أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان.
وقبل الشروع في هذا النداء الرابع من تلك النداءات الرحمانية أعيد إلى ذاكرة المستمعين والمستمعات، أن أول نداء كان في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. وقلنا: إن العلماء .. إن المربين .. إن الهداة .. إن الدعاة خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب الأدب معهم، ويحرم الهزؤ بهم والسخرية منهم، وكأولئك عامة المؤمنين والمؤمنات، فلا يحل لمؤمن أن يسيء الأدب مع أخيه، لا بنظرة شزرة، ولا بصوت رفيع، ولا بهمز ولا لمز، ولا بتعيير ولا بعيب، فكل ذلك حرام وفسق، وهذه أمة الإخاء والمودة، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله ). ولكن ما عرفنا فلا تلوموننا، ومن عرف لم يقف موقفاً يغضب عليه مولاه، والجهل هو الذي ضر بنا.
والنداء الثاني يحمل الاستعانة، والاستعانة لا تكون بالأعداء ولا برجال القبيلة ولا بالدينار والدرهم، وإنما تكون الاستعانة بالصبر والصلاة؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153].
وبالأمس لامني لائم وقال: لو تعلم الناس كيف يصلون، فإنهم يسيئون في صلاتهم، فقلت: مرحباً، أيها المستمعون! ويا أيتها المستمعات! اعلموا أن الصلاة المولدة للنور .. للطاقة .. للحسنات التي تكون عوناً للعبد على قهر نفسه وإذلالها، وإبعاد الشياطين وطردهم هي الصلاة ذات الخشوع؛ إذ قال تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. فجوابي لهذا الابن واسمعوا جميعاً، لستم في حاجة إلى أن ندرس الصلاة شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر كما مضى، فقد درسنا ثلاثة أشهر كيف نصلي، وقضينا الشتاء بكامله في كتاب الصلاة، وكلمتي واحدة، فكما نصلي مع الإمام يجب أن نصلي إذا كنا وحدنا، لا أن نصلي مع الإمام ونطمئن في الركوع والسجود وإذا صلينا وحدنا أسرعنا الله أكبر .. سمع الله ولمن حمده .. ربنا ولك الحمد كالخائنين، و( أسوأ الناس سرقة من يسرق في صلاته ). ولا نحتاج أبداً إلى أن نتعلم شهرين أو ثلاثة كيف نصلي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ). فصل إلى جنب عالم ولا تحتاج أن تدرس كيف تصلي، وهذا الإمام يصلي بنا الصلوات الخمس، فإن صليت دون صلاته فصلاتك مدخولة، ولا تنتج لك طاقة، فالقضية قضية إيمان صادق، فاعرفوا أن الصلاة كما نصلي مع الإمام، فمن قدم أو أخر أو زاد أو نقص أو خفف أو استعجل فصلاته باطلة.
ودائماً نقول: معنى باطلة: أنها لا تنتج الطاقة، ولا تولد النور، فلهذا صاحب الصلاة الباطلة والله في المسجد يعصي الله، وقبل أن يخرج يقول السوء ويحدث الباطل، ويخرج من المسجد يرتكب الذنوب؛ لأن صلاته ما ولدت له النور الذي ينبغي أن يظهر على سمعه وبصره ولسانه، فصلى وخرج وكأنه لم يصل، وعند الباب يقول الباطل ويرتكب المنكر.
فلنصل كما يصلي إمامنا، إلا القراءة إذا لم تطيلها فلك ذلك، وأما الركوع والسجود والخشوع والطمأنينة فكما نصلي مع الإمام.
آخر نداء هو نداء أمس وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]. ووالله أن من لم يشكر الله ما عبده؛ لأن شكر الله بالقلب واللسان والأركان، أي: الجوارح، فحياة المؤمنين موقوفة على الله، فهم لله شاكرون عابدون، ومن لم يشكره ما عبده، وقد عرفتم أننا أمرنا بأن نأكل من الطيبات؛ لأن الخبائث تعوقنا عن الوصول إلى الكمال، وتحول بيننا وبين رضا الرحمن، فلا نأكل إلا ما كان حلالاً طيباً، وإذا أكلنا لا نسرف؛ إذ قال تعالى لنا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]. والإسراف مجاوزة الحد، فإذا كنت تكتفي بسبع لقمات فلا تزد الثامنة، وإذا كنت تكتفي بعشر فلا تزد الحادية عشرة، وإذا كنت تكتفي بكأس الماء فلا تشرب كأسين، وهكذا، فلا تتجاوز الحد في أكلك ولا شربك، بل ولا نومك ولا قيامك ولا قعودك، بل القصد القصد! والعدل العدل! وقد وصفنا الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]. فالمطلوب هنا الوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، ولا إهمال ولا غلو، بل شعار هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
إذاً: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، أي: واشكروا له إنعامه من الماء والطعام وكل جزئيات الحياة، فهي منه إفضال وإنعام، فلنشكر الله على كل نعمة إن كنا نعبده، ومن قال: لا أعبد لا يشكر.
وأخيراً: أذكركم ونفسي بأن هذا البدن نعمة، تشكر ببذل هذه الطاقة البدنية في طاعة الله، وقد وهبك الله رجلين تمشي بهما، فإياك أن تمشي بهما خطوة واحدة إلى معصية الله، فذلك لا يحل لك، ووهبك لساناً فصيحاً تبين وتفصح به، فإياك أن تقول كلمة تغضب الله عز وجل باللسان الذي خلقه، وإذا أعطاك ديناراً أو درهماً فإياك أن تنفقه فيما يغضبه، وهكذا تجدنا كلنا لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهيا نحفظ هذا النداء كما حفظنا النداءات التي قبله، واعلموا أن الجائزة عظيمة، فلا تستهن بحفظ نداء من هذه النداءات، فحفظ واحد منها والله خير لك من أن تحفظ مليون دولار في صندوقك أو في بنك أو عند جيرانك، فهذه آيات الله عز وجل.
وهذا النداء في القصاص والدية والعفو، والمؤمن العامي والمؤمنة العامية يعرفان القصاص، ويعرفان الدية، ويعرفان العفو، وكأنهما درسا في كلية الحقوق، بل أعظم من ذلك وأسهل، فهما لم يسافرا، ولا دخلا المدرسة، وسبحان الله العظيم! ولهذا كان أصحاب الرسول وذلك الجيل كلهم علماء، وأكثرهم لا يقرأ ولا يكتب، ووالله ما عرفوا مدرسة ولا كلية، وكانوا علماء ربانيين.
[ الآية (178) من سورة البقرة:
أعوذ بالله من الشيطان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178] ] فلا تملوا، فأنتم تدرسون القانون .. قانون السماء .. قانون الرحمن الرحيم، فلا تقل: أنا عامي لن أدرس القانون، وإنما فقط احفظ المادة وافهم مراد الله منها، وهي مبينة ومفسرة بالقرآن والسنة.
وكلام الله غذاء روحي، ينسينا آلام المرض وآلام الفقر والتعب، وسبحان الله! فنحن والله عندنا كلام ربنا وخالقنا، وليس هناك نعمة أعظم من هذه النعمة، فهذا كلام الله خالق السماوات والأرض، ومرسل الرسل، ومنزل الأنبياء، والمنعم علينا بوجودنا، وبوجود كل شيء حولنا، وعندنا والله كلامه بالحرف الواحد.
معنى (كتب عليكم القصاص): أي: فرض فرضاً مكتوباً في الكتاب؛ حتى لا يتلاعب به أحد، والقصاص: المقاصة، يداً بيد .. نعجة بنعجة .. كبشاً بكبش .. ثوباً بثوب، والذي كتبه علينا هو الله، ولم يقل: كتبت عليكم القصاص؛ ليبقى حبه يملأ قلوب عباده؛ لأن القصاص فيه آلام وجراحات ودماء، وسبحان الله العظيم! ويكون الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، جمع قتيل، ولم يقل: في قتلاكم أيضاً، ثم بين هذا فقال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ . فمن قتل حراً يقتل به، والعبد إذا قتل عبداً يقتل به، والأنثى إذا قتلت أنثى تقتل بها، وأما أن تقتلوا الحر بالعبد فلا، أو تقتلوا المرأة بالرجل فلا، ولكن الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178].
وهذا اللفظ - معاشر المستمعين والمستمعات!- منسوخ، ومعنى منسوخ: أن الحكم رفع، والآيات تتلى، والحسنات تتوالى، والأنوار تتزايد، وقد نسخته آية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. والنفس سواء كانت ذكراً أو أنثى، أو حراً أو عبداً، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]. هذا هو الحكم الذي هو ماض إلى يوم القيامة، فمن كسر سنك تكسر سنه، ولست أنت الذي تكسرها، ولكن الطبيب هو الذي يكسرها، ومن قطع أصبعك تقطع أصبعه. هذا هو القصاص.
والآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] هذه خاصة بالقتلى، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]. وهذا القدر منسوخ، رفع حكمه وبقي اللفظ نوراً وهداية للخلق، والحرف بعشر حسنات.
والذي عليه أن يؤدي ذلك الحق والمعروف وهو الدية فيجب أن يؤديها أيضاً بإحسان، لا بالعنف والشدة والمماطلة وتجزئة الدية إلى قرون، ونحن ما عندنا أو غير ذلك، أو أن يحوله إلى شمال أفريقيا أو مكان بعيد ليأخذ الدية، أو أن يقول له: بعد كذا أو بعد كذا، بل يجب أن يؤدي ذلك الواجب الذي وجب عليه لأخيه وهو الدية بإحسان، فهذا كله حرمه الله، فمن أراد أن يأخذ حقه فليطلبه بالمعروف، ومن أراد أن يؤدي ذاك الحق فليؤده بإحسان، فليس عندنا غلظة ولا شدة ولا عنترية ولا سب ولا شتم ولا غير ذلك، فربنا واحد، ومالكنا واحد، وهو الذي شرع لنا هذا، فنطالب بحقنا بحسب ما شرع لنا.
ووجه التخفيف والرحمة هو: أن نعلم أن شريعة موسى في بني إسرائيل وإلى آخر عهدهم هي أن القاتل يقتل، ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه، ولكن يقطع رأسه، حتى لو قال أهل المقتول: عفونا، فلا عفو أبداً، ولا يقبل منهم هذا، ولو قال أهل القتيل: خذوا مليارات أو خذوا القرية بكاملها واتركوا أخانا حياً لا يقبل أبداً، وليس هناك إلا القصاص، وهذه شدة؛ لأن الحكيم العليم عرف أن تلك الأمة توغلت في الشر والفساد والظلم والاعتداء، ولا يؤدبها إلا العصا، وأن وضعهم لا يتلاءم معه إلا هذا، فقد قست قلوبهم. ومن هنا كان إذا قتل قاتل في بني إسرائيل لو جاء أهل الإقليم كلهم يستشفعون فلا شفاعة، ولو خرجوا من أموالهم كلها له حتى لا يقتل لا يقبل منهم، بل لابد من القصاص، وخفف الله عنا هذا.
ثانياً: شريعة عيسى عليه السلام كان فيها نسخ بالنسبة إلى بني إسرائيل، وهو منهم عليه السلام، فنسخ الله ما شاء وأبقى ما شاء، ومن جملة ما نسخ أن المسيحي إذا قتل أخاه فيجب أن يقول أهله: عفونا ويطأطئون رءوسهم، فلا دية ولا قصاص، فلا يقول أهل القاتل: خذوا الدية، ولا يقول أهل القتيل: يجب أن نقتل من قتل، فلا دية ولا قصاص، ولكن العفو، ونحن أعطانا الثلاثة، وخيرنا فيها، فإن شئنا القصاص قاصصنا، وإن شئنا العفو عفونا وأثابنا الله، وإن شئنا أخذ الدية أخذناها، وهذا تخفيف من الله ورحمة، وصدق الله العظيم القائل: تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ . وهذه رحمة لا توجد في الشريعة الموسوية أو العيسوية، وإنما توجد في الشريعة المحمدية، وهذا فضل الله ورحمته. فديننا أوسع، وقد أعرض المسلمون عنه؛ لأن العدو جهلهم وأبعدهم عنها.
شريعتكم أيها المسلمون! أسمى وأعلى وأرفع من شرائع ما سبق؛ لهذه الكمالات التي اختص الله بها هذه الأمة، فاليهود إذا قتل أحدهم آخر ليس هناك إلا القتل، والنصارى إذا قتل أحدهم الآخر ليس هناك إلا العفو، ولا دية ولا قصاص، ونحن إن شئنا عفونا، وإن شئنا أخذنا الدية، وإن شئنا قاصصنا، وكل هذا أعطانا الله لأنه أخبرنا بأنه خفف عنا ورحمنا، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ . والذي يتلصص وبعدما يعفو أو يأخذ الدية ينتكس ويقتل فهذا نتركه لله، والله يتولى عذابه، فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . فافهموا هذا.
والمائدة هي السفرة، وأنتم تسمونها سفرة، وسميت هذه السورة بالسفرة لأن جماعة عيسى عليه السلام لم يتربوا في حجور الصالحين، فلما اتبعوه وآمنوا به قالوا: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]؟ وهذا الكلام لا يقوله مسلم لرسول الله، وإنما هو كلام البربر؛ لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، فقد عاش بنو إسرائيل في ظروف دائماً نشبهها بظروفنا، فقد كان كل شيء عندهم مباحاً لما هبطوا، فبعث الله عيسى لعل وعسى أن يعودوا، فتركوه وقالوا: ساحر وابن زنا ودجال، وآمن به بعض المؤمنين، ولما كان المجتمع هابطاً قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا [المائدة:112-113]. فهم إلى الآن لم يعلموا أنه صادق، والذي يعرف هذا لا يتألم من مجتمعنا الهابط؛ لأنه إذا هبط المجتمع يقول أكبر من هذا. سبحان الله العظيم! فهم إلى الآن لم يصدقوا أنه رسول الله، فرفع يديه وقام بين يدي ربه.
وابن كثير رسم الصورة فقال: فضم قدميه - ما فرج رجليه - ووقف بين يدي ربه يسأله ويقول: رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114]. ومازال يدعو حتى قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].
فالذين شاهدوا المائدة وأكلوها وكفروا عذابهم فوق كل عذاب؛ لأن هذا أعجب عجيبة! فهم قالوا: نزل علينا مائدة من السماء فنزلت المائدة، فلهذا سميت سورة المائدة بالمائدة.
ومازال عيد الفصح إلى الآن عند النصارى، يحتفلون فيه بهذه المائدة، وهم كافرون.
وتسمى السورة أيضاً بـ(سورة العقود) أيضاً لابتدائها بالأمر بالوفاء بالعقود.
[ وهو قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] ] أي: في التوراة [ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] ] فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]. وهذه لنا نحن، وأما عندهم فليس هناك تصدق [ فأصبح الحكم العادل النافذ ] الماضي [ هو أن يقتل القاتل سواء قتل رجلاً أو امرأة ] قتل [ حراً أو عبداً، إلا أن يعفو أهل القتيل عن القاتل فلا يطالبوا بقتله، إما لرضاهم بالدية، وإما لاختيارهم أجر الآخرة عن أجر الدنيا، فتركوا القصاص والدية معاً ] فهذا شأنهم فقد أذن الله لهم في ذلك.
قال: [ وهي في المسائل الآتية ].
وأزيدكم بياناً، يجلس الرجل في الحج على كرسي هنا أو في مكة فلا يأتيه الرجل ويقول: أنا شافعي، فهل يصح مني كذا وكذا؟ فيقول: أنت شافعي لا، ولا يأتيه آخر ويقول: أنا مالكي وقد رميت بعد كذا فما الحكم؟ فيقول كذا وكذا، ولا يأتيه حنبلي ويقول: أنا حنبلي وقد فعلت كذا وكذا، ويفتيهم كلهم حسب مذاهبهم، ويرضى بتمزيقهم وقسمتهم؛ إذ لم يؤذن له في هذا، فأنت إذا كان عندك قال الله وقال رسوله، وفهمت عن الله وعن الرسول فلا ترضى بتقسيم الأمة، فنحن لا نقبل كلمة أنا شافعي أو حنفي أو مالكي يفتيني، بل أنت مسلم فنعطيك حكم الله، فأسلم قلبك وارض به لله، وما زالت الغفوة كما هي، لكن هناك نور والحمد لله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر