اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
الصيام: هو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
ويجب على كل مسلم بالغ عاقل، أما المرأة فيزاد عليها أن تكون طاهرة من الحيض والنفاس.
والمفطرات هي: الطعام أو الشراب أو الجماع في نهار رمضان.
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود أو الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض)، ومن ذرعه القيء أيْ: غلبه فليس عليه قضاء، فالذي يخرج من بطنه شيء ثم يرجع إلى جوفه بدون تعمد منه فهو معذور فيه ولا شيء عليه، لكن إن تعمد ابتلاعه فإنه يفطر بذلك.
إذاً: وضع القطرة في الأنف تفطر إذا وصلت إلى الحلق، لكن لو أن الإنسان أتى بقطنه مبلولة بشيء من نقط الأنف التي تسمى (روزلين) أو غيرها ومسح بها داخل أنفه ولم ينزل شيء إلى حلقه ولم يستنشق شيء منه فهذا لا يفطر، وهذا حكمه مثل حكم المضمضة ومن ثم يتفل ولم ينزل شيء إلى حلقه لأن مجرى الأنف يتصل بالحلق وينزل فيه.
فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمبالغة الاستنشاق، وهو أنْ تجعل الماء في أنفك وتستنشقه بقوة بحيث يصل إلى داخل الأنف ثم تخرجه لكي ينظف مجرى النفس في أنفك، فقال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصائم عن المبالغة في الاستنشاق؛ لأن الأنف له مجرى إلى الحلق وإلى الجوف، فإذا كنت صائماً فلا تفعل ذلك، أما من استنشق ولم يبالغ فيه فسبقه الماء إلى جوفه فالراجح أنه لا شيء عليه إذا كان كذلك؛ لأنه معذور أو أنه نسي في ذلك، أمَّا لو تعمد الاستنشاق وعلم أنه صائم وأنه لا يجوز له أن يبالغ في الاستنشاق وعلم أنه لو بالغ فيه فإنه سينزل إلى حلقه فإنه يفطر بذلك، فإذا لم يقصد الفطر أو ظن أنه يحبسها بحيث لا تصل إلى حلقه فالراجح في هذه الصورة الثانية أنه لا يفطر بذلك.
قال الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فيباح للرجل أن يأتي أهله بالليل ويحرم عليه أن يأتيها في النهار، أما غير زوجته وأمته فيحرم عليه أن يأتيها في الليل أو في النهار.
ثم ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى بعد ذلك فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، يعني: امتنعوا عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر الصادق إلى تيقن غروب الشمس.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)، والمعنى: أمسك عن الطعام والشراب والشهوة من أجل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وكذلك في الصحيحين (أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ فقال: لا، فقال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر). أي: زنبيل فيه تمر (فقال: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذها فتصدق بها)، وفي رواية أنه قال: (احترقت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أحرقك؟! فذكر أنه أتى امرأته وهو صائم).
فأعان النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل لفقره فهو لا يجد رقبة يعتقها، ولا يقدر أن يصوم شهرين متتابعين ولا يستطيع إطعام ستين مسكيناً، وهو أفقر رجل في المدينة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما بين لابتيها أفقر منا يا رسول الله).
ولابتا المدينة هما الحرتان، واللابة أرض ذات حجارة سوداء، وأحجار المدينة بيضاء وكذا أرضها، ولذلك كانت تسمى بيثرب واليثرب الأرض البيضاء، وطرفا المدينة فيها حجارة سوداء، وتسمى اللابة أو اللوبة أو الحرة، فقال الرجل: ما بين طرفي المدينة من أدناها إلى أقصاها لا يوجد أحد أفقر مني وأهلي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه عليه الصلاة والسلام، ثم قال (أطعمه أهلك)، فهذا الرجل وقع في معصية وتاب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى منها ولم يكن معه الكفارة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ما يكفر به وهو إطعام ستين مسكيناً، وعذره النبي صلى الله عليه وسلم لفقره فقال: (أطعمه أهلك).
والوقاع هو أن يجامع الرجل زوجته الحرة أو أمته في أي وقت ليل أو نهار إلا في وقت حيضها ونفاسها، فإذا كان في رمضان فيحرم عليه ذلك بالنهار، ومن صفات المؤمنين المفلحين أنهم يمسكون أنفسهم عن الوقوع في الزنا قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6]، وملك اليمين هي الأمة التي يشتريها الإنسان بماله ليتسرى بها، ويجوز له أن يأتيها فمثلها مثل الزوجة.
ويحرم على الرجل أن يأتي المرأة في دبرها أو أن يقع في الزنا أو اللواط، فإذا فعل شيئاً من ذلك في نهار رمضان فقد أبطل صيامه ويأثم بذلك وعليه القضاء والكفارة.
روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله! أقبل وأنا صائم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فجاء شيخ فقال: أأقبل وأنا صائم؟ فقال: نعم)، قال الراوي (فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه).
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يجيب الرجلين بإجابتين مختلفتين، فضروري أن يحصل عند الجالسين عنده شيء من اللبس، ولكن استحيوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: أنت نسيت أو أنت قلت الذي مضى، فنظر بعضهم إلى بعض فبادرهم صلى الله عليه وسلم قبل أن يقولوا ذلك فقال: (إن الشيخ يملك نفسه)، إذاً: العلة هي أن الشاب قد لا يملك نفسه، إذاً: القبلة نفسها ليست محرمة وحكمها حكم المضمضة بالماء، فالمضمضة لا تفطر الصائم إذا لم يبالغ فيها ويسبقه الماء إلى جوفه، فكذلك هذا الشاب إذا كان يملك نفسه يجوز له أن يقبل زوجته، أما الشيخ فالعادة أنه يملك نفسه فيجوز له.
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وكان أملككم لإربه) أي: كان أملككم لعضوه ولشهوته صلوات الله وسلامه عليه، فهو أملك الناس لشهوته عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً جاء في مسند الإمام أحمد أن الأسود قال: (قلت يا
وجاء في الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: (هششت فقبلت وأنا صائم) أي: أصابه شيء من السعادة والفرح والحبور فقبل امرأته وهو صائم، ومن ثم تذكر أنه وقع في خطأ فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قلت: يا رسول الله! صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو مضمضت وأنت صائم؟!).
هذا الحديث يدل على استخدام القياس الصحيح (لو مضمضت وأنت صائم؟ فقال: قلت: لا بأس به، فقال: فمه؟) أي: مثلك يفهم هذه المسألة من البداية طالما أنك لم تقع في الجماع فلا شيء عليك لفعلك ذلك.
وجاء في صحيح مسلم عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم وابن السيدة أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزوجها الأول أبو سلمة رضي الله عنه، فـعمر كان شاباً وليس شيخاً كبيراً فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيقبل الصائم؟) أي: هل ممكن أن أقبل زوجتي وأنا صائم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (عن هذا اسأل أمك، فسألها فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له).
فالحديث الأول فيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منع الشاب من القبلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه وأمثاله لا يملكون أنفسهم، وأنهم لو قبلوا قد يقعون في الجماع بعد ذلك فكأنه منعه من باب سد الذريعة.
إذاً: إذا قبل الرجل امرأته وهو صائم فلا شيء عليه في ذلك إلا إذا كان لا يملك نفسه فيقع في الجماع حتى لا يفسد على نفسه الصوم.
لكن لو نظر إلى امرأته أو إلى أجنبية فاستثارت شهوته بهذه النظرة ثم أدام النظر فيها حتى خرج منه المني فقد بطل صومه بهذه الحالة؛ لأنه الذي استدعى هذا الفعل؛ ولأنه يعلم أنه بهذه الحالة يخرج منه المني فكأنه يستدعيه بهذا الشيء فيبطله، لكن لو نظر إلى امرأة نظرة واحدة ثم صرف بصره عنها فاستثارت نفسه لغلبة غلمته وشهوته فلم يتمالك أن خرج منه المني فلا شيء عليه.
ونفرق بين من نظر فاستدام النظر حتى خرج منه المني فبطل صومه وبين من نظر مرة واحدة فلا شيء عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما لك النظرة الأولى).
ولو أن إنساناً ذهب فكره إلى بعيد فإذا به يقع في هذا الأمر فخرج منه المني فالراجح أنه لا شيء عليه، ولكن يصرف فكره ويتفكر فيما هو فيه من الصيام والامتناع عن الشهوة وغير ذلك.
فإذا نسي فأكل أو شرب قليلاً أو كثيراً فلا شيء عليه طالما أنه ناسي، لكن لو أنه أكل وهو ناسي فتذكر أنه صائم ثم استمر في الأكل فقد صار مفطراً الآن.
وكثير من الناس يظن أن الفطر ناسياً في صوم النافلة يبطله وهذا خطأ، ولا فرق بين النسيان في صوم الفريضة وصوم النافلة، فمن نسي في ذلك فلا شيء عليه، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه). (ورجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل وهو ناسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله أطعمك وسقاك)، وقال في رواية أخرى: (من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر)، فمن أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه، ولا يتمادى في الفطر وليتم صومه وليس عليه قضاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر