يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
الإخوة الكرام! نستهل بداية الكلام على هذا الكتاب العظيم الذي لم يصنف مثله في بابه، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام ابن تيمية .
وقد بينا في الأسبوع قبل الماضي مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة التعظيم والتوقير، والنصرة والتبجيل بأبي هو وأمي، وبينا أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم لم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فقدموه على كل شيء، وعظموه ووقروه ونصروه، ونصروا سنته صلى الله عليه وسلم، فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما كان في غزوة أحد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، نحري دون نحرك يا رسول الله! لا يأتيك سهم من سهام القوم، وكان يدفع ويصد السهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وما من صاحب إلا ويقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله!
كذلك بينا أن حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة عظيم، ولا بد أن تؤدي الأمة حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اليوم إن شاء الله حتى نبين أهمية هذا الكتاب، ونبين أهمية مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لهذه الأمة أن تحفظ حق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فسنتكلم عن حكم الذي ينتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الذي يتجرأ على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا سابقاً أن حكم من سب الرسول أو انتقص من قدر الرسول أو تعدى وتجرأ على جناب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يكون كافراً، وأنه يصير بما فعل مرتداً، وأظهرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة.
وأقول: إن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون مسلماً، فإن كان مسلماً وتعدى بالسب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصير بالإجماع مرتداً، وهذا خلافاً للمتأخرين في عصرنا أو الذين يستغرب المرء لكلامهم عندما يقولون: هذا من سوء الأدب، أو من التعدي، أو يعذر بجهله، فهذا إرجاء محض.
فالصحيح بإجماع الصحابة وإجماع التابعين: أن المسلم إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر بذلك ويصير مرتداً، فبالاتفاق وبالإجماع يكفر، وبالاتفاق وبالإجماع أن حده القتل، لا بد أن يقتله ولي الأمر بسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اختلفوا فيما بينهم هل يستتاب أو لا يستتاب؟ لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لما سمع رجلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم قتله وقطع عنقه وما استتابه، كذلك -كما سنبين- قول عمر بن الخطاب وخالد للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا بد أن نستتيبه وغير ذلك.
ثم اختلفوا بعد هذا الاختلاف أيضاً: هل إذا استتابوه ثلاثة أيام فعرض عليه أن يرجع إلى الإسلام مرة ثانية، وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوب من هذا السب لرسول الله فتاب، فهل يقتل أيضاً أم يسقط عنه الحد؟! فهذا أيضاً خلاف نجم عند العلماء بعد الاستتابة أو قبل القدرة عليه، فهذا خلاف آخر أيضاً، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، ونحن اليوم بصدد الحالة الثانية.
فنقول: هذه الحال الثانية -أن يكون مستأمناً أو معاهداً أو ذمياً- فلو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكمه؟ هذه هي المسألة المعضلة بحق، فنريد أن نعرف حكمه إن كان ذمياً أو إن كان معاهداً، أو إن كان مستأمناً: كأن دخل بلدنا بتأشيرة الأمان بإذن ولي الأمر، ثم تعدى على رسول الله بالسب فهل حكمه أن ينتقض أمانه؟ أنا لا أقول: إن حكمه الكفر؛ لأنه كافر أصلاً، ولكن حرمة دمه كانت بأمور أخرى بينها الشرع، فالأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد باتفاقهم: أنه يقتل، وأن أمانه ينتقض، وأن عهده ينخرم، وأن عقد الذمة يبطل بذلك أو ينتقض بذلك، فهذا كلام الأئمة الثلاثة الفحول أساطين أهل العلم مالك والشافعي وأحمد على تفصيل في مذاهبهم، لكن اتفقت كلمتهم على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجرأ على جنابه -بأبي هو وأمي- فإنه يقتل بذلك وينتقض أمانه وعهده، وخالف في ذلك أبو حنيفة رحمة الله عليه الإمام العظيم المبجل وقال: سب الرسول كفر، وهو كافر، فهذه لا تزيد على كفره كفراً أو نقول: حتى لو زادت فإنها تزيد في عذابه في الآخرة، فقال: لا ينتقض عهده بسبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقتل بذلك فهذا قول الأحناف، والراجح الصحيح هو قول الأئمة الثلاثة العظام: مالك وأحمد والشافعي ، بأنه يقتل ويصير أمانه منتقضاً؛ لسبه للرسول صلى الله عليه وسلم وتعديه، وهذا واقع من ناحية الأثر والنظر.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). والكفار أصناف: فمنهم العتاة، ومنهم المتكبرون الذين يناهضون دين الله جل في علاه ويناصرون الكفر والباطل، ولا يرضون بدين الله جل في علاه، بل يرفعون السيف في وجه الإسلام وأهله، فهؤلاء لا كرامة لهم، وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد دعوتهم للإسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) إذاً: فلا عصمة للدم ولا للمال بعدم الدخول في الإسلام.
كذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- يبعث السرايا ويقول: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله)، فكان يأمرهم بالقتال بعد تأسيس الدولة الإسلامية، وبعدما ظهرت كلمة الله جل في علاه، وظهرت القوة في الأمة الإسلامية، فيقاتلون كل الكفار للدخول في الإسلام، فإن أبى أهل الكفر إلا المذلة والمهانة، وأن يتذللوا ويخضعوا للشيطان لا للرحمن فإن الله جل في علاه جعل لهم حرية المعتقد، لكن بذلة وصغار، وبشروط وقيود، قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ، فإن دعوتهم للإسلام فأبوا فعليك أن تدعوهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون؛ لأنهم أبوا أن يكونوا أذلاء للرحمن، فأذلهم الله جل في علاه للشيطان، وأذلهم لعباد الرحمن، فهنا الله جل وعلا عصم دماءهم بشرطين وقيدين: أن يعطوا الجزية، ومع ذلك يكونوا في صغار وذلة، وبعض العلماء يرى أن إعطاء الجزية نفسه صغار، وهذا ليس بصحيح، وعند الجماهير: أنه لا بد من إعطاء الجزية مع القيود والشروط بالذلة والصغار، وهنا وجه الدلالة من هذه الآية العظيمة: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، فالصغار والذلة يناقضهما سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو تجرأ الذمي على سب الرسول فهذا دليل على أنه ليس ذليلاً، بل دليل تكبره وعتوه وتجبره، سبوا رسولنا، وسبوا قدوتنا، وسبوا من نتأسى به، بل سبوا أكرم الخلق على الله جل في علاه، فهذا يعتبر منافياً لهذه الآية العظيمة، ولهذا الشرط والقيد الذي قيده الله جل في علاه في عصمة الدم، وكأن الله في هذه الآية يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقاتلهم حتى يدخلوا في دين الله أفواجاً، فإن أبوا عليك فاعصم دماءهم بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي: في ذلة وصغار، فالصغار ينافيه ويناهضه ويناقضه سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الآية فاصلة في النزاع، وظاهرة جداً في أن من سب الرسول ليس بصاغر، ومن ليس بصاغر لا تقبل منه الجزية.
إذاً: فلا بد ألا نرفع عن رقبته السيف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم).
الوجه الأول: أن تعريف إمام الكفر: هو الداعي لهذا الكفر، المناهض لدين الإسلام، ومن المناهضة: القتال، والسب والاستهزاء، ومنها الحط من قدر وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإمام الكفر ألحق به السيف؛ لأن الله جل وعلا قال: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12]، ولم يتكلم على الأتباع، وإنما تكلم على الرءوس والأئمة بقطع الرءوس، قال: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12] فاستحق القتل واستحق باللزوم أن يكون إماماً للكفر من وجهين:
الوجه الأول: نكث العهد.
والوجه الثاني: الطعن في الدين، وأوفر حظاً أن يكون طعناً في الدين من يسب الذي أتى بهذا الدين، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر طعناً في الدين.
والوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية: قول الله تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ، نكثوا الأيمان، وطعنوا في دينكم، فكأن الله جل في علاه عطف الطعن في الدين على النكوث في الأيمان، فهذا العطف كما يسميه علماؤنا من باب عطف الخاص على العام، وأهل البيان واللغة يسمونه: تأكيداً، كما قال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] فكل هذه المعدودات متاع الحياة الدنيا، ولذا قال في آخر الآية: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أيش المتاع الذي فصله؟ النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة، والنساء، وكلها تعتبر فتنة من فتن الدنيا، وانظروا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا) يعني: فتن الدنيا، فقال: (اتقوا الدنيا) عموماً، ثم عطف الخاص على العام للتأكيد فقال: (واتقوا النساء) فكأنه قال: اتقوا النساء أولاً في عموم (اتقوا الدنيا)، ثم خصص، ولهذا قال العلماء: إن عطف الخاص على العام -لأن الخاص فرد من أفراد العموم- يدل على تأكيده، قال: (فاتقوا الدنيا) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وأخص من فتن الدنيا النساء؛ لأنها آكد ما يكون من الفتن، ونفس هذا الأمر في الآية، فقد قال الله تعالى: نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ، ومن صور النكث: الزنا بالمسلمة، والتجسس على المسلمين، وإظهار عورات المسلمين للكفار، وإدخال الكفار في بلد المسلمين حتى يعبثوا بها، فكل ذلك نقض للعهد والأيمان، وأيضاً سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكأن الله قال: نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ فهم يستحقون لقب أئمة الكفر، ويستحقون بهذا اللقب عقاباً وهو قطع الرءوس، فكأن الله يقول: نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ عموماً ثم عطف الخاص المؤكد فقال: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ، وأهم طعن في الدين وأوكد طعن في الدين هو: سب الرسول. فهذا الوجه الثاني.
الوجه الثالث: قد يعترض معترض ويقول: لكن الحكم إذا تعلق بعلتين ذكرتا في الكتاب عطف أحدهما على الأخرى: وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم، فإن العطف يقتضي المغايرة، فنرد عليهم ونقول: وإن قلنا بقولكم إن حكم القتل مترتب على الاثنين فنحن نقول: إن نكث الأيمان والطعن في الدين بمجمله يكون مستوجباً القتل؛ فإن كل واحدة منهما علة مؤثرة، فنكث الأيمان علة مؤثرة؛ لأنها خيانة لله جل وعلا، قال: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، فالخيانة علة مؤثرة، وأيضاً الطعن في الدين علة مؤثرة، ولو قلنا: إنه بالعلتين يستوجب القتل فإن الطعن في الدين أكبر محرض على القتل، ونبين هذا بالآية التالية أو الدليل الثالث الذي سنبينه بأنه دليل على قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الله تعالى: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ [التوبة:13]، فهذه الآية العظيمة تبين أن الطعن في الدين أقوى تأثيراً من نكث الأيمان، قال الله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ، فجعل الله المحرض على قتالهم: أنهم هموا بإخراج الرسول، وما أخرجوه، بل هموا بإخراج الرسول، فمن باب أولى ومن القياس الجلي: أن سب الرسول يكون محرضاً على قتل مرتكبه. فنحن نقول: إن كانت الآية تظهر لنا أن الهم بإخراج الرسول سبب في قتالهم وقتلهم فالطعن من باب أولى، ويكون هذا من باب القياس الجلي.
قلنا: عندنا دليل أسطع من ضوء النهار، وذلك لما خاض المنافقون في عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها قام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً على المنبر فخطب الناس وقال: (من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي أو بالغ في إيذاء أهلي؟) فقام سعد بن معاذ ولنعم الرجل سعد بن معاذ ، فهذا الرجل له الحظ والمكانة عند رسول الله، وعند صحابة رسول الله بل له الحظ والمكانة عند الله جل في علاه، لقد اهتز عرش الرحمن فرحاً بقدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال سعد بن معاذ : (أنا أعذرك منه يا رسول الله! والله لو كان من إخواني الأوس أو الخزرج لنضربن عنقه، فقام
الغرض المقصود من هذه القصة بأسرها أنه قام سعد بن معاذ فقال: (يا رسول الله! أنا أعذرك منه أضرب عنقه) للعلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهي: أنه بلغ أذاه في أهل النبي، وهذا يعتبر إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان إيذاء للنبي قام سعد بن معاذ فقال: أضرب عنقه، فأقره النبي، فكان الدليل هنا: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنق من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الدليل نص في مسألة المسلم لا المعاهد، لكنه يدخل في الآية بعمومها؛ لأن الله جل وعلا عمم وقال: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة:61] فبين أن إيذاء النبي فيه محادة لله ولرسوله، فالعقاب يكون بالقتل وضرب العنق لمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
الحديث الأول -هو فاصل في النزع وحجة على الأحناف- حديث كعب بن الأشرف ، وكان يهودياً عاتياً جباراً متكبراً وكان معاهداً للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت ما كانت المدينة من القوة بمكان حتى يأخذ عليهم الجزية، ولكن كان بينهما مهادنة وموادعة، فكان كعب بن الأشرف يهجو رسول الله ويسبه؛ فقال النبي -وهذا وهو وجه الشاهد الذي سيأتي- صلى الله عليه وسلم: (من لـ
جاء اليهود إلى رسول الله وقالوا: إن كعب بن الأشرف قتل غيلة، فطلبوا العهد منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد آذى الله ورسوله، ومن فعل ذلك منكم فليس له إلا السيف) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه شاهد آخر.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله، أقره على ذلك وجعل دمه هدراً، وما أعطاهم الدية، ولما جاءوا يشتكون لرسول الله لم يسمع لهم صلى الله عليه وسلم أبداً، بل قال لهم: (من فعل ذلك منكم فليس له إلا السيف) فهذه دلالة واضحة جداً أن المعاهد ينتقض عهده، وأن المستأمن من باب أولى ينتقض أمانه، وأن الذمي ينتقض عهد ذمته إن سب رسول الله؛ والمسلمون في هذه الآونة كانوا في ضعف ومع ذلك نقضوا العهد، وقتل كعب بن الأشرف من أجل رسول الله بأبي هو وأمي.
وقد يورد الأحناف إشكالاً فيقولون: يظهر من هذا الحديث أنها كانت مسلمة، فيرد عليهم: أنه كان ينهاها وكانت تزيد، ووجه الدلالة: أنها لو كانت مسلمة ما كان للنهي فائدة وقت السب، وإنما تقتل مباشرة لأنها أصبحت مرتدة. المقصود: أنها لو كانت مسلمة لحظة السب لارتدت في وقتها، ولما جاز له أن يصبر عليها كل هذا الصبر، وينهاها مرة تلو المرة؛ لأنها لو كانت مسلمة لارتدت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) وإن كانت من النساء، خلافاً للأحناف، فلو كانت الأمة مسلمة لارتدت في الوقت ذاته، فدل ذلك على أنها كانت كافرة، فكان ينهاها مرة بعد مرة فلم تنته، فنقض عهد الأمان وقتلها.
وجه الدلالة: أولاً: أنه كان راهباً -هذا أول شيء- وليس مسلماً.
ثانياً: أنه كان معاهداً فانتقض عهده بسب رسول الله؛ لذلك ابن عمر يقول: لو سمعته لقتلته، يعني: ولا أرجع إلى الولي، وفي هذا الزمان أصبحت هذه مسألة فقهية: فلابد أن يرجع لولي الأمر، وليس لأحد أن يتجرأ على هذه المسألة حتى لا يأتي بالمفاسد العظام التي لا يعلمها إلا الله جل في علاه؛ لأن مقاصد الشريعة تأبى هذا، وعليك دائماً أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، فنقول: يقول ابن عمر بقوة: لو سمعته لقتلته ما على هذا أعطيناهم العهد. يعني: أنهم نقضوا عهدهم بسب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأختم هذه الأدلة الأثرية بحديث أخير: وهو حديث أبي برزة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فجاء رجل فسبه، فقام أبو برزة وأشهر سيفه فقال: دعني أضرب عنقه، كيف يسب الخليفة؟! فقال أبو بكر : مه! والله ما كانت إلا لرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا في وجود كثير من الصحابة، فأقروه على ذلك.
وهذا كفر أيضاً، ولكن على التفصيل المعلوم، ومع هذا بين أبو بكر بأن سب الرسول ليس كسب أحد من الناس، فسب الرسول يستوجب القتل، أما سب غير الرسول فلن يستوجب القتل؛ لبيان التفرقة، ولذلك قال أبو بكر : مه! ما كانت إلا لرسول الله. وهذه يبين لك الإجماع في قوله: (ما كانت إلا لرسول الله) والصحابة يسمعون ذلك؛ فأجمعوا على كلام أبي بكر أن من سب الرسول يقتل، لكن الخلاف فيمن سب غيره.
أما من النظر: فإن الكافر المعاهد لم يعطه ولي أمر المسلمين العهد والأمان والذمة إلا بشرط عدم إيذاء المسلمين؛ لأنهم سيطلبون منا الأمان لأنفسهم بشرط عدم إيذاء المسلمين، ولذا نبين لكم أنه لا يجوز أي مسلم دخل بلاد الكفر بعقد أمان أن يفجر أو يقتل؛ لأنه لو دخل بعقد الأمان فقد أعطاهم الأمان على أنفسهم، كما أعطوه الأمان على نفسه، فلا يجوز له ذلك.
أما إذا دخل متخفياً في بطاطس، في بصل، في سيارة، أو أي شيء فهذه مسألة ثانية يتكلم فيها الكبار من العلماء، وإنما نبين لكم أن من لوازم إعطاء عقد الأمان: أن تؤمنه على نفسه بشرط أن يؤمنك على نفسك، ويؤمنك على عرضك فلا يصل منه الإيذاء لك، وأعظم الإيذاء هو: أن يؤذيك فيمن تتأسى به، أن يؤذيك في دينك، وأن يؤذيك في رسول الله المعظم المكرم المبجل بأمر الله لديك، فإن آذاك في رسول الله فلا أمان ولا عهد له، فلا بد أن يبلغه ولي الأمر مأمنه، ثم بعد ذلك يبين له أنه أصبح من المحاربين وليس من المستأمنين.
هذه آخر الأدلة بإيجاز على الحالة الأولى وهي: حالة الكافر الذمي الذي له عقد الأمان أو المعاهد أو المستأمن إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فالراجح: أن حده القتل، ويبقى لنا الحالة الثانية وهي: المسلم إذا سب الرسول وفيها أمور ثلاثة، أولاً: حكمه. الثاني: حده، وإذا اتفقوا على أن حده القتل فهل يستتاب أم لا؟ الثالث: إذا تاب هل يسقط عنه حد القتل أم لا؟ هذا معترك واسع جداً، ولعله يأخذ منا أسابيع إذا قدر الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر