شرع المصنف رحمه الله في بيان مذاهب النفاة للصفات، وهم المنتسبون للطوائف الثلاث التي انتسب أصحابها للقبلة، وهي: الباطنية، والفلاسفة، والجهمية المتكلمة، فقال: (فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم) وهذه هي مقالة الباطنية، والمصنف لم يرتب الأمر كالترتيب السابق، إنما أراد أن يبدأ بالمقالة الغالية فما دونها، وقد بدأ بذكر مذهب الباطنية القائلين بأن الله لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت... إلخ.
وهذا المذهب لم يشتبه على أصحابه بسبب نصوص مجملة أو مفصلة، ولا بسبب العقل المجرد، وهو الدليل العقلي الذي يشترك فيه العقلاء، ولم يشتبه عليهم بالمعنى الفطري أو المعنى الحسي، ولكن هذه نزعة فلسفية منقولة، نقلها هؤلاء الباطنية إلى بيئة المسلمين، وزعموا أنهم على هذه الطريقة، ولذلك إذا قيل لهم: هل ذكر القرآن ذلك؟ قالوا: لا. القرآن له باطن.
والجواب: أن المعنى التأويلي أصحابه كالمعتزلة يوجهونه عبر طريق اللغة العربية، بمعنى: أنهم يحورون الآية تحويراً عربياً، وفي الغالب يعتمدون على مقدمات لغوية أكبرها وأخصها ما يسمى بنظرية المجاز اللغوي، فيحورون الآية عبر نظرية المجاز ومقدمات لغوية أخرى، فيجعلونها دليلاً على هذا المعنى الذي حصلوه، فإذا قيل لهم: هل نطق القرآن بهذا هذا المعنى؟ قالوا: نعم. وهذا بحكم كلام العرب، ولكنه على الطريقة المجازية وليس على الطريقة الحقيقية.
فهم في النتيجة العامة يعتمدون على اللغة وعلى التفسير اللغوي للقرآن، أما كونهم يغلطون في ذلك فهذا مقام آخر، لكن المقصود بيان طريقة التحصيل.
أما الباطنية فلا يفسرون القرآن تفسيراً لغوياً، بمعنى أنهم لا يقولون: إن لغة العرب تدل على ظاهر وتدل على باطن، وإنما الباطن عندهم لغة إشارية تكشف -فقط- للرجل الباطني الذي قد وصل إلى سقف الباطنية، فيفسر -مثلاً- كلمة (الصلاة) بتفسير لا تدل عليه، فليست العبرة أنه متلقى من مادة لغة العرب، إنما هذا بحسب الحكمة الباطنية، وبحسب الفكر الباطني الفلسفي يكون التفسير للقرآن، ويسمون ذلك: (الإشارات) أي: أن القرآن أشار إشارات باطنية لطرقهم، وذلك مثل مسألة خلع النعلين في قصة موسى عليه السلام، فإن بعض الغلاة من باطنية الصوفية يقولون: ليس المقصود أنه فعلاً خلع نعليه، ولكن خلع النعلين يعني: التجرد من عالم المشاهدة إلى عالم الربوبية.. وأمثال هذه التفسيرات.
فهذا هو الفرق بين التفسير الباطني والتفسير التأويلي عند المتكلمين.
قوله: (فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات):
من قواعد العقل الضرورية: أن جمع النقيضين ممتنع، وأن سلب النقيضين أيضاً ممتنع، ولا سيما إذا كان الكلام عن موجود قائم بنفسه وقيل: إنه مجرد عن النقيضين، فإن المجرد عن النقيضين هو الشيء المعدوم، والذي يمتنع عليه هذا النقيض وهذا النقيض هو الشيء الممتنع.
وقوله: (وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم):
أراد المصنف بهذا الكلام أن يبين أن هذا المذهب مفارق لأصول الفطرة العامة التي لا يقر بها المسلمون فحسب؛ بل يقر بها جمهور بني آدم.
قوله: (وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم):
هذه هي الطائفة الأولى في كلام المصنف السابق لما قال: (الصابئة والمتفلسفة)، وقد قلنا: ربما أن الواو في غير موضعها، وهذا في أول ذكره للمنحرفين عن طريق الرسل.
السلوب: هو النفي المجرد، والإضافات: هي الأشياء المتقابلة، وهذا معنى التضايف في المنطق، أي: أن الذكر لأحد المتضايفين كالذكر للآخر؛ كالفوق والتحت ونحو ذلك.
فغاية ما يثبته ابن سينا -وهو من أئمة هذه النظرية الثانية- وأمثاله هي مسألة الإضافات، وذلك مثل قولهم: إنه مبدأ العالم، أو علة العالم.
فـابن سينا يثبت هذه المعاني، لكنها ليست عنده من باب الصفات؛ بل هي عنده من باب الإضافات، بمعنى: أن الأشياء إما علة وإما معلول، كما يقال -حسب اللسان النبوي الشرعي-: إن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، والخالق عنده هو العلة.. تعالى الله سبحانه وتعالى عن هذه التسمية، بل عن هذا المعنى؛ لأنهم يثبتون العلة الغائية وليس العلة الفاعلية، وهذه طريقة أرسطو ، فلم يكن أرسطو موحداً، خلافاً لبعض الباحثين المعاصرين الذين يذكرون أن أرسطو كان موحداً، وأنه من خلال الفلسفة أثبت مسائل التوحيد الأولى إثباتاً صحيحاً، وهذا غير صحيح؛ فإن أرسطو يثبت واحداً، لكنه يجعله علة غائية تنتهي إليها الأشياء، وليس فاعلياً، أي: ليس هو الفاعل للعالم، وليس هو الخالق للعالم، بل خلقت الأمور بتوسط العقول وتوسط النفوس.. وغير ذلك مما يذكرونه في كتبهم.
الوجود المطلق أي: المجرد عن الصفات الثبوتية (بشرط الإطلاق) أي: بشرط التجريد عن الصفات الثبوتية.
وهنا مقالتان في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، فتاره يقول عن بعض المذاهب: "وهؤلاء جعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق"، وتارة يحكي عن بعض المذاهب فيقول: "وهؤلاء جعلوه الوجود المطلق لا بشرط".
والمقالة الأولى هي مقالة ابن سينا وأمثاله الذين ينفون عنه صفات الإثبات، ويصفونه بالسلوب والإضافات، ويجعلونه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أي بشرط التجريد عن أي أمر ثبوتي، وهذه نظرية فلسفية لـأرسطو طاليس.
أما مقالة الوجود المطلق لا بشرط فهي مقالة الغلاة من باطنية الصوفية، الذين يُعرفون بمذهب وحدة الوجود، كـابن عربي الطائي ، وابن سبعين ، والعفيف التلمساني ، وأمثال هؤلاء.
فهؤلاء يقولون: هو الوجود المطلق، أو الموجود المطلق لا بشرط، فيجعلون الوجود واحداً، وهذه نظرية وحدة الوجود، وهي نظرية لقوم من الفلاسفة كانوا قبل أرسطو طاليس ، وقد ذكر ابن تيمية أنه وقع كلام لـأرسطو يرد به على قوم من الفلاسفة قبله كانوا يقولون بوحدة الوجود.
وهذان المذهبان -الأول والثاني- لا يزعم أصحابهما أن لهما ذِكراً في القرآن، وغاية ما يمكن أن يقول قائلهم كـابن سينا : أن مذهبهم له إشارة مجملة في القرآن، كقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] وكقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فيرى أن في القرآن إشارات مجملة، وهناك فرق بين الإشارة وبين التعبير اللغوي السائغ.
هذه هي النزعة الثالثة. وقد يقول قائل: قد سبق أن أشار المصنف إلى ثلاث نزعات: نزعة الباطنية، ونزعة المتفلسفة، ونزعة المتكلمين الجهمية، لكنه هنا لم يذكر الجهمية.
والجواب: أن هذا من باب التعريف بالحقائق، بمعنى: أن المصنف يرى أن هذا المذهب جوهره وحقيقته ونتيجته نتيجة مذهب ابن سينا في أنه جعله الوجود المطلق؛ لأنهم ينفون سائر الأسماء وسائر الصفات، فلما كانت النتيجة بين الجهم بن صفوان وبين ابن سينا في الجملة واحدة، لم يقصد المصنف إلى تسمية مذهب الجهم هنا؛ لأنه -في الحقيقة- داخل في كلام ابن سينا ، لكن ابن سينا صرح به تصريحاً فلسفياً، وأما الجهم بن صفوان فرتبه ترتيباً كلامياً، ولم يصرح به تصريحاً فلسفياً، وإلا فالنتيجة في الجملة نتيجة واحدة، ولا يلزم من هذا اتفاقهم في كل شيء.
هذا هو السبب في كون المصنف لم يصرح بمذهب الجهم لما ذكر المتكلمين هنا، وإنما قال: (وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة) أي: قاربوا المتفلسفة كـابن سينا ، فإذا كان المعتزلة قاربوهم، فـجهم قد وافقهم؛ ولذلك يقول ابن تيمية عن ابن رشد : "إن ابن رشد أقرب إلى الشريعة في هذا الباب من جهم بن صفوان "، مع أن ابن رشد رجل فلسفي، وهذا يبين أن المصنف - ابن تيمية - ينتهي إلى أن نظرية الجهم نظرية غالية، ولو أنه قال: ومذهب ابن سينا وابن رشد ؛ لما استغرب؛ لأن كليهما فلسفي، مع أن النتيجة أن الجهم أقرب إلى ابن سينا من أبي الوليد ابن رشد ، وإن كان هناك في المقدمات تراتيب مختلفة.
ومن دقة المصنف أنه قال: (وقاربهم) بمعنى: أن مذهب المعتزلة ليس هو مذهب المتفلسفة، أو الغلاة من المتكلمين كـجهم بن صفوان ؛ بل إن المعتزلة أقرب إلى الشريعة من الجهم ومن المتفلسفة.
لقد أثبت المعتزلة أسماء الله تعالى من حيث الجملة، ولم يثبتوها إثباتاً تفصيلياً كإثبات أهل السنة، فهناك فرق بين إثبات المعتزلة وإثبات الأئمة المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، وهذا الفرق من وجهين:
الوجه الأول: أن الأئمة يثبتون سائر ما ورد به الكتاب والسنة، بخلاف المعتزلة فإنها ردت كثيراً من السنة بحجة أنه آحاد، وهذا له جواب آخر.
الوجه الثاني: أن الأئمة إذا أثبتوا الاسم أثبتوا ما دل عليه من المعنى القائم بذات الرب على ما يليق بجلاله، وهي الصفة التي تضمنها ذلك الاسم، أما المعتزلة فإنهم إذا أثبتوا الاسم أثبتوا ما دل عليه من المعنى حكماً، ولم يثبتوه معنىً قائماً بذات الرب، أي: ينفون الصفة التي دل عليها ذلك الاسم.
فمثلاً: لا يقولون: إن الله لا يتصف بالعلم، أي: لا يعلم الأشياء، ولا يقولون: إن الله لا يسمع ولا يبصر الأشياء، وإنما يثبتون أحكام هذه الصفات، فإذا قيل للمعتزلي: هل الله بكل شيء عليم؟ فيقول: نعم، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن. ولذلك كفّرت المعتزلةُ القدريةَ الغلاة الذين ينكرون علم الله تعالى. وإذا قيل للمعتزلي: هل أحاط الله بالأشياء إدراكاً؟ فيقول: نعم، يدرك الأشياء لكن لا بسمع ولا ببصر.
وهذا هو ما يسمى: (حكم الصفة)، إذ أن الاسم فيه حكم وفيه معنىً الذي هو القيام بالذات، فالمعتزلة تثبت المعنى حكماً، بمعنى: أنهم لا يقولون: إن الله لا يتصف بالعلم من كل وجه، إنما يقولون: عليم، ولكن ليس بعلم يقوم بنفسه، إنما عليم بذاته، أو عليم بعلم هو هو، أو ما إلى ذلك من تعبيرات أئمتهم.
إذاً: المعتزلة يثبتون حكم الصفة ولا ينكرونه؛ لأنهم لو أنكروا حكم الصفات لكفروا على التصريح؛ لأن من يقول: إن الله لا يعلم الأشياء، لا يجادل أحد في كفره، لكنهم يقولون: إن الله عليم بذاته، لكن ليس بعلم يقوم بذاته، وبصير بذاته ليس ببصير يقوم بذاته.. وهذا حتى لا يتصف بالصفات التي تضمنتها الأسماء الحسنى.
وأما أخص معاني الرب عند جمهورهم فهي: القدم، والأولية، ويجعلون هذا هو مبدأ الربوبية، وهذه مسألة فيها إجمال، فلا يُقال: إنها غلط من كل وجه؛ لأن الأولية وأنه الأول وليس قبله شيء، لا شك أنها من أصول ربوبيته، لكن أنها هي أجمع هذه المعاني فإن هذا ليس بالتام؛ فإن قولنا: إنه هو رب العالمين، هذا الوصف هو جامع لأوليته، ولخلقه، ولأفعاله.. وغير ذلك.
1- التوحيد: الذي قصدوا به أن الباري لا يقوم بذاته صفة.
2- العدل: الذي قصدوا به أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يردها.
3- المنزلة بين المنزلتين: وقصدوا بها أن مرتكب الكبيرة فاسق فسقاً مطلقاً ليس معه شيء من الإيمان.
4- إنفاذ الوعيد: وقصدوا به أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو الخروج على أئمة الجور من المسلمين.
فهذه أصول خمسة كلية هي جملة نتائج المعتزلة، أما المقدمات والتفاصيل فيقع بينهم كثيرٌ من الاختلاف.
ذكر المصنف رحمه الله أن هؤلاء المنحرفين عن منهج أهل السنة يفرون من شيء، وهو -بزعمهم- تشبيه الباري بالموجود الحي.. قال: (فيقعون في نظيره وفي شر منه)، فإنهم إذا شبهوه بالموجود غير الحي فهذا شر من التشبيه بالموجود الحي، وكذلك إذا شبهوه بالمعدومات فضلاً عن الممتنعات.
قال: (ولو أنهم سووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المتفرقات):
المتماثلات: هي المخلوقات، فإنه إذا ذُكرت صفة من الصفات لزم منها الاشتراك في قدر من الماهية أو في سائرها بين المخلوقات، فمثلاً: إذا ذكرت صفة العلم، أو صفة البصر، أو صفة السمع لمخلوق، سواء كان هذا المخلوق إنساناً أو حيواناً، فلا يلزم أن تكون ماهية هذه الصفات بين الإنسان وبين الحيوان واحدة من كل جهة، لكن بينها قدر من الاتفاق في الماهية نفسها، وليس في الاسم فقط؛ لأن هذا وهذا تحت قانون وتحت قاعدة الخلق، أي: أن هذا مخلوق وهذا مخلوق، وهذا ممكن وهذا ممكن، لكن الصفات المضافة إلى رب العالمين سبحانه وتعالى يمتنع أن تكون ماهيتها إذا ذكرت في حقه مشاركة لماهية شيء من صفات مخلوقاته؛ لأن صفات المخلوقات صفات لممكنات، وصفات الخالق صفات لواجب الوجود سبحانه وتعالى، أي: أنه هو الخالق، الأول الآخر، الظاهر الباطن... إلخ.
فمن ذاته سبحانه وتعالى، ووجوب وجوده، وقدمه، وأوليته قبل كل شيء، وخلقه لكل شيء، ونحو ذلك من المعاني الفطرية؛ يُعلم أن صفاته مختصة به.
لقد زعم المتكلمون -وهم أخف هذه الطوائف الثلاث التي ذكرها المصنف- زعموا أن دليلهم هو دليل عقلي، وهذا ادعاء ليس بصحيح؛ فإن الدليل الذي زعموه -إن جاز تسميته عقلياً- فإنه يسمى عقلاً مستعاراً، أي: أن مقدماته هي أحكام فلسفية سابقة، والعقل الذي يسوغ استعماله واعتباره في الجملة إنما هو العقل المجرد، أي: العقل الذي يشترك فيه عامة العقلاء، أما أن يؤتى بمقدمات مأخوذة من فلسفة أرسطو أو غيره ويقال: إن هذه مقدمات عقلية ضرورية، فهذا غير صحيح.
فحقيقتها أنها مجهولات ومشبهة بالمعقولات، ولذلك لما قال بعض أئمة المتكلمين: إن العقل معارض للنقل، فلا عجب من ذلك؛ لأن حقيقة العقل الذي قصدوه ليس هو العقل الذي خلقه الله قوة في الإنسان يمكن أن يتحرك بالنظر فيه، إنما العقل الذي قصدوه هو أدلة كلامية أصولها فلسفية، فكأنهم قالوا: إن علم الكلام والفلسفة معارض للنقل، وهذا ليس بعجيب؛ لأن هذه الفلسفة فلسفة قوم من الكفار الذين لم يؤمنوا بالأنبياء والرسل إيماناً شرعياً صحيحاً.
السفسطة: مصطلح فلسفي متقدم، المقصود به أنهم يموهون، فالسفسطة: هي التمويه؛ ولذلك لما ذكر أهل المنطق القياسات الخمس، ذكروا القياس اليقيني البرهاني، ثم بعده القياس الجدلي، والقياس الخطابي، ثم القياس السفسطي، والقياس الشعري، فهذه هي القياسات الخمسة.
والقياس السفسطي: هو الذي تكون مقدماته مموهة في العقل، وتقود إلى الوهم، فيظنها أصحابها شيئاً عقلياً، وهي في حقيقتها وهم عقلي، ولذلك يقول ابن سينا : "إن حقيقة الوهم كاذبة"، وحتى أرسطو طاليس يُذكر عنه أنه لم يكن يعتبر القياس الجدلي والقياس الخطابي، ويزعم أنها مبنية على المسلمات، ويقول أرسطو : إن المسلمات في الغالب أعراف عند الناس وليست حقائق صادقة، وأن الصادق هو فقط القياس البرهاني، أو البراهين العقلية اليقينية.
فالمقصود: أن المصنف يقول: إن معقولاتهم هذه هي سفسطة عقلية؛ لأنها تمويه عقلي يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] فإذا قرأت في كلامهم وجدت التطويلات والتفسيرات العقلية، حتى يظن المخدوع الضعيف أن هذا بناء عقلي عتيد، لا يستطيع أحد أن يُشكل عليه أو يعارضه بكلمة، وحقيقته أنه من جنس هذا المعنى الذي ذُكر في كلام المصنف أنه تمويه عقلي، وإثبات أن الله تعالى متصف بصفات الكمال لا يحتاج إلى فلسفة عقلية طويلة؛ بل هو فطرة، وهو بديهة في عقول بني آدم.
القرمطة: نسبة إلى الباطنية، وكأن المصنف يقول: إن النتيجة عند الباطنية والمتكلمين فيها قدر من الاشتراك، فالمتكلمون الذين زعموا التأويل، تأويلهم هذا ليس تسلسلاً لغوياً، وإنما حقيقته أنه من جنس القرمطة عند الباطنية، وهو التأويل الباطني؛ لأن المصنف - شيخ الإسلام - ينازع منازعة شديدة في أن القرآن يحتمل أكثر من معنى، أحدهما ظاهر والآخر مؤول، ويرى أن هذه النظرية من جنس نظرية الباطنية من حيث النتائج الكلية، ولكن أصحابها وضعوا لها تراتيب لغوية؛ ولذلك فإن له موقفاً مشهوراً في مسألة المجاز.
ولكن يقول شيخ الإسلام : "إن مسألة المجاز إذا نظر إليها باعتبارها من عوارض الألفاظ فهذا اصطلاح، والاصطلاح فيه سعة، وأما إذا نُظر إليها باعتبارها من عوارض المعاني، فهذا هو الذي ذكرنا فيه ما ذكرنا)، إذاً: ابن تيمية لا ينفي المجاز كمصطلح، والنحاة قد سموا بعض الجمل: حالاً، وفاعلاً، وتمييزاً .. إلخ، وهذه مصلطحات، ولا مشاحة في الاصطلاح، وابن تيمية وغيره قد أجازوا مصطلحات شرعية، فضلاً عن مصطلحات لغوية؛ بل نجد أن ابن تيمية أحياناً يقول: هذا من مجاز اللغة، وفي كلام ابن القيم مثل هذا؛ حتى قال من قال من الباحثين: إنهم تناقضوا، وهذا غير صحيح؛ لأن ما عبر به ابن تيمية من كلمة (مجاز) يقصد به عوارض الألفاظ، وأما ما رده وعطله فهو كون المجاز من عوارض المعاني، بمعنى: أن الآية من القرآن لها معنىً يُسمى الحقيقة، ولها معنىً آخر يُخالف المعنى الأول يسمى: المعنى المجازي، هذا هو الذي عارضه ابن تيمية ، وهذه معارضة شرعية واضحة.
فمثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فـابن تيمية يعارض أن يقول قائل: الآية لها معنيان: معنى نسميه: الحقيقة، ومعنى يختلف عن المعنى الأول، وهو ما نسميه: المجاز، فيجعل للآية معنيين بينهما تضاد واختلاف، فهذا هو الذي أراد ابن تيمية أن يقف ضده.
وهذه وقفة صحيحة؛ إذ كيف يُقال: إن الآية لها معنى ظاهر غير مراد، ومعنى آخر مراد، ومن هنا قال: إن ما يسمونه تأويلاً هو قرمطة في السمعيات، حشر الجميع من الطوائف الثلاث في باب القرمطة؛ لأن الجميع إما أنهم صرحوا بالقرمطة كالباطنية، أو قالوا -كـابن سينا-: إنه خطاب للعامة، أو قالوا -كالمتكلمين-: إنه من باب التأويل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر