يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع خير البرية على الإطلاق -سوى الأنبياء والمرسلين-، مع أرحم هذه الأمة بهذه الأمة، مع ألين الناس قلباً وأفقههم في دين الله جل وعلا، وأبرهم قلبا رضي الله عنه وأرضاه، مع صديق هذه الأمة، وقد تكلمنا عن فضائله رضي الله عنه وأرضاه، ووصلنا إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سنبين- وكانت المصيبة به جلل، فذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه إلى سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمع الأنصار فيها ليختاروا لهم خليفة يبايعونه؛ من مات وليس له بيعة مات ميتة جاهلية، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا بد من أمير يخلفه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الغراء، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ واجتمعت كلمة الأنصار على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فلما علم أبو بكر بذلك ذهب إليهم هو وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، قال عمر : فزورت كلاماً، يعني: جملت الكلام بفصاحة وبلاغة حتى تكون الحجة قوية معنا، قال: فزورت كلاماً فذهبت، فلما دخلت هممت أن أتكلم، فقال أبو بكر : اسكت، فسكت عمر ، فقام أبو بكر خطيباً في الناس يتكلم بعدما قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه: منا أمير ومنكم أمير، أي: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، قال عمر : ما أردت كلمة قد زورتها أن أتكلم بها إلا وقد تكلم بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وأبلغ في المقالة، وكانت له الحجة القوية على الأنصار، قال لهم: أيها الناس! لكم فضلكم، ثم بين لهم فضائلهم، ومدحهم وبين لهم مكانتهم عند رسول الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو سلك الأنصار فجاً لسلكت فج الأنصار)، ثم قال رضي الله عنه: إن الله جل وعلا قد سمانا في كتابه الصادقين، وسماكم المفلحين، وأمركم أن تتبعوا الصادقين حيث قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، ثم قال لـسعد بن عبادة بعدما اجتمعوا عليه أن يؤمروه عليهم: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الناس تبع لقريش في هذا الأمر) أي: في الولاية والإمارة، قال: سعد: صدقت، فقام الناس يبايعون فقال أبو بكر : إني أرجح لكم أحد الرجلين: عمر وأبا عبيدة ولكن كل واحد منكم يعلم منزلة الآخر، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، وأنزل الناس منازلهم.
وقال عمر: لأن أقدم فتضرب عنقي خير لي من أقدم على أمة فيها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قام عمر فقال: ابسط يدك يا أبا بكر ، فبايعه، فبايعه أبو عبيدة، ثم تتابع الأنصار يبايعونه.
قال بعض العلماء: كان فيهم علي، وبعضهم قال: لم يكن معهم، والاختلاف يدور حول بيعة علي لـأبي بكر، وهل تخلف عن البيعة أم لا؟
فإنه لما بلغ فاطمة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم جلست في بيتها حزينة، فقال بعضهم: جلس علي معها واستخفى عن الناس -لم يظهر- وقيل: بايع في سقيفة بني ساعدة، وقيل: بل بايع في اليوم الثاني عندما قام أبو بكر خطيباً في الناس، وألقى كلمة يجب أن تكون نبراساً لكل حياة، ويجب أن تكون في كل بلدة من البلاد، قال أبو بكر : أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: الضعيف منكم قوي عندي حتى آتي بحقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، ثم قال : إني لست بخيركم فأقيموني أيها الناس! فقام علي رضي الله عنه إلى منبر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيك لديننا فكيف لا نرضاك لدنيانا.
واستتب الأمر بذلك، واتفق الناس بالإجماع على أن أفضل الصحابة على الإطلاق هو الخليفة -خليفة رسول الله، أبو بكر- وظهرت حكمة الله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا
وفي هذه الأوقات كان لا بد من شخصية ثابتة راسخة كالجبال الشم الشوامخ، تظهر معالمها في هذه الأوقات الحالكة، تجمع بين القوة والصلابة وبين الشفقة والرحمة، وقد ظهرت هذه الأخلاق في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فقد طبق واقعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي
فظهرت رحمته جلية في عتق العبيد، فقد كان يطوف في مكة فيرى بلالاً في حر الرمضاء، وأمية بن خلف يسوءه سوء العذاب، فذهب إليه واشتراه بمال كثير وأعتقه، وأنفق كل ماله رضي الله عنه وأرضاه رحمة وشفقة على أهل التوحيد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، رضي الله عنهم أجمعين، ومر ذات مرة بـزنيرة أمة من الإماء كانت عند عمر بن الخطاب ، فكان يسومها سوء العذاب قبل أن يسلم رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنها من شدة العذاب عمي بصرها، وقالوا: قد خطف بصرها اللات والعزى، فقالت: لا والله! رب العباد قادر على أن يعيد علي بصري، هو الذي أخذه وهو القادر على أن يعيده، فأعاد الله عليها بصرها في تلك الليلة فاشتراها أبو بكر وأعتقها لوجه الله رحمة وشفقة ورأفة منه رضي الله عنه وأرضاه.
بل ظهرت رقة قلبه في صلاته، وهذه النعمة منة من الله تعالى يتذوق بها المؤمن حلاوة الإيمان، ولا يتذوقها إلا من رحمه الله ولطف به وأنعم عليه، كما قال شيخ الإسلام : في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة، هذه الجنة هي حلاوة الإيمان، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بمكة يتخذ داره مسجداً فيصلي بالليل خاشعاً راكعاً متدبراً آيات الله جل وعلا، فكان يقرأ فيبكي بكاء شديداً فتأتي النساء والصبيان إليه، فخاف أهل مكة على نسائهم وصبيانهم من الفتنة -حسب زعمهم- من هذا الدين.
وظهر ذلك جلياً من قول عائشة رضي الله عنها حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (مروا
فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لتجهيز الجيوش، فجاء عمر فقال: اليوم أسبق أبا بكر ، فذهب وأتى بشطر ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك يا
قال عمر : فلما سمعت هذا أغشي علي، وكأني لم أسمع هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فانفض الناس، ومشوا في سكك المدينة يتلون: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، وثبت الله جل وعلا المدينة بأسرها بسبب هذا الرجل الجبل الشم الشامخ رضي الله عنه وأرضاه.
موقف آخر من ثباته رضي الله عنه، هذا الموقف في صلح الحديبية، عندما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح؛ لأنه يريد من الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، فليسمع المتنطعون الذين يقولون: انتشر هذا الدين بالسيف، والله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه إلا في وجه العدو العاتي الذي يريد محق بركة هذا الدين الإسلامي، ومحق هذه الدعوة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح وشروطه، فقال عمر بن الخطاب حين رأى هذه الشروط، ومنها قول كفار قريش: من جاءكم منا مسلماً لا بد أن تردوه علينا، ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: (بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال: أنا رسول الله، ولن يخزيني الله، فقال له: يا رسول الله! أما قلت لنا: إننا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، ولكن أقلت لك: هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك تأتي البيت وتطوف به)، فـعمر لم يستطع أن يحتمل هذه الشروط، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له هذا الكلام، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله، ولن يخزيه الله، ثم قال عمر : ألم يقل لنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: أقال لك تأتي هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك ستأتي البيت وستطوف به.
فـأبو بكر لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نزل عليه وحي ولكنه توافق القلوب، فبهذا ثبت عمر وثبت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وصدق القائل: إن لله عباداً يجعلهم لتثبيت العباد، الله جل وعلا ينصب عباداً للأوقات الشديدة الحالكة حتى يثبت بهم عباده الذين يمكن أن يرتجفوا عندما تتوالى الأمور والأحداث، وكان سيدهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وعندما كفر من كفر من العرب، وارتد من ارتد منهم، ومنع الناس الزكاة، واشتد الأمر على المسلمين، ورمت العرب الإسلام بقوس واحدة، واشرأبت أعناق اليهود والنصارى، فكان لا بد من استئصال هؤلاء الذين يريدون القضاء على الدولة الإسلامية، ولا بد من قتلهم أجمعين، فقام أبو بكر بقتال هؤلاء، حتى إن عمر القوي في دين الله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقوى هذه الأمة في أمر الله
هذه الوصايا لو سمعها أهل الكفر لسكتوا عما يقولون عن الإسلام والمسلمين، ولرأوا الفارق الكبير بين تعاليم الإسلام وبين ما يفعلون في حروبهم، فنحن اليوم نرى وأد البنات، قتل الأطفال، هدم البيوت، في فلسطين وفي غيرها، عجب تسمع! لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
فبعد هذه التعاليم التي جاء بها ديننا الحنيف ما بال هؤلاء القوم الأوباش أحفاد القردة والخنازير يتهموننا بالإرهاب، وهم الذين قتلوا أنبياء الله جل وعلا، وارتقوا بعد ذلك فسبوا الله جل وعلا، ثم يتنطعون ويرموننا نحن بالإرهاب؟! أما سمعوا وصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: لا تقتلوا وليداً، لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، لا تقلعوا شجرة، لا تهدموا بيتاً، لا تحرقوا زرعاً؟! هذه هي الوصايا التي على كل إنسان أن يعلو صوته بها ليبين سماحة هذا الدين، وأن هذا الدين هو أعظم الأديان، وأنه الحق المبين، ومن خالف هذا الحق فله الخلود في نار جهنم، والعياذ بالله.
فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة والعباس إلى أبي بكر، وطلبا إرث النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك وخيبر وبعض الأموال التي كان يأكل منها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر الشفيق الرحيم، ذو الرقة واللين: والله إن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي، ولكني لا أخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وأبى أن يعطي فاطمة رضي الله عنها وأرضاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تورث إلا العلم والوحي، لا تورث الدنيا، ورحلت فاطمة غاضبة على أبي بكر ، فوجدت في نفسها عليه، قال بعض العلماء: وجدت في نفسها؛ لأنها ما أرادت الإرث، وإنما أرادت الثمرة فقط، ولكن أبا بكر فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إن عائشة كذلك، وهي بنت أبي بكر وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، ما أعطاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم شيئا،ً فلهذا -كما سبق-غضبت فاطمة ، ولكن روى البيهقي بسند مرسل لكنه يحتج به بإذن الله، أنه لما مرضت ذهب أبو بكر إليها فترضاها فرضيت، ولما ماتت قال بعض الرواة: لم يؤذن علي أبا بكر لموتها، فصلى عليها ودفنها ليلاً، فلم يعرف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ويقال: إن علياً رضي الله عنه وأرضاه لم يخرج لمبايعةأبي بكر محاباة لـفاطمة حتى ماتت، وكان الناس وجوههم سمحة مع علي بن أبي طالب حتى ماتت فاطمة ، فتغيرت وجوه الناس عليه، فعلم أن ذلك كان بسبب مسألة أبي بكر ، فذهب إليه وبايعه، وكان سيفاً من سيوف أبي بكر يضعه حيثما شاء رضي الله عنهم أجمعين.
فهذا ما حدث بين أبي بكر وفاطمة ، وكان الحق كل الحق مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولم يتكلم فيه أو ينتقده أحد من الصحابة الكرام، حتى علي حين خطب بالناس فقام رجل وقال: من أفضل هذه الأمة؟ فقال: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته ثمانين جلدة حد المفتري أي: الكذاب، أفضل هذه الأمة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ، وسكت ثم قال: والله أعلم بعد ذلك من أفضل، فلم يكن يخير عثمان على نفسه، لكن ورد عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل هذه الأمة بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، فيقرنا رسول الله، وبينت سابقاً الخلاف بين أهل السنة والجماعة في مسألة: من أفضل عثمان أم علي؟ وذكرنا أن كلمة أهل السنة والجماعة اتفقت بعد ذلك على أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.
ثم بعث إليه أبو بكر بأن يذهب لتأديب الروم، فكانت المعركة الكبرى التي تقابل فيها أربعون ألفاً أمام مائة وأربعين ألفاً، وهي معركة اليرموك، التي مات أبو بكر قبل أن ينتصر المسلمون فيها، فهو الذي أصر على تأمير خالد رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن عمر جاء أكثر من مرة إلى أبي بكر يقول له: اعزله، فيقول: لا والله، لا أغمدن سيفاً قد سله الله وسله رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لأقطعن عنهم وساوس الشيطان بـخالد بن الوليد ، وهذا الذي جعل ملك الروم يقول لـخالد: من أنت؟ أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟
ذهب خالد عبر الصحراء حتى وصل الشام، ثم بعث أبو بكر إليهم بالكتاب وقال فيه: إذا جاءكم خالد فأمروه عليكم، ونزل أبو عبيدة وجميع المسلمين تحت إمرة خالد وهم أربعون ألفاً وجيش الروم مائة وأربعون ألفاً، لكن خالد كان بطل الحروب، فهو الذي لم يهزم في معركة بإذن الله، حتى في قتال المسلمين حين كان كافراً، ففي أحد كان هو سبب هزيمة المسلمين، فقد قام بخبرته العسكرية بعد اليقين بالله جل وعلا، والإيمان الراسخ، فعمل ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، فجعل أبا عبيدة -أمين هذه الأمة- في الخلف، وجعل نفسه في المقدمة، وأحد الصحابة في الميمنة والآخر في الميسرة، ثم دخل إلى قلب الروم إلى خيمة رئيسهم، وقتل منهم ثم رجع، وهكذا أخذ بالكر والفر حتى هزم الروم، وكتب الله للمسلمين النصر، ثم جاءت البشارة إلى عمر بعدما مات أبو بكر، الذي كان سبباً في هذه المعركة الخالدة التي تبين أن النصر حليف المسلمين لا محالة، وإن كانوا أقل عدة وعتاداً، وذلك إذا تمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا صدقوا في نصرة الله وفي نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا رفعوا راية التوحيد، فلو تكالب الجن والإنس على أهل الإسلام الذين رفعوا راية لا إله إلا الله فإن النصر سيكون لأهل الإسلام، كما قال شيخ الإسلام مقعداً قاعدة عظيمة قال: إذا التقى الجيشان: فإن كانا كافرين جعل الله الغلبة للأقوى، وإن كان الجيش الأول مسلماً والآخر كافراً جعل الله النصرة لأهل الإسلام.
فجعل الله النصرة في معركة اليرموك لـخالد ولأصحابه رضوان الله عليهم؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وصدقوا في نصرة الله جل وعلا.
ثم أمر أن يكفن بهذه الأثواب القديمة، ثم بعد ذلك بعث بكل ما عنده يملك، ومن ناقة كان يشرب منها، وهو خليفة رسول الله، ومع ذلك كان له ناقة فقط، هي التي يشرب منها، ثم أمر برد الناقة الحلوب إلى بيت المال، وأمر بغلام كان يخدمه، فقال: والغلام إلى بيت مال المسلمين، فلما رأى عمر ذلك بكى بكاءً شديداً، وقال كلمته المشهورة: لقد أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخل عليه عثمان وهو في مرضه الشديد فقال له: اكتب، ثم أغشي على أبي بكر، فلما أفاق قال له: ما كتبت؟
قال: كتبت عمر، قال: لو كتبت عثمان لكنت لها أهلاً ولكنه عمر، ثم جاءه الناس، فقالوا: كيف تستخلف علينا هذا الشديد - عمر رضي الله عنه وأرضاه- وتعلم حدته وشدته، قال: لو سألني ربي لقلت له: استخلفت عليهم أتقاهم وأقواهم في دين الله، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رضي الله عنه وأرضاه، وصلى عليه عمر والمسلمون، ثم دفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أختم سيرة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه بكلمة لـعلي بن أبي طالب، وأرد بها على المتنطعين الهالكين، الذين يقعون في عرض أبي بكر، ويزعمون الحب لآل البيت، فقد قال علي بن أبي طالب في وفاة أبي بكر بعد أن وقف على الباب: رحمك الله يا أبا بكر ، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءً، وأحفظهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحزنهم على الإسلام، وأحنهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن المسلمين خيراً، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخل الناس، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً، فقال جل وعلا: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] -فالذي جاء بالحق هو رسول الله، والذي صدق به حين كذبه الناس هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه- يريد محمداً ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك.
هذا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل ربي جل وعلا أن تكون هذه النماذج حسنة لنا، حتى نتأسى بهم ونسير على نهجهم النقي، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر