إسلام ويب

الصحبة الصالحةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإنسان في الدنيا ليس مستقلاً بذاته، ولكنه محتاج لغيره؛ فعلى المسلم أن يختار لنفسه الرفقة الصالحة من أهل الفضل والعلم لينال بصحبتهم، ولما يترتب على ذلك من الأثر البالغ في الصفات؛ ولأن القرين بالمقارن يقتدي.

    1.   

    أهمية الصحبة الصالحة وسبب الحاجة إليها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى كان قادراً على أن يخلق كل إنسان من البشر من سلالة مستقلة، أو أن يجعله بمثابة آدم مستقلاً، لكنه أراد لحكمته البالغة أن يجعلهم من نفس واحدة؛ فجعل البشر جميعاً على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأحجامهم وأقدارهم من سلالة آدم، وجعلهم من نفس واحدة، وجعل مصالحهم مترابطة فيما بينهم، فلا يمكن أن يستقل أحد من البشر برعاية مصالحه، ولا أن يحقق ما يحتاج إليه في هذه الأرض بنفسه؛ بل يحتاج في كل شئونه وأموره إلى غيره، وذلك الاحتياج من فطرة البشر لا يمكن الاستغناء عنه بوجه من الوجوه.

    فلما كان الأمر كذلك ترتب على الخلطة والحاجة إلى الغير وهي الصحبة، فلا بد أن يصطحب الإنسان معه غيره في هذه الأرض؛ فالحياة فيها ليست حياة استقلال؛ بل هي حياة احتياج، أما الحياة البرزخية فهي التي ينفرد فيها الإنسان وحده مع عمله، وكذلك الحياة الأخروية ينفرد فيها الإنسان ويأتي يحمل طائره في عنقه، فتنقطع فيها الأنساب والصلات، أما الحياة الدنيا فلا بد فيها من حصول هذه الصحبة، وهذه الصحبة لا بد أن تترك أثراً وبصمات في كل واحد من المتصاحبين؛ فالقرين مؤثر على قرينه تأثيراً بالغاً، وهذا التأثير ليس مختصاً فقط بالدين واللغة؛ بل يصل كذلك إلى الخلق وإلى التصور وإلى أسلوب الحياة والعيش كله، فما من إنسان يخالطه آخر إلا أبقى فيه أثراً، فإن كان القرين قريناً صالحا أبقى الأثر الطيب والبصمات الخيرة في مقارنه، فإنه سيدله على الخير ويعينه عليه ويساعده على القيام به ويترك لديه تصوراً طيباً يبقى معه ويأخذ منه التجارب.

    وإن كان القرين قرين سوء فإنه سيصده عن ذكر الله عز وجل وعما من أجله خلق في هذه الدنيا، ويشغله عن ذلك ويترك فيه العقد والآثار السيئة التي يصعب عليه التخلص منها فيما بعد.

    1.   

    آثار صحبة الزوج لزوجته والعكس

    لهذا اعتنى الشرع الحكيم بالقرين فوضع كثيراً من الضوابط والأحكام المتعلقة بالصحبة في هذه الحياة الدنيا، وذلك لما تستحقه هذه الصحبة من العناية، فهي اختيار يترتب عليه كثير من الآثار، وهذا الاختيار للصحبة أنواع فمنه:

    اختيار شريك الحياة، أي: الزوج أو الزوجة، وهذا الاختيار جاء فيه كثير من النصوص المحددة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اختيار الزوج: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )، وقال في اختيار الزوجة: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك).

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم مارس بالسنة الفعلية أسس الاختيار في بناء الأسرة؛ فقد اختار الله له الطيبات كما قال الله تعالى: الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26] .

    واختار هو كذلك الأصهار الخيرين لبناته ولنساء المؤمنين، وكان يحرص على الاختيار، فقد صح في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـفاطمة بنت قيس وهي في عدتها قال لها: ( لا تفوتينا بنفسك - أراد أن تخبره إذا انتهت عدتها حتى يشاركها في الاختيار ويختار لها من يصلح لها - فأتته فقال: هل عرّض أحد - أو هل عرض لك أحد فقالت: معاوية و أبو الجهم ، فقال: أما معاوية فصعلوك لا يملك شيئاً، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن أنكحي أسامة بن زيد )، وكذلك فإنه اختار قبل هذا زيد بن حارثة لـأم أيمن بركة رضي الله عنهم أجمعين، وكان صلى الله عليه وسلم في هذا الاختيار يراعي أساس الدين، كما هو واضح في الاختيارات المذكورة.

    وذلك أن الصاحب بالجنب لا بد أن يؤثر في مصاحبه، فإن كان صالحاً استدعى منه ذلك الصلاح، فكم من زوج صالـح هديت بسببه زوجته، وكم من زوجة صالحة كذلك هدي بسببها زوجها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة).

    وكذلك بين أن التعاون على الخير بين الزوجين من أسس الإيمان فقال: ( رحم الله رجلاً قام من الليل ليصلي فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل لتصلي فأيقظت زوجها ليصلي معها فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء )؛ فالزوج الصالح يؤثر في تصور المرأة واختيارها واهتماماتها وإيمانها وعلاقاتها بالله، وكذلك الزوجة الصالحة لقوة عاطفتها وتأثيرها على زوجها ترشده على أوجه الخير وتعينه على ذلك وتهيئه له.

    وأمثلة ذلك لا حصر لها، فهذه أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها كانت سبباً في إسلام أبي طلحة الأنصاري وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبقت بصماتها في خلق أبي طلحة فهو في ميزان حسناتها، وكل جهاده في ميزان حسناتها بتأثيرها عليه وأثرها البالغ في تربيته وسلوكه.

    وكذلك أثر أبي الدرداء في أم الدرداء ؛ فقد كانت أم الدرداء وهي من التابعين يستفتيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسألونها في أحكام الدين، وإذا قست قلوب أهل الشام ذهبوا إلى أم الدرداء لتلين قلوبهم، وما ذلك إلا لآثار أبي الدرداء الصالحة في تربية هذه المرأة وصحبتها.

    ثم إن من الآثار الواضحة كذلك في العلاقات الزوجية أنها تؤدي إلى استقامة البيت، وتربية الأولاد تربية صحيحة يبقى أثرها في المستقبل، فإذا حصل الفصال فكان الزوج من الفئة الصالحة والزوجة من الفئة الطالحة أو العكس، فإن الأولاد سيعيشون على تربية مختلة ويقعون في انفصام رهيب في الشخصية؛ فيأمرهم الوالد بما تأمرهم الوالدة بخلافه، ويلتبس عليهم الأمر ولا يدرون وراء من ينساقون، ويبقى ذلك عقداً مستمرة في حياتهم، وكذلك سيبقى الخلاف والشجار والخصام في البيت ينطبع في أذهانهم ويؤدي بهم إلى كثير من العقد.

    أما إذا كان البيت منسجماً يكمل بعضه بعضاً؛ فلن يكون في الأولاد شركاء متشاكسون؛ بل ستكون تربيتهم منسجمة مستمرة على الوجه الصحيح.

    1.   

    آثار صحبة الصديق لصديقه

    وكذلك فيمن دون هذا من القرناء، فمن يصاحبه الإنسان ليتعلم منه أمر الدين، هو والده الديني، فالإنسان له والد طيني ووالد ديني، وقد يجتمعان معاً، فالوالد الديني هو الذي يربيه ويرشده إلى أوجه الخير، وعلى الإنسان أن يختاره لنفسه مرشده ومصاحبه الذي يثق به، ويجعل منه مرجعاً في أمور دينه، فيعلم أنه لا يمكن أن يسكت منه على باطل، ولا أن يغضي منه على زلة في أمر الدين، وبذلك يساعده على الالتزام بالحق، ومن أمثلة ذلك:

    اختيار فتى موسى لـموسى ثم اختيار موسى لـلخضر عليهم أجمعين السلام، فالقصة المقصوصة في سورة الكهف كانت قصة صحبه، فأولها صحبة فتى موسى لموسى ، ثم بعد ذلك صحبة موسى لـلخضر ، وقد تبين ما في القصتين من الأدب وحسن السلوك مع المربي، ففتى موسى لم يذكر له اعتراض ولا سؤال، وإنما ذكر من شأنه الانسياق وراء أمر موسى في القصة كلها، فلم تقرأوا في القصة قال: فتى موسى لـموسى ، بل كلها أمر يوجهه موسى إلى فتاه، قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60].

    وكذلك فإن أدب موسى مع الخضر بالغ جداً، فإنه عندما لقيه سلم عليه فقال: وأنى بأرضك السلام؟ أأنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فقال: هل أتبعك بصيغة الاستفهام ولم يقل سأتبعك بصيغة الأمر الجازم، عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66]، فجعل الاتباع يحتاج إلى بديل، فهو بمثابة بيعة طرفها لدى الخضر وطرفها الآخر لدى موسى؛ فالطرف الذي لدى الخضر يقتضي منه تقويم سلوك موسى وتعليمه، والطرف الذي لدى موسى هو الاتباع بمعنى الطاعة للأمر؛ ولن يطيع طبعاً إلا ما كان موافقاً للشرع، ولذلك يعترض على ما يخالفه، هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] ولم يقل: (كل ما علمت)؛ بل طلب أن يعلمه بعض ما علم فقط فقال: ( مما علمت) و(من) تبعيضية.

    ثم بعد هذا لم يقص علينا في القصة أن موسى اقترح مسيراً إلى أي اتجاه، ولا اعترض على السير ولا على أي أمر إلا ما رآه مخالفاً للشرع؛ كركوب السفينة المخروقة في عرض البحر، وكقتل النفس الزكية، وكالعمل دون مقابل في حق أهل القرية الذين استضافوهم فلم يضيفوهم، وكلها اعتراضات منبعها وأصلها من الشرع؛ ولذلك تأخر عنه الجواب ولم يجبه الخضر في السؤالين الأولين إلا في الاعتراض عليه في مسألته وتذكيره بالشرط الذي اشترط عليه، ومع ذلك صبر موسى على الأمر حتى أتاه جواب أموره الثلاثة.

    ومثل هذا صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لـجبريل عليه السلام، فقد كانت صحبته له صحبة تقويم وإرشاد؛ ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في زيادة زيارة جبريل له، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـجبريل: ( ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؛ فأنزل الله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً[مريم:64] )؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لو يزوره جبريل أكثر مما يزوره، وقد كان الاتصال بين جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكثفاً في بعض الأحيان؛ ففي رمضان كان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان؛ فتبقى بصمات جبريل واضحة في تصرف النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه؛ ولذلك في حديث ابن عباس ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

    فهذه آثار زيارة جبريل وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح في مسند أحمد وغيره: أن فترة الوحي الأولى كانت ثلاث سنين بعد نزول سورة: ( اقرأ)، عهد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى إسرافيل ، فمكث ثلاث سنين يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه بوحي، وإنما كان يرشده إلى الأخلاق والقيم وحسن المعاملة مع الله عز وجل.

    وكذلك في شأن الدين؛ فإن جبريل هو الذي أقام الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأول حديث افتتح به مالك موطأه: (عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً فدخل عليه عروة بن الزبير فقال: إن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو بالكوفة؛ فدخل عليه أبو مسعود البدري فقال: ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله عليه وسلم، ثم قال بهذا أمرت؟ فقال عمر : أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة)، وفي لفظ الموطأ: ( اعلم ما تحدث به يا عروة أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ فقال عروة : هكذا أخبرني بشير بن أبي مسعود البدري عن أبيه، ولقد أخبرتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر )، هذا الحديث افتتح به مالك موطأه وهو يرشد إلى إقامة جبريل الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد حذف منه مالك جملاً أخرجها مسلم في الصحيح بنفس الإسناد، فذكر فيه عشر صلوات ولم يذكر في الموطأ إلا خمس صلوات، في الموطأ: ( نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..) إلى خمس صلوات، وفي صحيح مسلم عشر صلوات وذلك في يومين، وقد جاء تفصيل ذلك في حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذي في السنن وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمني جبريل عند البيت مرتين: فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين بزق الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين هب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم التفت إلي وقال: يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين ).

    فهذه إمامة جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فقهاً وتطبيقاً لما أمر الله به في أوقات الصلاة، وهذا يدلنا على أثر الصحبة الذي هو أبلغ مما لو أنزل ذلك في القرآن ترتيلاً يقرأ فقط! فنحن نقرأ أوقات الصلاة في قول الله تعالى: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً[الإسراء:78]، لكن هذه الآية حتى وإن كانت تتضمن أوقات الصلوات الخمس، إلا أنها لم تفصل الوقت الاختياري من الضروري، ولم تفصل كذلك أوقات الصلوات بياناً كافياً لا يحتاج بعده إلى بيان، وإنما جاء لك في السنة الذي هي بيان القرآن، ببيان جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    آثار صحبة الصحابة لرسول الله

    وكذلك فإن صحبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي نالوا بها ما نالوا من تمام الإيمان وتمام الأدب، فأكثرهم صحبة له، وأطولهم مدة معه كان أقواهم إيماناً وأحسنهم خلقاً، وأكثرهم أدباً مع الله وأعلاهم منزلة في الإسلام.

    فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الرجال البالغين إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صحبه في الحضر والسفر وشهد المشاهد كلها معه، إيمانه لو وزن بإيمان الأمة لرجح إيمانه؛ ولذلك عندما امتحن الله المؤمنين بقصة الإسراء والمعراج حدث بها أبو بكر ولم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان قالها فقد صدق.

    وأخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم في ملأ من أصحابه، فأخبرهم أن رجلاً كان يحرث على بقرة، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا -أو ما لهذا خلقت- فقالوا: سبحان الله تكلمت بقرة -أو بقرة تكلمت- فقال: لكني أومن بذلك أنا و أبو بكر و عمر )، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر و عمر بأنهما يؤمنان بذلك ويصدقان به بمجرد كونه هو قاله.

    قوة إيمانهم وارتفاع مقامهم

    فهذه الصحبة أثرها بالغ جداً، وقد أخرج مسلم في الصحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! نكون عندك فنكون على ما ترى؛ فإذا رجعنا إلى بيوتنا عافسنا النساء على الفرش. فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).

    فأثر صحبته صلى الله عليه وسلم لو يدوم عليه الإنسان لترقى عن مستوى الإنسانية، بحيث يستطيع تكليم الملائكة ومصافحتهم مباشرة بالعيان؛ ولذلك فإن عدداً من الذين أكثروا الجلوس إليه صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الملائكة أو يسمعون أصواتهم أو يكلمونهم؛ فقد كان عمر رضي الله عنه إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده يسمع مثل دوي النحل، ولا يسمع ذلك غيره من الحاضرين في الغالب.

    وكذلك فإن عمران بن الحصين رضي الله عنهم كان إذا استيقظ من نومه سلم عليه صاحب اليمين وصاحب الشمال فيرد عليهما السلام، وكان إذا خرج من الخلاء سلَّما عليه فرد عليهما السلام، وكان يحس بهما في شأنه كله حتى اكتوى، فلما اكتوى احتجب عنه صاحب اليمين وصاحب الشمال شهراً، فحزن حزناً بالغاً لم يستطع النوم معه، ثم لما برئ من الكية التي كويها رجعا إليه.

    وكذلك فإن أسيد بن حضير رضي الله عنه قام يقرأ ذات ليلة في باحة داره وعنده ولده يحيى نائماً، وحوله فرسه، فقرأ فرأى ظلة تنزل من السماء فيها مصابيح، فاقتربت فجعلت الفرس تجول فخشي على ولده فسكت فارتفعت الظلة، ثم عاد إلى القراءة فنزلت الظلة؛ فجالت الفرس فخشي على ولده فقطع القراءة فارتفعت الظلة وهكذا، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (تلك الملائكة تنزلت تستمع الذكر).

    وكذلك فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أكثر الناس صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأثرت بتلك الصحبة تأثراً بالغاً، حتى كانت ترى جبريل في صورة دحية الكلبي ، وكذلك ابن عباس كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وكذلك أبو هريرة رآه مراراً في صورة دحية ، ورآه مرة أخرى في صورة رجل لا يعرفه، وكذلك جابر بن عبد الله كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وهؤلاء كانوا من الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد ذكر أهل العلم أن كف أبصار هؤلاء جميعاً في آخر أعمارهم، كان بسبب النور الذي يشاهدونه، فقد عمي هؤلاء في آخر أعمارهم.

    وكذلك فإن عمر بن الخطاب رأى جبريل حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي وصف فقال: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه )، فهذه الصورة رآها عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مضاعفة أجورهم

    كذلك فإن من قوة آثار هذه الصحبة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعلت هؤلاء يضاعف لهم الأجر في أعمالهم؛ فليسوا مثل من سواهم ومن دونهم من هذه الأمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فإنفاق أولئك للشيء اليسير يكون أضعافاً مضاعفة في حق إنفاق من دونهم؛ فلو أنفق أحدهم مداً من الشعير لو وزن في كفة الميزان يوم القيامة بجبل أحد من الذهب، وكذلك لو أنفق نصف مد من الشعير لكان كجبل أحد من الذهب، ولو أنفق نصيفاً -وهو ما تجعله المرأة على رأسها- لكان مثل جبل أحد من الذهب؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10].

    تأثيرهم على عدوهم في الغزو

    إن آثار صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جعلت من رآهم ممن أراد الله به الخير من أمم الكفر، يستجيبون ويصدقون، حيث كانت تفتح الفتوح بسبب واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجيش، فقد أخرج البخاري في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).

    زيادة علمهم وسرعة بديهتهم

    إن آثار هذه الصحبة كذلك اقتضت العلم النافع العجيب جداً، الذي لم يحتج أصحابه إلى كثير من التعلم والانتظار، كما احتاج إليه من وراءهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان من الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بمجرد هذه الصحبة والتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تلقى عليه المسألة كما حدث له مرة وهو على المنبر، عندما افتتح خطبته فقال: (الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المئاب والرجعى، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فقال علي على البديهة: صار ثمنها تسعاً)، واستمر في خطبته، فحل هذا الإشكال العظيم الذي لم يطرح في الإسلام قبل هذا الوقت بهذه السرعة الهائلة، فعرف أن أصل المسألة من أربعة وعشرين وأن فيها عولاً تصل به إلى سبع وعشرين، والأربع والعشرين أصل من الأصول الثلاثة التي تعول عولة واحدة، فلا تعول إلا إلى سبعة وعشرين، ولم يعرف ذلك في الإسلام قبل هذه الفتوى، وهكذا.

    قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:

    نور به عن تهجٍ صحبه غنيت وغير أصحابه منا وحى وهجا

    فغير الصحابة احتاجوا إلى التعب في تعلم الحساب وتعلم العلوم الشاقة، والصحابة رضوان الله عليهم بآثار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته لم يحتاجوا إلى إتعاب أنفسهم في تعلم كثير من تلك العلوم، وإنما كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن عرفوا هذه العلوم العجيبة في الأوقات اليسيرة؛ فمدة صحبة عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسع سنين فقط؛ لأنه دخل بها في التاسعة من عمرها وتوفي وهي في الثامنة عشرة من عمرها؛ لكن مع ذلك أحرزت العلوم الخطيرة العجيبة في هذه المدة اليسيرة، قال أحمد البدوي رحمه الله:

    وكم حوت في مدة يسيرة من العلوم الجمة الغفيرة

    في هذه المدة اليسيرة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تحتاج إليه الأمة كلها، وأصبحت من المكثرين من الرواية في الحديث، واحتاج إلى إفتائها وروايتها الخلفاء الراشدون ومن دونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    آثار صحبة التابعين لأصحاب رسول الله

    كذلك من آثار الصحبة صحبة التابعين لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أبقت أثراً بالغاً في نفوسهم، فـعمرة بنت عبد الرحمن صحبت عائشة رضي الله عنها، فروت غلمها وكان الناس يلقبونها أمنا، كانوا يخاطبونها فيقولون: يا أماه! تأدبا ًمع عائشة ؛ لأنها كانت تخدمها وعاشت معها حتى ماتت، فكانت عمرة محل توقير لدى المسلمين، وكان الناس يحترمونها كما كانوا يحترمون عائشة رضي الله عنها.

    وكذلك الذين صحبوا كبار الصحابة واشتهروا بصحبتهم كأصحاب ابن مسعود مثل: عبيدة السلماني و زر بن حبيش و أبي وائل وغيرهم من أصحاب ابن مسعود ممن اشتهروا في الأمة، وكان لهم الشأن العظيم لصحبتهم لـابن مسعود ، حتى إن أهل العلم يذكرون نسباً دينياً متوارثا ًفيما يتعلق بالخلق والسلوك والأدب؛ فيقولون: إن أبا داود السجستاني سليمان بن الأشعث وهو مؤلف كتاب السنن وغيره من كتبه، قد صحب أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و أحمد بن حنبل قد صحب وكيع بن الجراح فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و وكيع بن الجراح صحب سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و سفيان الثوري قد صحب منصور بن المعتمر ، فكان يحكيه كذلك، وصحب منصور بن المعتمر سليمان بن مهران الأعمش فكان يحكيه كذلك، وصحب الأعمش إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله وسلوكه وخلقه، وصحب إبراهيم النخعي علقمة النخعي فكان يحكيه كذلك، وصحب علقمة ابن مسعود فكان يحكيه، وصحب ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكيه.

    إن هذا النسب الديني الذي تسلسل بهذا الحد، هو بمثل البصمات التي يتركها المربي فيمن يصحبه، وقد نظم هذا التسلسل شيخي محمد سالم حفظه الله في قوله:

    ربى ابن مسعود مقيم المله فكان يحكي هديه ودله

    وكان علقمة لابن أم عبد كهذا للنبي الأمي

    وكان إبراهيم يحكي علقمة واهاً له من نسب ما أكرمه

    وكان الاعمش لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويما

    ثم قال:

    وكان سفيان بلا قصور مشبهاً بشيخه منصور

    وهكذا أيضاً وكيع كان مشبهاً بشيخه سفيانا .

    وكان أحمد لدى الجميع مشبهاً بشيخه وكيع

    كذا أبو داود عند الكمل مشبهاً بـأحمد بن حنبل

    بهذا الترتيب. وكذلك فإن مالكاً رحمه الله كان يشبه بـربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ربيعة بن فروخ ، وهو الذي اشتهر بـربيعة الرأي ، في سكينته ووقاره وهدوئه وعد التفاته، وكان ابن وهب يشبه بـمالك كذلك في سكينته وهدوئه ووقاره.

    وقد اشتهر كذلك من الأئمة من حكوا أثر الشافعي ؛ فالبويطي و المزني و الربيع بن سليمان المرادي كان هؤلاء يشبهون بـالشافعي في هديه كذلك وسلوكه.

    وقد كان الناس يشبهون أبا يوسف بـأبي حنيفة ؛ فكانوا يقولون: أبو يوسف أبو حنيفة كأنه هو، لكثرة ما كان يحكيه ويشابهه، مع أن أبا حنيفة في الأصل لم تكن له علاقة وطيدة بـأبي يوسف ، وإنما مر عليه في المكتب فرأى الكاتب يكتب له فيحفظ بسرعة، فقال: يا غلام! اصحبنا، فصحبه فحضر مجلساً من علمه، ففهم ما قال، فقال: لا تبرح المجلس أي: احضر دروسنا؛ فعمل أبو يوسف بنصيحة أبي حنيفة حتى ضربه أبوه، وكان يريد منه كسباً ما دياً يريد منه أن يتعلم الحياكة، حتى ينتج دراهم؛ فأتى أبو يوسف وقد ضُرب إلى أبي حنيفة فأخبره أن أباه ضربه ومنعه من حضور الدرس، فذهب أبو حنيفة إلى والد أبي يوسف وقال: ما تريد من هذا الغلام؟ فذكر أنه يريد منه دراهم للمعاش، فقال: أعطيك ضعف الدراهم التي تريد منه واتركه يحضر الحلقة، فتركه يحضر الحلقة حتى ورثها عن أبي حنيفة ؛ بل كان أول من تلقب بقاضي القضاة؛ لأنه كان مسئولاً عن القضاء في البلاد الإسلامية كلها.

    هذه هي آثار الصحبة الصالحة فيما يتعلق بالدين.

    1.   

    أثر الصحبة في استغلال الوقت في النافع المفيد

    ثم إن لها آثاراً كذلك فيما يتعلق بالدنيا، فإن الذي يستغل وقته ويوظفه توظيفاً صحيحاً، يترك بصماته بارزة فيمن يصاحبه ويخاللـه ويخالطه، وقد انتفع عدد كبير من الأئمة بمجرد الجلوس إلى بعض الشيوخ، كان أحد أهل العلم يقول: إذا ذهبت إلى ابن الجوزي فإني لا أريد الاستفادة من علمه بقدر ما أريد الاستفادة من وقته، وكان ابن الجوزي يستغل كل أوقاته، فكان يقول: إذا دخل علي بعض الثقلاء أخذت الأقلام فبريتها وأصلحت الدواة حتى يخرجوا عني فأستعين بذلك الوقت، كان في وقت دخول الثقلاء لا يمكن أن يكتب علماً ولا أن ينتج فيه إنتاجاً فكرياً؛ بل كان يستغله لبري الأقلام وإصلاح الدواة وغير ذلك.

    وكان يستغل أوقاته كلها، حتى إنه كان إذا دخل الخلاء يأمر أحد طلابه أو أحد أولاده أن يقرأ عليه من كتابه فيسمعه، فيرفع صوته حتى يسمعه، حتى لا يخرج وقتاً من التعلم والاستفادة.

    وكذلك استفاد عدد من الناس من صحبة مالك في استغلال الأوقات، فهذا عبد الرحمن بن القاسم العتقي يقول : أتيت مالكاً فعلمت أن الرجل في شغل، ليس لديه فراغ فأردت أن آخذ من وقته، فسألته ذلك؛ فقال: احضر معنا، فكنت أحضر؛ فإذا أذنت الجارية وخرج الناس دخلت فأعطاني وقتاً يخصني به، فجلست معه عشرين سنة، لم يمضِ منها يوم إلا أسمعني فيه ما لم يسمع غيري، ولم أسمع منه شيئاً فنسيته، لقد صحبه لمدة عشرين سنة لم يمضِ منها يوم واحد إلا تعلم منه علماً خصه به من المسائل والأمور التي ليست في الحلقة العامة لكل الناس، ومع ذلك لم يسمع منه شيئا ًفنسيه.

    وكان مالك رحمه الله لشدة عنايته بالوقت لا يذهب إلى الخلاء، إلا مرة في كل ثلاثة أيام، وكان يستعين على ذلك بأكل الموز، فكان يأكله فيستغني به عن غيره من التغذية؛ فلذلك لا يحتاج إلى الذهاب الخلاء إلا مرة في كل ثلاثة أيام، وعندما سمع الليث بن سعد أن أحب الفاكهة إلى مالك الموز، أرسل إليه حمل خمسين بعيراً من الموز من مصر إلى المدينة.

    إن الذي يستغل الوقت فيما هو نافع من حسن المعاد أو درهم المعاش، يستفيد منه الإنسان في تنظيم وقته والعناية به، فلا يضيع وقتاً وأراد رحمه الله أن يكتب خطة عمل الشيخ محمد ولد بابا اليومية، فكتبها ليستفيد منها في تنظيم وقته؛ فذكر أنه يأتي المسجد في السدس الأخير من الليل، فيكثر الذكر على بابه، ثم يؤذن عند أول الفجر، ويصلي وكان محمد ولد بابا يعجل الصلوات كلها على خلاف عادة كثير من معاصريه من أهل بلدته، فكان يعجل الأوقات؛ فإذا صلى جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس ثم يصلي ركعتين ثم يخرج إلى البقر، فيؤدي حقها ورعايتها وإخراجها من مكانها ثم يعود فيكتب عشر صفحات من مؤلفاته، ثم يجتمع عليه الطلاب للتدريس فلا يزال يدرس إلى أن يصل إلى وقت تعودوه وهو وقت الظهيرة، يقوم فيه ليعرف الظل ويحدد به الوقت، ثم يصلي في ذلك الوقت ما تيسر له، ثم يعود للمطالعة والقراءة في الكتب إلى أن يقوم إلى صلاة الظهر، وعندما يصلي الظهر يذهب إلى البئر فيسقي مواشيه ويعتني بالبئر عناية بالغة، ثم يعود قبيل العصر فيستريح قليلا، ًثم يقوم إلى الصلاة، ثم بعد العصر يجتمع عليه الطلاب للدراسة، فإذا بقي جزء يسير من الوقت استعمله في قراءة القرآن، ثم يخرج قبيل غروب الشمس للرياضة البدنية، فيعود عند أذان المغرب، فيصلي بالناس في أول الوقت، ثم يجلس للذكر إلى أن يأتي وقت العشاء فيؤذن ويصلي العشاء، ثم يعود إلى بيته فيؤدي حق أهل بيته وهكذا، فوضع هذه الخطة ورسمها، وكان كثير من أهل العلم في هذه البلاد يجهل في أن يستغل وقته، كما كان الشيخ حباب يستغل وقته في مثل هذا النوع من الأعمال.

    وكذلك فإن عددا ًمنهم في أيام الطلب كان يذهب إلى ذوي الهمم العالية يجلس إليهم، وإن كانوا أقل منهم شأناً في العلم ليرى طريقة مثابرتهم على العلم وحرصهم عليه، فيعتني بذلك في تدربه على الوقت؛ فالعلامة يحظيه بن عبد الودود كان من الأذكياء المشهود لهم بذلك، وقد عرف رجلاً من آل الحاج اسمه عبد اللطيف لم يكن في القريحة والذكاء كيحظيه ؛ لكنه كان مستغلاً لوقته بشكل عجيب، فذهب يحظيه إليه وسأله أن يكون دولته وقرينه في الدراسة، وهو يريد بذلك تنظيم الوقت، فيقال: إنه كان إذا سلم من الفريضة التفت إليه، أي: إذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وسلم عن يمينه وشماله -يقول عبد اللطيف : قل: وإن جن نظر السلطان، وهذا بدء درس من مختصر خليل في كتاب الإجارات، وذلك لاستغلال الوقت حتى لا يفوت منه شيء؛ فيبدأ بالمدارسة قبل استكمال ورد الصلاة استغلالاً للوقت ونهماً للعلم.

    فاستعان بهذا الرجل على استغلال الوقت أكمل استغلال، وإن كان الرجل دونه في الذكاء، لكنه كان مبرزاً فيما يتعلق باستغلال الوقت، فاستفاد يحظيه من تجربة هذا الرجل.

    وكذلك فإن شيخي محمد علي رحمه الله أخبرني: أن خاله أحمد محمود كان من أحسن الناس استغلالاً للوقت، فكان هو يرمقه في استغلاله للوقت فيقول: دربني على ذلك منذ السنة الثالثة عشرة من العمر، فمنذ أكملت السنة الثالثة عشرة من العمر ما مضى يوم إلا ازددت فيه علماً، ولا بزغ الفجر إلا على عيني وأنا أرقبه، ولا دخل وقت فريضة من الفرائض إلا وأنا مستيقظ عليه، منذ ذلك الوقت إلى أن توفي في السنة الرابعة والتسعين من عمره.

    فكل هذا من الاستغلال للوقت الذي اشتهر لدى أهل العلم، إنما هو من آثار الصحبة، فإن من رأى صاحب جد وتشمير في أي أمر من الأمور سيحاول أن يكون مثله في الاستغلال؛ بل يمكن الاستفادة أيضاً من الذين يستغلون الأوقات في غير طائل وينهمكون فيها، فيكون ذلك حافزاً للإنسان في المقابل على استغلالها فيما ينفع؛ فالذي يرى الذين يلعبون بالأوراق ويسهرون عليها الليالي ذوات العدد، ويرى الذين يلعبون بالأعواد تحت الشجر، ويتعرضون لأشعة الشمس المحرقة وللغبار والتراب والأذى، ويرى مثابرتهم على هذا الأمر وصبرهم عليه مع أنه ليس فيه نفع، بل كله ضرر، يمكن أن يستفيد هو من تجربة هؤلاء فيستغل الأوقات الطائلة فيما ينفع؛ فالوقت الذي يستغلونه في لعب الورق يمكن أن يستغل في قيام الليل وفي تعلم العلم، والوقت الذي يستغلونه في لعب الأعواد تحت الشجر يمكن أن يستغل فيما هو نافع من أمور الدين والدنيا.

    أذكر أن أحداً النابهين رأى بعض المولعين بالكرة، فرغب في لقائه وذهب إليه وجلس إليه وتحدث معه، فسأله كم حضرت من (الماتشات) العالمية والمباريات الدولية؟ فذكر أنه ما فاته مكان للعب أو مباريات دولية في أي مكان، وأنه تكلف في سبيل ذلك أموال باهظة في تذاكر الطيران، وفي النفقات في الفنادق وغير ذلك؛ فأخذ هو تجربة ًمن تجربة هذا الرجل، فقال: إذا كان هذا يحرص على مشاهدة أصحاب الكرة واللعب، فينبغي أن أحرص أنا وأن أنفق مثلما أنفق على لقاء أهل الخير والتعرف عليهم في أنحاء العالم والاستفادة منهم، فبذل الجهد في زيارة أكبر قدر ممكن من العلماء في أنحاء الأرض وأطال الأسفار في طلب ذلك، وما ذلك إلا أخذاً من تجربة هذا المولع بالكرة الذي أولع بما لا نفع فيه.

    1.   

    أثر الصحبة في تقويم الأخلاق

    إن هذه الآثار كذلك تتعدى هذا الحد إلى التأثير المباشر في الخلق والقيم، فكم من إنسانٍ صالح صحب فاسداً فأثر فيه وترك فيه بعض بصماته الشريرة من سوء الخلق، أو غيره من الأخلاق الذميمة، ولهذا قال الحكيم:

    لا تصحب الكسلان في حاجاته كم صالح بفساد آخر يفسد

    عدو البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد

    فالجمر إذا وضع في الرماد خمد، وقد سمعت أحد العلماء يذكر مثالا ًعجيباً، يقول: إن الكرتون الكامل من البرتقال إذا كان فيه واحدة فاسدة، فإنها ستلقي بظلالها على طعم ذلك الكرتون بكامله، حتى لو كان البرتقال غير فاسد فيكون طعم تلك كالبرتقالة الفاسدة معدياً مؤثراً في كل الكرتون.

    فلهذا ينبغي للإنسان أن يختار من يجالسه ومن يصاحبه، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي ).

    (لا تصحب إلا مؤمناً)، والمقصود بالمؤمن هنا من كان حسن الإيمان، (ولا يأكل طعامك إلا تقي)؛ لأن المواكل لا بد أن يترك أثرا ًعلى من يؤاكله.

    ولهذا فإن من أدب المؤاكلة أن ينظر الإنسان إلى أكيله نظراً غير حاد، فيحاول محاكاته بتصغير اللقم وإطالة المضغ والترسل في الأكل، فكل ذلك يترك عليه بعض الآثار.

    وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه ).

    فالأكيل والقعيد والشريب لا بد أن يؤثر أثراً ما؛ ولهذا لاحظوا أن أصحاب الكهف عندما صحبهم كلب كان له شأن؛ فذكر في القرآن: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ[الكهف:22]، هو كلب، لكنه صحب أصحاب الكهف فكان له منزلة خلد ذكره بسببها في كتاب الله.

    وكذلك فإن الذين صاحبوا الأخيار ذكروا معهم في صحبتهم حتى ولو كانوا دونهم، قال الحكيم:

    إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

    عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

    وفي حكم ابن عطاء الله: ( لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)، فمن لا ينهضك حاله فينهض بهمتك ويرتفع بها لا تصحبه، فإنه سينزل بك عن مستواك، وكذلك من لا يدلك على الله مقاله لا تصحبه فإن مقاله سيكون حاجزاً وحائلاً بينك وبين الاستمرار على طريق الحق؛ ولذلك يقول أحد النحويين:

    عليك بأصحاب الصدور فمن غدا مضافاً لأرباب الصدور تصدرا

    ولا ترضين يوماً بصحبة خامل فينحط قدر من علاك وتحقرا

    فرفع أبو من ثم خفض مزمل يبين قولي مغرياً ومحذرا

    فقول العرب: ما عرفت أبو من زيد، فأصل الكلام أن تقول: ما عرفت أبا من زيد؛ لأنه مفعول عرفت، لكنه حين أضيف الى ما يستحق صدر الكلام وهو (من) التي لا يعمل فيها عامل متقدم عليها، استحق الرفع، فقيل: ما عرفت أبو من زيد، بإضافته إلى مستحق الصدر استحق الصدر، والعكس كذلك مثلوا له بقول امرئ القيس :

    كأن أباناً في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل

    فمزمل: نعت لكبير المرفوعة، وكانت تستحق الرفع، فكان الأصل أن يقال: كبير أناس في بجاد مزملُ، لكنها خفضت حين جاورت ما هو مخفوض وهو في بجاد؛ فلهذا قال:

    فرفع أبو من ثم خفض مزمل يبين قولهم مغرياً ومحذرا

    مغريا في أبو من زيد، (ومحذرا) في خفض مزمل.

    إن الحرص على الصحبة الصالحة كذلك يقطع الطريق على الصحبة السيئة، فالبديل لا يمكن أن يجتمع مع المبدل منه، البدل والمبدل منه لا يجتمعان، فمن صحب الأخيار انقطع عنه الأشرار.

    دعا عمر بن عبد العزيز رحمه الله ذات يوم رجاء بن حيوة ، فقال له: يا رجاء ! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكني لا أجد رجاله، فقال: يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق يجلب إليها ما يروج فيها، فإذا صلح السلطان اجتمع عليه أهل الصلاح، وإذا فسد اجتمع عليه أهل الفساد، ولا شك أن قرين السوء هو من البلاء الذي ينشأ من المعصية والإعراض عن ذكر الله، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ[الزخرف:36-37].

    فقرين السوء سواءً كان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، سبب التحاقه بالإنسان إنما هو إعراضه عن ذكر الله؛ فالذي لسانه رطب من ذكر الله يذكر الله على كل أحيانه يختار الله له قرين الحق، الذي يعينه على الحق ويرشده إليه، والذي يعشوه عن ذكر الرحمن فينشغل بغير الله عن الله يقيض له من شياطين الإنس والجن من يكون مغوياً له، فيكون عدواً له يوم القيامة كذلك: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ[الزخرف:38].

    1.   

    أثر صحبة الوالد لولده

    إن صحبة الوالد لولده إذا كانت في وجه الخير تقتضي استمرار حياة الوالد، وبقاء مشروعه الذي يعمل فيه، فما من إنسانٍ إلا وأمله أطول من أجله يفكر في كثير من المشاريع التي سيموت قبل استيفائها، فإذا صحب أولاده ورباهم التربية الصحيحة فسيكونون استمراراً لذلك المشروع على الوجه الذي هو خطط له ورسمه؛ ولهذا فإن على الوالد في صحبته لأولاده أن يحاول أن يترك بصماته الطيبة في أولاده، فإذا لقيهم أحد بعد موته أو في غيبة منه رأى آثار تربيته وهديه وسلوكه بارزة عليهم.

    عندما أتى الحجاج بن يوسف أميراً على العراقين من قبل عبد الملك بن مروان ، وقد كان قبله زياد بن أبيه والياً على العراق، جاء الحجاج فدخل مسجد الكوفة، وقد تعمم بعمامة غطى بها أكثر وجه، وقد تقلد سيفاً وتنكب قوساً وأخذ رمحاً، فجلس على المنبر وبين يديه غلامه، فسكت طويلاً حتى قال بعض أهل المسجد: قبح الله بني أمية يؤمرون هذا الأخرس على العراقين! فلما طال الانتظار وقف فخطب خطبته المشهورة التي يقول فيها: ( يا أهل العراق والشقاق والنفاق! إني لأرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وإن أمير المؤمنين قد نفض كنانته فوجدني أمرها عوداً وأصلبها فرماكم بي؛ فوالله لآخذن المريب بالمريب والقريب بالقريب، ولأقومنكم كما تقوم السلمة).. إلى آخر خطبته المعروفة التي يقول فيها:

    والقوس فيها وتر عرد

    مثل ذراع البكر أو أشد

    لا بد من ما ليس منه بد

    ثم قال: يا غلام! اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، ففتح الغلام الكتاب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة؛ السلام عليكم ورحمة الله، فلم يجبه أحد، فقال: اسكت ثم قال: هذا أدب ابن نهية ، أي: هذا تأديب زياد لكم، فوالله لأؤدبنكم أدباً غير هذا الأدب، ما لكم لا تردون على أمير المؤمنين السلام؟ ثم قال: ارجع يا غلام من أول الكتاب، فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة السلام عليكم ورحمة الله، فلم يبقَ أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.

    فأثر الراعي في الرعية يكون بارزاً كذلك، والناس على دين ملوكهم، فإذا كان الوالي عدلاً رحيماً كان كل عماله كذلك، وإذا كان متغطرساً باغياً جائراً كان كل عماله كذلك، فالقضية مثلما يورث من بر الوالدين وعقوقهما، فمن كان براً بوالديه بره أولاده كذلك، ومن كان عقاً بوالديه عقه أولاده.

    ولهذا جاء في الحديث: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم ).

    ثم إن الأثر البارز كذلك الذي يتركه أصحاب المكانة الاجتماعية في من يغشى مجالسهم ويصاحبهم أثر عجيب، وقد اشتهر في أيام عبد الله بن المبارك رحمه الله في مرو، أن أهل مرو كانوا جميعاً يغشون مجلسه كبيرهم وصغيرهم، فتعودوا على أدب عبد الله بن المبارك ، فكان من لقي أحداً من أهل مرو عرفه بهدي عبد الله بن المبارك ؛ ولهذا قال فيها أحد شعرائهم:

    إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها

    كذلك فإن الإمام السحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي الذي ألف المدونة، كان قاضي القيروان لمدة سبعين سنة، لم يؤثر عنه جور في حكم ولا أساء في تصرف، ولم يأخذ شيئاً من بيت المال ولم يأخذ منه رزقه حتى لقي الله، وكان لا يغشى باب السلطان؛ بل كان السلطان إذا أراد حاجة إلى سحنون ركب بغلته فجاء إلى باب سحنون ، واستأذن عليه فيأذن له سحنون أو يرده، لكن كان طلاب العلم إذا غشوا مجلس سحنون ، يتأدبون بأدبه فيرون الوقار والسكينة من حماليق عينيه، فيتعودون على ذلك فيما بعد.

    وقد اعتنى ولده محمد بن سحنون بهذا الأثر فألف فيه كتباً، ولذلك كان من أشهر المربين لدى المسلمين ومن أشهر الذين ألفوا في التربية.

    ومثل هذا ما كان لـأبي المعالي الجويني الذي اعتنى به أبوه بتربيته منذ نشأته، فإن أباه عمل في مزرعة حتى اكتسب دراهم من كسب حلال، فأرسل بها إلى بلاد الشركس -الشراكسة- فاشترى أمة لم تدخل بلاد المسلمين حتى تكون مضنة للعتق أو تتناولها الأيدي؛ فأوتي بها فأنفق عليها من كسبه الحلال وعلمها حتى حفظت القرآن وتعلمت العلم ثم أعتقها وتزوجها، فأنجبت هذا الولد فحجبها عن الناس وكان ينفق عليها وعلى ولدها من كسب يتحرى فيه الحلال، ثم إنه كان في وقت الضحى يصلي؛ فدخلت امرأة بيته عن غفلة منه، فأسرع فوجدها ترضع ولده؛ فأخذ الولد فرفع رجليه وعصره حتى أخرج كل ما في بطنه مما ارتضع!

    واعتنى بتربيته بعد ذلك فكان عبد الملك يقول: إنه تأخذني كبوة عند المناورة ما أراها إلا من تلك المصة.

    وقد اعتنى عبد الملك كذلك بتربية طلابه، فكان يشتري لهم زياً موحداً من الطيالسة، فكان كل طلابه يلبسون هيئة واحدة، فكل واحد منهم اشترى له طليسان مثل طيالسة غيره.

    وكان منهم أبو حامد الغزالي الذي اعتنى بالتربية عناية كبيرة، وكان من مشاهير المربين من المسلمين، وألف في ذلك كتباً، منها رسالته المشهورة التي ترجمت الآن إلى ثماني عشرة لغة من لغات العالم وهي الرسالة التي عنوانها: (أيها الولد)، وقد كانت تدرس في بعض الجامعات الأوروبية، فهي أصل فلسفة التربية عموماً.

    1.   

    اختيار الوالد لولده القرين الصالح

    إن كثيرا ًمن العلماء كان يعتني بترك آثار الصحبة، فكان يختار لأولاده ولمن يريد التأثير عليهم قرناء الخير، الذين تعلو بهم الهمم، ويساعدون على الاستمرار في الأوجه الطيبة، ومن أشهر ما كان يحصل من ذلك عناية خلفاء المسلمين بأولادهم، فكان كل خليفة يختار المؤدبين لأولاده، فيختار مشاهير أهل العلم والتربية وأهل السلوك الحسن ليقتدى بهم، وأصل ذلك مأمور به شرعاً في اختيار المؤدب.

    وقد اختار هارون الرشيد يعقوب بن السكيت لتربية أولاده، وكان مشهوراً بحسن الأدب والسلوك واللباقة والظرف والأدب، ومع عجائب ما جرى بينه وبين المأمون بن هارون الرشيد أنه ذهب مع أولاد الرشيد في زيارة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد عود المربي الأولاد ألا يفتتحهم بأي خبر حتى يسألوه عنه؛ لأن النيل بعد اليأس أبلغ في النفس، ولأن كل علم جاء بعد طلب يحرص عليه صاحبه فلا ينساه؛ ولذلك فعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جواباً لسؤال، فرسخ في أذهانهم، بخلاف ما يسمعه الإنسان من غير أن تكون له عناية سابقة به، فكثيراً ما ينسى بعضه، لكن ما كان على أساس السؤال والجواب فإنه سيرسخ؛ فلذلك لم يكن المربي يبادر بالجواب عن أي شيء حتى يسأل عنه، إلا أنه مر ذات يوم ببيت من بيوت المدينة فبادر فقال: هذا بيت عاتكة الذي قال فيه الأحوص :

    يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل

    فوجب المأمون حين عرف أن المربي قد خرق عادته وخرج على صنيعه، فعرف أن وراء ذلك أمراً ففكر فيه، وكان يحفظ ديوان الأحوص ، فأعاد القصيدة على ذهنه؛ فوجد في آخرها قول الأحوص :

    فلأنت تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل

    فعلم أن هذا البيت هو نكتة المبادرة، فذهب إلى أبيه فقال له: هل وعدت المربي بعدة ولم تنجزها؟ فقال: أقال لك شيئاً؟ قال: لا، ولكنه ما عودني على أن يتكلم قبل أن أسأله، وقد مر اليوم ببيت فبادر فقال: هذا بيت عاتكة الذي قال فيه الأحوص :

    يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل

    فعرفت أنه يقصد البيت الذي في آخر القصيدة وهو:

    ولأنت تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل

    فقال: نعم، كنت وعدته بدراهم فاحملها إليه مضاعفة.

    وهذا نظيره ما حصل لـأبي العلاء المعري مع سيف الدولة الحمداني أو غيره من أمراء بني حمدان؛ فكان في مجلسه فاجتمع أهل المجلس على نقد أبي الطيب المتنبي والإزراء به، وكان أبو العلاء المعري منحازاً إلى أبي الطيب المتنبي ؛ فقال لهم: لو لم يكن لـأبي الطيب من الشعر إلا قوله:

    لك يا منازل في الفؤاد منازل أقويت أنت وهن منك أواهل

    لكفاه ذلك من الشعر، فنظر الأمير فإذا هذه القصيدة ليست من عيون شعر أبي الطيب المتنبي ولا من مشاهير قصائده فعجب من ذلك، فردد القصيدة في ذهنه فإذا في آخر القصيدة قول أبي الطيب المتنبي :

    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل

    فأمر بجر أبي العلاء المعري برجله حتى يخرج من المجلس، وعرف أنه يقصد هذا البيت، فقال: ما قصد الأعمى إلا قوله:

    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل

    1.   

    حرص السلف على الصحبة الصالحة

    إن هذه الآثار التي تبقيها الصحبة الصالحة في النفوس كان الناس يحرصون عليها في الزمان الأول؛ فقد كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك ، وكان عدد من أهل العلم يأتي بالأولاد الصغار ليحضرهم مجالس التحديث، فهذا الإمام الذهبي محمد بن عثمان بن قايماز ، يقول: إن والده أتى به يحمله على عنقه وهو في الرابعة من عمره فأحضره مجالس التحديث بدمشق؛ فكان يروي بالأسانيد العالية، وهو في الرابعة من عمره يأتي به والده يحمله على عنقه ليحضر به مجالس التحديث.

    وكذلك الحافظ أبو القاسم بن عساكر اعتنى به والده، فكان يأخذ له الإجازات من العلماء الكبار، وهو في صباه وصغره، وكذلك الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني والحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، كان والده أيضاً يحضره مجالس التحديث ويقول: إنه أحضره ختم البخاري حين ختمه الحافظ ابن حجر ، وبذلك أحرز الرواية عن الحافظ ابن حجر مع أن ابن حجر توفي و السيوطي طفل صغير، لكن صحت له الرواية عنه حين حضر مجلس ختم صحيح البخاري الذي أجاز فيه ابن حجر كل الحاضرين أن يرووا عنه صحيح البخاري .

    وهكذا فعناية العلماء قديماً وحديثاً بهذا الأمر كثيرة.

    يقول أحد علمائنا في هذه البلاد وهو عبد الله بن محمد بن محمد سالم المجلسي حمهم الله حين أرسل ولده إلى العلامة معي رحمه الله ليتعلم منه النحو، كتب إليه نصيحة لولده وخطاباً كذلك للشيخ يقول:

    لمعي الهمام اللوذعي الألمعي سر واجمعن علومه في مجمع

    وكن الوعاء لما يفوه به معي لا تفلتنك كلمة من في معي

    ثم يخاطب الشيخ فيقول:

    ولقد بعثت إليكم ريحانة لي في تشممها المناول ولمن معي

    فقد كانوا يحرصون كل الحرص على كل كلمة تصدر من أفواه المعتبرين؛ ولذلك حدثني أحد الشيوخ من أهل منطقة الجبلة أن كثيراً من الناس كان يعتني في تربية أولاده بأن يرسلهم إلى محصر أو مكان الإمارة، وهو مجتمع يجتمع فيه أنواع الناس، فيتعلمون الآداب والقصص والطرائف، ويلتقون بأصناف الناس وأنواعهم، وهذا كله دليل على العناية بالصحبة وما يتعلق بها.

    هذه الآثار كلها التي تترك بصماتها بارزة على الناس تقتضي من الذي يهتم بالدعوة أيضاً أن يترك بصماته في من يجلس إليه.

    1.   

    ترك العلماء والمفتين أثراً فيمن يجالسهم

    وكذلك من يعتني بالإفتاء أو بالعلم لا بد أن يترك بصماته بارزة فيمن يجلس إليه، يقول الإمام مالك رحمه الله: (ينبغي للعالم أن يورث جلساءها قول: لا أدري؛ ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه). وقد قال أبو بكر بن دريد رحمه الله:

    ومن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

    فهذا الأصل إذا تركه العالم في أيدي من يجلسون إليه يكون أصلاً مانعاً لهم من الوقوع في القول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33].

    فهذا الأثر البارز الطيب هو الذي يبقى في أيدي الذين يقومون بالدعوة أو التعليم أو الإرشاد أو نحو ذلك، فلا يتجاسرون على القول على الله بغير علم ويرثون ذلك عمن سبقهم؛ فالعلم هو ميراث الرسل، وكذلك السلوك والهدي هو ميراث المربين.

    يقول ابن رشد رحمه الله: (إن مسائل القضاء لا تؤخذ إلا بالمراس)، أي: الممارسة القضائية، فيقول: (عندما استشرت أول ما استشرت عرضت علي مسألة، فلم أعرف الجواب عنها وأنا يومئذٍ أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المحكم، ولولا مجالستي لـأبي سعيد بن لب ما عرفت كيف أقول)، فكان يجالس أبا سعيد بن لب وكان قاضياً، فتعلم المراس وأدب القضاء وهيئة جلوس القاضي، وغير ذلك من الأمور التي لا يمكن أن تؤخذ بالجانب النظري؛ بل لا يمكن أن تؤخذ إلا بالتطبيق.

    ولهذا يقول الشيخ محمد ولد المامي رحمه الله: إن أهل البادية في زمانه - وهم أهل البلاد السائمة ويقصد بها أهل هذه البلاد - كانوا أبعد شيء عن السنن؛ لأنه لا يصل إليهم منها إلا ما كان في الكتب، فالسنن إنما تصل إليه في الكتب فيبقى الأثر بعيداً عن حيز التطبيق، ولذلك يفوتهم الكثير منها؛ ولهذا يقول أحد النقاد واسمه محمد محمود بن مون اليعقوبي في نقده لعلماء عصره:

    ألا إنما ممحو سيدي بنجة وأن تجثو النوكا لديه على الركب

    وللمال في شأن الزكاة عجائب وللشيخ وسم الوجه ثالثها انتسب

    ولكن حديث النهي أشرق بعده بعامين واشيخاه للعلم والأدب

    ولابن متال بنت عيد تخيرت الطهور المحال والغوافل للقرب

    ولابن محمد سالم جيم ابدلت لديهم بشين إن هذا من العجب

    فهذه كلها أمور تطبيقية أخطأ فيها بعض كبار العلماء في ذلك الزمان، مثل الشيخ سدية ومحمد بن محمد سالم و محمد بن حميد و ابن المتالي والشيخ أحمد المامي ، فكل هؤلاء لاحظ عليهم هذا الناقد خطأً، أصله راجع إلى التطبيق في مجال التطبيق، ولذلك يذكر أن أبا حنيفة رحمه الله لما خرج بحجته دخل المسجد الحرام، فأتاه طفل صغير من أهل الحرم، فقال له: يا عراقي! هل لك فيمن يطوفك؟ يريد أن يريه الطواف، فقال له: لا أحتاج إليك؛ فكان الصبي صاحب قوة وشدة، فلازم أبا حنيفة ، فلما جاء أبو حنيفة إلى البيت أراد أن يفتتح بالصلاة فقال له الصبي: أما علمت أن تحية مسجد مكة الطواف، فذهب أبو حنيفة يطوف، فافتتح الطواف من الركن اليماني؛ فقال له الصبي: أما علمت أن الطواف يفتتح من الركن الحجر، فذهب إليه، فلما أكمل الطواف سبعة أشواط أراد أن يذهب إلى الصفا، فذكره الصبي بركعتي الطواف، وقال: اركع ركعتين خلف المقام ففعل، ثم ذهب إلى الصفا والمروة، فبدأ بالمروة فقال له الصبي: أما تبدأ بما بدأ الله به: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[البقرة:158] فذهب أبو حنيفة إلى الصفا، فلما أكمل سعيه جلس إلى الحلاق فانفتل إليه بيساره ليبدأ الحلاقة من اليسار؛ فقال له الصبي: ألا تبدأ باليمين. فابتدأ باليمين في الحلاقة، ثم دعا الصبي فقال: بكم تطوف الناس؟ فضاعف له ما كان يطوف به الناس، وهو على إمامته وجلالة قدره يخطئ في مثل هذه الأمور التي يعرفها الصبيان لقضية التطبيق.

    ولهذا فإن الحافظ أبا محمد علي بن حزم الظاهري الأندلسي رحمه الله، وهو من كبار العلماء الحفاظ يقع في بعض الأخطاء التطبيقية العجيبة، منها: أنه يرى أن السعي إنما يكون بالسير من الصفا إلى المروة ثم إلى الصفا، فيعتبر ذلك شوطاً واحداً، وبهذا يكون السعي عنده أربعة عشر شوطاً، والسبب في ذلك أنه لم يحج، ولو كان حج لرأى عمل الناس فتراجع عن مثل هذا؛ ولذلك فمن العجائب في زماننا هذا أن صاحب دعوة أمة الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية، كان يرى أن الإسلام مختص بالسود، وأنه إذا دخله أبيض يجب قتله، فخرج إلى الحج فرأى الحجاج وأكثرهم بيض فتراجع عن فكرته، وقال: لا يمكن تحكيم السيف في رقاب كل هؤلاء، فعدل عن رأيه.

    ومثل هذا ما يؤثر عن مالك رحمه الله أنه دخل المسجد قبل صلاة المغرب فوقف فأتاه صبي صغير، فقال له: يا أبا عبد الله ألا تركع؟ فأحرم مالك فركع، فأتاه الناس فقالوا: يا أبا عبد الله ! ما رأيناك تصلي هاتين الركعتين ولا رأينا أحدا ًمن أهل العلم في بلدك يركعهما؟ فقال: خشيت أن أكون من الذين: إِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ[المرسلات:48].

    1.   

    الحكمة في الدعوة وتغيير المنكر

    كذلك فإن من الطرائف في هذا المجال ما حصل لأحد الدعاة في هذا الزمان أنه أخذ مجموعة من الطلاب، وأراد أن يعلمهم الدعوة نظرياً في شهرين وتطبيقياً في أربعة أشهر، فجعل لهم دورة مكثفة في الدعوة لمدة ستة أشهر، وكان أحد الطلاب من النبهاء، فلما انتهى الشهران النظريان قال له: أنا لا أحتاج إلى حضور التطبيق وسأذهب أمارس الدعوة، فقال له: أعانك الله فذهب يوم الجمعة إلى مسجد، فوقف الخطيب على المنبر فافتتح خطبته بالأحاديث الموضوعة ولم يزل يأتي بالأحاديث الموضوعة، المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى طال الانتظار على الشاب فثار فيه الحماس، فوقف يصيح في أثناء الخطبة ويقول: أنت كذاب وضاع تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام لمن في المسجد: أخرجوا هذا المجنون عن المسجد فأخرجوه وأشبعوه ضرباً، فعاد إلى الشيخ وما فيه عضو إلا وهو متورم من الضرب، فأخبره بقصته فقال: يا بني! أنت عرفت الدعوة نظراً ولم تعرفها تطبيقاً، فتعال معي إلى نفس المسجد في الجمعة الموالية، فذهب معه إلى المسجد فجاء الشيخ وطلابه مبكرين فجلسوا تحت المنبر، فلما جاء الخطيب وصعد المنبر افتتح بالأحاديث الموضوعة كذلك، فجعل الشيخ يهتز كأنه يتأثر بتلك الأحاديث حتى سلم الإمام من الجمعة، فاقترب إليه الشيخ وقبل رأسه، وقال: هل لك في أن تعطيني الميكرفون لأكلم الناس؟ فقال: خذه، فتكلم فقال: أيها الناس! خطيبكم هذا مبارك، فمن أراد البركة فلينتف شعرات من لحيته، فاجتمعوا عليه فلم يتركوا فيه شعرة! وتأذى بذلك أذىً شديداً فدنا منه الشيخ، فقال: هل يكفيك هذا تعزيراً على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أزيدك؟ فاستحيا الإمام فلم يعد إلى المسجد بعد ذلك.

    إن حاجتنا إلى صحبة أهل الفضل والخير حاجة بالغة، هي مثل حاجتنا إلى الغذاء بل بتغذية العقل والروح أبلغ وأعظم من تغذية البدن؛ ولهذا على الإنسان أن يختار لنفسه ولأهله صحبة أهل الخير الذين يتركون فيهم الآثار الطيبة الحميدة، ويعينونهم على الالتزام بالخير.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأحسن الأعمال والأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، وأن ييسرنا لليسرى، وأن يجنبنا العسرى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767459758