ثم بين تبارك وتعالى أن نصرهم يوم بدر مع قلتهم كان بحوله تعالى وقوته، فقال عز وجل:
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17].
قوله: (( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ )) أي: بقوتكم. يعني: ما وقع من النصر يوم بدر مع قلتكم ليس بفعلكم أنتم.
وقوله: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ )) يعني: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنكم الفزع والجزع.
وقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ ))، يعني: أنت يا خاتم النبيين مَا رَمَيْتَ، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، (( إِذْ رَمَيْتَ )) بالحصباء؛ لأنك أتيت بالسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من الحصباء وألقاه وقال: (
شاهت الوجوه)، فابتداء الرمي هو من فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ بدليل أن الله نسب إليه الرمي فقال: (( إِذْ رَمَيْتَ ))، لكن هذه كانت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الإلقاء من كف واحدة ليس من شأنه في العادة أن يصل إلى عيون الكفار واحداً واحداً؛ فالله هو الذي أوصل هذه الحصباء إلى عين كل واحد منهم، فأشغله بنفسه.
فهذه معجزة كانت من فعل الله سبحانه وتعالى في الحقيقة، وإن كان تسبب بها ابتداءً النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ ))، يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، فالرمي المنفي غير الرمي المثبت، فالرمي المنفي هو نفي إيصاله إلى وجوه المشركين؛ لأن هذا النوع من الرمي الذي أدى إلى وصول الحصباء إلى عيون المشركين واحداً واحداً هو فعل الله تعالى، وهو المراد بقوله: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )).
وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو رمي مثبت ذو حدود، أما الرمي المنفي عن الرسول فإنه من فعل الله سبحانه وتعالى، فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ )) يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، ولذا قال سبحانه: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ))، يعني: بلغ في إيصال ذلك إليهم؛ ليقهرهم.
وقال
أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم، وقد روى غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: (
شاهت الوجوه)، ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، أي: أن يكونوا صادقين في الحملة على المشركين عقب هذه الرمية مباشرة، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، فانهزموا.
يقول
الجشمي : تدل الآية على أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، فما دام الذي أعان ومكن هو الله سبحانه وتعالى، فينسب الفعل إلى الله عز وجل؛ إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ))، ولذلك يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه، وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر صارت أقوى، فلذلك قال: (( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ))؛ لأن الله هو الذي أعانكم على قتلهم؛ سبحانه وتعالى.
وقال الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة. وهذا غلط من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع، ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال؛ لأنه لا يقال في لغة العرب: رمى، إلا إذا حصل أنه ضرب بالسهم، والسهم أصاب الهدف، ولا تطلق كلمة الرمي على الحذف الذي لا يترتب عليه الإصابة، يعني: قبل الإصابة لا يطلق عليه رمياً، إنما يطلق العرب الرمي على أن يوجه السهم أو الضربة وأن تصيب، فإن لم تصب فلا يطلق عليه رمي، ولذلك قال تعالى: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ))، فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ )) يعني: ما وصلت وبلغت، وقوله: (( إِذْ رَمَيْتَ )) أي: حذفت.
وقوله تعالى: (( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ )) أي: ليمنحهم من فضله (( بَلاءً حَسَنًا ))، أي: منحاً جميلاً بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه سبحانه وتعالى ويشكروه.
وقوله: (( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))، أي: سميع لدعائهم واستغاثتهم، عليم بمن يستحق النصر والغلب.
ثم قال عز وجل مخاطباً المشركين:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19].
قوله: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، هذا خطاب للمشركين، يعني: إن تطلبوا الفتح وأن يفصل يبنكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى
أحمد و
النسائي و
الحاكم وصححه عن
عبد الله بن ثعلبة : أن
أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. يعني: أهلكه الغداة، فكان هو المستفتح؛ ليستعجل فصل القضاء من الله سبحانه وتعالى.
وروي أيضاً في بعض الآثار: أنهم تعلقوا بأستار الكعبة، وأخذوا يدعون الله سبحانه وتعالى أن ينزل العذاب والهلكة، وأن يهزم أظلم الفريقين، وأقطعهم للرحم، وأفسدهم في الأرض، وأبعدهم عن الله سبحانه وتعالى.
فهم استفتحوا، بمعنى: أنهم سألوا الله سبحانه وتعالى أن يفتح بين الفريقين، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: أنتم جلبتم ذلك لأنفسكم، ألستم أنتم الذين استفتحتم؟ ألستم الذين قلتم: اللهم أهلك أظلمنا وأقطعنا للرحم، وأبعدنا منك؟ فلذلك جاءت الآية: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، أي: أنتم الذين استفتحتم وطلبتم أن يقضي الله سبحانه وتعالى بينكم.
وعن
السدي : أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال تعالى: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )).
وعن
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا؛ لأنهم أيضاً استفتحوا في الآية الأخرى، كما قال تعالى:
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32].
وقيل: إن في هذا الخطاب تهكماً بهم. أي: أنتم الذين استفتحتم، ودعوتموني أن أنصر أعز الفريقين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين!
فتهكم الله سبحانه وتعالى بهم بقوله: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))؛ لأن الذي جاءهم هو الهلاك والذلة، وهذا كما في كلمة (بشر) في قوله تعالى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3]، فإن الكافر عندما يسمع كلمة (بشر) ينشرح، فإذا صدم بكلمة (عذاب أليم) يعرف أن المقصود بها التهكم، فكذلك قوله تعالى هنا: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) المقصود بها التهكم؛ لأن الذي جاءهم كان الذلة والهلاك والصغار.
والقول بأن المقصود من قوله تعالى: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) التهكم يصح إذا قلنا بأن الفتح بمعنى النصر.
لكن له معنىً آخر فسرت به الآية أيضاً، وهو: أن الفتح هو الحكم والفصل بين الخصمين والقضاء بينهما، فقوله: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ))، أي: أنتم طلبتم القضاء والحكم، (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) أي: حكمي وقضائي.
وقوله: (( وَإِنْ تَنتَهُوا ))، يعني: إن تنتهوا وتتوبوا عن الكفر وعن عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )) في الدنيا وفي الآخرة.
(( وَإِنْ تَعُودُوا )) لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نَعُدْ )) لنصره عليكم.
(( وَلَنْ تُغْنِيَ ))، أي: لن تدفع (( عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ )) بالنصر، وقرئ: (وإن الله مع المؤمنين) استئنافاً.
وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا )) للمؤمنين، أي: إن تطلبوا الفتح، (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، فيكون هذا بشارة للمؤمنين بالنصر، والمعنى: إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم فقد حصل لكم ذلكم، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته.
وقوله: (( وَإِنْ تَنتَهُوا )) يعني: عن المنازعة في أمر الأنفال -على أن الخطاب للمؤمنين- وعن طلب الفداء عن الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى:
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68].
فقوله تعالى: (( وَإِنْ تَنتَهُوا ))، أي: عن مثله، (( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا ))، أي: إلى تلك المنازعات (( نعد )) عليكم بالإنكار، وتأييد العدو؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم، وهذا الوجه قرره
الرازي ، ونقله عنه
البيضاوي .
قال
البيضاوي : ويؤكده الآية بعد؛ فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن الإعراض عنه. يعني: أن
البيضاوي يرجح هذا التفسير الأخير، وهو أن الخطاب للمؤمنين. (( وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي: الكاملي الإيمان الذين لا يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنازعات.
ثم قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
قوله: (( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ))، أي: لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره، (( وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ))، أي: تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته.
والواقع الذي يعيشه الآن المسلمون بعدما وضعت راية الجهاد واقع مؤلم؛ ذاقوا فيه الذل والصغار على يد أحقر خلق الله سبحانه وتعالى، فلماذا يخاف أعداء هذه الأمة من يقظة روح الجهاد في المسلمين؟
وأتذكر واقعة حصلت في بداية حرب أفغانستان، وطبعاً الأوضاع كانت مختلفة تماماً عما نحن عليه الآن، فالسعودية كانت متحمسة جداً، كما كان الحال هنا أيضاً في مصر لجهاد الأفغان ضد الروس، ثم عقد مؤتمر لمناصرة أفغانستان في السعودية، وكان الملك
فهد ولي العهد في أيام الملك
خالد رحمه الله، فالمهم أن
فهداً ارتفعت حرارته قليلاً، فتحمس في المؤتمر، وأعلن الجهاد، فقامت الدنيا كلها ولم تقعد، وحصلت ضغوط شديدة بصورة لم تكن متوقعة، ونحن نعرف عندنا أن هؤلاء عندما يعلنون الجهاد في مثل هذه المؤتمرات لن يكون هناك أي شيء، ومع ذلك ارتعدت جميع الدول الكافرة، فاضطر إلى أن يصدر تصريحاً آخر بعد ذلك، ويعلن أنه إنما كان يقصد جهاد النفس، وهذا يدل على الضعف والخور الذي نحن فيه، وأننا لا نستطيع حتى أن نقول: جهاد، وأصبح الحال كما يقول الشاعر:
زعم
الفرزدق أن سيقتل
مربعاً أبشر بطول سلامة يا
مربع !
هذا هو حال جهادنا الآن، ومع ذلك ما تحملوا حتى مجرد هذه الإشارة الخفيفة؛ لأنهم فقهوا مكامن القوة في الإسلام أكثر مما يفقهها كثير منا، وعرفوا أن هذا فقط هو الذي يعيد للمسلمين عزهم، أما إذا تركوا الجهاد فلابد أن يلزمهم الذل والصغار، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فصحح كلامه تحت الضغط مع أنه كلام في الهواء.
ونقول: فلماذا تعلن عن الجهاد؟! فإن جهاد النفس معلن منذ زمان عند الصوفية وعند غيرهم، والله المستعان!
فالشاهد: أننا ونحن نتعامل مباشرة مع الوحي الإلهي نحس بهذه الروح، وفعلاً حُقَّ لأعداء الإسلام أن يخافوا من القرآن، وحُقَّ لهم أن يخافوا من بعث روح الجهاد في المسلمين، ومهما راحوا أو جاءوا فلن يرفع شأن المسلمين إلا الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، لا في سبيل أرض، ولا وطن، ولا مبادئ مفسدة، كما بين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القتال سيعود مع اليهود في آخر الزمان، وأن الحجر سينطق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (
لتقاتلن اليهود، حتى إن اليهودي يختبئ وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود).
فلا يصفه ولا يقول له إلا: يا مسلم! يا عبد الله! قال عز وجل:
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، وبخلاف هذا لن نذوق إلا الذل والصغار والهوان أكثر مما نحن عليه الآن، والله المستعان.
ثم قال تبارك وتعالى:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21].
قوله: (( كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا )) يعني: كالذين ادعوا السماع.
وقوله: (( وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ))، يعني سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون، فالمنفي هنا سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، وإلا فإن السماع الذي هو سماع الحاسة موجود حتى عند البهائم، فلو أن واحداً أتى بالمعلقات السبع ووقف أمام بقرة أو حمار أو عنزة وظل يقرأ أمامها المعلقات السبع، فإنها ستسمع الحروف، لكن لا تفقه المعاني، وهذا هو السماع المنفي عن هؤلاء الكفار؛ حيث نفى الله عنهم السمع والبصر والعقل.
والمقصود أن عندهم عقولاً لكنهم لم ينتفعوا بها في الهداية والتدبر والاتعاظ، وكما قال عز وجل:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، فالحمار إذا ظللت تناديه أو تتلو أمامه قصيدة أو خطبة وتكلمه، فهو يسمع الحروف سماع دعاء ونداء، فيقول له صاحبه ألفاظاً معينة ويحفظها، فينفذ الأوامر، لكنه إذا كلمه وخاطبه لا يعقل، فهذا هو حال الكفار بالضبط، بل هم أضل من البهائم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ، أثبت للمؤمنين فيها سماع القرآن، وهو التدبر والفهم، ثم أردف ذلك بقوله: (( وَلا تَكُونُوا ))، أي: إياكم أن تكونوا (( كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا ))، أي: ادعوا أنهم يسمعون، لكن في الحقيقة (( وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ))، أي: سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون.
فالمنفي سماع خاص، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً، وذلك بجعل سماعهم بمنزلة العدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاك السمع والبصر والعقل لأجل أن تستعمل هذه الآلات في توحيده وفي فهم آياته، وهذه هي الغاية من خلق هذه الحواس، فإذا عطلتها عن وظيفتها فلم تستعملها فيما خلقت له، فكأنك لم ترزق، وأنت بهذا ما انتفعت الانتفاع المطلوب بهذه الحواس.
قال
الزمخشري : (( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ )) والمعنى: أيها المؤمنون! إنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. هذا قول آخر
للزمخشري .
ثم ذكر تبارك وتعالى آية من الآيات التي من المفروض أن كل واحد منا لا أقول: يعلقها على كل متر من بيته، لكن يثبتها في قلبه، ويجعلها دائماً نصب عينيه، خاصة في هذا الزمان، وهي قوله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ )) الاستجابة هنا بمعنى الإجابة. أي: أجيبوا الله والرسول، وكلمة: (( إِذَا دَعَاكُمْ )) تحتم أن يكون (استجيبوا) بمعنى: أجيبوا؛ لأن من دعاك فأجبه، كما تقول: من دعاك استجب له، وعلى هذا يكون معنى قوله: (استجيبوا) يعني: أجيبوا؛ لأنها تقابل الدعاء، قال الشاعر:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقوله: (فلم يستجبه) يعني: لم يجبه، فمعنى الاستجابة الإجابة، والمراد بها الطاعة والامتثال، وإنما وحد الضمير في قوله تبارك وتعالى: (( إِذَا دَعَاكُمْ ))، ولم يقل: إذا دعياكم أو دعواكم -أي: الله والرسول- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المباشر للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولأن استجابته صلى الله عليه وسلم كاستجابته تعالى، كما قال تعالى:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، كقول تعالى:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59].
معنى استجابة المؤمنين لما يحييهم
وقوله: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) قال
عروة بن الزبير فيما رواه
ابن إسحاق : أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل. أي: وقواكم به بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وإنما سمي الجهاد حياة لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة، ولأن الجهاد يضعف العدو، فإذا ضعف العدو فهذا يعطي المسلمين الحياة والقوة، أو لأنه سبب لحصول الشهادة التي توجب لهم الحياة الدائمة، كما قال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ [آل عمران:169].
فقوله: (( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )) على هذا التفسير أي: إلى الجهاد الذي يترتب عليه أن تنالوا الحياة الدائمة في جنات الفردوس.
أو أن قوله: (( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: إلى الجهاد الذي هو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة، كما قال تعالى:
وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، يعني: لهي الحياة الدائمة، فيكون مجازاً مرسلاً بإطلاق السبب على المسبب.
وقيل: إن قوله: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: لما يحييكم من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب كما أن الجهل موته.
إذاً: في قوله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )) أقوال:
القول الأول هو: الطاعة والامتثال.
القول الثاني: هو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لأن في وهن عدوكم بسبب الجهاد حياة لكم وقوة، أو لأنه يكون سبب الحياة الدائمة بعد الشهادة، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة.
القول الثالث: العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب، كما أن الجهل موته.
قال
الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم والموت على الجهل استعارة معروفة ذكرها الأدباء وأهل المعاني، وأنشد
الزمخشري لبعضهم:
لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن
يعني: أن الزينة هي زينة العلم، ولذا لم يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يسأله الاستزادة إلا من العلم فقال:
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، يعني: وحياً، فالجهل يعبر عنه بالموت.
وقول الشاعر: (لا تعجبن الجهول حلته)، يعني: أن الجاهل الذي يلبس حلة نفيسة وجميلة لا تغني عنه شيئاً، وإنما هذه الحلة بالنسبة له مثل الكفن على جسد الميت، وهل يغني الكفن الحسن عن الميت شيئاً؟! فكذلك الجهل.
فهذا كله مما يرشح هذا القول بأن قوله: (( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: العلم الذي يحييكم، والذي بدونه تكونون موتى، وقد جاء هذا في قول
أبي الطيب من قصيدته التي أولها:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
ومنها:
لا تعجبن مضيماً حسن بزته وهل تروق دفيناً جودة الكفن
أي: هل الميت المدفون ينبسط؛ لأن الكفن الذي عليه جيد وحسن؟!
والأظهر أن معنى قوله تعالى: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )): ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة، أي: أنه عام؛ لأن الصيغة هنا تعم جميع أعمال البر والطاعة، فيدخل فيه ما تقدم وغيره، فالجهاد منها، والشهادة في سبيل الله منها، والعلم الشرعي منها، والطاعة منها، والصلاة منها، والزكاة منها... وهكذا.
وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة، فقد روى
البخاري عن
أبي سعيد بن المعلا رضي الله عنه قال: (
كنت أصلي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟! ألم يقل الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ))).
معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه
وقوله تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )) يحتمل وجوهاً من المعاني:
الوجه الأول: أنه تعالى يملك على المرء قلبه، يعني: اعلموا وتذكروا أن قلوبكم ليست ملكاً لكم، ولستم أنتم الذين تصرفونها وتوجهونها، وإنما مالك القلب هو الله سبحانه وتعالى وحده يصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر إذا شاء له الهداية، ويحول بينه وبين الإيمان إذا أراد ضلالته.
وهذا المعنى رواه
الحاكم في مستدركه عن
ابن عباس وصححه، وقاله غير واحد من السلف، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: (
يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقيل: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها)، رواه الإمام
أحمد و
الترمذي عن
أنس ، وفي لفظ
مسلم : (
إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد؛ يصرفها كيف شاء)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)، وفي رواية: (
إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه).
إذاً: المقصود من قوله تبارك وتعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )) أن الله سبحانه وتعالى يملك القلب، ويتمكن منه، ويصرفه كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبه، فصاحب القلب نفسه الذي قلبه في بدنه لا يملك أن يوجه قلبه، لولا أن يتولى الله سبحانه وتعالى توجيهه.
فقوله تبارك وتعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )) يعني: إذا علمتم ذلك فخافوا على أنفسكم، واستعينوا بالله سبحانه وتعالى على أن يثبت قلوبكم على الإيمان؛ لأنه يحول بين المرء وقلبه.
وتخيل أنت الفرق الذي يكون بين الإنسان وقلبه الذي هو فيه، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وتمام ربوبيته وتصريفه لأحوال الخلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
إنما سمي القلب قلباً لتقلبه)، وقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (
مثل القلب كمثل القدر إذا استجمعت غلياناً -أو- للقلب أشد اضطراباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً)، فالقدر بعد الغليان تتحرك فيه كل أجزاء السائل الذي يغلي، فكذلك القلب لا يعرف الثبات إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (
ومثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تحركها الرياح)، فكلمة القلب مأخوذة من التقلب، فالقلب لو رفعت عنه عناية الله لا يثبت، بل يتقلب، إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني في تفسير قوله عز وجل: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )): أنه حث على المبادرة إلى الطاعة قبل حلول المنية، أي: بادروا إلى التوبة وإلى الطاعة قبل أن يأتيكم الموت، فمعنى يحول بينه وبين قلبه: يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، فالآن لم يحل الله بينك وبين قلبك؛ لأنك ما زلت حياً، والقلب يدق وينبض بالحياة، فإذا تبت قبلت توبتك، فبادر الآن لإصلاح حالك مع الله سبحانه وتعالى قبل أن يحول بينك وبين قلبك؛ لأن أصل التوبة وأساس التوبة هو القلب، ويحال بينك وبين قلبك بالموت.
فهذا معنى قوله عز وجل: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ))، يعني: بحلول الموت، فلا تملك التوبة إذا حل الموت، فاستدرك واغتنم الفرصة الآن وقد وجدتها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، فأي إنسان إذا أصيب بمرض في عضلة القلب يفزع فزعاً شديداً، وهل يكون انفعال الإنسان بالمرض الذي في قلبه -العضلة نفسها- مثل أي ألم في أصابعه أو جلده أو في أي جهاز آخر؟ فأفزع ما يكون الإنسان إذا علم أن في قلبه مرضاً، فإنه يفزع ويخاف من الموت، ويهرول إلى الأطباء يلتمس عندهم الشفاء، فأولى ثم أولى أن الإنسان إذا أحس أن في قلبه مرضاً أن يهرول إلى علاجه قبل أن يحول الله بينه وبين هذا القلب بموته.
وكما أن البدن له أدوية يتعاطاها الإنسان فيشفى بإذن الله، فكذلك القلب أمراضه لها دواء، وعلى الإنسان أن يسارع بالتفتيش عن هذه العلاجات؛ ليطهر قلبه، ويرده إلى الصحة والعافية من جديد قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت، فلا يستطيع إصلاحه بعد الموت؛ فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلفوها لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه.
الوجه الثالث: أن المقصود التعبير بها عن غاية القرب من العبد، فقوله: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )) يعني: أن الله قريب منك جداً؛ لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما.
وانفصال أحدهما عن الآخر معناه: كأن القلب في جهة والإنسان نفسه في جهة، والله سبحانه وتعالى يحول بين الاثنين، فمن الأقرب إلى الإنسان؟ ومن أقرب إلى قلبه؟ هل القلب أقرب إلى المرء، أم أن الله أقرب إلى الإنسان من قلبه وأقرب إلى القلب من الإنسان؟ فهذا المعنى يفيده قوله تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ )) فيحول معناها: يقرب، وهذا المعنى نقل عن
قتادة ؛ حيث قال: إن قوله تعالى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] فيه تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنها صاحبها.
وقوله: (( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )) أي: فيجزيكم بأعمالكم.
تفسير ابن القيم لقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)
وهنا كلام طيب جداً للإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد نختم به الكلام على هذه الآية، يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى:
قول الله تعالى ذكره:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، تضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
يعني: لا يحصل الإنسان الحياة النافعة إلا إذا استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وكل من لم يستجب لله ورسوله فهو كالميت، وإن كانت له حياة بهيمية، فمثله مثل الطيور والأسماك والضفادع والبرمائيات والزواحف.. وهكذا، كل هذه الأعضاء في المملكة الحيوانية هو مثلها، يشترك معها في الحياة البهيمية الحيوانية.
فقد تكون للإنسان حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، لكن ليس له هذه الحياة الحقيقية التي هي حياة روحية، ولا تحصل إلا بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، حتى بعد أن يموتوا فهم أحياء، وأقرب مثال: هذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب
ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الذي يخاطبنا الآن، فهو في الحقيقة حي، يعني: أن الحياة الحيوانية ذهبت بخروج روحه، لكنه حي معنا إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وكم ممن يعيش بيننا هو والميت سواء؟! فرغم أن الحياة البهيمية موجودة، لكن لا خير فيه، وإذا مات تستريح منه البلاد والعباد.
فمن الحياة الحقيقية أن نتذكر هؤلاء الصالحين، في عبادتهم، وفي علمهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي تضحيتهم في سبيل الدين، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ، كما يقولون.
وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما زادت استجابة الإنسان للشرع المطهر وطاعة الله ورسوله قويت فيه هذه الحياة، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، بقدر ما يفوته من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال
مجاهد : (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: للحق، وقال
قتادة : هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاح والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال
السدي : (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر.
قال
ابن إسحاق و
عروة بن الزبير واللفظ له: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم، وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال
الواحدي : والأكثرون على أن معنى قوله: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )): هو الجهاد، وهو قول
ابن إسحاق ، واختيار أكثر أهل المعاني.
قال
الفراء : (( إِذَا دَعَاكُمْ )) إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
قلت -
ابن القيم -: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة.
يعني أن الجهاد من أعظم ما يحييهم الله سبحانه وتعالى به، فالجهاد يحيي المؤمنين في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة:
أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد؛ لأن العدو إذا لم يقهروه سوف يقتلهم ويبيد حياتهم، فإذا قهروا عدوهم استبقوا حياتهم.
وأما في البرزخ فقد قال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، ولهذا قال
ابن قتيبة : (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: الشهادة، وقال بعض المفسرين: (( لِمَا يُحْيِيكُمْ )) يعني: الجنة، فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة، حكاه
أبو علي الجرجاني.
والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة.
حياة البدن بالعافية وحياة القلب بالإيمان
قال: والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك، فليست حياة الذي يحيا حياة ضنكٍ مثل حياة المعافى من هذا الضنك.
ثم قال: وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل، فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم.
يعني: كما أن البدن إذا كانت الشبكة العصبية فيه سليمة فإنه إذا أحس بوخزة دبوس أو بنار تلسع يتألم؛ لأن الشبكة العصبية سليمة، لكن لو أن الشبكة فيها قطع، أو فيها فساد، فممكن أن لا يتألم الإنسان، وقد تدخل فيه الشوكة أو المسمار ولا يحس بذلك؛ لضعف الحياة فيه.
فالبدن كلما كان أتم حياة كان إحساسه بالشيء المؤلم والضار أكثر من غيره، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم، وكذلك القلب إذا بطلت حياته بطل تمييزه، كما قال عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فطاعة الله وطاعة الرسول عليه والسلام لها ثمرة، وهي أن يلقي الله في قلبه نوراً يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، ولا يقع في الشبه والضلالات والوساوس.
فكلما زادت حياة الروح بالقرآن وبالعلم النافع ازداد اتضاح الأمور أمامه، فيرى الأبيض أبيض والأسود أسود، والتميز بين الحق والباطل يكون حداً فاصلاً بدون اختلاط، فإذا بطلت حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار.
يعني: إما أن يفقد حياة القلب تماماً فبالتالي لا يميز، كحال الكفار، فالكافر لا يمكن أن يرى الحق، وإما أن يكون عنده تمييز، لكن ليس عنده همة بأن يؤثر النافع على الضار وقد علم النافع من الضار، كما أن الإنسان لا حياة له، حتى ينفخ فيه الملك -الذي هو رسول الله- من روحه.
وهنا في الحقيقة تعبير من أروع تعبيرات الإمام الجليل
ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وخلاصة الكلام أن الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى يلخص هذا الكلام الذي ذكرناه كله في أن الإنسان إذا أراد أن تتم حياته واستنارته فلابد أن يتوقف هذا على نفختين: نفخة من الرسول الملكي، ونفخة من الرسول البشري عليه الصلاة والسلام. ويقصد بالنفخة من الرسول الملكي: نفخة الملك عندما يأتي الجنين في بطن أمه وينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات، كما هو معلوم، فهذه النفخة تحدث للإنسان حياة البدن الدنيوية، وهذه الحياة هي الحياة البهيمية؛ لأنها مشتركة بين الكائنات كلها، وبين المؤمن وبين الكافر.
وحتى تتم له حياة القلب لابد من نفخة من الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤمن به، ويتبع هديه صلى الله عليه وسلم، فتتم له الحياتان هنا.
النفخة الملكية والنفخة النبوية لحياة الإنسان
معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه عند ابن القيم
وقوله تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ))، المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته.
وهذا قول
ابن عباس وجمهور المفسرين.
وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه وتعالى قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية، فهو بينه وبين قلبه. ذكره
الواحدي عن
قتادة ، وكأن هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه وتعالى بين العبد وقلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعلى القول الأول فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم.
فإذاً هنا تهديد: لا تأمنوا، وإياكم أن يعاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة.
فإذا لم تبادروا فلا تأمنوا أن يعاقبكم الله بالحيلولة بينكم وبين الاستجابة، وبين الحق واستبانته، فيكون هذا كقوله تعالى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، لأنهم لم يبادروا، وقوله تعالى:
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقوله:
فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:101]، ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب.
كما أن الاستجابة لا تقتصر على الاستجابة بالجوارح، لكن تكون أيضاً بالقلب.
فالله سبحانه وتعالى يحول بينكم وبين قلوبكم، ويطلع على قلوبكم، وهو أقرب منكم إلى قلوبكم.
وفي الآية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به -وهو الاستجابة- وبين القدر والإيمان به، فجمعه بين الشرع والقدر في قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ))، فهنا أمر شرعي طلبي، ثم قال: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ))، فيكون كمثل قوله تعالى:
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، هذا شرع، ثم قال:
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وكقوله تعالى:
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:55-56].