلف رسول الله فنسي آية فلما سلم قال له رجل يا رسول الله: آية كذا وكذا نسيتها...)

    الحديث الثالث: هو حديث مسور: ( أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسي آية, فلما سلم قال له رجل يا رسول الله: آية كذا وكذا نسيتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا ذكرتنيها ).

    وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث يحيى بن كثير ، ويحيى بن كثير ضعيف الحديث جداً، تفرد بهذا الحديث عن مسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ويحيى بن كثير قد ضعفه غير واحد كالإمام أحمد رحمه الله، و يحيى بن معين وغيرهم، ويأتي معنا جملة من الأحاديث في هذا الباب في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، حديث علاء بن زبر عن أبيه عن عبد الله بن عمر ، ويأتي أيضاً معنا في حديث أبي بن كعب عليه رضوان الله في المجلس القادم بإذن الله تعالى.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767455977