إسلام ويب

أدب الخلافللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخلاف ضرورة وطبيعة بشرية، وهو أنواع: فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو جائز، وللخلاف بأنواعه أسباب بيّنها أهل العلم، كما بينوا أدب الخلاف، وينبغي على المسلمين -لاسيما طلبة العلم- معرفة هذه الآداب، والتأدب بها، وفي ذلك خير عظيم للفرد والمجتمع.

    1.   

    الخلاف شر وعذاب

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا الصرح الطيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة الكرام! والله الذي لا إله غيره ما شعرت في نفسي أنني أساوي حبة رمل وطئتها نعال العلماء، بل ووالله أذكر نفسي دوماً بقول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل بل والله لا أرجو من الله عز وجل إلا أن أكون من طلاب العلم المخلصين الصادقين، فأسأل الله أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يجعل باطننا أحسن من ظاهرنا، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! أشهد الله أنني أشعر بسعادة غامرة، فهذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها هذا المكان الطيب المبارك، وما توقعت أن يكون المسجد بهذه العظمة، وأسأل الله عز وجل أن يتم بناءه على خير وتقى، وأن يؤسس ويؤصل ويقعد بنيانه على التقوى، وأن يبارك في القائمين على أمر هذا البناء وأمر الدعوة في هذا المكان، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يوحد صفهم، وأن يبارك في أوقاتهم وأموالهم وأعمالهم وأولادهم؛ ليرفعوا لنا بأمر الله هذا البناء الذي أسأل الله أن ينفع به. وأن يجعله فاتحة خير لهذا البلد الكريم، وأن يجعله غصة في حلوق المجرمين والمنافقين. أحبتي في الله! تعالوا بنا لنعيش الليلة مع محاضرة هامة، عنوانها: أدب الخلاف، وسيكون حديثنا معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الخلاف شر وعذاب. ثانياً: أنواع الخلاف. ثالثاً: أسباب الخلاف. وأخيراً: أدب الخلاف. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فوالله إن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

    انتشار الصحوة الإسلامية المباركة

    أيها الخيار الكرام! لا ينكر عاقل منصف على الإطلاق أننا نعيش الآن صحوة إسلامية مباركة، تتمثل في شباب في ريعان الصبا، وشواب في عمر الورود، كوكبة كريمة من الفتيان والفتيات، أتت هذه الكوكبة من جديد لتمشي على الطريق التي مشى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تسري هذه الكوكبة بدعوته بين الصخور والحجارة كسريان الماء، وتنزلت في بقاع الأرض كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، إنه وعد الله، ويحلو لي أن أنشد: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طابت ثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من قد حولوا البوسنا رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تدفقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى باتباعك أسمقا إننا نرى الصحوة في كل بقاع الأرض، لا نراها في مصر فحسب، أسأل الله أن يحفظ مصر، وأن ينمي الخير في مصر، فوالله إن الخير في مصر، لا نرى الصحوة فقط في مصر، بل ولا في البلاد الإسلامية فقط، وإنما نرى الصحوة في بلاد الكفر، بل على ظهر قلعة الكفر في الأرض (أمريكا!). أشهد الله -من باب البشارة والله أعلم بنيتي- أنني كنت منذ شهر تقريباً أخطب الجمعة في مسجد الفاروق في بروكلين في نيويورك، وهاهو أحد إخواننا ممن صلى معي الجمعة هناك يشرفنا الآن، فقد زارنا في الله، فجزاه الله خيراً، والمسجد أربعة طوابق، وأعلن الإخوة عن خطبة الجمعة في التلفاز وفي المساجد، فأقبل إلى المسجد المسلمون، وجاء بعضهم من ولايات تبعد عن المسجد بأربع ساعات بالطائرة! والله يا إخوة! رأيت بعيني أن الإخوة قد فرشوا للمصلين خارج المسجد، قلت: وعد الله عز وجل، حتى قلت للإخوة وأنا على المنبر: لا أشعر الآن أنني أخطب في أمريكا على تراب قلعة الكفر في هذه الأرض، وإنما أشعر أنني أخطب بين الموحدين في مصر! وعد الله، الصحوة الآن أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، وأقول لكم بملء فمي، بلغة يحدوها الأمل، وبقلب يملؤه اليقين: إن هذه الصحوة قد بدأت بالفعل تنقل الأمة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة، شبابنا الآن يتكلم عن اليهود، شباب الصحوة الآن يعرف تاريخ اليهود الأسود، شباب الصحوة الآن يعرف الولاء والبراء، شباب الصحوة الآن يعرف هذه الشلة التي لمعت، وأحيطت بهالة من الدعاية الكاذبة؛ لتغطي هذه الهالة الدعائية انحرافهم، هؤلاء الذين ربوا في مدارس أعداء الدين، ثم عادوا إلينا لينفثوا سموم فكرهم العفن النتن، شبابنا الآن يعرف حقيقة هؤلاء من أمثال: المصلح الاجتماعي الأول للأزهر، من أمثال عميد الأدب العربي، إلى آخر هؤلاء، فشباب الصحوة الآن يعرف حقيقة تاريخهم الأسود. انتقلت الأمة في غالبها على أيدي شباب هذه الصحوة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة. ثم انظروا أيها الآباء الكرام وأيها الشباب الأخيار إلى دعاتكم وشيوخكم الذين يبصرونكم الآن ويعلمونكم على مستوى العالم، سترون أن الغالبية من هؤلاء هم من الشباب، وعد الله عز وجل، فلا ينكر الآن الصحوة إلا من عمي بصره بعد أن عميت بصيرته، الصحوة الآن هي محط الحديث، ومحور الحديث على مائدة المفاوضات لكل زعماء العالم، إن اجتمع زعماء الغرب، إن اجتمع زعماء الشرق، إن اجتمع زعماء العالم العربي، فالصحوة هي محور حديثهم، وإن كان الإعلام يتحدث عن الصحوة بلغة التفرق والإرهاب والأصوليين والمتطرفين والإرهابيين، فإن الحديث في الأصل عن الصحوة وعن شباب الصحوة، أسأل الله أن يبارك فيها، وأن ينقيها، وأن يجعلها غصة في حلوق المجرمين والمنافقين، وأن يرد الأمة على أيدي شبابها رداً جميلاً إليه، إنه هو مولانا ورب العالمين.

    الخلاف أعظم عقبة تقف في طريق الدعوة

    أصارحكم -أيها الأحباب- أن هذه الصحوة إن لم يمتن ربنا عليها بحداة صادقين، وعلماء مخلصين، يصححوا للصحوة ولشبابها الانحراف العلمي، بل والعقدي بل والعملي؛ فيستبدد جهد الصحوة كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، اللهم احفظها يا رب العالمينّ! إن الصحوة تحتاج إلى العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، الذين لا يجاملون الصحوة على حساب المنهج، يقف الداعية ناصحاً وإن ظن أن أحبابه وطلابه سيغضبون عليه فليعلم يقيناً أنه لا يعمل لحساب مخلوق، إنما يعمل من أجل مرضاة الخالق، لو خشيت أن تقول خوفاً من أن تتهم؛ فصحح الأوبة وجدد التوبة، فإنك تحتاج إلى صدق نية، وإخلاص سريرة، وتصحيح عمل. ولا يكاد يختلف اثنان ممن يعملون الآن للإسلام أن العقبة الكئود التي تقف في طريق الصحوة، وفي طريق الحركة الإسلامية هي الخلاف، التشرذم، التهارج، فالخلاف شر وعذاب، ويكفي أن تعلم أن الذي حذر من ذلك هو الملك التواب، وحذر من ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46] فالفشل قرين التنازع، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] فالتنازع يبدد القوى، التنازع يبدد الجهود ولو كانت جبارة. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:105-106] قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107]، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود الوجوه، واجعلنا من أهل رحمتك يا أرحم الراحمين! وقال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، الخلاف شر، وأود أن أنبه أحبابي من طلاب العلم ومن الدعاة إلى حديث باطل يتردد في الغالب على ألسنة البعض، ألا وهو (خلاف أمتي رحمة)، فهذا حديث باطل لا أصل له، فالخلاف شر وعذاب.

    1.   

    أنواع الخلاف

    يحسن بنا أن نبين أنواع الخلاف؛ حتى لا ينسحب هذا الحكم على نوعي الخلاف، وهذا هو العنصر الثاني من عناصر المحاضرة، فالخلاف نوعان: النوع الأول: خلاف في أصل الملة، وهذا هو الذي قال الله عنه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] اتفق على ذلك أئمتنا كـابن تيمية والشاطبي والحافظ ابن رجب والإمام ابن حزم وغيرهم من أهل الأحكام وأهل الأصول، قالوا: الخلاف الوارد في الآية إنما هو خلاف في أصل الملة، فمن خالف التوحيد كان أهلاً لعذاب الله، وخرج من رحمة الله، فكل فرق الضلال التي خرجت عن القرآن والسنة خارجة عن رحمة الله، وهي أهل لعذاب الله، فتدبر معي جيداً. إذاً: هذا هو النوع الأول من أنواع الخلاف، وهو خلاف في أصل الملة، فكل فرق الضلال كالخوارج، كالقاديانية، كالبهائية، كالرافضة بطوائفها، كل فرق الضلال التي شذت عن القرآن وسنة سيد الرجال فهي التي خرجت عن رحمة الكبير المتعال، وهي أهل لعذاب الله عز وجل، وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، فمن كان على القرآن والسنة فهو أهل للرحمة، ومن شذ عن القرآن والسنة فهو أهل للعذاب وللنقمة. النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية، وهذا باتفاق أئمة السلف أنه لا إشكال فيه، ولا غضاضة فيه، بل لقد أثبت الله لأهله محض الرحمة، فأول من اختلف في الفروع والمسائل الاجتهادية هم أصحاب خير البرية، وقد حصل لهم محض الرحمة من رب البرية جل وعلا. تدبر معي جيداً: الخلاف في مسائل الفروع، الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج أصحابه من رحمة رب العباد، أما الخلاف المذموم فهو الخلاف في أصل الملة، الخروج عن أصل التوحيد وعن سنة محرر العبيد، أما الخلاف في مسائل الفروع، في مسائل الاجتهاد؛ فلا غضاضة في ذلك ولا إشكال، فلقد اختلف خير الرجال من أصحاب سيدنا رسول الله في بعض المسائل الاجتهادية، وقد حصلت لهم محض رحمة رب البرية، فهم أهل الرحمة باتفاق أئمة السنة والجماعة. فقس على نوعي الخلاف حتى لا تختلط بين يديك الأوراق: خلاف في أصل الملة وهو شر كله، وخلاف في المسائل الفرعية والاجتهادية، ولا إشكال في هذا النوع من أنواع الخلاف.

    1.   

    أسباب الخلاف

    يجب أن نعلم ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذا الخلاف؟ وهذا هو العنصر الثالث من عناصر المحاضرة، وأنا أقصد: أسباب الخلاف الثاني الخلاف في الفروع ومسائل الاجتهاد فأسباب الخلاف هي : السبب الأول: طبيعة البشر، أتحداك أن تخرج لي من هذا الجمع الكريم المبارك رجلين يتشابهان في كل شيء! محال أبداً، طبيعة البشر الأصل فيها الاختلاف، فالبشر على ظهر البسيطة يختلفون في طبيعتهم، في ألوانهم، في بشرتهم، في لغتهم، في قلوبهم، في ذكائهم، في فكرهم، في فهمهم، في صفائهم، في استقبالهم للمعلومات، في بصمة بنانهم، بل وفي أصواتهم، لا يتفق اثنان على ظهر الأرض اتفاقاً كاملاً في كل شيء أبداً، تدبر معي قول الله: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22] فالاختلاف مراد لرب العالمين في هذه الطبائع بنص القرآن الكريم. (وَمِنْ آيَاتِهِ) جعل الله الاختلاف في طبيعة البشر آية للعالمين، أي: لأهل العلم الذين يتفكرون ويتدبرون، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) فهذا عربي، وهذا عجمي، وهذا فرنسي، وهذا هندي، وهذا كذا وهذا كذا، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فالبشر يتفاوتون، وإذا كان ذلك كذلك فمحال أن يتلقى المعلومة مني الآن فلان كما تلقاها فلان، ولو تلقوها جميعاً بمفهوم واحد فستختلف النتائج، كل له فكره، كل له فهمه، كل له استيعابه، كل له إدراكه، كل له طبيعته، كل له خصائصه، فطبيعة البشر سبب رئيسي من أسباب الخلاف بين الناس. ثانياً: عدم بلوغ الدليل، قد يبلغني دليل وقد لا يبلغ الدليل شيخاً آخر من المشايخ، فتأتي فتواي مخالفة لهذا الشيخ المبارك، لماذا؟ لأنه قد بلغه دليل أفتى به، ولم يبلغني دليله الذي أفتى به فأخالفه، وقد وقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل لقد غاب عن جمع من أصحاب رسول الله كثير من الأدلة وهم الذين كانوا يعايشون النبي، ويسمعون النبي، مع أنهم لا يتلقون العلم إلا عن معلم واحد، فما ظنك بأناس يتلقون العلم على يد آلاف العلماء، فلابد أنه سيختلف الفهم ويتشعب، كان عمر بن الخطاب مع أصحابه وهو في طريقه إلى الشام سمع بالطاعون، فانقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريقين: الفريق الأول يقول بالدخول إلى أرض الشام، والفريق الثاني يقول: لا يجوز لنا أن ندخل إلى الأرض ما دمنا لم نكن فيها، وكان على رأي الفريق الثاني الذي أبى الدخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال حينما قال له أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين! تفر من قدر الله؟ فقال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله. وهذه المقولة الجميلة قمة الفقه، والشاهد أن الصحابة اختلفوا، فريق يأبى الدخول، وفريق يأمر بالدخول وغاب الدليل في هذه المسألة عن عمر ، بل وعن جمع كبير من أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال لهم: لقد سمعت في ذلك حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يقول: (إذا وقع الطاعون في أرض ولستم بها فلا تدخلوا إليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) والحديث رواه البخاري ومسلم . والشاهد: أن عمر وعدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم الدليل الذي ذكرهم به عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعاً، فعدم بلوغ الدليل كان سبباً في الخلاف. ثالثاً: عدم العلم بنسخ الدليل، قد يخطئ صحابي من الصحابة في مسألة فيأخذ بدليل معين وهو لا يدري أن هذا الدليل قد ورد دليل آخر ينسخه، سواء كان هذا الدليل من القرآن أو من السنة، مثل حديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فنسخ النبي عليه الصلاة والسلام الحكم الأول وهو النهي عن زيارة القبور بدليل آخر يسمى بالدليل الناسخ، فعدم بلوغ الناسخ والمنسوخ للمفتي قد يكون سبباً من أسباب الخلاف. رابعاً: النسيان، وجل من لا ينسى، والنسيان أمر يعتري البشر على وجه الأرض، بل إن النسيان اعترى النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ورد في مسند أحمد وسنن الترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً في الصلاة فنسي آية، فلما سلم تذكر الآية، فقال لـأبي بن كعب رضي الله عنه: (يا أبي ! هلا ذكرتني بها!) يعني: تذكرني بالآية وأنت في الصلاة، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون). فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، فقد أنسى دليلاً، وقد تنسى دليلاً، فأقول بقول يخالف ما عندك من الدليل؛ لأني نسيت دليلك الذي تستدل به، وقد نسي عمر بن الخطاب حديث التيمم الذي ذكره به عمار بن ياسر ، والحديث طويل مشهور، فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، بل أنت قد تنسى أمراً في بيتك فتختلف بسببه مع زوجتك، وقد تنسى زوجتك أمراً فتختلف معك، فالنسيان أمر يعتري البشر جميعاً. خامساً وأخيراً: من أسباب الخلاف اختلافهم في فهم المراد من الدليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) هذا دليل صريح واضح، ومع ذلك اختلف الصحابة في فهم الدليل، فانقسموا إلى فريقين: فريق صلى العصر في الطريق، وقال: ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، إنما أراد أن يحثنا على الخروج لمقاتلة بني قريظة. والفريق الآخر قال: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فلن نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو دخل وقت المغرب، فانقسم الصحابة، وكان سبب الخلاف أنهم اختلفوا في فهم المراد من الدليل.

    1.   

    فهم الأدلة فضل يؤتيه الله من يشاء

    الفهم للأدلة فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فهم الدليل لا يوزن بالأعمار، ولا يوزن بالسبق في طلب العلم، لكن يقاس ويوزن بالصدق، فأخلص يفتح الله عليك: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282] لا تستهينوا بأمر التقوى في طلب العلم، كان ابن تيمية طيب الله ثراه إذا استشكلت عليه مسألة من المسائل أقام الليل لله جل وعلا وسجد بين يدي الله، وبلل الأرض والثرى بدموع الخشوع والتذلل والتضرع للملك، وسأل الله عز وجل بهذا الدعاء الكريم فقال: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني! تضرع إلى الله، والله لو علم الله منك الإخلاص والصدق لفتح عليك من كنوز فضله بما لا يمكن على الإطلاق أن يعبر عن هذا الفتح بلغة بليغ أو فصاحة فصيح، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]. غضب كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر كيف يأذن لـابن عباس رضي الله عنهما أن يدخل مع مشايخ أصحاب رسول الله في مجلس الشورى، ومن أبنائهم من يكبر ابن عباس ! فأراد عمر أن يبين لهم أن الأمر لا يقاس بالأعمار، ولا يقاس بالسبق، إنما يقاس بالصدق، وذلك فضل الغفار يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فأراد عمر أن يبين لهم ذلك، فسأل الصحابة عن سورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] قال لهم عمر : ما تقولون في هذه الآيات؟ فقالوا: نقول فيها: إن الله يأمر نبيه إن نصره وفتح عليه مكة أن يكثر من الاستغفار والتوبة، فالتفت الفاروق الملهم إلى ابن عباس وقال: ما تقول أيها الشاب الكريم في هذه الآيات؟ فالتفت ابن عباس إلى عمر وقال: أقول فيها بخلاف هذا يا أمير المؤمنين، أقول: إن الله قد نعى بهذه السورة لرسول الله أجله. يعني: قد أتم الله عليك النصر، وأكمل لك الدين، وأتم بك النعمة؛ فاستعد للقاء الملك. إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] أي: أكثر من العمل الصالح، وداوم على الاستغفار، واستعد بعدها للقاء الملك الغفار. فهم عجيب! ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]. قصة أخرى: كاد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يرجم بريئة اتهمها البعض بالزنا؛ لأنها وضعت ولدها لستة أشهر، فقال علي بن أبي طالب : رويداً يا أمير المؤمنين! فإني أرى أن الله عز وجل قد ذكر في قرآنه أن المرأة قد تضع ولدها لستة أشهر، قال: أين ذلك يا علي وقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره وما وقفت على هذه الآية؟! قال: اقرأ قول الله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233] فهذه أربعة وعشرون شهراً، والآية الأخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15] اخصم أربعة وعشرين من ثلاثين يبقى ستة شهور، قال: جزاك الله خيراً يا أبا الحسن ! فهم يؤتيه الله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

    1.   

    أدب الخلاف

    العنصر الرابع من عناصر المحاضرة: أدب الخلاف، بعد ما توقفنا عند خطورة الخلاف، وذكرنا نوعي الخلاف، وأسباب الخلاف، نذكر أدب الخلاف، وما أحوجنا إلى أدب الخلاف، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصدق والعمل. الأمة تعاني من الفرقة، تعاني من الشقاق، تعاني من الخلاف، وأقول: لو اجتمع زعماء العرب كل ليلة، فلن تلتقي الصفوف، ولن تلتقي القلوب، ما دامت الأمة -على أيدي زعماء العرب- قد نحت شريعة ربها، لن تلتقي القلوب إلا على مصدر التلقي، ما هو مصدر التلقي وأصل اللقاء؟ القرآن والسنة، والله لن تلتقي الأمة إلا على هذا الطريق، والله مهما شرقت وغربت وخضعت وسجدت فلن تلتقي صفوف الأمة، ولن تتوحد كلمتها، ولن تأتلف قلوب أبنائها إلا إذا التقت الأبدان بعد القلوب على كلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فالسبل ضلال، والصراط المستقيم نجاة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة. (خط النبي عليه الصلاة والسلام خط على الأرض خطاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً متعرجة وقال: هذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فاختر لنفسك أن تسلك طريق الرحمن أو طريق الشيطان، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم سلوك طريق الرحمن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    عدم التعصب

    أول أدب من أدب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص والجماعات. يا إخوة! الدكتور بدير والشيخ أبو إسحاق ، والشيخ محمد يعقوب ، والشيخ مصطفى العدوي ، ومحمد حسان ، وشيوخنا الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ ناصر ، والشيخ ابن عثيمين، كل هؤلاء إلى فناء وإلى زوال، فالدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون، وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فاجعلوا ولاءكم لله، ولا تجعلوا ولاءكم لأشخاص الدعاة. يا شباب الصحوة! اجعلوا ولاءكم لله لا لأشخاص الدعاة، الدعاة إلى زوال، قد أسجن، قد أمرض، سأموت، فهل تتوقف الدعوة؟! إذا سافر الدكتور بدير هل تتوقف الدعوة؟ لا، ثم لا، ولو توقفت الدعوة بموت دعاتها لماتت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة. ماذا قال صديق الأمة يوم أن جاء من منزله بالسنح، ورأى الجموع الملتهبة تصرخ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحول حجراته الطاهرات، فكشف الغطاء والبردة عن وجه الحبيب الأزهر الأنور، وقبل الحبيب بين عينيه، وبكى وقال له: طبت حياً وميتاًيا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق لينادي في تلك الجموع: على رسلك يا عمر! والتف الناس حول صديق الأمة ، وأعلنها مدوية: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. انبذوا العصبية للشيوخ، انبذوا العصبية للجماعات كلها، والله لا ندين الله بلافتة أو باسم جماعة، والله لا ندين الله بهذا، قال ابن القيم : إن سألوك عن شيخك فقل: شيخي رسول الله، وإن سألوك عن جماعتك فقل: هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ [الحج:78] وإن سألوك عن منهجك فقل: الكتاب والسنة، وإن سألوك عن بيتك فقل: إن بيوت الله في الأرض المساجد. انبذوا العصبية للجماعات، انبذوا العصبية للشيوخ، اقبلوا الحق على لسان أي أحد، وردوا الباطل على لسان أي أحد، إذا كانت الجماعة الفلانية عندها حق، فضع الحق على رأسك، أو كانت جماعتك التي تنتمي إليها عندها باطل، فاضرب بباطلها عرض الحائط، هذا أول أدب ينبغي أن نؤصل عليه، والله لا أملّ من أن أكرره وأذكر به، وسأكرر وسأذكر به، بل وأدعو جميع إخواني من الشيوخ والدعاة أن يكرروا وأن يذكروا به، وأن يؤصلوا في قلوب شبابنا وطلابنا نبذ العصبية لجميع المشايخ ولجميع الدعاة، ليكون الولاء لدين الله عز وجل ولدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. جاءك الشيخ فلان يقول: قال الله قال رسول الله، اجلس تحت قدميه، لا تقل: من هذا؟ بل قل: ماذا يقول هذا؟ يقول: قال الله قال رسوله قولاً صحيحاً عن رسول الله ليس مبتدعاً، ليس صاحب فكر منحرف ضال، اجلس تحت قدميه وتعلم، لا تقل: أنا لا أحضر إلا لفلان! انبذوا هذا التعصب، وتخلصوا من هذا الأمر أيها الأخيار الكرام، وبلغوا هذا الكلام لكل شباب الصحوة، اعرف الحق تعرف أهله، نكرر هذا مئات المرات! اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق. التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، أقول: يا أخي! قال الله عز وجل وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: لكن الشيخ فلان قال كذا وكذا، أعوذ بالله! أقول لك: قال الله وقال رسول الله، وتقول لي: قال الشيخ فلان! أمر عجب! ابن عباس يقول لخير الناس بعد الأنبياء -للصحابة- : أقول لكم قال رسول الله وأنتم تقولون قال أبو بكر وعمر ؟! ابن عباس ينكر، وأنا والله لا أعلم قولاً واحداً خالف فيه أبو بكر وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، ولو كان كالشمس في وضح النهار، قال الإمام الأصولي الفذ العلم الشاطبي في كتابه الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، فاتبعوا أهواءهم بغير علم، وضلوا عن سواء السبيل. وقال بركة الأيام، وحسنة الزمان، وإمام الأئمة الأعلام، ابن تيمية طيب الله ثراه -واحفظوا هذا الكلام، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم العمل به- قال: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، ومن فعل هذا فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر في مجموع الفتاوى: من تعصب لواحد من الأئمة بعينه دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لـعلي ، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي ، من فعل ذلك فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء. أيها الأحباب! لا يجوز التعصب، بل تنظر ماذا يقول الشخص، ثم تعرض كلامه على القرآن والسنة، فإن وافق القرآن والسنة فضع قوله على رأسك. أعجب من أحد طلابنا الصغار حينما كنت أخطب الجمعة في مصر يوم وفاة الشيخ محمد الغزالي ، فدعوت الله له بالمغفرة والرحمة، وبعد الجمعة أقبل علي الشاب، وقال لي: يا شيخ! هل يجوز أن ندعو الله للشيخ محمد الغزالي ؟! قلت: سبحان الله! ولم يا بني؟! قال: لقد أخطأ في كذا وكذا، قلت له: ائتني بعالم واحد من علمائنا بعد رسول الله لم يخطئ، فلو عاملنا شيوخنا جميعاً بما نريد أن نعامل به الشيخ الغزالي ما بقي لنا شيخ واحد على وجه الأرض لنتلقى العلم على يديه، فلقد مضى زمن العصمة بموت رسول الله، يا أخي! خالف الشيخ في أخطائه وبين أخطاءه بأدب، لكن مَنْ مِن الشيوخ على وجه الأرض لم يخطئ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل -وكل من صيغ العموم- بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) اللهم ارزقنا التوبة قبل لقاك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الحكمة والرحمة، فإن أصحاب القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع الغلظة والقسوة والانتقام، لأنك لا تدري بأي شيء يختم لك، أسأل الله أن يرزقني وإياكم جميعاً حسن الخاتمة، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة التوحيد والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. إذاً: أول أدب من آداب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص وللجماعات.

    الإخلاص والتجرد من الأهواء

    ثانياً: الإخلاص والتجرد من الأهواء، والله الذي لا إله غيره لن يقبل الله منك كلمة ولا حركة إن لم تبتغ بها وجهه، ولو ملأت الدنيا ضجيجاً. يا أخي! سل نفسك: أنت تناقشني أمام الناس، الله عز وجل وحده يعلم بنيتك، هل تريد إحراجي؟ هل تريد النصح لي؟ هل التزمت أدب النصيحة؟ هل تريد البيان لي؟ هل تريد السمعة؟ هل تريد الشهرة؟! لو خدعتني وخدعت الخلق فلن تخادع الخالق، فتش في النية، لماذا أتيت أنت الآن إلى هذا المسجد؟ ما هي نيتك؟ هل خرجت لله أم لسبب آخر يعلمه الله؟ الإخلاص، إن ناقشت أحد إخوانك ففتش عن نيتك قبل أن تتكلم، هذا يريد الزعامة، هذا يريد الصدارة، هذا يريد الشهرة، هذا يريد المال، هذا يريد المنصب، هذا يريد الجماعة، لو صدقنا الله عز وجل ونقبنا لرأينا أن الهوى كان سبب معظم الخلافات على أرض العمل الإسلامي، الهوى ملك ظلوم غشوم جهول، يصم الآذان ويعمي الأبصار، وقد حذر الله عز وجل منه نبياً من أنبيائه: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن، وهو حديث حسن، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار) أنت تجهل الأدلة، ومراتب الأدلة، ومناطات الأدلة، فلماذا تتكلم في دين رب البرية جل وعلا؟! قاض عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، يا رجل! أنت تعرف الحق، وتعرف الدليل! سبحان الله! يفتح المراجع، إذا ظهر له بين يديه في المرجع دليل يخالف قوله يخبئه؛ لأنه ليس له، عرف الحق وقضى بخلافه، والله إن هذا السبيل يمرض القلوب. وهناك ممن يعملون بالدعوة لا وظيفة لأحدهم إلا أن يجلس ليترصد أخطاء الدعاة، هذه وظيفته! تخيل محاضرة مثل هذه فيها عشرات الآلاف من الكلمات، قد أزل في كلمة منها، يطلع ويقول: سمعت الشيخ قال كذا؟! ويدق الطبول، ويشنع لهذه الكلمة، أو لهذه الجملة أو الفقرة. سبحان الله يا أخي! لماذا لم تأتني إن كنت صادقاً في النصيحة، والله لو صدقت الله لعلمت أنك كاذب، سامحوني! أين النصيحة أين آدابها أيها الناصح؟! يجلس عالم في مجلس علم وهو لا يدري كم جلس هذا الرجل ليعد المحاضرة بالساعات، بل بالأيام، بل والله بالأسابيع، وأمام كلمة زل فيها لبشريته، لا يخرج من هذا المجلس كله إلا بها! هذا قمة الظلم، أين الإنصاف؟! أين العدل؟! يقول ابن تيمية : من حكم على الناس بغير علم فقد خالف قول الله جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ومن حكم على الناس بغير عدل فقد خالف قول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] تكلم في الناس بعلم وعدل، تكلم في المناهج بعلم وعدل، تكلم عن الشيوخ بعلم وعدل، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم العلماء إلا عالم، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم الشيوخ إلا شيخ، وأرى أنه لا ينبغي أن يجرح العلماء إلا عالم بالجرح والتعديل. اعلم -يا أخي- وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. رحم الله الحافظ ابن عساكر ، فهو قائل هذه الكلمات، فمن بركة العلم أن ننسب العلم إلى قائليه. الإخلاص والتجرد عن الأهواء: تجرد عن الهوى، أخلص في النصيحة، ولتكن بأدب وبحكمة وبرحمة، وإن كنت صادقاً فانطلق مباشرة إلى الشيخ الذي أخطأ، وبين له الخطأ بأدب، لا تدق الطبول بزلة أو بخطأ، ورحم الله من قال: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإخلاص والتجرد من الأهواء من أعظم الآداب التي يجب أن نتأدب بها في حالة الخلاف، فإذا خالفتكم في مسألة، أو خالفتوني في مسألة من الفروع، فلا بأس، ومحل بحثنا هو عن النوع الثاني من أنواع الخلاف، خلاف الفروع أو مسائل الاجتهاد، فإذا خالفتك فيها، وأردت أن تناقشني في هذه المسألة، فناقشني بالإخلاص، وصحح النية، وأنا أصحح نيتي، أنا أريد الحق، وأنت تريد الحق، كما قال الشافعي : والله ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يجري الحق على لسانه. وهذه قمة التجرد. وفي نفس المكان الطيب الطاهر هذا ألقيت خطبة جمعة بعنوان: تجرد وعدل وإنصاف، وبينت فيها كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على قمة التجرد والإخلاص، والله ما انتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، ولن ينتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، وسامحوني أن أذكركم مرة أخرى بل وللمرة الألف ما كان من خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، يعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في الشام، أبو بكر الصديق يرسل لقائد الجبهة أبي عبيدة ويقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح ، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، والله ما وليته عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. ويرسل الصديق أمراً إلى خالد ، فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمير أبي عبيدة بن الجراح ، سلام من الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام للقيام على أمرها، وللتولي لشأن جندها، ووالله يا أبا عبيدة ما طلبت ذلك ولا أردته، فأنت في موضعك الذي أنت فيه، لا نقطع دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. قمة التجرد، قمة الإخلاص. وتصل الرسالة إلى أبي عبيدة فيتنازل أبو عبيدة عن القيادة لـخالد بن الوليد ، وتبدأ المعركة، ويموت الصديق ، ويعزل عمر خالد بن الوليد ، ويؤمر أبا عبيدة من جديد، ويخفي أبو عبيدة الرسالة، وقيل: أخفاها خالد ، والأمر سواء، فكلاهما على درجة عالية من التجرد والصفاء، وبعد انتهاء المعركة دفع أبو عبيدة الرسالة لـخالد ، فانتقل خالد بن الوليد على الفور من القيادة وتركها لأخيه أبي عبيدة ليكون خالد جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً. قمة التجرد يا إخوة، ناقشني بتجرد وإخلاص، ادع الله أن يكون الحق معي، وأنا أدعو الله أن يكون الحق معك، فهدفي وهدفك أن يعلو الحق.

    إحسان الظن بالمخالف وعدم التماس العيب للبرآء

    ثالثاً: من أدب الخلاف: إحسان الظن بالمخالف، وعدم التماس العيب للبرآء، أدب عالٍ، أحسن الظن بمخالفك، أنت قد تكون على حق أو باطل، ومخالفك قد يكون على حق أو باطل، فلم يا أخي تزكي نفسك وتتهم غيرك؟ يا إخوة! لا ينبغي أن يزكي واحد منا نفسه على الإطلاق، قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى [النجم:32]، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل. أحسن الظن بمخالفك، أنا أخالفك: فأحسن الظن بي، وأنا يجب أن أحسن الظن بك، ما دمت معي على الطريق، أنا أدين الله سلفاً بأنك من أهل السنة والجماعة، فإن خالفتك في مسألة هي محل اجتهاد فيجب علي أن أحسن الظن بك، ويجب عليك أن تحسن الظن بي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)، والحديث في الصحيحين، وقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، يا أخي! لا تظن بأخيك إلا خيراً، أخوك معك على طريق الدعوة، فيجب عليك أن تظن بالمسلمين خيراً، فما ظنك بأخيك الذي يتحرك معك للدعوة على الطريق؟ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12] هذا هو الأصل. فالأصل أن يظن المسلم بأخيه خيراً، وأن تظن المؤمنة بأختها خيراً، فما ظنك بأخ داعية يمشي معك على الطريق؟ فيجب عليك أن تظن به خيراً، (إياك والظن، فإن الظن أكذب الحديث) ولا تنقب عن عيوب للبرآء، قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم: ظن السوء بمن ظاهره الصلاح يحرم في دين الله. أي: إذا وجدت أخاك على ظاهر طيب، وعلى خير؛ فلا يجوز لك أن تنقب وأن تفتش وأن تبحث وأن تنظر من النافذة! وأن تنظر من تحت الأرض! ما عليك هذا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] لماذا تلتمس العيب لأخيك؟ لماذا لا تجتهد أن تشكر أخاك بدلاً من أن تنقب عن عيوبه؟! ما دام أن أخاك في الظاهر على الخير؟! لا تتهم إلا من كان في الباطل وعلى الباطل وفي البدعة وعلى البدعة، فهذا قد أوقع نفسه في موضع الشبهات، فهو حري أن يتهم، لكنك ترى أخاً من إخوانك يحرص على السنة، لكن زل لبشريته وضعفه، فاستر عليه، وهذا باتفاق أهل السنة، استر على من ظاهره الصلاح، استر على من يستحي أن يظهر معصية أمام الناس؛ لأنك لو أظهرت معصيته انفض الناس عنه إن كان من أهل الدعوة أو من أهل القرآن أو من أهل الخير، فما دام الرجل حريصاً على ألا يفضح نفسه فلا تفضحه، وادعه بالحسنى والحكمة إلى أن يتوب إلى الله، وأن يدع المعصية التي وقع فيها ورأيته عليها، فإن كل بني آدم خطاء كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام. تدبروا هذا الحديث الطيب الذي خرج من صاحب القلب الطيب، وصاحب الكلم الطيب، والحديث صححه الألباني ، وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته) تدبر! والله لو خرجت الليلة من المحاضرة بهذا الحديث لخرجت بخير عظيم وفير، أسأل الله أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

    عدم التهاجر والتقاطع

    رابعاً: من أدب الخلاف عدم الهجر والقطيعة بعد الخلاف، إن خالفتك في مسألة فرعية فلا يجوز لي أن أهجرك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الرابع والعشرين من مجموع الفتاوى: الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.

    مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة

    وأختم أدب الخلاف بهذا الأدب الكريم الهام، ألا وهو: مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة، بالتي هي أحسن، ناقش معي المسألة الخلافية التي تخالفني فيها، وأنا أناقشها معك بحكمة ورحمة، وبالتي هي أحسن، تدبر معي قول الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، وهل الجدال -يا رب- في المسائل يكون بالحسنى؟ لا، بل قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] يعني: لو وجد حسن وأحسن فالدعوة تكون بالحسن، والجدال يكون بالأحسن ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، هذه للدعوة، أما الجدال فقال فيه: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]. جادل أخاك في مسألة من مسائل الاجتهاد بالتي هي أحسن، بالحكمة والرحمة، قال ابن القيم : الحكمة هي قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. وناقشني وأنت رحيم بي، لا تسفه أخاك، لا تتكبر على أخيك، لا تظن أنك المتبع وهو المبتدع، لا تر في نفسك أنك التقي وهو الشقي، لا تنظر إلى نفسك أنك الطائع وهو العاصي، لا تنظر إلى نفسك أنك العالم وهو الجاهل، لا يا أخي! جادلني برحمة، جادلني بحب، جادلني بحكمة، جادلني بالتي هي أحسن وسينتهي الخلاف إن شاء الله تعالى بالحب، ولو خرجت أنا وأنت بعد مناقشة المسألة ولم نلتق، فكلانا إن شاء الله مأجور، مع أن واحداً منا على خطأ، والآخر على صواب، ومع ذلك فكلانا مأجور (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). أيها الأحبة الكرام! هذا ما وددت أن أبثه لإخواني وأحبابي، وسامحوني إن كررت عليكم هذا الدرس مرة ومرة ومرة ومرة، فسأكرره، وسأذكر به، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا رحماء فيما بيننا، وأن يجعلنا أشداء على أعدائنا، وأن يرزقنا وإياكم العفاف والتقى والغنى، ويمتعنا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفنا يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756568452