إسلام ويب

تفسير سورة محمد [7-14]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم...)

    ثم يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] قال قتادة في قوله تعالى: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ )): لأنه حق على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره. وقوله: (( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) قال ابن جرير : ويقوكم عليهم ويجرئكم حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقل عددكم، وقال القرطبي : قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار، نظيره: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، وقال قطرب : إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد. قوله: (( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) أي: عند القتال، وقيل: يثبت أقدامكم على الإسلام، وقيل: على الصراط، وهذه كلها ليس بينها تعارض، فهي من اختلاف التنوع، وليست من اختلاف التضاد. وقيل: المراد تثبيت القلوب للأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب، قال تعالى في الأنفال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، فأثبت في الأنفال واسطة أن التثبيت يكون عن طريق الملائكة: (( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ))، أما هنا في هذه الآية فلم يذكر هذه الواسطة، بل قال: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ))، فنصر الله إما بإلقاء الأمنُ والسكينة في القلوب، وإما بالملائكة، وإما بغير ذلك من الأسباب. وهذا يكون كقوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وهو القائل عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الروم:40]، فهو يميتكم بواسطة الملك، وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2]، ومثل هذا كثير، فلا فاعل في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى وحده. واستدل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة بالعبارة المشهورة: (الجزاء من جنس العمل) ولهذا قال: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ))، كما جاء في الحديث: (من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ، وقد دلت كثير من الآيات القرآنية على نفس هذه المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة القتال، وذلك كقوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقوله تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، وقال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]. إذاً: فهنا ضمان بالنصر والتثبيت، وهذا الضمان مشروط بشروط وهي: أن ينصر العبد الله سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فمن أعزّ أمر الله أعزّه الله، ومن نصر دين الله نصره الله، كما في هذه الآية: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) وأما ما هو شائع على ألسنة كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم يبارزون الله سبحانه وتعالى بالمعاصي والمخالفات وأن الله سوف ينصرهم، فهؤلاء لا ينصرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ )) وقال: (( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))، وقال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] أي: المتصفين بالإيمان، وقال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، إذاً: فالذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ليسوا داخلين في وعد الله بالنصر ألبتة، بل مثلهم كمثل الأجير الذي استأجره مستأجر، فلم يعمل لمستأجره شيئاً، ثم جاء بعد ذلك يطلب منه الأجرة وهو لم يعمل شيئاً، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فمن يتمادى في المعاصي والمخالفات ثم يقول: إن الله معنا، وإن الله سينصرنا، فهذا غرور منه، فهو ليس من حزب الله الموعودين بنصر الله عز وجل؛ لأنه لم ينصر الله، ولم ينصر دينه وكتابه، ولم يكن جهاده لإعلاء كلمته، وإقامة حدوده وفرائضه عز وجل. وقد رأينا عواقب ذلك، فرأينا أصنافاً كثيرين مغترين في هذا الزمان، وما أكثر ما يستدلون بهذه الآية: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) رأيناهم في النكبة، وذلك حينما كان المذيع يقول: أم كلثوم معك في المعركة، وشادية معك في المعركة، وعبد الحليم حافظ معك في المعركة، فكيف يكون الله معنا وهؤلاء أيضاً معنا؟ وكيف نكون من حزب الله ونحن نطلب النصرة من هؤلاء الأقوام، ومن حزب الشيطان؟! وهذه الآية أيضاً مما يصدق أن يستدل بها في مواجهة كثير من الناس الذين يكثرون الشر، وحينما تدعوهم إلى بعض التكاليف الشرعية سواء كانت ظاهرة أو باطنة، وسواء كانت في الفرائض أو غيرها، كاللحية مثلاً، أو الكلام في أي قضية من القضايا التي لا تروق لبعض الناس، فإنهم يقولون لك: المسلمون يذبّحون وأنت في وادٍ آخر، والكنيسة الشرقية تتحد مع الغربية، واليهود يفعلون، والنصارى يفعلون، وأنت تقول للناس: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، وتتكلم في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات!! ينبغي أن نشتغل بالأمور المهمة، فالمسلمون يذبحون ويضطهدون، فنقول: هم يتخيلون أن العلاقة بين هذا وذاك علاقة تضاد، وكأنه لا يستطيع المسلم أن يؤدي هذه الأمور كلها، سواء كانت فرعية أو أصلية، فالمسلم يستطيع أن يقوم بهذه الأمور التي ذكرنا، وفي نفس الوقت يكون مجاهداً في سبيل الله إذا أتيح له الجهاد. وأما هؤلاء فيظنون أن العلاقة علاقة تضاد، وأن المسلم لا يستطيع أن يجاهد وهو عافٍ للحيته مثلاً!! فليس هناك علاقة تضاد، ويمكن للإنسان المسلم أن يعمل أكثر من عمل في وقت واحد، فأنا مثلاً الآن جالس، وفي نفس الوقت متكلم، وناظر، وسامع، فهذه كلها توفرت في شخص واحد، وفي وقت واحد، بخلاف الأمور المتضادة كاجتماع النقيضين، فإنهما لا يجتمعان في مكان واحد، وفي آنٍ واحد، كالعمى والبصر، فهذه علاقة تضاد، وكالأبوة والبنوة في شخص واحد من جهة واحدة، فهذا لا يكون أبداً، وأما الصفات غير المتضادة، والصفات المتباينة فيمكن أن تجتمع في وقت واحد، وفي مكان واحد، كالسواد والحلاوة، فإنهما يجتمعان في العسل والتمر مثلاً، أو البياض والبرودة، فيجتمعان في الثلج، فكذلك نفس الشيء هنا، الإنسان يستطيع أن يعفي لحيته مثلاً ويجاهد في سبيل الله، فليس بينهما تضاد بل العكس، فالعلاقة بينهما في الحقيقة بمقتضى هذه الآية تكون علاقة تلازم؛ لأن الله يقول: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ))، فنصرة الله تكون بإقامة شرعه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، وكثير من هؤلاء الناس لا يستعملون هذا النوع من الجدل إلا في مصادمة السنة، ومن يدعوهم إلى الالتزام بالسنة، في حين أنهم هم أنفسهم في حياتهم العادية يمارسون أشياء منكرة، فبعضهم مثلاً يلبس (الكرفتة) ويكوي ملابسه، ويشتري فواكه، ويعمل رحلات ترفيهية، ثم لا يقبل من أحد أن يقول له: المسلمون يذبحون وأنت تأكل الفاكهة! والمسلمون يضطهدون في أقصى الغرب وأنت تكوي ملابسك وتهتم بكذا وكذا! فهو لا يقبل ذلك ممن يعترض عليه، فأولى ثم أولى حينما نأمرهم بأمر الله، أو أمر رسول الله عليه السلام ألّا يحق لهم الاعتراض بقولهم: المسلمون يذبحون، وكما قال أحد إخواننا في اليمن رداً على هؤلاء القوم حينما اشتغلوا بهذا الفهم، فقال أحدهم: يا جماعة! أنتم غاضبون على الناس عندما تركوا الحجاب، وحلقوا اللحى، والمسلمون في أفغانستان يحاربون من قبل الشيوعيين! وأنتم لا تتكلمون إلا في هذا، فقال له أحد الإخوة من أهل اليمن: هب أننا حلقنا لحانا، وخلعت نساؤنا الحجاب، فماذا يفيد إخواننا الأفغان ذلك؟ وماذا تستفيدون من ذلك؟ فالشاهد: أنه ليس هناك علاقة تضادّ بين التمسك بكل أمور الدين -سواء فرعية أو أصلية- وبين جهاد الأعداء، بل هناك علاقة تلازم، وإثباتها من باب إثبات اللازم للملزوم، فإن نصر الله إنما يتنزل على من ينصر الله، قال تعالى: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ))، ثم ليس هناك قاعدة تضبط مثل هذا التفكير، فما يعظمه بعضهم قد يحتقره الآخر، وما يحتقره بعضهم قد يعظمه الآخر، وبالتالي تصبح الشريعة ألعوبة في أيدي الناس، فهذا يحذف منها ما شاء بدعوى عدم التمسك بهذه القشور وهذه المظاهر.. إلى آخره، وفي ترك ذلك تضييع لكثير من شعب الدين والإيمان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)

    قال الله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:8]، قوله: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )) يجوز أن يرفع على الابتداء، (( وَالَّذِينَ )) اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ، ويجوز فيه النصب، ويفسره قوله: (( فَتَعْسًا لَهُمْ )) أي: وكأنه قال: أتعس الله الذين كفروا فتسعاً لهم، وأما قوله: (( فَتَعْسًا لَهُمْ )) فإنه منصوب على المصدر على سبيل الدعاء عليهم، وهو مثل قولك: سقياً لك ورعياً، وهناك عبارة في العربية وهي: (لعاً له) أو (لعاً لك)، وهي كلمة تقال لشخص وقع في حفرة مثلاً وهو آتٍ في الطريق، فأنت تقول له: (لعاً لك) يعني: نجاك الله من هذه الحفرة ورفعك منها، فإذاً (لعاً له) كلمة يدعى بها للعاثر، ومعنى: (لعاً له) ارتفاع له، أي: أن يرتفع من هذه العثرة، قال الأعشى : بذات لوث عصرنا إذ عثرت فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وفي قوله تبارك وتعالى: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ )) عشرة أقوال: بعداً لهم، حزناً لهم، شقاءً لهم، شتماً لهم من الله، هلاكاً لهم، خيبةً لهم، قبحاً لهم، رغماً لهم، شراً لهم، شقوة لهم، وقيل: إن التعس: الانحطاط والعسار، وقال ابن السكيت : التعس: أن يخر على وجهه، والنكس: أن يخر على رأسه، قال الجوهري : وأصله الكبت، وهو ضد االانتعاش، ويقال: تعس يتعس تعساً. قال مجمع بن هلال : تقول وقد أفردتها من خليلها تعستَ كما أتعستني يا مجمع فيبدو أنه قتل زوجها أو خليلها، فهي تدعو عليه وتقول: تقول وقد أفردتها من خليلها تعست كما أتعستني يا مجمع وجوز قوم تعِس بكسر العين، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط)، رواه البخاري . وفي بعض طرق هذا الحديث: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) رواه ابن ماجة . وخبر الموصول محذوف في قوله: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ))، فإذا قلنا: إن الموصول (الذين) مبتدأ فالخبر في هذه الحالة محذوف وتقديره: والذين كفروا فتعسوا تعساً لهم، ودخلت الفاء في قوله: (( فَتَعْسًا لَهُمْ )) تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، واللام في (( لَهُمْ )) للبيان، كما في قوله تعالى: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] (( وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )). قوله: معطوف على ما قبله، وداخل معه في خبرية الموصول.

    1.   

    تفسر قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)

    ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى سبب إتعاسهم وإذلالهم، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9] أي: ذلك الإضلال والإتعاس لأنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأحبط أعمالهم، أي: الأعمال التي عملوها في الدنيا من صور الخيرات التي تدخل تحت العمل الحسن، كعمارة المسجد، وقرى الضيف، وأصناف القرب الأخرى، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن، وذلك بشرطين: الأول: الإخلاص، وذلك أن يراد بالعمل وجه الله، (إنما الأعمال بالنيات). الثاني: الاقتداء، متابعة النبي عليه السلام، بدليل قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). فالإخلاص والاتباع شرطان في العمل الصالح إذا صدر من المؤمن، وإذا صدر من غير المؤمن فلابد من شرط آخر مهم جداً وهو: الإيمان بالله تعالى ودينه، ثم بعد ذلك يكون الاتّباع والإخلاص لله عز وجل. وقيل: (( أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ )) أي: عبادة الصنم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ...)

    قال الله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: عاقبة من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلها، الرادة لنصائحهم (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أي: ما اختصوا به وكان لهم. يقال: دمره، بمعنى: أهلكه، ودمر عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والثاني أبلغ، أي: أن قوله: (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أبلغ من عبارة: دمرهم؛ لأن قوله: (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) تعم في هذه الحالة إهلاك أنفسهم، وإهلاك ما يختص بهم كالأموال وغيره، فإذا قلت: دمرهم الله، ففيه ذكر المفعول به وهو الضمير: (هم)، من دمرهم الله، وأما قوله: (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) فإنه لم يصرح بالمفعول؛ لأن الله دمرهم ودمر كل ما يختص بهم، فكأنهم قد صاروا نفياً منفياً عدماً، ولذلك لم يذكر المفعول إيماءً إلى أن التدمير يعمهم ويعم ما يختص به. وأتى بكلمة بعلى في قوله: (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) لأن كلمة (( دَمَّرَ )) ضُمِّنت معنى: أطبق عليهم، وكلمة (( أطبق )) تتعدى بعلى، فمعنى: (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أي: أطبق عليهم، ومعنى ذلك: أنه أوقعه عليهم محيطاً بهم من كل الجهات، أو (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أي: هجم الهلاك عليهم، وأتاهم بغتة. قوله: (( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )): المقصود بالكافرين هنا: المكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، (( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )) أي: أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، فهذه الآية مما يستدل به على حجية دليل من الأدلة الشرعية وهو القياس، فالله سبحانه وتعالى هنا رغبهم إلى أن يقيسوا أحوالهم على أحوال الأمم المكذبة، فإذا كان حالهم كحالهم في تكذيب الرسل فليقيسوا عاقبتهم على عاقبة الأمم السالفة. وهذه الآية الكريمة إنما ذكرها الله سبحانه وتعالى بعدما بيّن أحوال المؤمن والكافر تنبيهاً على وجوب الإيمان في الآيات السابقة، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ فهذا حال المؤمنين، ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ثم وصل هذا بالأمر بالتفكر والاعتبار والتدبر والسياحة في الأرض؛ ليروا آثار القوم المهلَكين، فقال: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ )) أي: ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم، (( فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: فينظروا بقلوبهم، (( كَيْفَ كَانَ )) آخر أمر الكافرين قبلهم، (( دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أي: أهلكهم واستأصلهم، ثم توعد المشركين، فقال: (( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )) أي: أمثال هذه الفعلة، يعني: التدمير. وقال الزجاج والطبري : أن الهاء في قوله: (( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )) تعود إلى العاقبة في قوله: (( كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ))، أي: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.

    1.   

    تفسير قوله: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)

    قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] وفي حرف ابن مسعود : (ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا). قوله: (( ذَلِكَ )) أي: ما مضى مما فعله الله عز وجل بفريق المؤمنين، وما فعله بفريق الكافرين، أو (( ذلك )) إشارة إلى ما ذكره من أن للكافرين أمثالها. قوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّ )) فالباء هنا سببيه، (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا )) أي: وليهم وناصرهم، قاله ابن عباس وغيره. قوله: (( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )) مثل قوله تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، ولذلك نادى أبو سفيان صخر بن حرب حين كان رئيس المشركين يوم أحد -قبل أن يسلم في فتح مكة- بعدما لاحت لهم بشائر الغلبة على المسلمين نادى فقال سائلاً: أين محمد؟ أين أبو بكر ؟ أين عمر ؟ فلم يجب، فقال: أما هؤلاء فقد هلكوا؛ فظن أنه لم يوجد أحد منهم لأنهم ماتوا، فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله! بل أبقى الله لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سِجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم ذهب يرتجز فيقول: اعل هبل، اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: (ألا تجيبوه! قالوا: وما نقول يا رسول الله؟!)، وتأملوا أن الرسول لما كان أبو سفيان يقول: أين محمد؟ أين أبو بكر ؟ أين عمر ؟ لم يجبه، ولما أراد أن يخدش عقيدة المسلمين واستعصامهم بربهم أمرهم بالإجابة، فعندما قال: (اعل هبل) وهذا اعتداء على مقام الألوهية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ... )

    ثم ساق الله سبحانه وتعالى الآية الثانية لبيان ولاية الله للمؤمنين، فإن الآية السابقة كالعنوان وهي قوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ))، ثم بين في هذه الآية مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. وفي قوله تعالى: (( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) رد على من يقول: إن الإيمان من الرجل يقتضي الطاعة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح، وقيل: إن الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تُستحق بالأعمال الصالحة، والله تعالى أعلم. قوله: ((جَنَّاتٍ)) وهي البساتين, وإنما سميت جنات لأنها تُجِنّ من فيها، أي: تستره بشجرها، ومنه المجن، وهو الترس؛ لأن صاحبه يستتر به أثناء القتال، فإذا جاءت الطعنة فإنها تصيب الترس ولا تصيب صاحبه، فهذا هو المجن، ومنه سمي الجنين؛ لأنه مستور في بطن أمه ولا يُرى ومنه الجن، لأنهم لا يُرون. قوله: (( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ )) إعراب (( تَجْرِي )) فعل مضارع مرفوع؛ لأنه يسبقه ناصب ولا جازم، وحذف الضم من الياء لثقلها، فأصلها (تجريُ)، لكن الياء مع الضمة ثقيلتان، فحذفت الضمة من الياء، فنقرأها: (( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ))، عند الأعراب مرفوع بالضمة المقدرة على الياء. وقوله: (( مِنْ تَحْتِهَا )) أي: من تحت أشجارها، فما من جنة ولا بستان إلا وفيه أشجار، فلفظ الجنات دالٌ على الأشجار، فمعنى (( من تحتها )) أي: من تحت أشجارها. وقوله: (( الأَنْهَارُ )) أصل النهر: هو الأخدود، فإذا حفر في الأرض وصار فيها هذا الفراغ الذي يجري فيه الماء، فهذا الأخدود هو النهر، والمقصود هنا في هذه الآية هو الماء الذي يجري في هذا الأخدود، فنسب الجري إلى الأنهار توسعاً، وإنما الذي يجري هو الماء وحده، فحذف اختصاراً، كما قال تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، والمقصود: واسأل أهل القرية. وقال الشاعر: نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كُلَيب المجلسُ يعني: أهل المجلس فحذف (أهل)، والنهر مأخوذ من أنهرتُ أي: وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم يصف طعنة طَعن بها عدواً له، فيقول: ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها فقوله: (ملكت بها كفي) أي: سددت وقويت بها كفي، (فأنهرت فتقها) أي: أنه طعن هذا الرجل طعنة واسعة بحيث لو أن شخصاً وقف خلفه يرى من خلاله فيرى ما وراء المطعون. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه)، يعني: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر، وجمع النهر: نُهُر وأنهار، ونهر أي: كثير الماء، وروي أن أنهار الجنان لا تجري في أخاديد، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بقدرة الله حيث شاء أهلها، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ))، وهذا هو كل غايتهم وقصارها، أي: أن ينالوا المتع الحسية في الدنيا كأنهم أنعام، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فالذين كفروا يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، فهم ساهون عما في غدهم، فهل الأنعام تخطط للمستقبل، أو تفكر في المحيط؟ لا، فهي تتمادى في الشهوات، وهي لا تعلم أنها كلما استمرت في ذلك عُجِّل في ذبحها، لأن الناس يستحسنون عاقبة الذبح حينما يأكلون هذا اللحم السمين، فكذلك الذين كفروا غافلون عما ينتظرهم في العاقبة، وقيل: إن المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، (( وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ )) أي: مقاماً ومنزلاً. وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق حديث الشيخين المتفق عليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو قال: كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فقال: فأنا أؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أطبق العلماء على تأويل هذا الحديث، فالمشرحون إذا فتحوا بطن الكافر فإنهم لا يجدون أمعاءه سبعة أضعاف أمعاء المؤمن لذلك فأطبق العلماء على تأويل الحديث؛ لقرينة وهي قول أبي نهيك : فأنا أؤمن بالله ورسوله، يعني: لست كافراً. فاختُلف في معنى هذا الحديث، فقيل: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثَل ضُرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله مادياً يأكل في مِعيٍّ واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها، يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبَّر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر. وقيل: المعنى: أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين . وقيل المراد: حضّ المؤمن على قلة الأكل، إذا علم أن كثرة الأكل صفة للكافر فإن نفسه تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ ))، وهذا مشاهد في أغلب الكفار وبالذات في الأمريكان كما رأيت، فهم شديدو الشره في الطعام بحيث أنك إذا رأيت الطعام الموضوع على المائدة تعجب كيف سيأكله رجل واحد مع أنه يصلح لعشرة أفراد، وإذا بهذا الكافر يلتهمه التهاماً، فهم يأكلون كميات ضحمة من الأكل! وقد لا يظهر ذلك عليهم؛ لأنهم يمارسون الرياضات، فهم شديدو الشره للطعام بطريقة عجيبة! فكأن الحديث يذكر أن كثرة الأكل والشره في الطعام صفة من صفات الكافر، فالمؤمن دائماً حريص على ألا يتشبه بالكافر، وينفر من صفات الكافر المختصة به، فهذا هو المقصود من الحديث: أن ينفَّر المؤمن الأكول من التشبه بالكافر، وقد تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله عليه السلام: (كف عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة..)، كما يقول الشاعر: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقد وصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: رأيت قوماً ليس لهم فضل على أنعامهم، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!. فالأنعام معروفة بكثرة الطعام، والشره في تحصيل الشهوات، فهم كالأنعام، وليس لهم فضل على أنعامهم بعقل ولا حكمة، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، أي: أن كل همهم ما يأكلونه ويلبسونه من المتاع والملاذ، قوله: (وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك)، يعني: من المسلمين، (ويشتهون كشهوتهم)، فالمؤمن لا ينخرط في تحصيل متاع الدنيا كالكافر؛ لأن الكافر سبب فعله هذا جهله بالله، وجهله بأحوال يوم القيامة وغير ذلك من الأضرار والأخطار، فإذا بدر منه ذلك فهذا لا يؤاخذ، وأما المؤمن الذي يعرف ما لا يعرفه هؤلاء من عاقبة الانخراط في الشهوات فلا ينبغي له فعل ذلك؛ فلذلك قال هنا: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ )). وهناك قول آخر في تأويل الحديث السابق، وهو: أنه يحمل على ظاهره، فليس فيه تأويل، واختلف الذين قالوا: إنه باق على ظاهره في معناه على أقوال: أحدها: أنه ورد في شخص بعينه، فـ(ال) في كلمة (الكافر) تكون للعهد، أي: في شخص معين فلا تعمم، وجزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله. قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). ودُفع هذا القول بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم، فقد قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة عن واسع بن محمد عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه، فأدخلت رجلاً يأكل معه، فأكل كثيراً، فقال: يا نافع ! لا تُدخل هذا عليّ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فهذا يدل على أن ابن عمر راوي الحديث الأول يرى عموم هذا الحديث الذي رواه عن النبي عليه السلام، فهو لم يقصره على شخص بعينه، فقد عممه على هذا الرجل الذي أُتي به ليأكل معه. وتعقِّب هذا القول أيضاً بأنه غير متفق مع تعدد الاستدلال بالحديث مع فرضية تعدد الواقعة، أي: أن القول بأنه ورد في شخص بعينه، وأن اللام عهدية هذا مدفوع بوقوع تعدد الا

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ... )

    قال الله تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]. قوله: (وكَأَيِّنْ) بمعنى: كم، قال الخليل وسيبويه : أصلها -أي: كلمة (كَأَيِّنْ)- أي، فدخلت عليها كاف التشبيه، فصارت كأين، وهي بدون التنوين في الأول، يعني: أن (أي) همزة وياء مشددة، أضف عليها كاف التشبيه فصارت (كأي)، فلزمتها كاف التشبيه فصار في الكلام بمعنى: كم، وجعل التنوين في المصحف نوناً فصارت (كَأَيِّنْ)؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها بتغير معناها، ثم كثر استعمالها عند العرب وتصرفت الكلمة فحصل فيها أربع لغات: وكائن، وكئن، وكأين، وكأي وكأيئن أربع لغات، وكلها بمعنى: كم، كما قال الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا وكئن: كاف همزة على نبرة ثم نون، ولفظ: (كأين) كهذا الذي في سورة القتال، ومنه قول الشاعر: كأين أبدنا من عدو بعزنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف وتقول: كأين رجلاً لقيته، بنصب ما بعد (كأين) على التمييز، وتقول أيضاً: كأين من رجل لقيته، وإدخال (من) بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود، يعني: أن تقول: وكأين من رجل لقيت، أفضل وأبلغ من أن تقول: وكأين رجلاً لقيته، كما تقول أيضاً: بكأين تبيع هذا الثوب، أي: بكم تبيعه؟ فقوله تعالى هنا: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ )) أي: وكم من أهل قرية وهي مكة، (( هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ )) أي: أخرجك أهلها، فهو على حذف المضاف. قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حذيفة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أُراه قال: التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك)، فأعدى الأعداء من أعتدى على الله في حرمه، أو قتل غير قاتل، أو قتل بلحون الجاهلية، واللحون: هي الأحقاد والعداوات، وهي جمع لحن، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ . قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، يعني: هذا هو السر في تأنيث كلمة ((أخرجتك))؛ فقال أولاً: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ )) وهذا مؤنث، (( هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ))، ثم قال بعد ذلك: (( أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ))، ولم يقل أهلكتها فلا ناصر لها، ففهم أن المقصود من القرية أهل القرية، لكنه في الجزء الأول راعى اللفظ، وفي الجزء الثاني راعى المعنى، فقوله: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ )) راعى فيه لفظ ((قرية))، وأما في قوله: (( أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ )) نظر فيه إلى المعنى. قال جل ثناؤه: (أَخْرَجَتْكَ) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، ثم قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ)؛ لأن المعنى في قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) ما وصفتَ من أنه أريد به أهل القرية فأخرج الخبر مرة عن اللفظ ومرة عن المعنى. قوله: (( فَلا نَاصِرَ لَهُمْ )) تهديد شديد، ووعيد لأهل مكة في تكذبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببه، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟! فإنه رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن هذه الأمة لم يهلكها الله سبحانه وتعالى إهلاكاً عاماً، فهذه من خصائص أمة محمد عليه الصلاة السلام أنه لا يأتي عذاب يستأصلها جميعها. وكذلك بين الله سبحانه وتعالى أن هناك أمانين في عهد النبي عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، فقد كانوا يستعجلون نزول العذاب، وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، فالله أرحم بهم من أنفسهم فلولا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن انظر إلى الجهل والعتو! فإنهم قالوا: (( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ))، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى قائلاً: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ))، إكراماً لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما دام في وسط هؤلاء المشركين، فوجوده أمان من نزول العذاب، فبركة وجود النبي عليه السلام تعم حتى هؤلاء الكفار؛ لأن وجوده معهم وبينهم يمنع نزول العذاب عليهم فقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33] أي: وما كان الله ليعذبهم وفي وسطهم مؤمنون يستغفرون الله عز وجل. إذاً: فهناك مانع يمنع وقوع العذاب على كثير من المشركين ولا أقول كل المشركين؛ لأن منهم من وقع عليه العذاب كـأبي جهل ، وغيره من أعداء الله، وخاصة من قُتلوا في بدر، وقد رفعت العقوبة في الدنيا عن كثير منهم بسبب وجود الرسول نبي الرحمة عليه الصلاة السلام، وليس معنى هذا أنه إن خفف عنهم في الدنيا أو لم يوقع بهم العذاب في الدنيا فإن العذاب سيخفف عليهم في الآخرة، كلا، فإنه سوف يضاعف لهم العذاب في الآخرة، قال تعالى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله...)

    قال الله تبارك وتعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14]. قوله: (( أَفَمَنْ كَانَ )) الهمزة فيه للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، و(من) مبتدأ، والخبر ((كمن زين له))، وأفرد هنا باعتبار لفظ (من)، وجمع في قوله: (( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ )) باعتبار معناه. ثم قال: (( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ))، فجمع باعتبار معنى (من)؛ لأن (من) هنا تفيد العموم. قال القرطبي : الأَلِف أَلِفُ تقرير، ومعنى: (( عَلَى بَيِّنَة )) أي: على ثبات ويقين قاله ابن عباس . وقال أبو العالية : إن المقصود به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ ))، وقوله: (( عَلَى بَيِّنَةٍ )) المقصود بالبينة الوحي، (( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ )) أي: عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: (( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ )) أي: على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، وبما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة، هل هذا كمن: (( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ )) أي: ليس هذا كهذا، وهذا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19]، وكقوله: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].

    لا ينسب الشر إلى الله تعالى

    نختم الكلام ببحث يتعلق بقوله عز وجل: (( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ))، فنحن نحتاج إلى بعض هذه المسائل المهمة أن تكرر بين وقت وآخر، فإن في التكرار تثبيتاً للمعلومات، وتنبيهاً للغافلين، وهذا البحث هو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فقوله تبارك وتعالى هنا: (( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ )) هذا التزيين: هو من جهة الله خلقاً وكوناً وخبراً، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحبه ويرضاه، ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة، ويجوز أن يكون من الكافرين؛ حيث يزين بعضهم لبعض الكفر. وقال الله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] أي: من شر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فـ(ما) هنا: موصولة، أي: من شر الذي، ولا يجوز غير ذلك، والشر هنا مسند إلى المخلوق المفعول، أي: من شر ما خلقه الله، أو من شرِّ كل ما خلقه الله، أو من شر كل ذي شر خلقه الله. فالشر هنا مسنود إلى المخلوق وليس إلى خلق الرب تبارك وتعالى الذي هو فعله وتكوينه، فالشر يكون من حيث إضافته إلى المخلوق، وأما من حيث الفعل والتكوين بصفته فعل من أفعال الله، فليس فيه شر بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب ولا نقص فيها بوجه ما. وكذلك أفعاله سبحانه وتعالى كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه وتعالى لاشتق له منه اسم والعياذ بالله، فلم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم تعالى الله وتقدس عن ذلك! فالله سبحانه وتعالى لا ينسب إلى ذاته أو أفعاله أو صفاته أي شر على الإطلاق، فهو يتنزه ويتعالى عن الشر. وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما هو شر بالنسبة إليهم هم، فالشر وقع في تعلق هذه الأفعال بهم وقيامها به، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة أي: المخلوقات المنفصلة، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال: أحدهما: أن ما كان متضمناً للشر فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، ولا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله. والأمر الثاني: أن كونه شراً هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تقلقه بفعل الرب وتكوينه، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقاً وتكويناً ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر الله بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد. وفاعل الشر إنما يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، فلأنه غني وحميد لا يفعل الشر، ولا ينسب الشر إليه، فالشخص الذي يفعل الشر كالسرقة مثلاً فإنما يفعل ذلك لأنه متحاج إلى المال، ولأنه فقير، والشخص الشرير الذي يحب أذية الناس، إنما يفعل ذلك لأنه مذموم لا يستحق أن يحمد، ولله المثل الأعلى، وأما الله سبحانه وتعالى فهو غني حميد، غني عن خلقه، ومتصف بالحمد، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر، ونوضح ذلك بالمثال التالي، وهو: أن السارق إذا قطعت يده فذلك شر بالنسبة إليه، والشريعة حكمت بقطع يد السارق، فقطع هذه اليد بالنسبة إلى السارق هو شر، لكن ذلك خير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً، لما في ذلك من الإحسان إلى الناس عموماً، وهي خير بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الذي أمر وحكم بقطع يد السارق؛ لأنه بذلك يحسن إلى عبيده بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم، المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به، ومشكور عليه، ويستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة. وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، ورجم من يصول عليهم في أعراضهم، فإن كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟! فالله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته ورضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، كما قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:36] فهذا تعجب منهم، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تليق بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، فيحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55]، وقال: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، فإذا عرفنا هذا عرفنا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) أي: أن الشر لا ينسب إلى الله: لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فإن كل أفعاله من حيث كونها صادرة عنه عدل وحكمة ورحمة، فمن هنا لا يصح قول من قال في تأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك) قال: معناه والشر لا يتقرب به إليك، أو: والشر لا يصعد إليك، صحيح أنهم يريدون أن ينزهوا الله عن أن يصعد إليه الشر أو أن يتقرب إليه بالشر، لكنه قول لا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقول المعصوم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن تنزيه الله في ذاته تبارك وتعالى عن أن ينسب إليه الشر بوجه من الوجوه، لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، أي: لا ينسب الشر إلى الله أبداً، فينزه الله سبحانه وتعالى عن الشر في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أنه داخل في مخلوقاته، فالشر يضاف إلى المخلوقات كما في قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]. فمن حيث هو فعل الله هو خير، وهناك كثير من الحكم يمكن أن نتدبرها أو نفصلها في موضع آخر.

    طرق القرآن الكريم في نسبة الشر

    أيضاً ممن ينبغي أن نلتفت إليه مراعاة لهذا الأمر وهو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فليس في فعل الله شر، ولا في ذاته، ولا في صفاته مطلقاً. فنسبة الفعل إلى الله خير محض، ولا يمكن أن يكون فيه شر، وأما من حيث إضافته إلى المخلوق فقد يكون شراً بالنسبة إليه، كقطع يد السارق، لذلك نجد أن هذه القاعدة كشفت لنا كثيراً من المعاني في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم له أسلوب خاص في إضافة الشر، فإما أن يضاف الشر إلى سببه ومن قام به، وإما أن يضاف مع حذف فاعله. فمثال إضافة الشر إلى سببه ومن قام به قوله تبارك وتعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] فتجد أن الظلم نسب إلى الكافر نفسه، فإنه ظلم نفسه، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:6]، فلفظة (فاسقين) صيغة فاعل، فهم الذين يفعلون الفسق، كذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:160] إلى آخره، فهنا أضاف الشر إلى اليهود، فنسب الشر إلى فاعله من المخلوقين، وكقوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام:146] فأضيف الشر إلى الكافرين، وكقوله: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] فأضاف الظلم إلى هؤلاء القوم. الطريقة الثانية: أن يضاف الشر مع حذف الفاعل، أي: أن ترد الصيغة وليس فيها الفاعل، كقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، فنسب الخير إلى الله تعالى؛ لأنه خير محض، فقالوا: ((أم أراد بهم ربهم رشداً))، وأما في الشر فبنوه للمجهول، وحذفوا فاعله فقالوا: ((وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض))؛ لأن الله لا يريد الشر ولا ينسب إليه، وإن كان قد خلقه كوناً وقدراً لحكمة بالغة ليس فيها شر، فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد، ونظيره في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم [الفاتحة:7] فخاطبوا الله سبحانه وتعالى بسبق النعمة؛ لأنها خير محض، أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، المغضوب اسم مشتق من غضب عليهم، فهو اسم مفعول مشتق من صيغة الفعل المبني للمجهول، وليس من صيغة الفاعل، أي: غضب الله عليه، فلذلك فقالوا: ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))، فنُسب الضلال إليهم، وهذا من النوع الأول، أي: أن الشر ينسب إلى فاعله المرتبط به، وحُذف الفاعل في قوله: ((غير المغضوب عليهم))، واستعملوا صيغة المبني للمجهول أو المشتق منه وهو اسم المفعول، فذكرت النعمة مضافة إلى الله: ((صراط الذين أنعمت))، وذُكر الغضب مع حذف فاعله، كقول الخضر في السفينة لما صنع فيها العيب: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فنسب الشر إلى نفسه مع أنه كان بأمر الله، وقال في الغلامين: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] فلما كان خيراً محضاً نسبه إلى الله تعالى. ومثله قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ [الحجرات:7]، فأضافه إلى الله؛ لأنه خير، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7]؛ لأنه خير محض، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فنسب هذا الأمر المحبوب إليه، لكن في حب الشهوات قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14]، فحذف الفاعل منه ولم يصرح به. وقال تعالى هنا في هذه الآية: (( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ))، ومثله قول الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: الَّذِي خَلَقَنِي [الشعراء:78]، فنسب الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء:78-80]، وهنا حذف الفاعل؛ لأن المرض شر، فنسبه إلى نفسه، فما أعرفه بربه! الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82]، فنسب الخطيئة إلى نفسه؛ لأن هذا شر، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة، ومثله قول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121]، وهذه الصيغة غالباً ما تكون في سياق المدح، فالله سبحانه وتعالى هو الذي آتاهم الكتاب، فقوله: ((الذين آتيناهم الكتاب)) غالباً ما تكون في سياق مدح مؤمني أهل الكتاب. وغالباً ما تستعمل صيغة: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:101] في الذم، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14] فالسر في هاتين الصيغتين أنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعاً في سياق المدح، وحيث حذفه واقعاً في سياق الذم، وذلك من أسرار القرآن، فمثلاً قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنسب الإيراث إلى اسم الاستفهام المتعدي؛ لأنه أسلوب مدح، وقال في أهل الكتاب: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14]، فالذي يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كله خير ومصلحة وعدل، والشر ليس إليه، فالحمد لله أولاً وآخراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756566063