وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها -إن شاء- الله ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، ذات الأحكام الشرعية العديدة، بالأمس عرفنا ما حرم الله تعالى علينا من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وأمرنا بالانتهاء فقلنا: انتهينا يا ربنا، فمن كان منا يتعاطى شيئاً من هذه أعلن عن توبته؛ لأن عمر كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
وعرفنا أن الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل تحريمهما لا إثم عليهما بشرط أنهم مؤمنون متقون، والذين شربوها وتعاطوها بعدما نزل تحريمها هؤلاء إن تابوا تاب الله عليهم، وإن أصروا على هذا فهم فساق فجرة أمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم.
وفي هذه الليلة مع هذه الآيات، فهيا نسمع تلاوتها متدبرين متفكرين قبل أن نتناول شرحها وتفسيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:94-96]، تحشرنا الملائكة وتجمعنا لساحة القضاء وفصله.
والصيد: هنا مصدر صاد يصيد صيداً، وأطلق المصدر على الاسم، الصيد بمعنى: المصيد الذي صيد، تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]، هنا الابتلاء على حقيقته، بحيث تتناول هذه الصيد بيديك، كالبيض وكالفراخ الصغيرة التي ما تحتاج إلى أن ترميها، تنالها بيدك، وأما الغزال والظباء وحمار الوحش فهذه كلها ما نتناولها بأيدنا، لكن الذين نتناوله بأيدينا: البيض، وصغار الغزلان، تلك الحيوانات التي بإمكانك أن تتناولها بيدك، وأخرى ما نقدر على تناولها إلا بضربها بالنبال والرماح.
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]، والعلة: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، لم شرع الله هذا وألزم المؤمنين به؟ شرعه ابتلاءً لهم ليظهر المؤمن الصادق الذي يؤمن بالله غيباً، ويظهر من لا يخاف الله بالغيب، هذه هي العلة، فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]، الذي يصيد بعدما حرم الله الصيد ابتلاءً لنا وامتحاناً فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]، والله إذا قال: العذاب الأليم فهو عذاب ما يطاق، الذي يستبيح ما حرم الله كبراً وعناداً هذا انسلخ من إيمانه وإسلامه، ولهذا يذوق العذاب الأليم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]، بعضه تناله الأيدي وبعضه تناله الرماح، ما كان من صغار الطير وفراخه وبيضه فباليد، وما كان من كبار الغزلان والظباء فلا بد من الرمح، لِيَعْلَمَ اللَّهُ [المائدة:94]، هذه لام التعليل، لماذا ابتلانا بهذا الابتلاء؟ من أجل أن يعلم منا علم ظهور من يخافه بالغيب ومن لا يخافه، فمن خاف الله ولم يصد فله جزاء عمله، ومن اعتدى بعد ذلك وصاد فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94].
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، الهدي ما يهدى إلى الحرم كما قدمنا، قد يكون بقرة، قد يكون بعيراً، قد يكون شاة، هذه الأبقار أو الأغنام أو الأبعرة تبعث إلى مكة وإن كنا سقناها في طريقنا قبل مكة بكذا ميلاً، لا بد أن تساق إلى الحرم ولا يصح أن تذبح أو بغير الحرم؛ لأن رب البيت هو الذي أراد أن يكرم أهله.
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95]، إذا ما حصل على البعير أو البقرة أو الشاة فإنه يقدر هذا البعير بكم؟ ثم يشترى بقيمته طعاماً، والأفضل في الطعام أيضاً أن يساق إلى مكة، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، فإن عجز قدر الطعام كم صاعاً ويصوم عن كل صاع يومين، بهذا التخيير.
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، ما يعد ذلك صياماً، كل نصف صاع يصوم عنه يوماً، وإذا تجاوز الستين يوماً فأكثر أهل العلم أنه يعفى عنه؛ لأن الكفارات ستون يوماً، في الظهار وفي غيره.
وقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95]، أي: كلفه الله عز وجل بما يكفر ذنبه من أجل أن يذوق وبال أمره، أي: ثقل أمره؛ لأنه محرم، والمحرم مشغول بذكر الله وبعبادة الله، فيشتغل بالصيد ويطارده ويأخذه فهذا أمر لا يطاق، فلهذا شرع الله لهم هذا الحكم الثقيل، ليذوقوا وبال أمرهم، فالمحرم في الحقيقة كالذي دخل في صلاة وإن كان يأكل أو يشرب للضرورة، لكن كونه يضحك ويلهو ويعلب ويصيد فهذا يتنافى مع الإحرام أبداً.
وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]، هنا اختلف أهل العلم، فالجمهور على أنه كلما عاد فعليه الكفارة، ولو عشرين مرة، ومنهم من يقول: الآية تقول: من عاد فركب رأسه وتعمد لا تؤخذ منه كفارة، هذا يترك لله ينكل به ويعذبه؛ لقوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95]، يتركونه لانتقام لله. ومنهم من يقول: يؤدي الواجب في هذه الكفارة وأمره إلى الله، وهذا أقرب إلى توبته، وإلا فقد شجعناه فيصبح يصيد الليل والنهار.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]، لا يمانع فيما يريد، لا يغلب فيما يريد أن يفعل، حكيم في انتقامه وفي نفعه وضره.
يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ]، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:94]، ناداهم أم لا؟ [ ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم؛ ليظهر المطيع من العاصي ]، فلولا هذه التكاليف فكيف سنعرف البار من الفاجر أو الصالح من الفاسد أو المؤمن من غيره؟ كل التكاليف ابتلاء وإن كانت نتائجها معروفة، العمل بها يزكي النفس ويؤهل لدار السلام، وهجرها وتركها والكفر بها يخبث النفس ويؤدي بصاحبها إلى دار البوار والهلاك.
[ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94] ] ومن لا يخافه، فينكشف الأمر، ما إن نزلت هذه الآية حتى تجلى المؤمن من الكافر والمؤمن من المنافق، [ فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم، ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت ]، بنو إسرائيل حرم عليهم صيد السمك يوم السبت تحريماً كاملاً، ولما لم يستطيعوا أن يثبتوا على ما حرم الله وتجاوزوا حد الله وصادوا بالحيل مسخهم قردة وخنازير.
قال: [ على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت، فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم، كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون ]، فلهذا لما حرم الله على المؤمنين المحرمين أصبحت الغزلان والظباء والحيوانات تدخل بين أرجلهم، كانت لا تظهر إلا في الغيران وفي الكهوف، لما حرم الله هذا أصبحت تجري أمامهم ابتلاء، أما قال: ليبلونكم؟ فبنو إسرائيل امتحنهم بترك الصيد يوم السبت، فلما حرم عليهم الصيد يوم السبت أصبح السمك يعلو ويقف ويهبط في الماء؛ حتى كانت نفوسهم تهيج، تغريهم الأسماك بنفسها، فما صبروا، واحتالوا ووضعوا الشباك ليلة السبت وأخذوها صباح الأحد، احتالوا على شرع الله عز وجل، فمسخ الله منهم قردة وخنازير. والحمد لله، فنحن ابتلانا بشيء بسيط، أولاً: في حال الإحرام فقط، والآن إحرامنا كله ساعات، أما هم فحياتهم متوقفة على السمك وأكثر معاشهم، فلما أراد أن يبتليهم ويختبرهم ومنعهم من الصيد يوم السبت أصبح يوم السبت يظهر السمك فيه بصورة عجب على سطح الماء؛ إغراءً لهم.
قال: [ بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]، أي: فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم ] موجع، وهو عذاب يوم القيامة، [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء، فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، فالحكم الواجب على من قتله جزاءً مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، وهى: الإبل والبقر والغنم، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم، فالنعامة تشبه الجمل، وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا، فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة لفقراء الحرم فليفعل، وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً، لقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95]، أي: ثقل جزاء مخالفته ] وهو العذاب الأليم، [ وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95]، أي: ترك مؤاخذتكم على ما مضى ] قبل تحريم الصيد على المحرم، [وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95] ] أمر عظيم هذا، وَمَنْ عَادَ [المائدة:95] بعد ما عرف فالله ينتقم منه، وقد يصيبه البلاء في الدنيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]، [ ومعناه: أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل، ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الثالثة: فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم، وأوجب الجزاء على من صاد، أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر، أي: ما يصيدونه من البحر وهم حرم، كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله ]، والرسول يقول في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
وقوله: [ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم، ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه، أي: بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:96] ].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم ]، سنة ست عام الحديبية كانوا في حاجة إلى الصيد، خرجوا معتمرين فانقلب خروجهم إلى حرب، وابتلاهم فحرم عليهم الصيد، فكانت الظباء وكانت الأرانب والحيوانات تدور بين أيديهم وأرجلهم وصبروا وثبتوا.
قال: [ وحرم عليهم صيده، فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم ]، إي والله.
وهنا مسألة أخرى: لو أن رجلاً أو امرأة صاد لنفسه وهو حلال وقدم لك فهل تأكل أو لا تأكل؟ الجواب: يحل لك أن تأكل، أما إذا صاده من أجلك فلا يحل لك أن تأكل، وكذلك أذا قلت: أنا لا أصيد، لكن تشير إليه تقول: اضرب الغزال عندك، فهذا لا يحل أكله؛ لأنك ساعدت على صيده، فقط إذا صاد الصائد ولا يريدك ولا يريد أن يعطيك، لكن لما حصل عليه طلبت منه طعاماً فيحل لك أن تأكل؛ لأنه ما صاد وهو محرم ولا صاده من أجلك.
[ ثانياً: تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر، فإنه مباح له ]، يصيد كما شاء فإنه مباح.
[ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم، وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم ]، لا بد من عدلين في القضية، حتى ولو عرفنا أن أصحاب الرسول حكموا بكذا وكذا، لابد من عدلين في قضيتك، غفلت أو استهواك الشيطان فصدت حيواناً فلا بد أن تقدم قضيتك لاثنين من عدول المؤمنين وهما يحكمان بما يعلمان، وقد عرفنا أن بقر الوحش ببقر الإنس، النعام بالإبل، الغزال والظباء بالتيس من الماعز، إلا حمام الحرام فالحمامة بشاة، العقبان والطيور الأخرى تقدر بقيمتها، إلا الحمام فالحمامة بشاة، وإذا قتل طفل حماماً الطفل غير مكلف، كيف يؤاخذ أبوه بعمل ابنه؟
نقول: إذا صاد حمامة ففيها شاة، حكم بهذا رسول الله وأصحابه، ما عدا هذه يقدره العدلان، وقد عرفنا أننا مخيرون بين أن نشتري الشاة أو البعير أو البقرة ونسوقها إلى مكة؛ ليطعمها أهل الحرم، وإن شئنا اشترينا بقيمتها طعاماً، أرزاً أو دقيقاً أو تمراً، ووزعناه على الفقراء والمساكين وفي الحرم أولى من غير الحرم، وإن شئنا صمنا بقدر كل صاع يومين، بقدر نصف الصاع يوماً، إلا إذا كانت الكمية كبيرة وتجاوزت ستين يوماً فتكتفي بالستين يوماً ويعفى عن الباقي.
وهنا حكم: وهو أن من صاد وكفر ثم عاد من جديد فهذا قد يترك لله، ولكن أكثر أهل العلم على أنه يخرج الفدية؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95]، معناه: اتركوه لله، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95].
عرفنا أيضاً مسألة أنه: إذا أهدي إليك طعام وأنتم محرم أو في الحرم وكان فيه لحم وأنت ما أمرته به، ولا صاده من أجلك يجوز أكله، لكن إذا أشرت إليه أو شجعته أو قلت له: صد لنا كذا، فصاد من أجلك فلا يحل أكله.
ولو صدم شاة أو غزالاً بسيارته وهو محرم فلا دخل لذلك في باب ما حرم الله من أكل الصيد هنا، هذه لها جزاء كغيرها من الأشياء، إذا كان متعمداً وكانت له قدرته على أن يصرف دابته أو سيارته وقتلها فعليه الجزاء قيمتها.
قال: [ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم ]، أما من صاد وهو حلال فلا شيء عليه، إلا إذا كان صاد في الحرم المكي والحرم المدني، فلا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم سواء كان حلالاً أو حراماً، لو تأتي غزالة على بابك وتنام على العتبة فلا يحل لك أن تطردها وأنت في المدينة أو في مكة، وجدت حيواناً تحت ظل شجرة في وادي العقيق وأنت تحتاج إلى الظل فلا يجوز أن تبعده لتجلس مكانه في الحرمين، فالحرم المكي حرمه إبراهيم بإذن الله تعالى، والحرم المدني حرمه رسول الله بإذن الله عز وجل، والمدينة حرام من عير إلى ثور، لا يختلى خلالها ولا يصاد صيدها مطلقاً. فالصيد في الحرم حرام سواء كنت محرماً أو غير محرم، الصيد في الحرمين حرام دائماً، لكن الصيد في غير الحرمين حرام عندما تكون محرماً.
[ رابعاً: وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ]، لا يقول: أنا أعرف، ولا نحتاج إلى فلان وفلان، بل طاعة لله عز وجل وامتثالاً لأمره لا بد من اثنين يحكمان عليك، ولا بد أن تسلم بهذا، وقد تعجب مرة أحد الأصحاب من عمر فقال: أنت الحاكم وتأتي بمن يحكم!
قال: [ وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه ]، من نفسه يعطي البدل، لا بد من اثنين من أهل العدل يحكمان بالشاة أو بالبعير أو بكذا.
[ خامساً: صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال ]، هذا الذي قررناه، أما صيد الحل فلا يحرم إلا على المحرم فقط، من خرج وراء الحرم فله أن يصيد إذا كان غير محرم، أما وهو محرم فلا يحل له أن يصيد.
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، بيان متى يحرم علينا الصيد، والحرم: جمع حرام، أنا حرام ما دمت محرماً، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ [المائدة:95]، أي: الصيد مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، وهنا اختلفوا في الذي يصيد بغير عمد، فالجمهور على أنه عليه الجزاء متعمداً وغير متعمد؛ إذ ليس من المعقول أنه محرم يقول: لبيك اللهم لبيك ويقتل صيداً ما هو بمتعمد قتله، قد يكذب علينا يقول: ما عرفت؛ لأن حالة الإحرام تمنعه من أشياء كثيرة وهو في عبادة، فكيف يأخذ الصيد ويقول: أنا ما تعمدت؟! لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، مخير بين الثلاثة؛ لِيَذُوقَ [المائدة:95]، هذا الذي لزمته الكفارة، لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95]، أي: ثقل أمره، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95]، الذي مضى قبل التحريم عفا الله عنه، وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:95-96]، فقولوا: الحمد لله. حرم علينا الصيد ونحن محرمون، وأحل لنا الحوت طول العام، صيد البحر حل مطلقاً، فلا تقولوا: ضيق علينا، ما هي إلا أيام، أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، فقط، والبَر مقابل البحر، والبِر مقابل الشر، والبُر مقابل الشعير، بالضمة والكسرة والفتحة تختلف المعاني، البَر: الصحراء، البُر: القمح، البِر: الخير، قال تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، فإن تحللتم فصيدوا ما شئتم أن تصيدوا، لكن وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:96]، فيم نتقيه؟ في هذه الأوامر والنواهي، نفعل المأمور ونتخلى عن المنهي، وبذلك اتقينا الله عز وجل.
اللهم قنا عذابك.. اللهم قنا عذابك، وارض عنا يا رب إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر