الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! ما زلنا نتدارس مقاصد النكاح وحكمه العامة، وقلت: إن مقاصده خمسة:
أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية أو معنوية.
وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.
وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، وعن طريق نفقته ومساعدته المالية لصاحبه.
ورابع الحكم: تذكر لذة الآخرة.
وآخرها: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه وقرابته وعشيرته.
وكنا نتدارس الحكمة الرابعة ألا وهي: تذكر لذة الآخرة في هذا النكاح الذي أحله الله وشرعه في هذه الحياة، وبينت فيما تقدم أن أعظم المشتهيات الحسية عند المخلوقات في هذه الحياة شهوة الجنس، فهي ألذ اللذائذ عند البشر، وهذه اللذة التي يقدمونها على ما عداها من المشتهيات من اللذائذ المحسوسات، هذه اللذة مع أنها -كما تقدم معنا- فيها مكدرات وآفات، فإذا كانت النفس تتعلق بهذه اللذة مع ما فيها من كدر ونقص، فينبغي أن تتعلق بهذه اللذة في الدار الآخرة إذا لم يكن فيها شائبة ولا عكر ولا كدر.
ولذلك -إخوتي الكرام- سنتدارس في هذه الموعظة وصف النساء الطاهرات اللائي يكن في جنة رب الأرض والسماوات، من المؤمنات، ومن الحوريات المباركات، وهذه المدارسة تحرك هممنا لطلب ما عند ربنا جل وعلا، إن المؤمن يتذكر ما يكون في الجنة من نعيم حسي، من مطاعم ومشارب ومناكح، لكن أعظم نعيم عنده، فهو الذي ينبغي ألا يغيب عن باله طرفة عين، هو رضوان الله جل وعلا عليه في هذه الحياة، وهكذا بعد الممات، ثم التنعم بلذة النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم، نسأل الله أن يمن علينا بذلك إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما عدا هذا فهو من فضل الله الذي تفضل به علينا في هذه الحياة وفي نعيم الجنات، من مآكل ومشارب ومناكح، لكن هو دون رضوان الله علينا، ودون تطلعنا إلى التمتع بالنظر إلى نور وجه ربنا سبحانه وتعالى.
تلك نعم تتطلع هممنا إلينا، وتتعلق نفوسنا بها، لكن نضع كل شيء في موضعه، ولذلك كان كثير من الصالحين يعرض عليهم في نومهم الحور العين، ويرونهن، وهذا وقع لعدد كثير من أئمتنا، بل بعضهم أنشدته زوجته الحورية أبياتاً من الشعر وهو نائم فحفظها ونقلها إلينا، وهذا مدون في تراجم كثير من أئمتنا.
نعم كما قلت نتذكر هذا، لكن نضع كل شيء في موضعه، ولذلك قال أحمد بن أبي الحواري -وهذه القصص كلها مذكورة في حلية الأولياء في ترجمته في الجزء التاسع صفحة تسع وخمسين ومائتين فما بعدها- يقول أحمد بن أبي الحواري : قلت لـأبي سليمان الداراني : إن الإنسان إذا ذكر الدنيا وبدأ يفكر فيها تذكر النساء، قال: لأنها ألذ شهوات الدنيا، فقلت له: وإذا ذكر الآخرة ذكر الحوريات، قال: ينبغي أن يقصر نفسه عن ذلك، وأن يفكر فيما هو أعظم منه، كأنه يقول: لا يسترسل في البحث في النعيم الحسي من المطاعم والمشارب والمناكح في الجنة، هناك ما هو أعظم في الجنة، وهو رضوان الله، والنظر إلى نور وجهه الكريم سبحانه وتعالى، يعني لا يجعل همته أنه يريد في الجنة أن يأكل ويشرب، وأن يتمتع بالحسان من الحوريات والمؤمنات الطاهرات، قال: لا ينبغي أن يقصر همته على ذلك، بل لابد أن يفكر فيما هو أعظم من ذلك، وأبو سليمان من أئمتنا الربانيين الكرام، وهو الذي يقول: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله. وكان يقول: لكل شيء علامة، وعلامة الخذلان ترك البكاء من خشية الرحمن عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا.
والإمام الجنيد جاء بعده وتوفي سنة سبع وتسعين ومائتين للهجرة، يقول: شيء بلغني عن أبي سليمان استحسنته، وهو قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن غيره، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن غيره. حقيقة إذا بحثت في أمر نفسك وفي عيوبك، وكيف ستخلص نفسك من الرعونات والآفات، فإنك تنشغل عن المخلوقات، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وإذا فكرت في حقوق الله عليك، حتى حقوق النفس تسلو عنها، وتعطيها بمقدار، وتقوم بحق الله عليك، وتسلو بعد ذلك عن مشتهيات النفس، وعن الكلام في الغير، فإنه من اشتغل بالله شغل عن نفسه وعن غيره.
إذن هذا عبد صالح يرى حورية في النوم تقول له: إني أربى لك في الخدر منذ خمسمائة سنة.
أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام
لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه الصيام
فضبط هذا العبد الصالح هذين البيتين وحدث بهما شيخه في هذه الرقعة، وما سمى نفسه كعادة أئمتنا، كما قال أبو سليمان لتلميذه أحمد بن أبي الحواري : لا تخبر بهذا إلا بعد موتي، وهذا يقول لشيخه: أنا رأيت كذا وما سمى نفسه، لكن الشيخ ينقل هذا فيما قرأه من الرقعة على أصحابه كما في حلية الأولياء.
ومنصور بن عمار توفي في قرابة سنة مائتين للهجرة، ما حددت سنة وفاته، الإمام الذهبي يقول: توفي في قرابة سنة مائتين للهجرة قبلها أو بعدها بقليل.
ولذلك إخوتي الكرام! عندما نطلب ما عند الله من الخير العظيم من الحوريات الحسان ومن غيرهن مما أعد الله لأوليائه الكرام في غرف الجنان، ينبغي أن نبذل لذلك ثمناً، وأن نقوم بطاعة الله حسب ما في وسعنا، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ما رأى مثل الجنة ومثل النار، ومثل من يطلب الجنة، ومثل من يهرب من النار، فهذه سلعة غالية نام من يرغب فيها، وتلك عذاب ونكال نام من يهرب عنها، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وهو في مجمع الزوائد في مكانين في الجزء العاشر صفحة ثلاثين ومائتين وقال: إسناده حسن، وذكره في صفحة اثنتي عشرة وأربعمائة، ورواه أبو نعيم في كتاب صفة الجنة صفحة سبع وخمسين.
والحديث يقول الهيثمي : إسناده حسن، وأقره على ذلك الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الخامس صفحة ست وأربعين وأربعمائة، ولفظ الحديث: عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها)، لأن هذا أمر عجب! شيء نفيس ثم طالبه ينام عنه، وهناك شيء خبيث ينام الهارب منه، فإنه من هرب من سبع مفترس لا ينام قطعاً، وهكذا إذا كان في طريق سفر يريد أن يصل إلى محبوب معتبر، لا ينام، لا يعتريه نوم في الطريق، بل يواصل السير ليصل إلى محبوبه، وهنا جنة عظيمة لماذا تنام عنها، ونار وخيمة لماذا تنام عنها؟! ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها).
وهذا الحديث الذي هو من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه، روي أيضاً من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: من رواية أبي هريرة ومن رواية عمر بن الخطاب ومن رواية كليب بن حزم ، أما رواية أبي هريرة فقد رواها الإمام الترمذي في سننه وأبو نعيم في حلية الأولياء، وأبو نعيم أيضاً في كتاب صفة الجنة، ورواها شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد، والبغوي في شرح السنة، والإمام القضاعي في مسند الشهاب، باللفظ المتقدم: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها)، والحديث -كما قلت- روي أيضاً من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين في كتاب تاريخ جرجان للإمام السهمي صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وأعاده في صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، ورواه الطبراني في الأوسط، والطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في المكان المشار إليه آنفاً في الجزء العاشر صفحة ثلاثين ومائتين، وروي من رواية كليب بن حزم ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وضبط: كليب بن جزي، قال الحافظ في الإصابة: وهذا تصحيف، وضبط: كليب بن جرز، والصحيح أولها وهو كليب بن حزم ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي إسناد الرواية الأخيرة يعلى الأشدق ، وفي المجمع: معلى بن الأشدق، وهذا خطأ، وقد راجعت كتب التراجم في حرف الميم فما ذكروا معلى بن الأشدق في الضعفاء، لا في المغنى ولا في اللسان ولا الميزان ولا في غير ذلك، ثم خلال البحث قلت: لعله يوجد تصحيف في الاسم، فنظرت بعد ذلك فوجدته يعلى بن الأشدق ، ولم يرو له أحد من أهل الكتب الستة، لكنه متروك كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة، وهكذا في لسان الميزان، وحكم عليه الإمام الهيثمي بأنه ضعيف جداً.
وهذا الحديث الذي هو من رواية كليب بن حزم رواه الطبراني في الأوسط -كما قلت- وفي معجمه الكبير، ورواه ابن منده والبغوي وابن قانع وابن شاهين ، وهو بمعنى الروايات الثلاث المتقدمة، والأثر ذكره الإمام المنذري أيضاً في الترغيب والترهيب، وصدره بلفظ (روي) للإشارة إلى ضعفه، وهو: (اطلبوا الجنة جهدكم، واهربوا من النار جهدكم؛ فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها)، فهو بمعنى الروايات الثلاث المتقدمة: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها)، وانظروا الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ثلاث وخمسين وأربعمائة، فقد ذكر هذه الرواية وعزاها إلى الطبراني ، وكما قلت لكم: أخرجها مع الطبراني ابن منده والبغوي وابن قانع وابن شاهين كما في الإصابة في الجزء الثالث صفحة ست وثلاثمائة في ترجمة كليب بن حزم رضي الله عنهم أجمعين.
إخوتي الكرام! من طلب الجنة ينبغي ألا ينام إلا بمقدار الضرورة، ومن هرب من النار ينبغي ألا ينام إلا بمقدار الضرورة، هذا فيما يتعلق بالنوم، والنوم فيه راحة للبدن وليس فيه ارتكاب سيئات، فالجوارح أخذت إجازة في الحركة، فكيف إذا كنت مستيقظاً وأنت تهيم في كل واد من أودية الكلام المنكر؟! حقيقة إن الأمر أشنع وأشنع، فلا ينبغي أن تنام إلا بمقدار ما يحتاج الجسم، ثم تتفرغ لطلب الجنة والهرب من النار.
إخوتي الكرام! لا بد من بذل مهر لهؤلاء الحوريات الحسان، ولا أدري هل ما عندنا يؤهلنا لخطبتهن؟! نسأل الله أن يتوب علينا، والإنسان على نفسه بصيرة، وحالنا والله ليس حال من يطلب الجنة، ولا حال من يهرب من النار، لكن نسأل الله أن يجبر كسرنا، وأن يعفو عن تقصيرنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أما آيات القرآن فاستمع إلى وصف النساء الطيبات الطاهرات المطهرات في الجنة:
قال الله جل وعلا في سورة البقرة: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، مطهرات في الخلق وفي الخلق، و(مطهرة) كما قال أئمتنا في كتب اللغة: أبلغ من طاهرة، فذلك يفيد التكثير في طهارتهن على وجه الكمال والتمام، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن هذه الآية هي أعظم ما عيب به نساء الدنيا، كما قال الإمام ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وقلت: إن نساء الدنيا يناسبن رجال الدنيا، وأما في الآخرة فالرجال في صورة الكمال، وهكذا النساء في صورة الكمال، لكن هنا نساؤنا على قدرنا ونحن على قدرهن، ولا يظلم ربك أحداً سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، حساً ومعنى خلقاً وخلقاً، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، هذا النعيم الكامل التام لا يخرجون منها وهم فيها خالدون.
وهذا المعنى أشار إليه ربنا جل وعلا في سورة آل عمران أيضاً فقال جل وعلا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:14-15].
وهذا المعنى أشار إليه ربنا أيضاً في سورة النساء فقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:56-57].
أما الطهارة الحسية فلا عيب فيهن في ظاهرهن في أبدانهن في خلقتهن في صورهن بوجه من الوجوه، فهن على أكمل صورة وأحلاها وأبهاها وأجملها وأفضلها، فاستمع إلى وصف الله لنساء الجنة لأشكالهن لصورهن لحسن خلقهن، قال جل وعلا في كتابه واصفاً نساء الجنة بأنهن حور عين، ذكر هذا في كثير من آيات القرآن الكريم، فقال جل وعلا في سورة الدخان: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:51-54].
قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ، المقام: هو المكان والمنزل، فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، أي: في منزل آمن كريم، في غرف الجنان بجوار ذي الجلال والإكرام، وقرأ المدنيان نافع وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وابن عامر الشامي : (في مُقام)، من الإقامة الدائمة.
إذن إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أي: في إقامة كريمة، في مكان آمن، في إقامة دائمة لا يخرجون منها، وهذا مثل قول الله تعالى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] يعني إقامة دائمة، واجمع بين القراءتين: هم يمكثون في ذلك المكان الطيب الآمن الكريم على سبيل الخلود والتأبيد لا يفارقونه ولا يبغون عنه حولاً، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ، في مكان يمكثون فيه إقامة دائمة لا يخرجون منه.
ثم أخبرنا ربنا عما يفيض عليهم من النعيم العظيم فقال: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:53-54] سنشرح هذا الوصف بعد أن أذكر بعض الآيات التي فيها نظير هذا، وأن نساء الجنة حور عين، كاملات كمالاً حسياً، كمالاً خلقياً، هذا المعنى قرره ربنا العزيز الغفور في سورة الطور أيضاً فقال جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الطور:17-20]، أنكحناهم نساء صفتهن أنهن بيض جميلات، فيهن حور، قيل: واسعة العينين، مليحة العينين.
وقوله: فَاكِهِينَ فيه إشارة لطيفة -كما قال أئمتنا في كتب التفسير- حاصلها: أن الله أخبر عما يقدم إلى أهل الجنة بأنه فاكهة، والمقصود منه التفكه، مع أنه يقدم لهم اللحم كما يقدم لهم الفاكهة، ويقدم لهم ضمن الجنة نعم مختلفة الأنواع، وليست كلها فاكهة، فلم أخبر الله جل وعلا عن جميع ما يقدم بأنه فاكهة؟ قيل: لأنه ليس المقصود من أكل الطعام في الجنة حفظ البدن، وقوت البدن، وقوة البدن، إنما يؤكل للتلذذ فقط كما تؤكل الفاكهة في هذه الحياة، فبعد أن تأكل وتشبع من الطعام تأكل الفاكهة، تلذذاً وتفكهاً، جميع طعام أهل الجنة من لحم الطير وغيره كله حكمه حكم الفاكهة تماماً، يؤكل للتلذذ والتنعم لا لحفظ البدن من التلف، فأبدانهم حفظها الله من التلف وصانها من الفناء.
وهكذا يذكر الله مثل هذه الصفة أيضاً في سورة الواقعة، فيقول جل وعلا في أوائل السورة: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [الواقعة:10-15]، الموضونة: هي المنسوجة بخيوط الذهب والفضة، فليست كسرر هذه الحياة، إما من خشب وإما من حديد، بل منسوجة بقضبان الذهب والفضة، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-24].
فقلت إن الحواريات معطبة إذا تفتلن من تحت الجلابيب
الحوريات يقصد بهن نساء المدن، ففيهن جمال يزيد على جمال من هن في البادية لشدة ما يقاسين من أمور الحياة، فالشمس تحرق بشرتهن، وألوانهن تتغير، وأما بنت المدينة فلا زالت في خدرها وفي بيتها وهي مصونة، ولذلك ثبت عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الحور: قال: جمع حوراء، وهي البيضاء. ونقل في تفسير ابن المنذر وغيره عن سيدنا مجاهد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: سميت الحورية بذلك لأنه يحار الطرف فيها، أي: يدهش الإنسان عندما ينظر إليها؛ لما فيها من جمال وحسن وبياض، ثم هذا الحور والبياض والجمال الذي فيهن يحار الطرف فيه من عظيم ما خلق الله فيهن وأبدع فيهن من الجمال، قال الإمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة ثلاث وأربعين ومائتين: والعرب تمدح المرأة بالبياض، إذا كانت المرأة بيضاء تميل إلى صفرة في بياضها، هذا من أشهى الألوان في النساء، والعرب تمدح المرأة بذلك، ثم ذكر قول الشاعر العربي:
أنسٌ غرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الحديث زوانياً ويصدهن عن الخنا الإسلام
إذن: من الصفات الجميلة في المرأة أن تكون بيضاء، والحور العين كما أخبر الله كأنهن كأمثال اللؤلؤ المكنون، كأنهن بيض مكنون، وهذا منتهى الجمال الحسي، والمراد من البياض الذي فيهن أمران:
الأمر الأول: الحورية ينبغي أن يكون بدنها من أوله إلى آخره فيه هذه الصفة وهو البياض الذي يميل إلى شيء من الصفرة، هذا لون البدن، ثم لا يطلق عليها حورية إلا إذا اشتد سواد السواد في عينها، وبياض البياض في عينها، فالبياض الذي في عينها واضح لامع مشرق، والسواد الذي في عينها شديد السواد، فلا يقال للحورية: حورية، إلا إذا كانت بيضاء الجسد، ثم في عينها هذا الحور، وهو شدة السواد في سواد العين، وشدة البياض في بياض العين، فالبياض الذي في العين ناصع أبيض، والسواد الذي في العين أيضاً شديد السواد، وهذا أجمل ما يكون من وصف العينين، عدا عن سعة العينين وملاحتهما، البياض مشرق ليس فيه عروق حمر أو زرق أو ما شاكل هذا عما يغير اللون، بل بياض ناصع كأنه مرآة، بياض العين، ثم السواد الذي فيها شديد، ولذلك قال أئمتنا: لا تكون الأدماء حوراء، من كانت سمراء لا يقال لها: حوراء، ولو اشتد بياض البياض في عينها، وسواد السواد في عينها، بل ينبغي أن يكون بدنها أبيض.
والعين: جمع عيناء، وهي عظيمة العينين، ويستحسن في المرأة بوصفها امرأة في الدنيا والآخرة أن تكون عظيمة العينين، وكلما كانت كبيرة العينين كلما كان هذا أجمل، ولذلك قال أئمتنا: أربعة أمور يستحسن أن تكون واسعة في المرأة كبيرة، كلما اتسعت فهذا أجمل فيها: سعة جبينها، وسعة وجهها، وسعة صدرها، وسعة عينيها، الصدر كلما اتسع في الذكر والأنثى يدل على انشراح صدر الإنسان، وعلى حلمه، وعلى عظم قلبه، وعلى رجاحة رأيه، وهذه من الصفات الخلقية التي إذا وجدت في الإنسان دلت على تمامه في الخلق في الدنيا والآخرة: صدر واسع، جبين واسع، وجه واسع، فليس صغيراً، ثم بعد ذلك عينان واسعتان، هذه من الصفات المستحسنة في المرأة، ولذلك أخبر الله عن هذه الصفة في نساء أهل الجنة فقال: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22]، والعين: جمع عيناء، وهي واسعة العينين.
ويستحسن في المرأة أن يكون أربعة أشياء منها ضيقة، كلما ضاقت ولم تتسع كان هذا أجمل فيها: فمها، كلما صغر فم المرأة كان أجمل في الخلقة، ومنخرها، وهو الأنف والفتحتان فيهما، ثم خرق الأذنين، قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا: وذاك منها وهو معروف، هذه أمور أربعة إذا ضاقت في المرأة كانت أجمل مما لو كانت واسعة.
ثم قال ابن القيم -وهذا كله كلام الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا صفحة ثمان وثلاثين ومائتين-: ويستحسن أن يكون فيها ثلاثة أشياء سوداء، كلما اشتد سوادها فهذا أعظم لخلقتها وجمالها: سواد أهداب العينين، وسواد حاجبها، وسواد السواد في عينيها، هذه إذا كانت سوداء فهذا أجمل في المرأة.
ويستحسن أن يكون فيها ثلاثة أشياء بيضاء: لون البشرة من أولها إلى آخرها، وثغرها، إذا فتحت فمها كأنها حبات اللؤلؤ والفضة منظومة في فمها، وبياض البياض في عينيها، ولذلك وصف الله نساء الجنة بذلك: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22]، جمع حوراء، بيضاء، في عينها حور، يحار الطرف فيها، ثم مليحة العينين، واسعة العينين، وكما قلت: هذا من الصفات المستحسنة في خلق المرأة، والآخرة دار نعيم، ولذلك يفيض الله على عباده أكمل نعيم هناك، وأما هذه الدنيا فتقدم معنا مهما وجد فيها من النعيم ففيها عكر وكدر ونقص.
وقوله: (أتراباً)، أي: في سن واحدة، فجميع نساء أهل الجنة في سن واحدة، كما أن جميع رجال أهل الجنة في سن واحدة، (أَتْرَابًا) أي: أمثالاً، يقال: هذا ترب هذا، أي: ولد معه في زمن واحد، وهن كلهن في سن واحد، في سن الشباب، وكلهن في تلك الصورة المشرقة البهية أيضاً، فما عندك عند غيرك، وكل واحد فرح مسرور بما من عليه العزيز الغفور.
قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما في تفسير ابن أبي حاتم : (أتراباً): مستويات، وقال الإمام ابن القيم في روضة المحبين صفحة خمس وأربعين ومائتين: أي: كلهن في سن الشباب، لم يقصر بهن الصغر، يعني عن مقصود النكاح، ولم يزر بهن الكبر. فليست صغيرة ما يحصل الإنسان مقصوده منها، وليست كبيرة تنفر نفسه عنها، هذه هي صفة نساء أهل الجنة، وهي كمال حسي وكمال خلقي، حور عين، كواعب أتراب.
الصفة الأولى في نساء أهل الجنة: قاصرات الطرف، ذكرها الله في الجنتين الأوليين اللتين تكونان للسابقين المقربين، ثم حور مقصورات في الجنتين الأخريين اللتين تكونان لأصحاب اليمين، يقول الله جل وعلا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-61]، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد، هاتان الجنتان للسابقين، لأصحاب اليمين، ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:62-64]، أي: سوادهما كثير من كثرة الخضرة التي فيهما، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:65-75]، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
فاستمع لهذه الصفة، واعلم معناها فيهن: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، وفي الجنتين الأخريين: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].
أما الصفة الأولى في وصف الحوريات والنساء الكريمات اللائي يكن في جنان السابقين المقربين (قاصرات الطرف)، ففسر هذا النعت الكريم بأمرين من قبل سلفنا الكرام الطيبين:
الأمر الأول: قاصرات الطرف، أي: قصرت بصرها وطرفها على زوجها؛ لأنها قصرت نفسها وقلبها عليه فلا تلتفت إلى سواه، ولا تنظر إلى غيره.
المعنى الثاني وهو حق وتحتمله الآية: قاصرات الطرف، أي: قصرت بصر زوجها عليها فلا يتطلع إلى غيرها؛ لما فيها من الجمال والكمال الذي لا يدعوه إلى أن ينظر إلى سواها.
إذاً: قصرت طرفها على زوجها وطرف زوجها عليها، فما عنده مجال أن ينظر إلى غيرها، والأمران منقولان عن سلفنا الكرام.
والمعنى الثاني -وهو أنها قصرت بصر زوجها عن غيرها لكمال حسنها- نقله الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في الجزء السابع صفحة ثمان وخمسين عند تفسير هذه الآية الكريمة وقال: سمعته من الشيخ أبي محمد الخشاب ، وهو من شيوخ الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولم يترجمه الإمام ابن الجوزي في مشيخته، فذكر في المشيخة سبعاً وثمانين شيخاً له، وأكمل شيوخه بثلاث نسوة، فصاروا تسعين شيخاً، وما ذكر من بين شيوخه هذا الشيخ المبارك وهو أبو محمد بن الخشاب ، واسمه عبد الله بن أحمد بن الخشاب ، الإمام النحوي، توفي سنة سبع وستين وخمسمائة، وقد ترجمه الإمام ابن الجوزي في المنتظم، وذكر أنه من شيوخه في الجزء العاشر صفحة ثمان وسبعين ومائتين، وانظروا ترجمته الطيبة في الذيل على طبقات الحنابلة للإمام ابن رجب في الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وترجمته في سبع صفحات مبتدأة من صفحة ست عشرة وثلاثمائة إلى ثلاث وعشرين وثلاثمائة، قال الإمام ابن الجوزي وهكذا الإمام ابن رجب الحنبلي : سمع الحديث الكثير وقرأ منه ما لا يحصى، وقرأ النحو واللغة، وانتهى علمهما إليه، لكنه كان مزجى البضاعة في الفقه كما يقول تلميذه الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر صفحة عشر وثلاثمائة، وقلت لكم مراراً إخوتي الكرام: إن أهم العلوم هو الفقه الذي فيه خلاصة الشرع المطهر من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والإجماع والقياس السوي السديد، هذه هي التي مصادر التشريع التي لا يخرج حكم عنها، وهي موجودة ضمن فقه أئمتنا.
وقلت مراراً: إن فقه الفقهاء هو من أكبر معجزات نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذه المعجزة العظيمة كفر بها دعاة التجديد في هذه الأيام، وأرادوا -على زعمهم- أن يتخلوا عن فقه أئمتنا ليخبط كل واحد بعد ذلك كما يسول الشيطان له، فأبو محمد بن الخشاب مع أنه قرأ الحديث الكثير وكتب منه ما لا يحصى، وكان إمام النحو واللغة في زمنه، يقول الإمام ابن الجوزي: إلا أنه كان مزجى البضاعة في الفقه، يقول: وقد سئل مرة بحضرة الجماعة عن حكم رفع اليدين في الصلاة إذا كبر للركوع، وإذا رفع من الركوع، فقال: حكم الرفع ركن، قال: فدهش الجماعة من قلة فقهه، فهذا الأمر يعرفه الطالب المبتدئ الذي يدرس أول العبادات من أي كتاب من كتب الفقه بلا استثناء، يعلم أن رفع اليدين من المستحبات عند من قال به، أما أن يقال أنه ركن فهذا من العجب! فانتبهوا لهذا العلم الجليل إخوتي الكرام.
إذاً: المعنى: قصرت طرفها، كما أنها قصرت طرف زوجها وبعلها فلا ينظر إلى غيرها، والأمران حاصلان في غرف الجنان، فلا هي تنظر إلى غيره، ولا هو ينظر إلى غيرها، هي راضية به وهو راض بها، وفي هذه الحياة قل من يرضى بزوجه، ولو عنده أربع فإنه يتطلع، وكنت ذكرت أنه لو جمع نساء الدنيا من أولهن لآخرهن إلا واحدة لقال: أريد تلك أيضاً! طيب عندك نساء الدنيا، ما أردت إلا هذه، اتركها لغيرك، قال: أريد أن أنظر ماذا عندها، فهذه هي دار الفقر دار النقص دار الجشع والطمع، أما في الجنة فهن قاصرات الطرف، فهو لا يتطلع وهي لا تتطلع، هذه الصفة الأولى.
قيل: مقصورات، أي: مخدرات ملازمات للبيوت في جميع الأوقات، لا يطفن في الطرقات، لا تخرج من بيتها، ولا تخرج من خيمتها، ولا تخرج من قصرها، مقصورة في القصر بمعنى محبوسة، قد حبست في هذا المكان، والله قدر لها البقاء فيه فلا تتطلع إلى غيره، ولا تخرج منه مقدار أنملة، ووالله ما طاب نساء الجنة إلا بهاتين الصفتين الكريمتين: قصرت بدنها، وقصرت طرفها وقلبها على زوجها، أما كثير من نساء الدنيا فهي خراجة ولاجة، تراها في كل شارع، وفي كل سوق، ولو لم يكن زوجها أشد انحطاطاً منها لما رضي بها، فهل مثل هذه تتعلق الهمة بها؟! والله لو أن عند الإنسان كرامة وزوجته تكثر الخروج لأتبعها بثلاث طلقات وهو غير متحسر عليها.
إخوتي الكرام! إلا إذا دعا داع شرعي للخروج فيبقى له حكمه الشرعي في هذه الحياة، أما ما عدا هذا من التنقل من سوق إلى سوق، ومن متجر إلى متجر، ومن محل إلى محل، وكل يوم تتجول في مكان، فهذه صفة مذمومة في النساء، وانظر لهذه الصفة المحمودة في نساء الجنة: قاصرات، ومقصورات.
إذن: مقصورات، أي: مخدرات ملازمات للبيوت في جميع الأوقات، لا يخرجن إلى الطرقات ولا إلى غيرها.
والمعنى الثاني: مقصورات قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن، وهذا المعنى الثاني ذكره الإمام ابن الجوزي أيضاً في زاد المسير، والإمام الألوسي في روح المعاني، لكنهما مع جمهور المفسرين رجحوا المعنى الأول، كما رجحوا التفسير الأول في معنى (قاصرات)، قالوا: قاصرات طرفهن على أزواجهن، ومقصورات: محبوسات أبدانهن في الخيام في القصور الحسان، فليس القصر معنوياً، إنما هو حسي.
وأنا أقول: حمل كلام الله على ما يمكن حمله من المعاني أولى، فيصح أن يقال: قصرت طرفها على زوجها، وقصرت طرف زوجها عليها، وهنا يصح أن يقال: حبست بدنها في بيتها، كما أنها حبست نظرها وقلبها وبصرها فلا تتطلع ولا تفكر ولا تنظر إلى غير زوجها، فما دام كلام الله يحتمل هذا وهذا، وهو منقول، فدائماً تكثير المعاني أولى من أن نقللها، والله جل وعلا كلامه كريم مبارك يحتمل المعاني الطيبة المباركة.
إخوتي الكرام! إذن قاصرات ومقصورات، اللفظ فيهما من القصر بمعنى الحبس، وكما قلت: وحبس حسي وحبس معنوي فيه وفيها، أما هو فأباح الله له أن يخرج فبقي القصر في حقه فيما عدا ذلك، وأما هي فلا تفارق ذلك المكان ولا تخرج منه، ولا يراد من (مقصورات وقاصرات) القصر في الخلقة، فهذا لا يراد أبداً، لأنه من صفات النقص في خلقة المرأة إذا كانت قصيرة، ولذلك قال بعض الشعراء:
وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
فالقصيرة التي مشيتها صغيرة؛ لأنها هي قصيرة، فليس عندها خطوة واسعة، هذه شر النساء، لكني إذ عنيت قصيرات الحجال، أي: المقصورة في حجالها، والحجال: جمع حجلة، وهي الغرفة المزينة، غرفة العروس يقال لها: حجال.
وقال أبو قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتغفل عن أبياتهن فتعذر
هذه من الصفات الجميلة في المرأة أنها تلازم بيتها.
والإمام ابن القيم -كما قلت- في روضة المحبين صفحة أربع وأربعين ومائتين قال عن الصفة الأولى: هذه أكمل، فهن قاصرات، وأما أولئك فهن مقصورات، فالأولى هي التي قصرت طرفها، وأما الثانية فهي قُصرت وحُبست، وكما قلت: الذي يبدو لي خلاف هذا والعلم عند الله، وإليكم دليل هذا وتوجيهه:
أولاً: الله جل وعلا ذكر في كل منهما -أي: في الصنف الأول والصنف الثاني- ما لم يذكره عن الأخرى، والوصفان مرادان فيهما، فنساء الجنة قاصرات الطرف، ومقصورات في الخيام، فالصفتان موجودتان في كل امرأة في الجنة، ويمكن أن يفهم كل من الوصفين من كل وصف منهما، فإذا قلنا: قاصرات الطرف، أي: قصرت طرفها وقصرت قلبها وقصرت نفسها على زوجها، فيلزم من ذلك أنها مقصورة لا تخرج ولا تبرح ولا تفارق مكانها، وإذا كانت مقصورة في الخيام فيلزم من هذا أيضاً أنها قصرت طرفها فلا تنظر إلى غير زوجها، فالوصفان مرادان، فكل واحدة قصرت طرفها وهي مقصورة في مكانها لا تفارقه، وآيات القرآن وردت عامة في بعض الأماكن من كتاب الله في وصف نساء الجنة بهذه الصفة الكريمة (قاصرات الطرف)، دون أن تخص هذه الصفة بالنساء اللاتي في الجنات التي أعدت للسابقين المقربين.
فمثلاً: في سورة الصافات يخبرنا ربنا جل وعلا عما يكون في دار الجنة من كرامة لأوليائه وأحبابه، فذكر أن من جملة ذلك: النساء الطيبات المطهرات، وأخبر عنهن أنهن قاصرات الطرف عين، وهذه صفة مطلقة لجميع نساء أهل الجنة، ليست خاصة للسابقين المقربين، يقول الله جل وعلا: إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:38-40]، هذا لكل من دخل الجنة له هذا النعيم، أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:41-49]، فهذه الصفة ليست خاصة بنساء السابقين، بل هي لكل من دخل جنة النعيم.
وعليه فقول الله: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وإن كانت في سورة الرحمن وردت هذه الصفة في نساء السابقين في الجنتين المعدتين للسابقين، لكن لا يلزم أن تكون هذه الصفة ليست موجودة في نساء الجنتين اللتين أعدهما الله لأصحاب اليمين، وكما قلت: يؤخذ ما لم يذكر مما ذكر، فعندما نقول: قاصرات، يلزم أن تكون مقصورة، وعندما نقول: مقصورات في الخيام، يلزم أن تكون قاصرات، وقصرت طرفها، والله ذكر هنا نساء الجنة بهذه الصفة، والصفتان مرادتان في كل امرأة في الجنة: قاصرة، تقصر طرفها وقلبها، ومقصورة قصرت قلبها أيضاً وبدنها في هذا المكان فلا تفارقه.
وهكذا في السورة التي بعدها في سورة ص، ذكر الله هذا الوصف أيضاً في نساء أهل الجنة على سبيل العموم، فقال جل وعلا: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:49-52]، أي: في سن واحدة، فقوله: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]، عام لجميع نساء الجنة، فلا داعي أن نقول: إن نساء السابقين المقربين أعلى وصفاً من نساء أصحاب اليمين، ولذلك نعتن نساء السابقين بأنهن قاصرات، ونعتن نساء أصحاب اليمين بأنهن مقصورات.
وعليه فالذي ذهب إليه الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فيما يظهر لي أنه بعيد والعلم عند الله المجيد، فقد نعت الله نساء أهل الجنة بأنهن قاصرات، ولم يخص هذا الوصف بالنساء اللائي يكن للسابقين المقربين، نعم جاء في سورة الرحمن كما قلت على الصورة المتقدمة: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ثم قال في وصف النساء في هاتين الجنتين: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:56]، ثم لما جاء للجنتين الأخريين قال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، لكن كما قلت: الوصفان يرادان في كل امرأة كما وضحت ذلك آيات القرآن والعلم عند ربنا الرحمن.
هذا فيما يتعلق -إخوتي الكرام- بهذه الصفة، فالكمال المعنوي موجود في نساء الجنة، فمع ما فيها من كمال حسي لا تتطلع إلى غير زوجها، ولا تفارق بيتها، قانعة راضية بهذا الزوج، تسبح الله وتحمده على ما من به عليها.
وهذا الحديث أورده الإمام البخاري معلقاً في كتاب النكاح من صحيحه، لكنه وصله في تفسير سورة النور بسنده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وكانت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في صحيح البخاري في المكان المشار إليه تدل بهذا، وتفتخر به، وتذكر هذه الصفة فيها فتقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه! أرأيت لو نزلت وادياً فيه شجر قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: في التي لم يرتع منها)، التي ما جاء أحد إليها، وما رتع فيها ولا أكل العشب منها، تعني بذلك أنه لم يتزوج بكراً غيرها على نبينا وآله وأزواجه وصحبه صلوات الله وسلامه.
وهذا من فطنتها، قال الحافظ ابن حجر: في ذلك مشروعية ضرب المثل، وفيه بلاغة أمنا عائشة رضي الله عنها وحسن تأتيها في الأمور، كيف تأتي بهذه الصورة لإيضاح منزلتها مع صاحباتها، تقول: أنت لو نزلت في واد فيه شجر قد رعي قسم منه، وقسم منه لم يرع، شجر لا زالت كما هي، ففي أيها كنت ترتع بعيرك؟ حتماً يرعى بعيره في الشجر التي لم يرتع منها، ولم يرع فيها، تعني أنه لم يتزوج بكراً غيرها، والإمام ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتابه الجليل الظريف الذي أسماه: أخبار الظراف، وكتاب آخر له اسمه: كتاب الأذكياء، أورده في آخر الكتابين في ذكاء النساء وفطنتهن، وبدأ في هذين الكتابين بهذا الحديث، بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ للإشارة إلى ذكائها وفطنتها عندما استعملت هذا المثل، وأشارت إلى منزلتها على صاحباتها رضي الله عنهن أجمعين.
إخوتي الكرام! كنت ذكرت غالب ظني في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها بعض الأحاديث التي تشير إلى منزلة وفضل ومكانة زواج البكر، من جملة ذلك حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث في المسند وهو في الكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة، وقد تقدم معنا، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة والإمام البيهقي في السنن الكبرى، وهو في صحيح ابن حبان ، عندما تزوج جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثيباً بعد موت والده واستشهاده رضي الله عنهم أجمعين في أحد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ماذا تزوجت يا
إذن: هذا شأن نكاح البكر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل كما في حديث كعب بن عجرة، والحديث تقدم معنا في معجم الطبراني وغيره، قال له: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك)، قال له في رواية كعب بن عجرة: (وتعضها وتعضك)، فهذا أنشط لنفس الإنسان عندما يتزوج بكراً، وتقدم معنا بعض الروايات الأخرى التي تشير إلى هذا وقلت: إنها في درجة الحسن.
منها: ما تقدم معنا في سنن ابن ماجه والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة من رواية عويم بن ساعدة ويقال له: عتبة بن ساعدة أيضاً، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير)، تقدم معنا أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وروي عن عدة من الصحابة الكرام، رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن سيدنا عبد الله بن مسعود أيضاً رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط، والضياء المقدسي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين وزاد: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير، وأقل خباً)، يعني: خداعاً ومكراً؛ لأنها ما زاولت الرجال ولا اتصلت بهم، فلا زالت على فطرتها، ولذلك يقال للبكر: لا زالت بخاتم ربها، كما سيأتينا تقرير هذا، وهكذا نساء أهل الجنة.
إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36]، وهذه الصفة -كما سيأتينا في وصفهن- لا تزول عنهن، فكلما اتصل الإنسان بزوجه وعاد إليها وجدها بكراً بتقدير العزيز العليم سبحانه وتعالى، لذات متتابعة ليست في أول مرة فقط: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35].
وهذا الحديث -إخوتي الكرام- تقدم معنا أنه روي من رواية عبد الله بن عمر في كتاب عمل اليوم والليلة لـابن السني، وهكذا في كتاب الطب لـأبي نعيم ، وفي بعض روايات الحديث: (فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير)، وفي هذه الرواية: (وأسخن إقبالاً)، وتقدم معنا أن الحديث روي أيضاً مرسلاً في مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور من رواية مكحول وغيره وفيه: (فإنهن أغر أخلاقاً، وأسخن إقبالاً)، هذا شأن البكر.
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الرابع صفحة أربع وخمسين ومائتين: غلط من قال من الأطباء: إن جماع الثيب أنفع وأحفظ للصحة، وهذا من القياس الفاسد، بعض الأطباء يدعي أن جماع الثيب أنفع للصحة؛ لأنه لا يحتاج إلى مجهود ولا إلى كلفة ولا إلى تعب، ثم قال: وهذا من القياس الفاسد، حتى ربما حذر منه بعضهم -يعني حذر من نكاح البكر- قال: وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس، ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة، وفي جماع البكر من الخاصية وكمال التعلق بينها وبين مجامعها، وامتلاء قلبها من محبته، وعدم تقديم هواها بينه وبين غيره ما ليس للثيب، وقد جعل الله من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين أنهن لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله المتقدم، وحديث أمنا عائشة رضي الله عنها الذي ذكرته في قولها للنبي عليه الصلاة والسلام: ففي أيها كنت ترتع بعيرك؟
إخوتي الكرام! هذا الوصف -كما قلت- مما يحمد في النساء، وهو موجود في نساء أهل الجنة: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36]، وهذا كمال حسي، عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37] كمال معنوي، والعروب: هي المتحببة لزوجها العشيقة العاشقة له التي تتعلق به، وتريد وصاله، فكما أنها اكتمل فيها الكمال الحسي، اكتمل فيها الكمال المعنوي الذي يريح النفس وسيأتينا تفصيل هذا ومعناه بتوسع.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يمن علينا برضوانه ودار كرامته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لمن جاوره من المؤمنين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر