الناس صنفان: صنف إذا نام على فراش الموت تهلل وجهه، وتهللت أساريره، وترى الابتسامة العريضة تعلو وجهه وشفتيه، وترى لسانه وكلامه يردد: (لا إله إلا الله)؛ لأنه عاش على لا إله إلا الله، وبذل وقته للتوحيد، وحول التوحيد في حياته إلى واقع، فحق على الله -حق أخذه الله على ذاته؛ إذ ليس لأحد حق على الله- لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يحسن الله نهايته، وأن يتولى الله رعايته، واسمع إلى الحافظ
إذ يقول: (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) الله أكبر! إن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على المعصية -أعاذني الله وإياك- مت على المعصية، وبعثت على المعصية، روى
) فإن مت على الطاعة بعثت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد مت على التوحيد، وبعثت تحت راية إمام الموحدين وسيد المحققين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
تدبروا هذا الصنف المبارك الذي عاش في الدنيا لدين الله، ولتوحيد الله؛ فمات على التوحيد، فهذا صديق الأمة الأكبر رضوان الله عليه
أبو بكر ، فقد جاء أنه لما نام على فراش الموت، وحشرجت روحه؛ دخلت عليه الصديقة بنت الصديق
عائشة رضوان الله عليها، وأنشدت بيتاً من الشعر فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتـى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف
الصديق الغطاء عن وجهه، وهو على فراش الموت بثبات عجيب، ونظر لـ
عائشة وقال: يا ابنتي! لا تقولي هذا، وإنما قولي:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
ولما نام فاروق الأمة
عمر على فراش الموت دخل عليه الصحب الكرام، ومن بينهم
ابن عباس ، فقال له: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد مصّر الله بك الأمصار، ونشر الله بك العدل، وصحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت
أبا بكر ، فأحسنت صحبته، ثم توفي
أبو بكر وهو عنك راضٍ, وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فإنهم عنك راضون، ثم شهادة في سبيل الله، فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فبكى
عمر وقال: والله! يا
ابن عباس ! لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله! لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه!
عمر فاروق الأمة يقول: لو أن لي ملء الأرض لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه.
انظروا إلى هذا الثبات العجيب أيها الخيار الكرام! ومن بين هؤلاء الناس يخرج شاب يلبس ثوباً طويلاً- والحديث في صحيح
البخاري - فينظر
عمر ، ودماؤه تنزف، والأمة تصرخ وتبكي على فراق
فاروقها الملهم، وينظر
عمر وهو على فراش الموت إلى هذا الشاب وهو يلبس ثوباً يجره على الأرض، فيقول
الفاروق الأمير: ردوا علي هذا، ويرجع إليه الشاب، فيقول له
عمر : يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك وفي لفظ
البخاري : (فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك. الله أكبر! على فراش الموت يأمر بالمعروف، على فراش الموت ينهى عن المنكر! ما قال: هذه قشرة من قشور الدين، لا، والله! وما قال: هذه جزئية من جزئيات الدين، لا، والله! لأن الدين لا ينقسم إلى قشور ولباب، وإنما الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أتفق معك -أيها الحبيب المبارك يا من تنادي بفقه الأولويات في الدعوة إلى الله- أنا معك على طول الخط، فلابد من فقه الأولويات، لكن شتان شتان بين فقه الأولويات، والسخرية والتحقير للفرعيات والجزئيات، فلا تحقر فرعاً، ولا تحاول أن تزيحه، نعم؛ ابدأ بالأهم فالمهم، لكن لا تحقر جزئية، ولا تقل: هذه من قشور الدين؛ فإن الدين كل لا يتجزأ، ولا ينقسم إلى قشور ولباب.
والشاهد هو: ثبات
عمر رضوان الله عليه.
وهذا
عثمان رضوان الله عليه؛ روى
الطبري بسند صحيح أن
عثمان بن عفان لما حوصر من الأوغاد المجرمين، ومنعوا عنه الماء، ووالله! لو صبروا عليه قليلاً لمات
عثمان عطشاً، وهو الذي لا زال ماء بئره الذي اشتراه بخالص ماله يفيض على المسلمين في كل أنحاء مدينة رسول الله.
عثمان رضوان الله عليه في هذه الليلة التي قتل فيها ينام بعدما صلى ما شاء الله له أن يصلي، وقرأ من القرآن ما شاء الله له أن يقرأ؛ فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقول له الحبيب: أفطر عندنا غداً يا
عثمان! فيصبح
عثمان ويفتح باب داره، ويفتح القرآن بين يديه؛ لأنه علم أن الأجل قد انتهى، وأنه مقتول، ودخل عليه المجرمون الثوار؛ فدخل عليه
الغافقي المجرم فضربه بحديدة في يده، وضرب المصحف برجله! فاستدار المصحف دورة كاملة، واستقر مرة أخرى في حجر
عثمان ؛ لتسيل عليه دماء
عثمان ، فتخالط دماء
عثمان آيات القرآن كما خالطت آيات القرآن دماء
عثمان رضي الله عنه، ويقتل
عثمان وهو يقرأ القران، يا لهذه الخاتمة!
وهذا
علي يطعن هو الآخر ويعود إلى فراشه ويقول: أدخلوا عليّ أبنائي، فأدخلوا عليه أبناءه، فبذل لهم وصية طويلة -كلما قرأتها تعجبت!- وقال: انصرفوا عني، وظل يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) حتى فاضت روحه وهو يرددها، رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا
عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينام على فراش الموت ويدخل عليه ابن عمه ويقول له: يا أمير المؤمنين! لقد تركت أولادك فقراء، ألا توصي لأبنائك بشيء؟! فيقول
عمر بن عبد العزيز: (وهل أملك شيئاً من المال لأوصي لأبنائي به أم تريد أن أوصي لهم بأموال المسلمين؟! والله! ما أنا بفاعل، أدخلوا أبنائي عليّ، فأدخلوهم عليه، وهو على فراش الموت، فنظر إليهم وبكى، وقال: أي بنيّ! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن يترككم فقراء ويدخل الجنة أوأن يترككم أغنياء من أموال المسلمين ويدخل النار، ولقد اختار أبوكم الجنة إن شاء الله، وأنتم عندي أحد رجلين: إما أن تكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن تكونوا غير ذلك فلا أدع لكم ما تستعينون به على معصية الله؛ وأسأل عنه أنا بين يدي الله، اخرجوا عني، فخرجوا عنه، وهو يردد قول الله:
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وفاضت روحه إلى رب العالمين، وهو يردد هذه الآية من كلام أحكم الحاكمين.