يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن أشرف ما في الوجود أن يتعبد المرء لربه جل في علاه، عاملاً بقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وأرفع المقامات هو مقام العبودية، وقد بينا فيما مضى بأن أهل الجاهلية كان لهم اعتقادات باطلة؛ ولذلك أرسل الله رسله، وضرب الصراط بين الجنة والنار، وشرع الجهاد من أجل توحيد الإلهية، ومن أجل أن يبطل الاعتقادات الباطلة التي كان يعتقدها أهل الجاهلية، وبينا أن أهل الجاهلية كانوا يتعبدون لله جـل في علاه بالشرك، فهم جمعوا بين النقيضين، عبادة الله وعبادة الأصنام.
من الاعتقادات الباطلة التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم لإبطالها الطيرة، وهي من الاعتقادات الجاهلية التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أهل الجاهلية ومشركي العرب يتعبدون لله بها.
والطيرة: مصدر من تطير وهو التشاؤم، وهذه الطيرة مأخوذة أصلاً من الطير، حيث كان أهل الجاهلية يعتقدون في الطير، فكان الواحد منهم إذا أراد الزواج أو أراد التجارة أو أراد الرحلة في السفر لأمر ما كان ينظر في الطير وهو يطير، فإن ذهب الطير يميناً تيمن، وقال: هذا من البركة فرحل أو مضى على ما أراد، وإن ذهب الطير شمالاً تشاءم، وقال: هذا من الشؤم بمكان فأوقفه.
إذاًًً: فالطيرة هنا هي ما رده وأمضاه، فإن وجد اليمين قال: يمن وبركة فأمضى ما يريد، وإن وجد الشمال تشاءم، وقال: نقف؛ لأن السوء سيأتي من هذا، هذا أصل الطيرة عند أهل الجاهلية، ثم عمموا المسألة وما وقفوا عند مسألة الطير فقط، بل تشاءموا بالأشخاص والأفراد والأشجار والأحجار بل والأيام والشهور والسنين والجمادات، فكانوا يتطيرون بالغراب وبالبوم وبعض الطيور الأخرى ويتطيرون أيضاً بالثعالب، فإذا رأى أحدهم ثعلباً لم يذهب إلى ما أراده من تجارة أو من زواج، وأعجب من ذلك أنهم تطيروا بالصالحين وتشاءموا بهم!!
وهذا عكس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعكس ما شرعه الله جـل في علاه، إذ البركة مع أهل الطاعة، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] فسبب البركات هو الإيمان، ولذلك ترى الفاجر الفاسق عنده آلاف من الدراهم ومع ذلك لا يدري فيما أنفقت، بينما الرجل الصالح ترى عنده مائة درهم ومع إنفاقه منها لم تنته؛ لأن فيها البركة، وهذا مصداقٌ لقول الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] فالرزق مع الصالحين؛ ولذلك قال العلماء: إن المرأة الصالحة بركة في البيت، والمرأة الطالحة شؤم في البيت.
فإذاً: المقصود أن هؤلاء الجاهلين كانوا يتطيرون بأهل الصلاح، وهذا ترسم منهم لسنن الأمم السابقة حذو القذة بالقذة، فإن اليهود والنصارى كانوا يتشاءمون ويتطيرون بأنبيائهم ورسلهم، فقوم صالح قالوا: إنا تطيرنا بكم، وأيضًا قوم موسى تطيروا بموسى ومن معه، وأيضًا تطيروا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في سورة النساء: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] كأنهم يقولون: يا محمد بسبب شؤمك وشؤم ما أتيت به -حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك- حدث لنا من القحط والجدب وعدم الرزق ما حدث، ويرد الله عليهم بقوله: إنما طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19] يعني: شؤمكم بفعلكم، وبقوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] يعني: من فعلك ومن ذنوبك وبسبب تفريطك، فإن الله جـل في علاه يصيب الأمم بسبب الذنوب والمعاصي، ويعفو عن كثير سبحانه جـل في علاه، قال عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] يعني: أن الفتنة قد تعم، فهؤلاء الجاهليون كانوا يتطيرون بأهل الصلاح، وكانت هذه الجاهلية الجهلاء العمياء قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ليبطل هذه الاعتقادات الباطلة، فما بالنا نرى اعتقادات أهل الجاهلية قد عادت في زماننا وفي عصرنا، فهناك أناس يتطيرون بالصالحين كما كان أهل الجاهلية يتطيرون بالصالحين، وأيضًا يتشاءمون بالطيور وبغيرها كما كان يفعل أهل الجاهلية، أما رأيت أخي الكريم أن بعض أهل الكتاب يتشاءمون بالألقاب وبالطيور، بل وبالأشكال وبالبشر، وكذلك بالأرقام فبعض أهل الكتاب يتطيرون بالرقم ثلاثة عشر، وبعضهم يتطيرون بالرقم عشرة، وأهل البادية يتطيرون بالرقم سبعة، ومنهم من يتطير بالبشر ذوي العاهات، فإذا رأى رجلاً أعور قال: هذا عوار في حرفتي ومهنتي، لا أذهب إليها اليوم، وإذا رأى امرأة عجوزاً يقول: هذه عجوز نحس لا يمكن أن أذهب إلى العمل هذا اليوم، بل تفوقت جاهلية هذا العصر على جاهلية مشركي العرب بأنهم إذا ضحكوا كثيراً قالوا: اللهم اجعله خيراً، مع أن الضحك الكثير يعمق في قلبك التوحيد والإيمان؛ لأن الذي أودع في قلبك هذا الضحك وأدخل عليك السرور هو الله، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] كذلك إذا علمت بأن الله هو الذي سبب لك هذه الأسباب لإدخال السرور عليك علمت أن المنة من الله، فتعبدت لله بشكر هذه المنة وهذه النعمة، لكن هؤلاء إذا ضحكوا كثيراً قالوا: اللهم اجعله خيراً، هذا الضحك الكثير لن يأتي بالخير، ويتشاءمون أيضًا بحركة العين، فيقول أحدهم: عيني تتحرك، فهناك مصيبة ستقع، وهذه من اعتقادات الجاهلية الظاهرة الآن بين أيدينا، كذلك هناك من يتشاءم بيوم الأربعاء أو يوم الثلاثاء، بل ويتشاءمون ببعض أفعال الأولاد الصغار، فإذا وجدوا ولداً أخذ مقصاً ففتحه وأغلقه فإن هذه الفتحة وهذه الإغلاقة عندهم مؤذنة بحدوث مصيبة في البيت، كأنْ يشب حريق في هذا البيت، فهذه كلها من الاعتقادات الباطلة التي شابه بها أهل الإسلام أهل الجاهلية.
إذاً: جاء الشرع بإبطال هذه العقيدة الباطلة والفاسدة التي كانت في الجاهلية، وشابه فيها أهل الإسلام أهل الجاهلية، وبهذا يكون التشاؤم حرام لا يجوز بحال من الأحوال.
والأصل في التشاؤم أنه من الشرك الأصغر حتى تأتي القرائن التي تثبت أنه من الشرك الأكبر؛ لأن الأحاديث التي صرحت بأن التشاؤم من الشرك كلها ذكرت الشرك نكرة، ولم تذكره معرفاً وقد قعدت في هذا المجلس في أكثر من موضع وبيَّنت أن الشرك أو الكفر إذا ذكر في الحديث أو ذكر في الآية نكرة دل على الشرك الأصغر، وإذا ذكر معرفاً دل على الشرك الأكبر، فمن أمثلة الشرك الأكبر والشرك الأصغر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر ومنها: النياحة على الميت) فقوله هنا: (كفر) نكرة والنكرة تدل على أنه من الشرك والكفر الأصغر، وهو الكفر العملي لا الكفر الاعتقادي، يعني: لا يخرج صاحبه من الملة، والدليل على أن النياحة على الميت أو لطم الخدود أو شق الجيوب لا يخرج من الملة الاستقراء والإجماع، أما بالنسبة للتعريف فهناك فرق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة) وهنا يظهر أن ترك الصلاة كفر أكبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الحديث معرفاً، ففرق بين المعرف وبين النكرة.
إذاً: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك) هناك دلالات تدل على أنها شرك أصغر: الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره نكرة ولم يذكره معرفاً.
الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له كفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لـمَّا سئل عن الطيرة، قال: (الطيرة شرك، ثم قال: وأحسنها الفأل، قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟) فجعل لها كفارة عليه الصلاة والسلام، والقاعدة عند العلماء في التفريق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر الكفارة، فإن كان له كفارة فهو من الكفر الأصغر والشرك الأصغر، وإن لم يكن له كفارة إلا التوبة فهو من الكفر الأكبر والشرك الأكبر، دلالة ذلك الحلف بغير الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وهذا شرك أصغر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له كفارة، قال: (من أقسم باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) فجعل له كفارة، فالذي له كفارة يدل على أنه كفر أصغر، (فقالوا: يا رسول الله! فما كفارة ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) فجعل للمتطير كفارة وهذا يدل على أنه شرك أصغر. فمن تطير أو تشاءم أو رأى رجلاً وقال: إن هذا الرجل شؤم، فلن أذهب إلى العمل اليوم، فإن كفارته وعلاجه أن يقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كفارة، ودل ذلك على أنه من الشرك الأصغر.
الحالة الثالثة: أنه وسيلة للشرك الأكبر وليس شركاً أكبر؛ لأنه يعتقد اعتقاداً تاماً في الله جـل في علاه، فأنت لما تسأل الرجل الذي ينظر إلى عجوز ويقول: هذه المرأة العجوز ما رأيتها مرة إلا وضاع مالي، وما رأيتها مرة إلا وفشل زواجي ، وما رأيتها مرة إلا وحدث كذا وكذا في العمل، فهو كلما نظر إلى هذه المرأة تشاءم منها، فهذا الرجل الذي يتشاءم من هذه المرأة لو أننا سألناه: هل المرأة تنفعك أو تضرك؟ لقال: لا والله، النافع والضار هو الله، فهذا الرجل اعتقد اعتقاداً صحيحاً في ربه، وقال: إن النافع والضار هو الله، ولا أحد يتحكم في الكون إلا الله جـل في علاه لكن هذه المرأة سبب في الشؤم الذي يأتيني، فإنني كلما أراها تحدث لي المصائب.
القاعدة الأولى: أن صرف العبادة لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.
القاعدة الثانية: وهي الأهم: من اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً لا شرعاً ولا كوناً فهو شرك أصغر، ومن اعتقد به فهو شرك أكبر. ومعنى قوله: (لا شرعاً ولا كوناًً) تدل على أنه قد أشرك شركاً أصغر، فكأنه يقول: هذه المرأة بلاءٌ، وأنا لو قلت: إن سبب البلاء الذنوب لَماَ أخطأت؛ لأن الله جل وعلا ربط البلاء بالذنب، قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة).
إذاً: في الشرع أن سبب البلاء هو الذنب، لكن كونه يقول: إن سبب البلاء هي المرأة السوداء أو العجوز، فهذا ليس من شرع الله، فمن ادعى على الله وقال: إن سبب المصيبة التي حدثت لي هي المرأة السوداء أو العجوز فقد ادعى على الله زوراً وبهتاناً، وقد اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً، فوقع في الشرك الأصغر؛ لقول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] فنقول: من اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً شرعاً ولا كوناً فقد أشرك.
فالله سبحانه وتعالى ربط النتائج بهذه الأسباب.
أما الأسباب الكونية فهذا ظاهر في الأدوية التجريبية التي لا نعاتب عليه شرعاً، ومنها: (البندول) (فالبندول) سبب كوني، فقد جربه العلماء والأطباء فوجدوا أنه علاج للصداع، فهذا يُعَدُّ سبباً كونياً بالتجريب، فإن الله جـل في علاه جعل الشفاء مع استخدام هذا (البندول)، لكن لو جاء رجل إلى رجل آخر مريض بالصداع فقال له: عندي لك دواء من أفضل الأدوية، فقال: ما هو؟ قال: أن تربط الصوفة على رأسك ليلاً فإن هذا الصداع سيذهب، فقال له المريض: متأكد؟ قال: نعم، فأخذ المريض الرباط وربطه على رأسه، فجاء الفقيه -المعتقد في ربه اعتقاداً صحيحاً، الذي تعلم علم التوحيد وعمل به ثم علمه للناس- إلى المريض فقال: لماذا تربط هذه الصوفة قال: عندي صداع، قال: هل تعتقد أن هذه الصوفة تشفي؟ قال: لا والله، فقال الفقيه: الحمد لله قد خرجت من الشرك الأكبر؛ لأنك اعتقدت أن الشافي هو الله، واعتقدت أن هذه الصوفة سبب في الشفاء، لكن لو ذهبنا إلى الطبيب وقلنا له: يا طبيب هل هذه الصوفة قد جربتها في المرضى وشفوا بها؟ قال: لا، والله ما رأينا ذلك في الطب، ثم ذهبنا إلى العجائز وسألناهن: هل جربتن هذه الصوفة فوجدتن فيها شفاء؟ قُلْنَ: لا ما وجدنا فيها شفاء، فقال الفقيه: إذاًً: أنت وقعت في الشرك الأصغر؛ لأنك اتخذت سبباً لم يشرعه الله سبباً لا شرعاً ولا كوناً، فقال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] .
إذاً: من اعتقد اعتقاداً جازماً صحيحاً في ربه أنه النافع والضار واتخذ سبباً لم يشأ الله أن يجعله سبباً، فقد وقع في الشرك الأصغر.
نقول: يرتقي المرء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر إذا اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً، واعتقد في هذا السبب أنه ينفع ويضر، فهذا قد خرج من الملة وأشرك شركاً أكبر؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وهذه القاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية، فلو سمع رجل بامرأة هي من الجمال بمكان ومن الدين بمكان، وأراد الزواج منها، فقال: سأجعل الطير يطير، فإن ذهب يميناً ذهبت وتزوجتها، وإن ذهب يساراً فلن أذهب ولن أتزوجها، فسئل عن ذلك، فقال: هذا الطير هو الذي يمتلك إساءتي في هذه المرأة أو سعادتي فيها، فهذا يرتقي إلى الشرك الأكبر.
أو رجل ربط صوفة بسبب التعب أو المرض الذي أصابه في يده، فقلنا له: لم ربطت هذه الصوفة؟ قال: هي تنفعني في مرضي وتشفيني ولم يقل: بإذن الله، فاعتقد فيها اعتقاداً باطلاً، فمن اعتقد في غير الله من شجر أو حجر أو بشر ما لا يعتقد إلا في الله فقد أشرك شركاً أكبر؛ لأن النافع والضار والمحيي والمميت والمبدئ والمعيد هو الله، فمن اعتقد في أن هناك من البشر من يحيي ويميت، ومن يبدئ ويعيد، ومن يرزق ويمنع الرزق، ومن يرفع ويخفض، فقد خرج من الملة؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق، فجعل لله نداً في الربوبية وفي التصرف في هذا الكون؛ ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك).
إذاً: الشرك شركان: شرك أكبر، وشرك أصغر، الشرك الأكبر أن يعتقد في هذا السبب، فإن لم يعتقد في هذا السبب فنقول: هذا من الشرك الأصغر وله حكم الطيرة.
إذاً: المقصود أن الفأل من الشرع وهو عكس الطيرة، فالطيرة تشاؤم، والتفاؤل: هو أن يتحرك المرء لفعل شيء بكلام حسن قد سمعه، أو إشارة حسنة قد رآها، كأن يكون مثلاً تاجراً يريد السفر ليتاجر بتجارة، فيسمع رجلاً يقول: بضاعتك رابحة .. تجارتك فائزة .. أنت ناجح .. أنت رابح .. أنت فائز .. فيدخل عليه السرور فيستبشر خيراً ويمضي قدماً في تجارته، فهذا هو الفأل، فالفأل له أصل شرعي من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعله.
الأمر الأول: أن الفأل الحسن مأمور به شرعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم (يعجبني الفأل)، وأما الطيرة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ونحن ندور مع الشرع حيث دار، فأنت مربوب لربك، وعابد لله جل في علاه، تقول: سمعت وأطعت واستسلمت لأوامر الله، والله مدح إبراهيم باستسلامه التام لأوامر الله، قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] كأن الله جل وعلا قال لإبراهيم: استسلم لأوامري، فقال استسلمت، فمدحه الله جل في علاه لذلك.
إذاًً: فمحض العبودية أن تستسلم استسلاماً تاماً لله جل في علاه، فتعلم أن الشرع قد أباح الفأل، فتقول: آمنت بالفأل سبباً وأعتقد اعتقاداً جازماً في ربي.
ونهى الشرع عن الطيرة فتقول: قد حرمت الطيرة على نفسي؛ لأن الشرع قد حرمها.
الأمر الثاني: أن الفأل من باب حسن الظن بالله، وحسن الظن بالله أمر الله جل في علاه به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن خيراً فله) فحسن الظن بالله من أتم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه.
أما الطيرة فهي سوء ظن بالله، وسوء الظن بالله إن لم يصل إلى الشرك الأكبر فهو من أكبر الكبائر، قال الله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6] وقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: (فمن ظن بي خيراً فله ومن ظن بي شراً فله) يعني: عليه ذلك الظن.
إذاً: حسن الظن بالله جل في علاه من باب الفأل، والطيرة من باب سوء الظن بالله جل في علاه.
الأمر الثالث: أن الفأل وسيلة إلى التوحيد الكامل لله جل في علاه فهو وسيلة إلى كمال التوحيد؛ لأنه وسيلة إلى تمام التوكل على الله جل في علاه والاطمئنان إليه سبحانه، كما قال الحسن البصري : علمت أن رزقي بيد ربي ولن يذهب لغيري، فاطمأن قلبي.
يعني: علم أن ربه هو الذي يدبر شئونه وأموره، فاطمأن قلبه لله جل في علاه.
إذاً: هو وسيلة إلى كمال التوحيد.
أما الطيرة فهي وسيلة إلى الشرك؛ لأن بها ضعفَ التوكل على الله جل في علاه، وبها يتسخط المرء على أقدار الله جل في علاه، وبها يصل المرء إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله.
الأمر الرابع: أن الفأل يدخل السرور على المرء وهذا أصل شرعي، والأصل منبثق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من أفضل العبادات سرور تدخله على مسلم) بأن تقضي له حاجته أو دينه، أو تنفس له كربته، فهذه من أفضل الطاعات التي تتقرب بها إلى الله جل في علاه.
إذاً: الفأل فيه إدخال السرور على المسلم وهذا أمرٌ محسوس، أما الطيرة ففيها إدخال الهم والحزن على المرء، فيصل بالمرء إلى التسخط على أقدار الله جل في علاه، وهو منبوذ شرعاً؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ منه ويقول: (أعوذ بك من الهم والحزن).
إذاً: الطيرة مقياسها أن تُحدث في نفسك التشاؤم أو التفاؤل، فتمضي قدماً أو تتراجع، فما حدث المرء به نفسه فعليه أن يزيله، فيعالجه بثلاثة أمور: أولاً: صدق التوكل على الله جل في علاه، وهو أن يعتقد المرء اعتقاداً جازماً بأن خزائن السماوات والأرض بيد الله جل في علاه، وبأن الله هو النافع والضار لا أحد غيره، فمن توكل على الله حق التوكل فقلبه معلق بمن فوق العرش الذي يدبر شئون الدنيا بأسرها، كذلك من وثق بالله تمام الثقة مع صدق الاعتماد على الله جل في علاه بجلب المنفعة ودفع المضرة فإنه لا يعتمد لا على طير ولا بشر ولا شجر ولا حجر وهذا أول علاج، ودليل ذلك حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وفي غيرها من السنن بسند صحيح قال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك الطيرة شرك -أكد ثم قال-: وما منا من أحد إلا -يعني: تسقط في قلبه هذه الوساوس-ولكن يذهبه الله بالتوكل).
فلم يذكر الداء إلا وذكر معه الدواء، وهذا باب واسع جداً في هذا الشرع الحنيف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء) وهذا يبين أن هذا الدين متكامل في كل شيء؛ فهو ما ذكر ترهيباً إلا وذكر ترغيباً، وما ذكر ناراً إلا وذكر جنة، وما ذكر داءً إلا وذكر دواء، وما أغلق باب شر إلا وفتح باب خير، مثال ذلك: (لما جاء
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبين لنا أن الدين الحنيف إذا أغلق باباً من الشر فتح لنا باباً آخر من الخير.
السبب الثاني في العلاج: أن تقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) وهذا الدعاء لا بد أن يلتزمه المرء إذا طرأ على قلبه هذه الوسوسة.
لكن هناك قرينة قوية ذكرها بعض الإخوة وهي حظ الشيطان الذي أُخِذَ من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إسلام قرينه، قال صلى الله عليه وسلم: (فأعانني عليه أو فأعنت عليه فأسلم) ومن هنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أتم الناس توحيداً وأنظف الناس قلباً وأعمق الناس توكلاً على الله، وهذه قرينة كافية تبين لنا أن قول: (ما منا إلا) هو من قول ابن مسعود نفسه وليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعلاج الثالث: الإمضاء، يعني: أن يمضي المرء إذا أراد أن يسافر أو يتزوج أو يتاجر، فلا يكون ممن إذا وجد امرأة قال: إن هذه المرأة امرأة سوء، أو هذه تجارة كاسدة، فنقول لمثل هذا: اتق الله فإنك ستقع في الشرك بسبب ذلك، لكن اذهب وامض إلى تجارتك معتمداً متوكلاً موافقاً مصدقاً بأن الأمر كله بيد الله جل في علاه، وقل اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فإذا أتممت توكلك على الله جل في علاه وأحسنت الظن بربك فسيأتيك حسن ظنك بربك وفق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي فمن ظن بي خيراً فله) وهذا آخر الكلام على مسألة الطيرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر