-
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ...)
-
تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)
-
تفسير قوله تعالى: (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك ...)
-
تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
قال تعالى:
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:86].
يقول
الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل، فقوله: (( أَسِفاً )) أي: شديد الغضب، فالأسف هنا شدة الغضب، وعلى هذا فقوله: (( غَضْبَانَ أَسِفاً )) أي: غضبان شديد الغضب، ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن الكريم قوله تعالى في الزخرف:
فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55]، لما آسفونا أي: لما أغضبونا، فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم.
قال
الشنقيطي : وقوله: (( غَضْبَانَ أَسِفاً )) حالان، وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفـرد
يعني: ممكن الحال يكون كلمة وممكن أن يتعدد، فهذا معنى قول صاحب الخلاصة.
وما ذكره جل وعلا في آية (طه) من كون موسى رجع إلى قومه: (غضبان أسفاً) ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في سورة الأعراف:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150]، وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، قال عز وجل في الأعراف:
وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150] وقال في (طه) مشيراً لأخذه برأس أخيه:
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان؛ لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله عز وجل:
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ، وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه، ومع ذلك لم يبلغ الغضب بموسى عليه السلام يلقي الألواح، لكنه لما عاين -بعينه- قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تبارك وتعالى.
وقد روى
ابن أبي حاتم بسنده عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح).
وهذا معنى الحكمة المشهورة: ليس الخبر كالمعاينة. ويمكن استنباط نفس هذه الحكمة من القرآن الكريم من موضع آخر:
لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:18]، فالنبي عليه السلام وصف له حالهم في القرآن لكنه لو رآهم لولى فراراً وامتلئ رعباً، فالله يقول: (( لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ )) أي: لو رأيتهم ونظرت إليهم بعينك لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
وقوله تعالى: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) قال
الشنقيطي : أظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون من خير الدنيا والآخرة، وهذا الوعد هو المذكور هنا في قوله: (( وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ )) يعني: كي ينزل على موسى عليه السلام التوراة، وقد كتبها الله له بيده، وهي ألواح التوراة، فهذا هو الوعد الحسن.
قال:
أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ ، الاستفهام هنا للإنكار، يعني: لم يطل العهد، وهذا هو السبب مع أني لم أتأخر عنكم كثيراً، أي: لم يطل عليكم العهد، كما يقال في المثل: وما بالعهد من قدم؛ لأن طول العهد مظنة للنسيان والعهد قريب لم يطل، فكيف نسيتم؟
(( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ))، هنا قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة
أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ بل (( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ))، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، فكأنهم أرادوا الغضب لما عملوا السبب الذي يجلب لهم غضب الله سبحانه وتعالى وهو الكفر.
ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم؛ فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل.
وقوله: (فأخلفتم موعدي) كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى؛ فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى، فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره.
(( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ))، قرأه
نافع و
عاصم (بملكنا) بفتح الميم، وقرأه
حمزة و
الكسائي بضم الميم، وقرأه
ابن كثير و
ابن عامر و
أبو عمرو بكسر الميم، يعني: فيها ثلاث حركات يقول: والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك، وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة
السامري وكيده، وهو اعتبار بارد ساقط كما ترى، يعني: هذا العذر السخيف ينطبق عليه قول القائل: عذر أقبح من ذنب، يعني: ما كان بأيدينا لكن غلبنا
السامري وكادنا وغلبنا، ولقد صدق من قال:
إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر
الذنب إن كان بغير عذر مقبول، فالعذر ساذج.
وهنا يذكر
الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة لغوية، يقول: كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ(لم) إذا تقدمتها همزة استفهام فلها وجهان معروفان عند العلماء:
الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) بمعنى وعدكم. نلاحظ هنا الفعل (يعدكم) فعل مضارع سبقته (لم) الجازمة، وسبقها همزة الاستفهام، فإذاً: فعل مضارع مجزوم بلم تقدمتها همزة استفهام، فالقول الأول: أن المضارع ينقلب ماضياً، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ )) تساوي: وعدكم، وقوله تعالى:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] تساوي: شرحنا لك صدرك، وقوله:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8] تساوي: جعلنا له عينين، ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن لم حرف يقلب المضارع إلى معنى الماضي كما هو معروف، ووجه انقلاب النفي إثباتاً: أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم، أي: تنفي النفي، ونفي النفي إثبات فيئول إلى معنى الإثبات. هذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر، فيقول: بلى. يعني: هذه الصيغة تأتي من أجل أن يقر المخاطب، يقول: ألم نفعل كذا؟ تقول: بلى. لكي تثبت ذلك. وعليه فالمراد من قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) حملهم على أن يقروا بذلك، فيقولوا: بلى قد وعدنا ربنا وعداً حسناً، ونظير هذا من كلام العرب قول
جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
فإذا عرفت أن قوله هنا: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ))؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكن بينه في غير هذا الموضع كقوله في الأعراف في القصة بعينها:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150]، وبين بعض ما فعل بقوله في الأعراف:
وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ َ [الأعراف:150]، وقد أشار إلى هذا في (طه) في قوله: (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي )).
-
تفسير قوله تعالى: (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا)
قال تعالى: (( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ ... ))[طه:87].
قال
الزمخشري : قرئ بالحركات الثلاث على الميم، قال
الزمخشري أي: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخُلِّينا وراءنا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة
السامري وكيده،
وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ .
(( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا ))، وفي القراءة الأخرى: ((ولكنا حملنا أوزاراً)) أي: أثقالاً وأحمالاً، (( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ )) يعني: من حلي القبط، (والقوم) المقصود بهم قوم فرعون، والمقصود بالحلي حلي نسائهم.
(( فَقَذَفْنَاهَا )) أي: قذفناها في النار لنتلفها.
(( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ )) أي: كان إلقاؤه (( فَأَخْرَجَ لَهُمْ )) أي: من تلك الحلي (( عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ )) أي: صوت عجل، وقد قيل: إنه صار حياً وخار كما يخور العجل، ودبت فيه الحياة، وقيل: وإنما جعل فيه منافذ ومخارج بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوتاً مثل صوت العجل.
قوله تعالى: (( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى )) يعني:
السامري ومن افتتنوا به، فقالوا بالتغرير: (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )) أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور! كيف ذهب موسى يطلب لقاء الله في الطور وهذا هو إلهنا وإله موسى؟ ويقصدون -والعياذ بالله- هذا العجل، فهذا معنى قولهم: (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )) يعني: موسى غفل عن إلهه وهو هنا وذهب يطلبه في الطور!
-
تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً)
-
تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل ...)
قال تعالى:
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ [طه:90] يعني: من قبل رجوع موسى إليهم،
يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] أي: ضللتم بعبادته،
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه:90]، في عبادته سبحانه وتعالى، وترك عبادة العجل،
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] (قال) أي: موسى
يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا *
أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه:92-93] يعني: في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر.
وقوله: (( أَلَّا تَتَّبِعَنِ )) فيها أقوال منها: ما منعك أن تتبعني؟ أو المعنى: ما حملك على ألا تتبعني؟ بحمل النقيض على مثله فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله، أو: ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك زجراً لهم؟ (( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )) وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ويصلح ما يراه فاسداً.
يقول
الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتنهم
السامري وأضلهم بعبادة العجل نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها -أي: كفر وضلال ارتكبوه بذلك- وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلاً مصطنعاً من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر، وأمرهم باتباعه في توحيد الله تبارك وتعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن يطيعوه في ذلك؛ فصارحوه بالتمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع إليهم موسى، وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه، وقد أوضح الله هذا المعنى في سورة الأعراف فقال تعالى:
قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150]، فقولهم في خطابهم له:
لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ، أي: نستمر ونستديم على عبادتنا، فهذا يدل على استضعفاهم له، وتمردهم عليه المصرح به في الأعراف كما بينا.
فتوى الطرطوشي في رقص وتواجد الصوفية
ذكر العلامة
الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى من باب الشيء بالشيء يذكر؛ بمناسبة الكلام على أنهم صاروا عاكفين حول هذا العجل يعبدونه فذكر بهذه المناسبة ما يفعله بعض الصوفية من ذلك مما سيذكره؛ يقول رحمه الله تعالى: قال
أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه: سئل الإمام
أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية، واعلم حرس الله مدته! أنه اجتمع جماعة من رجال يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم -يعني: نوع من الإيقاع من الموسيقى- ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه- يذكرون الله ويذكرون الرسول عليه السلام، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:
يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله!
مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب
السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب
مالك و
أبي حنيفة و
الشافعي و
أحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق. انتهى منه بلفظه.
وعلق
الشنقيطي رحمه الله تعالى بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة مريم ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق، ولا شك أن منهم من هو على الصراط المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم؛ كـ
عبد الرحمن بن عطية و
ابن أحمد بن عطية و
ابن عسكر أعني
أبا سليمان الداراني وكـ
عون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة. وكـ
سهل بن عبد الله التستري ، و
أبي طالب المكي و
أبي عثمان النيسابوري و
يحيى بن معاذ الرازي و
الجنيد بن محمد ومن سار على منوالهم؛ لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع، فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال، وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال، نعم صار المعروف في الآونة الأخيرة وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا -إلا من شاء الله منهم- دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم؛ ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين، فيجب التباعد عنهم والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال:
إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عن حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي
والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى:
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا *
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)[النساء:123-125].
فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال، ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي؛ نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
(( قَالَ يَبْنَؤُمَّ )) أي: قال هارون (يا ابن أم) أو (يا ابن أم) أي: بكسر الميم أو فتحها في (أم)، وذكرها أعطف لقلبه
لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] يعني: لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضب موسى لله وغيرته على حرمات الله، (( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )) أي: بتركهم لا رأي لهم، (( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ))، أي: لم تراع في الاستخلاف والقعود بين ظهرانيهم.
-
تفسير قوله تعالى: (ألا تتبعن أفعصيت أمري)
-
تفسير قوله تعالى: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)
قال الله تبارك وتعالى:
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94].
قال
الشنقيطي : وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته، وقد بين تعالى في سورة الأعراف أنه أخذ برأسه يجره إليه، وذلك في قوله:
وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، وقوله: (( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ))، هذا من بقية كلام هارون، أي: (( خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ))، وأن تقول لي: لم ترقب قولي! أي: لم تعمل بوصيتي، وتمتثل أمري.
ثم يذكر
الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة من هذه الآية، وهي: أن هذه الآية تعتبر من المواضع الواضحة في القرآن الكريم في التعرض للحية: (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي )).
كان العلامة
محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب كتاب: فتح المنعم سئل مرة سؤالاً حيث يريد السائل دليلاً من القرآن على مشروعية إعفاء اللحية، ففتح الله عليه بهذه الآية، وهو دليل من القرآن الكريم مباشر وهذا المعنى يوضحه
الشنقيطي في هذا التنبيه فيقول: وهذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية.
يعني: من سأل فقال: أين الدليل القرآني على وجوب إعفاء اللحية من القرآن؟
فنقول: أولاً: لا يلزم للشيء أن يكون واجباً أن يثبت فقط بالقرآن، فمحجية السنة أمر لا شك فيه، لكن بغض النظر عن هذا نحاول الإجابة عن السؤال: يقول: يمكن أن يستدل بهذه الآية، لكن بشرط أن نفهمها في ضوء آية سورة الأنعام، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84] ثم إنه تبارك وتعالى بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين -الذين منهم؟ هارون ، قال عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم-:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه، أي: الأمر الموجه للقدوة أمر لأتباعه.
قال: وقد قدمنا هناك أنه ثبت في صحيح
البخاري أن
مجاهداً سأل
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أين أخذت السجدة في سورة ص؟ قال: أو ما تقرأ:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ [الأنعام:84]..
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]؟ فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولفظه في
البخاري عن
العوام قال: سألت
مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت
ابن عباس : من أين سجدت؟ فقال: (أو ما تقرأ:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]..
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]؟ فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: اقتداء بداود حينما سجد في هذا الموطن في سورة ص.
يقول
الشنقيطي رحمه الله: فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة الأنعام، وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيهم أسوةً حسنة، وعلمت أن هارون كان موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: (( تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ))؛ لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته؛ تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن الكريم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية! وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها؛ ليس فيهم حالق، نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
ثم يقول
الشنقيطي : أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها؛ لشهرتها بين الناس؛ وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك، وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن.
هل يستطيع أحد أن يناقش هذا الاستدلال؟ ومتى يصح الاستدلال بالآية على الوجوب؟
الآية بمفردها تدل على المشروعية، وهي تدل على الوجوب إذا أضفنا في الاستدلال بها أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، فما دام أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، وأمر نبينا أن يقتدي به في ذلك؛ فحينئذٍ يصبح هذا دليل الوجوب، لكن الفعل في حد ذاته يحتمل الوجوب ويحتمل النسخ أو الاستحباب، وهذا كلام الحافظ
ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري في هذا الموضع.
على كل الأحوال الحكم ثابت بالوجوب، ونحن ذكرنا هذا للاستزادة، فراجعوا في فتح الباري.
ثم قال
الشنقيطي : وإنما قال هارون لأخيه (( يَبْنَؤُمَّ ))؛ لأن قرابة الأم أشد عطفاً وحناناً من قرابة الأب. وأصله. يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفاً، وحذف الألف المبدلة منها كما هنا.