إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الأنعام [65-66]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد بين الله تعالى في كتابه الكريم عظيم قدرته على هلاك الأمم وعذابها، ولذا أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من ذلك، فدعا الله تعالى ألا يصيب أمته بعذاب استئصال فأجابه، ومنع الله تعالى إجابته في دعوته بألا يصيب الله أمته بعذاب إذاقة بعضهم بأس بعض، فوقع في الأمة أحداث قتل عظيمة ولا زالت تقع إلى يومنا هذا. كما بين تعالى في كتابه الكريم موقف كفار قريش مما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التكذيب، آمراً نبيه بأن يعلن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم...)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا هو الدرس الثاني عشر في تأملات في سورة الأنعام؛ إلا أن الأحد عشر درساً التي مضت كنا نتوخى فيها ترتيب الآيات في السورة، أي: أننا نعرج على جميع الآيات دون استثناء.

    أما في هذه المرحلة من التأملات فإنه قد تبين لنا مما سلف أن السورة تعنى بالجانب العقدي، وأن التوحيد أصل عظيم فيها كما هو أصل الدين، وعلى هذا فإننا سنختار بعض الآيات التي سنتأمل فيها ولا نلتزم الترتيب في عرضها، والآيات التي سيكون فيها درسنا -بإذن الله تعالى- هي قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:65-66].

    وينبغي أن تعلم أن لله جل وعلا قضاء كونياً قدرياً، وقضاء شرعياً، وقد يجتمعان في آن واحد، ولكن لا يلزم اجتماعهما.

    ذكر مناسبة الآية لما قبلها

    ومناسبة الآية لما قبلها أن الله جل وعلا ذكر في الآيتين السابقتين لطفه وكشفه لكربات من يسأله فقال: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:64]، فلما ذكر الله لطفه ذكر الله هنا عظيم قدرته.

    ذكر صنيع النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة جبريل الآية عليه

    وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه جبريل هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال: (أعوذ بوجهه) أي: استعاذ بوجه الله جل وعلا من هذا، ثم تلا جبريل: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ثم تلا جبريل يكمل الآية: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، فلم يجر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ كما استعاذ في الأوليين، وإنما قال: (هاتان أهون وأيسر)، وذلك لأن الأولى كانت تتكلم عن عذاب استئصال بالكلية، أي: لا يبقي على الأمة، وأما الثالثة فليست من عذاب الاستئصال، ثم إن الله جل وعلا كتبها في الأزل، فستجري لأن الله كتبها، فما كان الله ليمنعها لدعوة أحد كائناً من كان، ولو كان الداعي نبينا صلى الله عليه وسلم.

    ذكر ما منع النبي صلى الله عليه وسلم إجابته من دعوته لأمته

    وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح وغيره- أنه قدم من عالية المدينة حتى أتى مسجد بني معاوية، ومسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة في جهة شمال غرب الحرم تقريباً، وهو إلى الشمال أقرب منه إلى الغرب، بجوار مستشفى يسمى مستشفى الأنصار، وهو مبني على طراز حديث، ويعرف عند الناس بمسجد الإجابة.

    وبنو معاوية بطن من الأوس، وكان أكثر البطون من الأوس والخزرج لهم مساجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل هذا المسجد ودخل معه أصحابه، فصلى صلاة طويلة، ثم دعا دعاء طويلاً ثم انصرف إلى الناس بوجهه وقال: (إني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألت الله ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألت الله ألا يذيق بعضها بأس بعض فمنعنيها)، فانظر كيف أن الله جل وعلا منع نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة ليجري قدره، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد الحدب والشفقة على الأمة، والله جل وعلا أجرى هذا الأمر لحكمة، فالله جل وعلا حكيم عليم، وهو أرحم بنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا رحمته من رحمة الله بنا، ولكن علم الله أعظم وأجل من علم نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا علم له صلى الله عليه وسلم إلا ما علمه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام في تربيته لأمته يتوخى أسلوب الوضوح، ولهذا قال: (فمنعنيها)، ولم يدر بخلده عليه الصلاة والسلام أن الناس سيتكلمون في منع الله جل وعلا نبيه دعوةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لربه جل وعلا، فهو عبد الله ورسوله، يبلغ دعوة ربه كما أتته، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى قول الله جل وعلا: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، وهذا عتاب من الله لنبيه لاتباعه خلاف الأولى، ومع ذلك تلاه صلى الله عليه وسلم على الناس، ومكث شهراً لا ينزل عليه الوحي في أمر عائشة ، فلم يستطع أن يدلي بدلوه في إثبات براءتها أو تهمتها حتى نزل الوحي من السماء: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأتم والنحو الأكمل.

    بيان عظيم قدرة الله تعالى

    فالله جل وعلا كما بين لطفه في الآية التي سلفت بين هنا عظيم قدرته فقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] كالرجم، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، كالخسف والزلازل، ونحن لا نتكلم عن الخسف والزلازل المحدودة بمكان ما، وإنما نتكلم عن عذاب الاستئصال، كما أن الله تبارك وتعالى أهلك قوم نوح بالطوفان فكان استئصالاً، وأهلك قوم لوط بأن جعل قريتهم عاليها سافلها، فكان استئصالاً لهم.

    وهذه الأمة هي آخر الأمم، فكان بدهياً أن الله جل وعلا يبقيها.

    بيان صور من إذاقة الله تعالى بعض الأمة بأس بعضها

    والمهم من ذلك أنه بقيت الثالثة، وهي قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] أي: يقع القتل في الأمة، وهذه مسألة منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتاها رغم حرصه صلى الله عليه وسلم.

    وعلى هذا جرى ما جرى في التاريخ الإسلامي منذ أن قتل عمر رضي الله تعالى عنه، فبدأت الأمة يذيق بعضها بأس بعضاً بدءاً من يوم الدار، فالذين تسوروا الدار مسلمون يدعون الإسلام، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنهم كفار، رغم أنهم قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأصوب القول أن يقال: إن عثمان مات وهو أمير البررة، أي: المؤمنين، والذين قتلوه يصعب أن نقول: إنهم كفار، ولكن نقول: إنهم قتلة فجرة، فالذين قتلوه قتلة فجرة، فمن الصعب أن يقال: إنهم كفار، بل قيل: إن بعضهم كانت له صحبة، كـعمرو بن الحمق .

    ثم كان بعد قتل عثمان موقعة الجمل، لما اجتهدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وخرجت من المدينة ومعها ركب من مكة حتى أتت العراق، فكانت المقتلة بين فريقين كلاهما مسلم.

    ثم كانت موقعة صفين بين علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام، وقتل فيها خلق كثير على رأسهم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهتدوا بهدي عمار)، ومع ذلك قتل رضي الله عنه وأرضاه، فليس قتله على يد فارس ولا الروم، ولا على يد اليهود والنصارى، وإنما على يد مسلمين؛ لأن الله قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

    ثم جرت أحداث وأحداث، منها موقعة الحرة، سلط فيها يزيد بن معاوية على المدينة رجلاً يقال له: مسلم المري ، وأهل المدينة آنذاك كان يسمونه مسرفاً، فتسور مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودخلها من ناحية الشرق، وفعل الأفاعيل في أهلها، وقتل خلقاً كثيراً، ومنهم كثير من الصحابة، حتى إنهم دخلوا على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأبو سعيد صحابي جليل معروف القدر، ومع ذلك أمسك ذلك الرجل بلحيته حتى كاد أن ينزعها كلها لا يعرف لـأبي سعيد قدراً للجهل الذي فيه.

    واستطراد تاريخ أهل الشام خارج عن الشأن، ويقال: إن فيهم ثلاثة أمور: شدة الطعن، وشدة الطاعة لمن يتولاهم، وفي بلدهم أمراض الطاعون، فأهل الشام في الغالب أكثر الناس طاعة للأمراء، ويقال: إنهم أشد الناس معصية للخالق، وهذه لا أتحملها، وإنما يقولها المؤرخون، ولكن فيهم سمع وطاعة عجيبة لمن يتولى أمرهم، ولذلك رضخوا لـمعاوية عشرين عاماً، في حين كان العراقيون يخالفون علياً بين الحين والآخر، رغم أن علياً أفضل من معاوية ، وفي كل خير رضي الله عنهم أجمعين.

    كما أن فيهم شدة الطعن، أي: في الحرب والقتال، وفي بلادهم تكثر الطواعين، كطاعون عمواس الذي مات فيه كثير من الصحابة، ومنهم أبو عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما.

    والذي يعنينا هنا أن أهل الشام لما دخلوا المدينة كانوا أشد الناس سمعاً لأمرائهم، فكانوا يفعلون ما يقول لهم الأمراء، ولم يرفع الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فهذا كله لقول الله جل وعلا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ .

    ثم كانت دولة بني العباس، وفي أولها دخل عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور على دمشق حاضرة بني أمية، فقتل في ضحى ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفاً كلهم مسلمون، والقاتل مسلم، وأسس دولة للإسلام، وهذا كله تحقيق للأمر القدري الذي منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه إياه.

    وعلى هذا لو قرأت تاريخنا المعاصر ستجد في آخره ما وقع بين فتح وحماس، وكلهم مسلمون، وقبل ذلك ما سمي بأحداث أيلول الأسود التي وقعت في الأردن بين الفلسطينيين والأردنيين، وقبله ما حصل بين العراق والكويت، وهم في الجملة مسلمون، فهذه كلها أحداث تبين لك أن الله جل وعلا قضى قضاء، وقد قال لنبيه: (إنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عاقبة هذا، فسأل ربه، ولكن الله جل وعلا منعه لحكمة أرادها جل وعلا، وهو العليم الخبير والعزيز الحكيم جل جلاله.

    والمقصود: أن هذه الإطلالة التاريخية تعين طالب العلم على فهم هذه الآيات، وعلى فهم أن لله جل وعلا سنناً لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، والناظر في التاريخ والمتأمل فيه يكون أقدر من غيره على نفع الناس وعلى قيادتهم وعلى توجيههم؛ لأنه من تلك الأحداث والأيام والليالي والصروف يستلهم الإنسان العظات والعبر، فيكون ما يوجه به أو يقرره أو يرشد به أو ينصح به متوافقاً في الغالب مع الوجهة الحقيقة؛ لأن هذه ثروات يجب اكتنازها، وموروثات يجب الاطلاع عليها، وهذا أمر مستفيض يطول ذكله، ولكنني اقتبست منه بعضاً، وأنا أتكلم عن قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65].

    بيان معنى قوله تعالى (أو يلبسكم شيعاً)

    وقوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65] الشيعة في الأصل: كل قوم اجتمعوا على أمر، ولكنها في المصطلح العام أصبحت تطلق على كل من يوالي علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه وآل بيته موالاة غير شرعية، فالذين والوا علياً وآل بيته موالاة غير شرعية يطلق عليهم الشيعة من باب الاصطلاح.

    ولكن الشيعة في اللغة: كل قوم اجتمعوا على أمر ما، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] في آخر سورة الأنعام كما سيأتي.

    والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا أي: يخلط بعضكم ببعض خلط اختلاف وافتراق واضطراب لا خلط اتفاق، فينجم عن ذلك أن تكونوا شيعاً، كما قال الله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].

    موقف العاقل من سفك الدماء

    فالعاقل هنا إذا استذكر هذا كله يعرف أن رفع السيف على أهل الإسلام من أعظم كبائر الذنوب، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، ومن كمال نصح المسلم لدين الله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم ألا يرفع سيفاً على الأمة، ولا يتجرأ على أن يتسبب في سفك دمائها، ولهذا كان عثمان رضي الله تعالى عنه مظلوماً، واجتمع الخوارج على داره، وهب كثير من الصحابة وأبناء الصحابة للدفاع عنه، ومع ذلك أمرهم بأن يتركوا الدار ويخلوا بينه وبين أعدائه خوفاً من أن يسفك دم بسببه رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ لعلمه أن سفك الدماء شيء شديد غلَّط الشرع فيه، فالعاقل يسمع ويطيع ولا يرغب عن جماعة المسلمين، ويكون فرداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم.

    بيان معنى قوله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات)

    قال الله جل وعلا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].

    قوله تعالى: نُصَرِّفُ الآيَاتِ أي: في القرآن، فيكون هناك تنويع في ذكرها بالانتقال بين الوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والترهيب، كل ذلك لعله يكون سبباً في أن يفقهوا عن الله كلامه جل وعلا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق...)

    ثم قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:66].

    قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: لا أملك جبركم على اعتقاد أن القرآن حق، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البلاغ، قال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، وقال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ [النحل:35].

    وأما قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ فالأصل أنه ينصرف إلى القرشيين؛ لأن الآية المخاطب بها في المقام الأول كفار مكة، وإن كان كل من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد على الله قوله يدخل في قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ .

    ذكر بعض ما ترشد إليه الآية الكريمة

    فالآية ترشدنا من حيث الإجمال إلى أن الإنسان عليه أن يعلم أن هذا الكتاب المبين نور جعله الله جل وعلا في الأرض، وأن الإنسان حظه من العلم والفهم والإدراك والفوز بقدر حظه من القرآن، وينبغي أن يعلم أن إجلال القرآن ليس وقفاً على أهل القرآن وليس وقفاً على العلماء، بل على كل مسلم أن يجله.

    فقد ذكروا أن أبا عثمان المازني كان نحوياً شهيراً في البصرة، فجاءه رجل عربي من أهل الذمة، أي: ليس بمسلم، بل نصراني، فأراد أن يتعلم كتاب سيبويه ، وكان أبو عثمان ممن يحسن شرح كتاب سيبويه ، وكان ذا فاقة وضيق وقلة ذات يد، فجاءه الذمي وكان موسراً، فقال: اشرح لي كتاب سيبويه ، فرفض، فقال: أعطيك مائة دينار، وهو مبلغ عظيم آنذاك مع حاجة الرجل، فسأله أبو العباس المبرد أديب زمانه عن عدم قبوله ذلك، فقال: إن في كتاب سيبويه أكثر من ثلاثمائة آية، وإنني -والله- لم أُرِد أن أمكن ذمياً منها غيرة على كتاب الله وحمية له.

    ثم إنه قدر أن الواثق الخليفة العباسي كان في مجلسه، فأنشدته إحدى جواريه بيتاً للعرجي وأوله:

    يا ظلوم إن مصابكم رجلاً

    فاختلف النحاة الموجودون عند الواثق في نصب كلمة رجل، وأصرت الجارية على إنشادها بالنصب، فلما سئلت قالت: إن أبا عثمان المازني أنشدني إياها هكذا.

    فأمر الواثق بإشخاصه إليه، فأتي به من البصرة إلى بغداد، فلما وقف بين يدي الواثق أخذ الواثق يسأله، والقصة طويلة، وفيها عرف الواثق حذاقته، وأنه متمكن في اللغة فأعجب به، فقال له: عندما خرجت من البصرة هل تركت أولاداً؟ قال: نعم، بنية، فقال: ماذا قالت عندما خرجت، فأخبره بأنها تمثلت ببيت للأعشى يذكر فيه الوداع، فقال له الواثق : بماذا أجبتها؟ فقال: أجبتها ببيت جرير :

    ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح

    فقال له الواثق : لقد وفقت، وأعطاه ألف دينار، فلما عاد إلى البصرة نادى أبا العباس المبرد الذي نصحه بأن يقبل المائة، فقال: انظر يا أبا العباس : رددنا لله مائة -أي: من أجل الله- فعوضنا الله ألف دينار. أي: عوضه الله عشرة أضعافها.

    ومن هذا تفقه أن المؤمن ينبغي عليه أن يعظم كلام ربه جل وعلا ويجله، ولا ينتظر شيئاً من الناس، فإنك إن أخلصت النية وأحسنت السريرة فإن الله جل وعلا أعلم بك، وربك يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة الأنعام.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756468918