الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15-16].
ذكرنا في الحديث السابق ما يتعلق بهذه الآية، وهنا ذكر العلماء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأبو بكر الصديق كان تابعاً صلوات الله وسلامه عليه، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وقد تابعه وكان عمره ثمان عشرة سنة رضي الله عنه، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم.
فـأبو بكر الصديق نزلت فيه هذه الآية، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
قال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده.
ووالده: أبو قحافة ، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ، وأمه: أم الخير ، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه قيلة ، وامرأته قتيلة رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أهله المسلمين الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملاً صالحاً، فقد دعا ربه: أوزعني أن أعمل صالحاً ترضاه، فألهمه الله عز وجل ذلك، حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوة الإيمان، وشهد له بالجنة صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه وإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح إيمان أبي بكر على إيمان الأمة رضي الله عنه، ويكفيه شرفاً وفخراً أن لقب بـالصديق رضي الله عنه، فلا يكره ولا يبغض أبا بكر إلا منافق ومجرم وملعون.
إن فضائل أبي بكر كثيرة، وقد شهد له بها علي رضي الله عنه، وشهد ابن عباس وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا أبو بكر ربه بقوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ قال: فأجابه الله عز وجل، فأعتق تسعة من المؤمنين المعذبين في الله عز وجل، منهم: بلال ، وعامر بن فهيرة رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع. ولم يدع شيئاً من الخير إلا أعانه الله عز وجل عليه ببركة دعائه، واتباعه للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال
وشهد له بالصديقية يوم أن وقف على جبل أحد ومعه عمر ، فاهتز الجبل بمن عليه فوطأه النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه، وقال: (اثبت أحد فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)، فالصديق هو: أبو بكر الصديق ، والشهيد هو عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع.
ودعا أبو بكر ربه فقال: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ، فأصلح الله عز وجل له ذريته، فمنهم: ابنته عائشة رضي الله عنها، ومعلوم فضلها، ومنهم: أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها، ومنهم عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومعلوم فضله وخاصة في جهاده في سبيل الله، وبلائه العظيم في يوم اليمامة، وبطولته المنقطعة النظير رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومن فضل أبي بكر وآل أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه قوله: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فكانت سنة للمسلمين أن يقتدوا بـأبي بكر في الدعاء، وأن يتبعوا هذه الآية العظيمة، وأن يدعوا باسم الله الذي يعين على العمل الصالح، والذي يصلح الذرية، والذي يؤدب ويربي ويرزق سبحانه، فأنت عليك الدعاء والله عليه الإجابة والتثبيت سبحانه.
قال مالك بن مغول : شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف رضي الله عن الجميع، وكأن ابنه يعصيه ويقع في شيء من المعاصي، فقال طلحة بن مصرف : إذا رأيت من ابنك نفوراً أو بعداً عن الطاعة فاستعن عليه بهذه الآية التي فيها الدعاء، قال الله تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي .
فتدعو ربك بصلاح الذرية، وتستعين بالدعاء، والله عز وجل يرفع عنك وعن أولادك البلاء.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله عز وجل، والرجوع إلى أمره سبحانه الذي أمرك أن تكون عليه، قال تعالى: وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: من المخلصين الموحدين الله سبحانه.
والإنسان قد يعمل عملاً حسناً، ويعمل أحسن منه، وقد يعمل عملاً ويراه حسناً، وقد لا يكون من الطاعة ولا من المعصية، كأن يستحسن شيئاً من المباح، والمباح لا أجر فيه ولا عقوبة، كالأكل والشرب، فإذا نوى نية صالحة أن يكون طاعة لله عز وجل، فهذا الذي يريده الله سبحانه، وهذا الذي يتقبله من المسلم.
فالله يتقبل من المسلم ما كان طاعة أو عبادة، بشرط أن يكون بنية صالحة خالصة لله عز وجل، وليس المعنى أن العبادات منها حسن ومنها أحسن، وأن الحسن لا يقبل والأحسن يقبل، لا، فكل العبادات حسنى، وكل العبادات يقبلها الله سبحانه طالما استوفت شروطها من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص لله سبحانه.
و(كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وكل إنسان له معاصي وله سيئات، فمن زادت حسناتهم حتى فاقت سيئاتهم وغلبت عليها، فالله يتجاوز عنهم ويعفو.
قال سبحانه: (( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ )) أي: نجعل هؤلاء أصحاب الجنة ومالكيها.
فوعد الله كله صدق، وقوله كله حق سبحانه، الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] أَيْ: يوعدون على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي كتب الله المنزلة من عنده سبحانه.
فقوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ لم يصرح لنا سبحانه بالذي قال لوالديه: أف لكما، فهذا واحد ممن يعذبون يوم القيامة فلا نحتاج إلى معرفة اسمه، وفي هذه الآية عموم، فتعم كل من قال ذلك، وكل من عق والديه، وكل من كفر بالله سبحانه، واستهان بدين الله سبحانه وقال: إنَّ هذا الكتاب العظيم الذي جاء من عند رب العالمين ماهو إلا أساطير الأولين.
فهذا الإنسان الكافر عرفته عائشة رضي الله عنها، فقالت: ولو شئت أن أسميه لسميته، ومع ذلك لم تسمه رضي الله تبارك وتعالى عنها، فلا حاجة لنا في تسميته فلذلك لم تذكره.
فقوله تعالى: أُفٍ لكما فيها قراءتان: الأولى بالكسرتين، وهي قراءة نافع وجعفر وكذلك حفص عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: أُفِّ لَكُمَا ، بكسرة واحدة مع التشديد.
وقوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: إن الله لا يخلف الميعاد، فيجيب هذا الابن العاق ويقول: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أي: أحاديث الزمان السالف التي لا يسمع منها شيء، فيتعالى ويستكبر أن يطيع الله عز وجل فيستحق عقوبة رب العالمين.
وقوله تعالى: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ [فصلت:25] أي: الذين سبقوا ومضوا من أهل التكذيب، وانتقلوا إلى لعنة الله، وإلى غضبه سبحانه، مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ .
وقد افترى هذا القول مروان بن الحكم بن أبي العاص من بني أمية على ابن لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال ذلك كذباً وزرواً، فكذبته عائشة رضي الله عنها، وأقسمت أن هذه الآية ليست فيهم، وأنها تعرف من الذي نزلت فيه هذه الآية، وقلنا ذلك لئلا يغتر بما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره عندما قال: لا مانع من أن تكون نزلت فيه ثم أسلم بعد ذلك، فهذا قول خاطئ، ولذلك فشيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، وكذلك ابن كثير وغيرهم من المفسرين ينكرون أن يكون قوله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:18]، في رجل مسلم قد أبلى بلاءً حسناً في الإسلام، وكان من أفضل الناس.
والذي قال عليه ذلك كذب عليه؛ يريد أن يشوه صورته بين الناس، وكان سبب ذلك أن مروان كان أميراً لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فأراد معاوية أن يولي ابنه يزيد الخلافة، وأراد له البيعة في حياته، فقام مروان في المسجد وخطب في الناس، وقال: إن معاوية قد رأى رأياً حسناً في يزيد ، وأن يستخلفه عليكم فقد استخلف قبل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، -وهذا القول كذب-، فكذبه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أمام الناس، فقال: أهرقلية؟ استخلف أبو بكر الصديق ولم يستخلف أحداً من أبنائه، واستخلف عمر بن الخطاب ولم يستخلف أحداً من أبنائه، فكيف تقول: إن معاوية استخلف كما استخلف أبو بكر وعمر؟!
ففعْل معاوية مخالف لما فعله أبو بكر وعمر، فالذي فعله أبو بكر وعمر كان رحمة بالأمة، والذي فعله معاوية كان رحمة بابنه رضي الله عن الجميع، فـمعاوية اختار الملك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (تئول الخلافة إلى ملك عضوض) فكان بدء الملك العضوض أن معاوية استخلف ابنه فبقى الأمراء من بعده يستخلفون أبناءهم، فلما أنكر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه على مروان بن الحكم ، أراد أن يسيء إليه فلم يجد إلا القرآن، من أجل أن ينفر الناس من حوله، فقال له: ألست الذي قد قال الله عز وجل فيه كذا؟ فافترى أن هذه الآية نزلت فيه، فلما قال ذلك كذبته عائشة من وراء حجابها رضي الله عنها، فسمع الناس لما قالته عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت: والله؛ لأنا أعلم فيمن نزلت هذه الآية، يعني: لو شاءت لحدثت، ولكنها سترت وكتمت ولم تقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فتغيظ مروان وأراد أن يسجن عبد الرحمن بن أبي بكر ويأخذه، فدخل إلى بيت عائشة فلم يقدر عليه.
فـعبد الرحمن بن أبي بكر من أفاضل المؤمنين رضي الله عنه، وقد قام فقال قول حق، فإذا بهذا الرجل يتهمه بهذا الشيء ويقول عنه ذلك.
فالغرض أن الآية نزلت في إنسان كافر عاص لله سبحانه، وصفه الله عز وجل بأنه مستحق للعذاب، وأنه كان من الخاسرين، قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أي: سبق في علم الله عز وجل ذلك، فاستحقوا الهوان والخسران، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر