إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [40]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الفخر الرازي هو المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقاربه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله التي قررها، هذا الرجل انتهى به الأمر إلى ترك علم الكلام، والنصح لغيره بعدم الانشغال والخوض فيه، وقال في آخر أمره: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

    1.   

    الفخر الرازي وتعبيره البليغ عما ابتلي به من علم الكلام

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

    وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال، فزالوا والجبال جبال

    لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ].

    هذا الكلام للرازي يعد من أعظم الكلام في الرد على المتكلمين من لسان واحد من أكابرهم، ولا أظن أحداً ممن لم يجرب علم الكلام ويبتلى به يستطيع أن يعبر هذا التعبير المؤثر البليغ في رد الكلام وفي وصف أهله وحالهم.

    فالذي عانى ويعاني غير من لم يعان ولم يجرب، ولو تأملنا معاني هذه القصيدة لوجدنا فعلاً معاني صادقة في الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهي الحيرة والاضطراب والندم الشديد، ولقد -والله- نصح المتكلمين بنصيحة عظيمة من مجرب.

    ويعد الرازي -بدون منازع- المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقرب منه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله وعلى مبادئه التي قررها.

    وكتبه شاهدة لذلك ومن أبينها (تأسيس التقديس)، فإنه أسس فيه مناهج أهل الكلام التي اعتمدوا عليها بعده، ومع ذلك وبعد عمر طويل أفناه في خدمة الكلام وأهله وفي الكتب المطولة في الفلسفة وعلم الكلام؛ ينتهي إلى هذه النهاية، ثم ينصح قومه، فيقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

    وقفات مع تصوير النهاية المؤلمة للمتكلمين في كلام الرازي في قصيدته

    نرجع إلى القصيدة، فالقصيدة -في الحقيقية كما قلت- فيها أبلغ تعبير يصور النهاية المؤلمة للمتكلمين والإفلاس الذي يصلون إليه بعد عناء طويل، حينما تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي سائر أمور الغيب والسمعيات بمجرد الفلسفة والعقليات والظنيات، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى الحق بأدلة وبراهين قاطعة، وأخيراً يتبين لهم أنهم لم يصلوا إلى الحق، وأن أدلتهم وبراهينهم ليست قاطعة، بل وهمية، ويتبين لهم أن طريقة القرآن في الإثبات والنفي -وهي طريقة السلف- هي الطريقة السليمة التي تستقيم معها العقول وترتاح لها الفطرة، ويسلم فيها الدين والذمة والضمير.

    يقول: (نهاية أقدام العقول عقال):

    وقصده بذلك أن إقدام العقول وجرأتها على الغيبيات تنتهي في الأخير إلى العقال، وهو الحبل الذي يقيد به الجمل لئلا يتحرك، فكأنه يقول: إن العقول إذا اقتحمت أمور الغيب؛ فإنها تقيد وتصل إلى نهاية تأسرها عن أن تنطلق إلى الحق وصفاء الفطرة.

    فنهاية إقدام العقول على ما لا تدركه عقال، يعني: أنها تقف حائرة لا تستطيع أن تمشي خطوة إلى الحق ولا إلى المنهج السليم.

    يقول: (وغاية سعي العالمين ضلال):

    وهذا تعبير عن واقع المتكلمين، يظنون أن الناس كلهم تبع لهم، وأن العالمين ينتظرون من هؤلاء العباقرة المفكرين النتيجة التي يرتاحون إليها في عقيدتهم.

    فيقول: وغاية سعي العالمين في هذا المجال من فلاسفة ومتكلمين وغيرهم ضلال، أي: آخر ما ينتهون إليه الضلالة، وهذا فعلاً واقع المتكلمين.

    ثم قال بتعبير نفسي لا أظن أحداً ممن لم يجرب يستطيع أن يعبره:

    (وأرواحنا في وحشة من جسومنا)؛ لأنه جعل روحه تسيح فيما لا طاقة لها به فتقلق وتعيش عيشة النكد؛ لأنه يبحث عن الحق فلا يجده، وأي إنسان ينشد الحق ثم لا يجده لابد من أن يعيش في قلق، إلا إذا اعتصم بالله عز وجل، وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لابد حينئذٍ من أن يسلم تسليم الموقن المرتاح الضمير، أما من لم يفعل ذلك فإنه لا يهدى ولا يستطيع أن يسلم تسليم الموقن؛ لأنه ترك طريق اليقين.

    يقول: (وحاصل دنيانا أذىً ووبال).

    هذا حاصل ما سعوا إليه في دنياهم، غاصوا في علم الكلام، ثم أخيراً ما وجدوا إلا الأذى والوبال، أذى الضمير وأذى النفس وأذى الروح، ووبال الشكوك ووبال الترهات والظنون والأوهام التي تجعل الإنسان يعيش في حيرة، فربما توصله حيرته إما إلى الكفر وإما إلى الإفلاس، وإما إلى التسليم بالفطرة التي يسلم بها أجهل الناس وعامتهم من العجائز ونحوهم.

    يقول: (ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا):

    يقصد نفسه وأمثاله، وإلا فالذين يطلبون العلم على نور مستفيدون، لكنّه يعبر عن نفسه وعن أمثاله، فيقول:

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    وهذا والله صحيح، فكتبهم مليئة بهذا، وكان هو من أكثر الناس افتراضاً للقول، إذا ما وجد عند الفلاسفة وعند المتكلمين الذين سبقوه قولاً افترض هو افتراض الظن من عند نفسه، فيقول: فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا.. إلى آخره، كما تجده في تفسيره.

    وكثيراً ما يعتز بهذا، يثير الشبهة ولا يعالجها، بل أحياناً يثير الشبهة ويرد عليها، ثم إذا رد وانتهى من الرد وكاد يقنع القارئ قناعة وهمية، قال: ويرد على هذا إشكال، ثم يورد على القناعة إشكاله.

    وهذا معنى قوله: (قيل وقالوا)، فما عند المتكلمين إلا قيل وقالوا، أما (قال الله وقال رسوله) فهذا مما جفوه وابتعدوا عنه.

    يقول:

    فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

    هذا شعور كل إنسان، فكل إنسان حينما يستعرض ماضيه يجد أن الدنيا تطوى من ورائه، لكن فرق بين شعور وشعور، فالسليم العقيدة المرتاح الضمير لا ينزعج من انطواء الدنيا خلفه، بل يزداد حباً للخير وإقبالاً على الله عز وجل، ويعرف أن هذا مصير الإنسان، فالدقيقة -بل الثانية- والستون سنة سواء بالنسبة لما مضى، كلها مضت لا تستطيع أن تفرق بينها، فمساحتها واحدة في الذهن، لكن المؤمن الذي ينشد ما عند الله عز وجل، وعمل خيراً واستقام على عقيدة سليمة، ويرجو أن يبلغه الله عز وجل ليزداد خيراً في عمره؛ فإنه يأسف على ما فات، فإن كان ما فاته تفريط، فإنه يحاول أن يستدرك، وإن عمل خيراً فإنه يأمل من الله عز وجل أن يجزيه عليه خيراً.

    يقول:

    وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال

    هذا تصوير بديع يدل على قوة المعاناة عند هذا الرجل، ويدل أيضاً على صدق الرجعة عنده؛ لأنه رجع عن مواقفه السابقة.

    فهو يصور الحق الذي يتمثل في الكتاب والسنة وما جاء الله به وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم بالجبال، فهذه الجبال حاول رجال من الناس أن يقهروها، فارتقوها إما ليهدموها وإما ليزعزعوها وإما ليقهروها بأي نوع من أنواع القهر، وأخيراً زال الإنسان ومات وبقيت الجبال، فإما أن يكون قد عجز عن مصادمة الحقائق وبقي الحق حقاً، وإما أن يكون حاول أن يصل إلى نهاية الحقيقة ولم يصل.

    فالجبال بمعنى الحق الذي لا يتزعزع ولا ينقلب، وهناك من حاول أن يشكك فيه، وهناك من حاول أن يقهر الحق، وهناك من حاول أن يعمل أشياء تساوي هذه الجبال فلم يفلح، وكان عمله وهماً، وبقي الحق الذي جاء به الوحي كالجبال الراسيات التي لا يضرها من عاندها.

    كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

    وهذا تصوير أظن أنه من الصعب أن يصل إليه إلا من عانى وكابد كـالرازي .

    كلام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية .. ودليله على إفلاس أهل الكلام

    ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً):

    والطرق الكلامية هي المسالك التي حاول بها أن يثبت أن طريقة المتكلمين هي الحق، والمناهج الفلسفية: مناهج الفلاسفة، وقد عانى فعلاً، وعايش مناهج الفلاسفة؛ فوافقهم في أشياء وخالفهم في أشياء، لكنه في النهاية ما رآها تشفي العليل، أي: مرض القلب الذي في كثير من الشاكين من المتكلمين، وكذلك لا تروي الراغب والنهم في حب الكلام وأهله.

    ذلك أن علم الكلام علم يستهوي صاحبه، فإذا قرأ المبتدئ الذي عنده شيء من الذكاء كتب المتكلمين فإنه في الغالب يعجب وينبهر، ويجد أنه بحاجة إلى أن يصل إلى حقائق ما قالوه، فيشعر بشيء من الاندفاع والتمادي مع الكلام ومع الفلسفات، وتستمر هذه الأمور حتى يظن أنه على الحق أو أنه يكاد يصل إلى الحق، وفي النهاية يجد الطريق مسدوداً.

    يقول: (ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، وكأنه اكتشفها! وما عرف أن هذا ما عليه أئمة السلف وأئمة الأمة كلها وأهل السنة الذين لم يعانوا من هذه المشكلات ولم يدرسوا علم الكلام ولا وقعوا فيه.

    فكأنه ظن أنه بعد معاناته الطويلة اكتشف أن طريقة القرآن هي الطريقة السلمية، فلذلك لم يوفق إلى معرفة تفاصيل الحق مثل السلف، إنما وفق لأن يعرف أن أسلوب القرآن هو الأسلوب السليم فقط، وهو عدم الخوض، والإيمان بالأمور الغيبية بإجمال.

    يقول: (أقرأ في الإثبات)، أي إثبات الصفات وإثبات الغيبيات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، فقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فيه إثبات الاستواء لله عز وجل، وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] فيه إثبات العلو لله عز وجل.

    يقول: (وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]).

    وهذه بدهيات عند عامة أهل السنة، لكنه ما أدركها إلا بعد مرحلة طويلة من عمره وهو في سن الشيخوخة، وإلا فمن البدهي أن الحق إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.

    ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، هذا إن وفق، وإلا فنسأل الله العافية، وألا نجرب مثل هذه التجربة.

    لكنَّه يقصد من ابتلي، فإنه إذا سلك هذا المسلك، فبحث عن الحق، ولم يصل إليه، ثم وفق وهدي؛ فسيعرف هذه المعرفة، لكن ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة.

    ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة، بل الغالبية من الهالكين، نسأل الله السلامة، ودليل ذلك أن أكثر المتكلمين لم يستفيدوا من قول رائدهم وقائدهم وأولهم وعمدتهم وهو الرازي ، ما استفادوا أبداً، مع أنه قال لهم: الطريق مسدود، وأمامكم مهلكة، وأنا قد رأيت ورأيت، إلا أن بعضهم أبى إلا أن يسقط في الهاوية، بل أكثرهم إلى اليوم لم يستفيدوا من هذا الكلام مع إجلالهم للرازي وتقديرهم له، فهم لا يزالون يقررون كتبه التي ندم عليها وتراجع عنها وحذر منها، لا يزالون يعتمدنها في مذهبهم وفي طريقتهم، نسأل الله العافية، ونسأل الله السلامة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757188897