أما بعــد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الإخوة الحضور! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مهما تكلمنا في هذه المحاضرة ومهما تحدثنا فنحن مقصرون، ولن نثني على الله عز وجل حق الثناء، فالله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبت كل الأسماء وكل الصفات لله جل وعلا على ما تليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
موسى عليه السلام كلم الله جل وعلا مباشرة، فكان كليم الله، وبعد أن كلم الله اشتاق لرؤيته، والنظر إليه، فطلب من ربه هذا الطلب: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] أريد رؤيتك وأشتاق لرؤيتك، قال الله جل وعلا: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] في هذه الدنيا لن يراه أحد.
أما يوم القيامة فيراه المؤمنون: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].. قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ [الأعراف:143] انظروا إلى الشرط الذي اشترطه الله على موسى قال: انظر إلى الجبل الأصم الشامخ العظيم إن أطاق رؤيتي فسوف تراني، فإذا بالرب جل وعلا يتجلى للجبل قال ابن عباس: [قدر رأس الإصبع] فإذا بالجبل العظيم يندك ولا يبقى من الجبل شيء.
وموسى لما رأى المنظر خر على الأرض صعقاً، ولما أفاق: قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143].
قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
هل من أكل الربا قدر الله حق قدره؟
يقول الله جل وعلا لمن أكل الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] قال ابن عباس ترجمان القرآن: [يأتي يوم القيامة فيعطى رمح ويقال له يوم القيامة: بارز ربك] حارب الله جل وعلا، لأنه أكل الربا في هذه الدنيا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
يقول بشر رحمه الله: [لو تفكر الناس في عظمة الله جل وعلا ما عصوا ربهم جل وعلا].
يقول سعد بن بلال: لا تنظر إلى صغر المعصية -لا تقل ليس فيها شيء أن أنظر إلى فلانة أو أتكلم معها أو أختلي بها، أو أسمع الأغاني، أو أنام عن الصلاة، أو أعق الوالدين، أو أقطع الأرحام- ولكن انظر إلى من عصيت تعرف قدر المعصية، ولو عرف الناس قدر عظمة الله ما عصوا ربهم جل وعلا.
أرأيت هذه السماوات السبع، والكون كله، نحن على الأرض لا شيء، والأرض في المجموعة الشمسية لا شيء، والمجموعة الشمسية في المجرة لا شيء، والمجرة ضمن المجرات لا شيء، فنحن نقطة في فضاء كامل لا نراه، يقيس علماء الفلك الآن الفضاء بالسنوات الضوئية، شيء عجيب وكون فسيح حتى نصل إلى السماء الدنيا، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
أرأيت هذه السماوات العظيمة وهذا الكون الكبير الفسيح هذا كله بالنسبة إلى كرسي الرحمن كحلقة ملقاة في أرضٍ فلاة -أي في صحراء- هذا الكون كله والسماوات السبع كحلقة، أرأيت؟! أتخيلت؟! أتصورت؟!
نحن ماذا نساوي داخل هذه الحلقة؟ لاشيء.
ثم اعلم أن هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن جل وعلا كالحلقة بالنسبة للغلاة -الصحراء- تخيل وتصور!! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. يعلم ما توسوس به كل نفس، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] أعظم آية فيها صفة الرب اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] حي لا يموت، حي لا ينام، قيوم: قائمٌ بنفسه مقيم لغيره، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب |
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب |
الإمام أحمد بن حنبل لما سمع هذه الأبيات ترك مجلس العلم، ودخل في غرفة وأغلق الباب على نفسه، وانتظره طلابه فلم يخرج، فجاءوا إلى الغرفة يريدون طرق الباب، فسمعوا الإمام أحمد يردد هذه الأبيات وهو يبكي.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب |
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب |
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب |
يقول وهب رحمه الله: [خف الله على قدر قدرته عليك] خف من الله.
زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وجده: كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقولون له: لم يصفر لونك عند الوضوء؟ بعض الناس يكبر للصلاة ولا يدري عن الصلاة شيئاً، هذا الرجل إذا توضأ اصفر لونه قالوا: لم؟ قال: [أتدرون بين يدي من أقف؟! أقف بين يدي الله.. أقف بين يدي الله] أين الذين يكبرون للصلاة وقلوبهم في الأسواق وفي الدنيا وشهواتها؟ تجده يسمع قول الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] والقلب ما زال في الدنيا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] وأدع هذه الآية إلى آخر المحاضرة.
فإذا ذبابة تطير حول الملك، كلما اقتربت ووقفت على وجهه هشها من حوله، فذهبت ثم رجعت والناس يتعجبون، كلما أراد إزالتها ذهبت الذبابة ثم رجعت على وجه الملك والناس يستغربون، ذبابة ما استطاع دفعها!
فإذا بالشاب المسلم الصالح يستغل الموقف، فإذا به يرتل قول الله أعوذ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] كل الناس يستمعون، فالله يضرب مثلاً ويقول للناس استمعوا لهذا المثل، واسمع إلى هذا المثل: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً [الحج:73] الله أكبر! أرأيت هذا المثل في هذا الموقف؟ أرأيت هذا الملك وجنده بل كل من في الأرض جميعاً الشرق والغرب بالتكنولوجيا التي اكتشفوها ووصلوا بها إلى القمر ودخلوا إلى الأرض وكسروا الذرة، هل يستطيعون أن يخلقوا ذبابة واحدة، تحدٍ من الله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] هذا التحدي الأول.
التحدي الثاني: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً [الحج:73] لو أن الذباب يأخذ شيئاً من طعامهم أو شيئاً من شرابهم فإن كل أهل الأرض ما يسترجعونه؛ لأن الذباب حشرة إذا دخل الطعام مباشرة في جوفها يتحلل الطعام ويتغير مباشرة ويتفكك: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73-74].
فإذا بالناس كل منهم يكبر ويقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله والله أكبر! وانفض الناس عن ذلك الملك: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
أخي العزيز: يا من هجرت القرآن!
أختي الفاضلة: يا من مازلت تترددين هل تتحجبن أو لا تتحجبن؟
وبعض الناس لا ينتبه، أتعرف متى ينتبه؟! إذا كان ملك الموت عند رأسه، فهنا يتذكر ويقول: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] الآن عرفت ربك؟ الآن عرفت قدر الله عز وجل؟ أليجمع أموالاً؟ ينظر أفلاماً ومسلسلات؟ يتمتع ببيته الجديد؟ أو يعانق زوجته وحبيبته؟ أو يقبل أولاده؟ لا. نسي الدنيا كلها، ويريد شيئاً واحداً: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
هؤلاء الملائكة الذين لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] إذا بعثوا يوم القيامة تعرف ماذا يقولون؟
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! لا يعصون الله، حياتهم عبادة، وركوع وسجود وتنفيذ لأوامر الله، لا يعصون الله ما أمرهم، يسبحون الله ولا يفترون، ثم ما عبدناك حق عبادتك، تعرف لماذا؟ تعرف لِمَ؟
لأن تقديرهم لله أعظم من تقديرنا لله، بعضنا يَمنُّ على الله أنه صلى خمس صلوات في المسجد، ماذا تعني خمس صلوات؟! لا شيء، كانت خمسين فجعلها الله خمساً، وهي خمس في العمل خمسون في الميزان، ومع هذا يَمنُّ على الله أنه صلاها في اليوم والليلة، يَمنُّ على الله إذا حج بيت الله، يَمنُّ على الله إذا صام الإثنين والخميس: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
أرأيت أو أسمعت بوصف أفضل الملائكة جبريل؟ جبريل له ستمائة جناح؛ كل جناح يغطي الأفق كله، فتخيل، وتصور!
هذا جبريل صاح صيحة دمر قرية كاملة.
جبريل بطرف جناحه قلب قرية على رأسها.
جبريل هذا المخلوق العظيم رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج في السماء السابعة كالحلس البالي، كالثوب الخلق، تعرف لِمَ؟ لأن جبريل قد اقترب من الله فزاد خوفاً وهلعاً: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].
أرأيت السماوات السبع العظيمة؟ يطويها الرب جل وعلا كطي السجل للكتب: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ [غافر:15] الله، ذُو الْعَرْشِ [غافر:15] الله يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15] يوم القيامة يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ [غافر:16] كل الناس حفاة عراة، ويقبض الرب عز وجل الأرض بيمينه والسماوات بيده الأخرى وكلتا يديه يمين، فيقول للخليقة كلها: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ من يرد عليه، من يجرأ أن يرد على الله في ذلك اليوم؟
أين ملوك الأرض؟ أين السلاطين؟ أين المتجبرون على أمر الله؟ على شرع الله؟ على دين الله؟ أين المتكبرون عن السجود لله عز وجل؟
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ثم أبصرت قدامي طريقاً فمشيت لست أدري لست أدري شئت هذا أم أبيت لست أدري |
نعم هو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري إلى أين المصير؟ هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الإنسان:1-2] من الذي خلقه؟ الله.
أرأيت إلى العالم المتحضر: رجل حصل على شهادة فوق الدكتوراه، ولعله بروفيسور ولعل عنده من علوم الدنيا ما عنده؛ لكنه يسجد لبقرة، أو يدعي أنه لا إله في الأرض، أو يعبد شهوته وهواه.. سبحان الله!
كلهم يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، اذهبوا إلى عيسى، اذهبوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، هل يقول اذهبوا إلى غيري؟
تقف الشفاعة عنده، فإذا به يقول -بأبي هو وأمي-: أنا لها.. أنا لها.. أنا لها.. فيذهب إلى ربه جل وعلا فيخر ساجداً بين يديه، ولا يحق لأحد أن يقوم هذا المقام إلا هو، فيخر ساجداً ويلهمه الله عز وجل تسابيح وتحاميد ما كان يقولها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل لحبيبه ولخليله محمدٍ عليه الصلاة والسلام: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تُعط واشفع تشفع) تظنه ماذا يقول؟ هل يطلب النجاة لنفسه؟ هل يطلب النجاة لأولاده وأحبابه فقط؟ يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي).
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:1-2].. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67].. (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) أسمعت بهذا الحديث؟ الله يكلمك ويكلم كل الناس، بعض الناس لقلة إيمانه وضعف يقينه يقول الله يكلم كل البشر؟ نعم، أليس الرب جل وعلا الآن يسمعنا جميعاً؟ لو كل واحد في الأرض دعا ربه لسمعه الله، بل كل واحدٍ في الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يرد الله عليه فيقول: حمدني عبدي، الرب جل وعلا عظيم.
فإذا بالرب جل وعلا يكلمك (ما منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) لا توجد واسطة، (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم) هل قدم قيام الليل؟ هل قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل قدم صيام النافلة؟ هل قدم الصدقات والزكاة؟ هل قدم الدعاء والذكر؟ أم ماذا قدم؟ هل قدم النوم عن الصلاة؟ هل قدم النظر إلى النساء والخلوة بهن؟ هل قدم استماع الأغاني والطرب؟ كل شيء فعله في الدنيا يراه، قال الله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:4].
لا تنظر إلى صغر المعصية، لا تقل صغيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، الواحد منا اليوم إذا كان في مجمعٍ من الناس يستحي أن يعصي ربه، أمام والده يستحي أن يرتكب بعض المنكرات، أمام إخوانه، أمام شيخ المسجد، أمام بعض الصالحين يستحي من بعض المعاصي، لكن إذا لم يكن أحدٌ يراه لا يستحي من الله جل وعلا: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:1] ألا يعلم هذا الرجل وهذا العاصي بتلك العاصية أن الله عز وجل مطلع عليه فيها، أن الله يراه.
عمر بن الخطاب يتجول في الصباح الباكر فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء، قالت البنت الصغيرة: يا أماه! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد منع الناس من مذق الماء باللبن، فقالت أمها: إن أمير المؤمنين الآن لا يرانا، كل الناس يمذقون فامذقي يا بنية! فقالت البنت المؤمنة: إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] الله يرى ويسمع.
يا عبد الله: هل فكرت أن ترجع إلى الله؟ يا من تتوجه بيديك وقلبك إلى البشر، هلا توجهت إلى الله؟ هلا كنت صادقاً في توجهك إلى الله؟
يقول: فكبرت للصلاة، ومن شدة الخوف نسيت القرآن كله، ولم أتذكر إلا آية واحدة، أي آية؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:6] يقول: وما إن انتهيت من الصلاة إلا وجاء فارس من قلب الوادي قد أشهر رمحه يقول: فلما اقترب ضرب الرجل في قلبه فلم يخطئه فخر صريعا، فقلت: سبحان الله! من أنت؟ فقال لي: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الله أكبر!
الله أكبر بكرة وأصيلا وله الثناء مرتلاً وجميلا |
الله أكبر كلما هتفت به مهج العباد وسبحته طويلا |
الله أكبر ما تطوف محرم بالبيت أو لبى له تبتيلا |
الله أكبر في السماوات العلى والأرض حيث تجاوبت تهليلا |
الله أكبر! الله أكبر! وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67].
أخي العزيز: أختي الفاضلة! أتعرف أن الرب العظيم الجليل الكبير المتعال يحب عبده إذا رجع إليه؟ أتعلم أن الله العظيم يفرح إذا أقبل عبده إليه تائباً؟ لو أمضى سنوات من حياته في المعاصي، وأسرف على نفسه بالذنوب، وأكثر من الذنوب والمعاصي، ثم أراد أن يرجع إلى الله قبله الله، وأحبه، وفرح به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]؟
من أنا حتى يحبني الله؟ من أنا حتى يفرح الله عز وجل بي؟ أنا الذي أذنبت وأسرفت وأكثرت من المعاصي والذنوب، ولطالما عصيت الله، والآن يحبني الله؟ نعم. لو رجعت وتبت وندمت على ما مضى فإن الله عز وجل يحبك.
رجل من بني إسرائيل عَبَدَ الله أربعين سنة؛ ثم انتكس فعصى ربه أربعين عاماً، ثم بعد أربعين سنة من المعصية أراد التوبة، فقال وهو يبكي ويدعو: رب عبدتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبة إن أنا رجعت إليك؟ فإذا به يسمع هاتفاً يقول له: عبدي عبدتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:8].. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67].
أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا الحديث وهذا المجلس في موازين أعمالنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر