الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! قلت: سنتدارس مقدمة موجزة قبل البدء في قراءة كتاب سنن الترمذي ، وهذه المقدمة كما قلت: ستدور على ثلاثة أمور:
أولها: أمر مهم ضروري لجميع أعمالنا، وهو كالروح للأبدان، ألا وهو: إخلاص النية لربنا في جميع أحوالنا، وقد مضى الكلام على هذا.
والأمر الثاني: فضل دراسة الحديث، وفوائد دراسة السنة، وهذا ما تدارسنا بعضه، ونكمل مدارسته في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله.
والأمر الثالث: سيدور حول التعريف بكتاب الإمام الترمذي عليه رحمة الله، ومنزلة هذا الكتاب في كتب السنة.
إخوتي الكرام! تقدم معنا أن كل ما ورد في فضل العلم والعلماء شامل لفضل دراسة حديث خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فهذا من أفضل العلوم وأجلها عند الحي القيوم، وإذا كان العلماء هم الناس، فالمحدثون هم الأسياد؛ كيف لا وهم يروون أحاديث خير الناس نبينا عليه الصلاة والسلام، فلذلك كان الإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول كما في شرف أصحاب الحديث للإمام الخطيب البغدادي في صفحة: (49): إذا رأيت صاحب حديث فكأنما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حياً.
نعم أهل الحديث هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا.
إخوتي الكرام! ختمنا الموعظة السابقة بالحديث الصحيح الثابت في المسند وصحيح البخاري والترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، وتقدم معنا أن الحديث روي أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، ولفظ رواية عبد الله بن عمرو في صحيح البخاري ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، والجملة الثانية وهي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، تحتمل خمسة معاني مقبولة، ومعنى سادساً مردوداً، كما بين هذا الإمام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح.
والمعاني الخمسة مع المعنى السادس المردود كنت قد ذكرتها في آخر الموعظة الماضية، وأعيدها هنا على سبيل الإيجاز، ثم أبين فوائد وآثار وثمرات دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وسنته الطاهرة المشرفة.
هذه المعاني هي:
المعنى الأول: ولا حرج عليكم في أن تحدثوا عنهم.
المعنى الثاني: ولا حرج عليكم في ترك الحديث عنهم؛ لأن ما تقدم من الأمر قد يشعر بوجوب الحديث عنهم، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الأمر ليس من باب الإلزام والحتم، إنما هو من باب الإباحة والتخيير، وهذان أقوى ما قيل من المعاني.
المعنى الثالث: ليس المراد من الحرج هنا الإثم والذنب، وأنه لا إثم عليكم في أن تحدثوا أو في أن لا تحدثوا، إنما المراد من الحرج هنا ضيق الصدر، أي: لا تضق صدوركم من التحديث عن بني إسرائيل، مما وقع فيهم من العجائب فالله على كل شيء قدير.
المعنى الرابع: لا حرج عليكم في حكاية ما وقع فيهم وصدر منهم من أمور مستشنعة، فناقل الألفاظ البذيئة يحاكي الكفر ليس بكافر ولا بذيء، وقد حكى الله قول بني إسرائيل ورد عليهم وأخبر أنه لعنهم وغضب عليهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، سبحانه وتعالى.
المعنى الخامس: ذهب إليه الإمام الشافعي فقال: أخبار بني إسرائيل تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما ورد في شرعنا ما يدل على صحته ويقرره ويؤكده ويبينه، فيجب التحديث عنه؛ لأن هذا من ضمن التحدث عما ورد في شرعنا، ومما ينبغي مدارسته وفهمه ووعيه، وهذا هو المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل )، مما بينه الله لكم في كتابه، وبينته لكم في حديثي، على نبينا صلوات الله وسلامه.
الثاني: ما لم يرد في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه ويقرره ويؤكده، ونقل عن بني إسرائيل، وليس في شريعتنا أيضاً ما يبين بطلانه؛ فهذا لا حرج عليكم في أن تحدثوا عنهم، هذه التأويلات الخمسة كل منها حق ومقبول.
المعنى السادس المردود: أن المراد ببني إسرائيل خصوص أولاد نبي الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والمراد بالحديث عنهم ما ورد من أخبارهم وذكر شأنهم في قصة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في سورة يوسف، فحدثوا عنهم، أي: تحدثوا بقصتهم الواردة في هذه السورة الكريمة في كتاب الله الكريم.
قال الحافظ ابن حجر : وهذا أبعد الأوجه، وهو حقيق بالبعد، والعلم عند الله جل وعلا.
الفائدة الأولى: حفظ أدلة الشرع المطهر من الضياع والفقدان والاندراس.
والفائدة الثانية: كثرة الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
والفائدة الثالثة: الفوز بالرحمة والنضارة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يروي حديثه وينشر سنته.
أما الفائدة الأولى ألا وهي: حفظ أدلة الشرع من الضياع والفقدان والذهاب والاندراس، فلا يخفى على مسلم أن أدلة الشرع المطهر تقوم على دعامتين اثنتين، وعلى ركنين متينين، وعلى دليلين قويين محكمين، وسائر الأدلة ترتكز على هذين الدليلين: كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأما الإجماع فإنه حجة ولا يكون إلا بناء على نص، وأما القياس فهو حجة أيضاً، ويكون بقياس ما لم يقع على ما وقع، قياس ما وقع في العصور المتأخرة على ما وقع في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، قياس حادثة متأخرة على حادثة متقدمة لمساواتها لها في العلة فنلحقها بها في حكمها، هذا هو القياس، فهو -إذاً- لا يكون إلا بوجود نص واستنباط علة منه، والنص الشرعي هو الذي يؤخذ منه الحكم ويبنى عليه الإجماع ويقاس عليه، فنحن عندما ندرس حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ونتدارس سنته ونضبطها وننشرها؛ نحافظ على أدلة الشرع المطهر من الضياع والاندراس، فنصوص الفقهاء مع علو شأنها ورفعة قدرها ليست بحجج شرعية، الحجة في كلام رب البرية وفي كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وأما كلام الفقهاء فيؤخذ من قولهم ويترك، ولا يؤخذ قول أحد بكامله ولا يرد عليه شيء إلا قول المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، فهو الذي لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، والوحي يسدده، والله جل وعلا يتولى أمره سبحانه وتعالى.
إذاً: نصوص الفقهاء ليست بحجج، فلا بد لهذا الفقه من دليل يسنده، ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
والحديث روي أيضاً عن أبي رافع خادم نبينا عليه الصلاة والسلام ومولاه، وقد رواه أيضاً من تقدم ذكرهم إضافة إلى الشافعي في الأم والرسالة والبغوي في شرح السنة عن أبي رافع مع زيادة في الرواية.
وروي الحديث عن محمد بن المنكدر مرسلاً كما في مسند الحميدي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأشار إلى روايته الإمام الترمذي .
وخلاصة الكلام أن الحديث مروي من طريقين صحيحين متصلاً مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام: من رواية المقدام بن معدي كرب ، ومن رواية أبي رافع ، وروي مرسلاً من رواية محمد بن المنكدر ، وهو تابعي.
ولفظ الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )، وفي رواية: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه )، وفي رواية: ( ألا إني أوتيت القرآن وما يعدله )، أي: ما يساويه في الحجية والدلالة، ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا عسى رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله )، أي: الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما حرمه الله تماماً، ( ألا وإني أحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير )، وهو ما يأكل فريسته ويصيدها بنابه، كالذئب والأسد والسبع وما شاكل هذا، (وكل ذي مخلب من الطير)، وهو ما يأكل فريسته بظفره، فهو من الجوارح، كالنسر والصقر وغير ذلك.
إذاً: السنة تعدل القرآن تماماً، فهذا وحي وهذا وحي، فنحن عندما نتعلم سنة النبي عليه الصلاة والسلام نحافظ على أدلة الشرع من الضياع والذهاب والفقدان والاندراس، فتبقى أدلة الشرع ظاهرة بينة وكما تعهد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فاستلزم ذلك التعهد قطعاً وجزماً حفظ السنة المطهرة، وقد هيأ الله لهذه السنة من يحفظها وينشرها ويرويها، ويحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
إن القرآن أحوج إلى السنة من احتياج السنة إلى القرآن، لو لم يكن هناك قرآن، وكان كل الوحي هو سنة النبي عليه الصلاة والسلام فقط لأمكن أن يعيش الإنسان بهدى ونور، وأن يستضيء بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون على محجة بيضاء، أما إذا ضاعت السنة كيف ستعمل بنصوص القرآن؟! كيف ستصلي؟ وكيف ستصوم؟ وكيف ستحج؟ وكيف ستزكي؟ وكيف ستبيع؟ وكيف ستشتري؟ كيف ستعرف هذه الأمور؟ لأن هذا كله وضحته سنة نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
فالذي يطعن في السنة حقيقة أمره أنه يطعن في القرآن، ويريد أن ينسلخ من الإسلام، لكن غلف هذا الضلال فقال: هذه السنة هي نقل رجال، ولا يوثق بها، وعليه فلنعول على القرآن! ثم يتلاعب بعد ذلك بنصوص القرآن كما يسول له الشيطان، ولذلك قلت ولا أزال أقول وهذا القول ينبغي أن نعيه تماماً: لا خير في إيمان بالقرآن من غير إيمان بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خير في إيمان بالقرآن وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام من غير اتباع السلف الكرام، وفهم الإسلام كما فهموه، وإلا إذا جئت أيضاً لتقول: قرآن وسنة، ثم بعد ذلك تفهم منهما على حسب عقلك وضلالك وغيك، وما يزين لك شيطانك فهذا ضلال ضلال، إنما قرآن وسنة كما فهمهما سلف الأمة.
قوله عليه الصلاة والسلام: ( ألا عسى رجل شبعان متكئ على أريكته )، أي: متخم بطر أشر، كما حصل من بعض العتاة في هذه الأيام ينطبق عليهم هذا الوصف تماماً، وطاغوت من الطواغيت، وعاتٍ من العتاة، يقول: هذه السنة لا يوثق بها فاطرحوها وراء الظهور، نعول على كلام الله فقط! شبعان متكئ على أريكته، يرد سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: دعونا من هذا، بيننا وبينكم كتاب الله، نعكف عليه فقط، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه!
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله، ألا وإني أحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير )، وهذا المعنى الثابت في حديث المقدام وحديث أبي رافع ومحمد بن المنكدر رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه في حديث آخر رواه العرباض بن سارية كما في سنن أبي داود ، وفي إسناد الحديث أشعث بن شعبة المصيصي ، انفرد بالإخراج عنه أبو داود ، قال الحافظ في التقريب: مقبول، ويعني بهذه العبارة: أن حديثه يقبل إذا وجد له متابع، أو إذا شهد له شاهد، ويشهد لحديثه ما تقدم معنا من حديث المقدام ، وحديث أبي رافع رضي الله عنهم أجمعين.
ولفظ حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيحسب أحدكم متكئاً يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، وإنها لمثل القرآن أو أكثر )، وحقيقة إذا أردت أن تقارن بين حجم القرآن وحجم سنة النبي عليه الصلاة والسلام ستجد أن حجم السنة أكبر من حجم القرآن بكثير، وأن المأمورات والمواعظ والنواهي الواردة في السنة أضعاف أضعاف ما في القرآن الكريم، والكل وحي أوحاه الله إلى نبيه عليه صلوات الله وسلامه.
ففي سنن الإمام الدارمي في المقدمة في الجزء الأول، صفحة: (145) عن حسان بن عطية بإسناد صحيح، وهو من أئمة التابعين، وأثره له حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فهو مرفوع مرسل، وهذا الأثر رواه عنه أيضاً الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، وروي أيضاً عن تابعي آخر ومن طريق الإمام الأوزاعي عليهم جميعاً رحمة الله.
عن حسان بن عطية والإمام الأوزاعي أنهما قالا: كان جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ولذلك قال أئمتنا: سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي كالقرآن غير أنها لا تتلى كما يتلى، الفارق بينهما أن القرآن كلام الله لفظاً ومعنى، والسنة أوحي بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام وصاغها بعبارات من عنده حسبما ألهمه ربه جل وعلا، فالوحي مشترك في الأمرين، لكن القرآن يتعبد بتلاوته، وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يتعبد بتلاوتها، وليس لنا على قراءة كل حرف عشر حسنات، ولا يجوز أن نقرأ الأحاديث في الصلاة، لكن هي وحي كالقرآن تماماً، وإذا أردت أن تتحقق من هذا الأمر فانظر إلى حديثين اثنين من أحاديث كثيرة تقرر هذا الأمر، ألا وهو أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي أوحاه الله إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل كما أوحى إليه بالقرآن الكريم.
فيقول عبادة بن الصامت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب بذلك وتربد وجهه )، (وتربد)، أي: اعترى وجهه شيء من التغير الذي يميل إلى التغبر، كأنه اغبر وجهه عليه الصلاة والسلام من أثر الشدة التي يعانيها.
يقول: (فأنزل عليه الوحي ذات يوم فلقي كذلك)، أي: رؤي بهذه الحالة عليه، أي كرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، أي: تغير.
(فلما سري عنه)، أي: ذهب عنه الوحي، وعاد إلى طبيعته عليه صلوات الله وسلامه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، كان الصحابة ينتظرون السبيل الذي أشار إليه ربنا الجليل في سورة النساء: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ما هو السبيل؟ فلما نزل عليه الوحي وكرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، فلما سري عنه نطق بما أوحي إليه في تلك الساعة فقال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة).
وهذا الحديث سيأتينا ضمن أحاديث سنن الترمذي عند حد الزنا إن شاء الله.
إذاً: لما أنزل عليه الوحي نزل بهذا الحكم الذي هو حديث بينه لنا نبينا عليه الصلاة والسلام فيمن وقع في جريمة الزنا نسأل الله أن يصون أعراضنا بفضله ورحمته.
فلما كان النبي عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، وعليه ثوب قد أظل به عليه الصلاة والسلام من شدة الحر جاءه رجل متضمخ بطيب (فقال: يا رسول الله! كيف تراه؟) أي: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ أي: عندما أحرم لبس جبته ولبس عباءته وما تجرد من المخيط، ولبس لباس الإحرام، وزاد على ذلك أنه متضمخ بطيب، (كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة) أي: وقتاً وبرهة وزمناً يسيراً، (ثم سكت، فجاءه الوحي)، وطبيعته كما تقدم معنا عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يعتريه الكرب والشدة، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، يقول يعلى : (فجاءه الوحي، فأشار
الشاهد: أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أحرم بحج، وعندما أحرم لبس الجبة وتضمخ بطيب فماذا عليه؟ والنبي عليه الصلاة والسلام ما أوحي إليه بهذا الحكم قبل ذلك، (فنظر ثم سكت، فجاءه الوحي، فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، فبدأ يغط ويسمع له صوت شخير، ثم عندما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ أما الطيب فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)، إن هذا دليل واضح على أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي ينزل عليه كالقرآن، لكن لا تتلى كما يتلى كلام الرحمن جل وعلا.
ولذلك فإن حُكم ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام يعدل ما ورد في القرآن من أحكام، بل نقل الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره في الجزء الأول صفحة: (3) عن الشافعي أنه قال: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ومما أوحي به إليه.
وأما الواشمة فهي التي تغرز إبرة بشيء من زينة أو حبرٍ أو صفرة أو زرقة أو غير ذلك ثم تغرسها في الجلد من أجل أن تتجمد تحت الجلد، ويصبح بعد ذلك نقاط ورسمات معينة.
والمتفلجة للحسن التي تأخذ المبرد إذا صارت عجوزاً، لكي ترقق أسنانها، فإن المرأة إذا كبرت التصقت أسنانها ببعض، فإذا أرادت أن تظهر أنها صبية فتية تأتي فتباعد ما بين الأسنان، فترققها وتبردها لتظهر الحسن بذلك، هذه هي المتفلجة، من الفلج وهو المباعدة.
فقالت المرأة: كيف تلعن هؤلاء؟ فقال عبد الله بن مسعود : هؤلاء لعنهن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولعنتهن مذكورة في القرآن، فقالت أم يعقوب : كيف تقول: إن الله لعن هؤلاء، وأنا قرأت ما بين لوحي المصحف من أوله إلى آخره، فما وجدت أن الله لعن نامصة ولا متنمصة، ولا متفلجة ولا واشمة؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو قرأتيه لوجدتِ ذلك فيه، قالت: وأين ذاك؟ قال: أما قرأتِ قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟ قالت: بلى! قال: فرسول الله عليه الصلاة والسلام لعن من فعل هذا، فإذاً من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام كأنما لعنته ذكرت في القرآن؛ لأن الله قال لنا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
فقالت أم يعقوب : يا عبد الله ! بلغني أن أهل بيتك يفعلون هذا، أي: زوجتك، تفعل النمص، والوشم! فقال عبد الله : ادخلي فانظري أيوجد فيها نمص أو وشم، أو تباعد ما بين أسنانها، فدخلت وخرجت فلم تر شيئاً، فقال عبد الله بن مسعود : لو فعلت ذلك لما جامعتها، لأنها ترتكب كبيرة، وتحصل لعنة، ومثل هذه لا يصلح أن تعاشر، بل تطلق وتفارق، ولا خير في صحبتها.
إذاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: هذه السنة مذكورة في القرآن، مع أنها ما ذكرت بهذا اللفظ، لكن بما أن القرآن قال لنا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، فما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام فهو حق ووحي، إذاً: هذه اللعنة كأنه نص عليها في القرآن.
وخلاصة القصة: أن الإمام الشافعي عليه رحمة الله عندما حج وجلس في فناء زمزم قال: سلوني، فلا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم عنه بكتاب الله جل وعلا وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تسألوني عن شيء إلا أجيبكم عنه بالكتاب والسنة، فقام بعض المتنطعين الذين يريدون أن يحرجوا هذا الإمام الكبير، فقال: أخبرنا عن قتل الزنبور إذا قتله المحرم، والزنبور بضم الزاي، ذباب لساع وهو معروف يزيد على النحلة في الحجم، وإذا طار له صوت، وإذا لدغ الإنسان فلدغته فوق لدغة النحلة ودون لدغة العقرب، كأن الرجل يقول: هاتِ آية وحديثاً في الجواب على هذا السؤال، وأنت تقول: سلوني، ما تسألوني عن شيء إلا نبأتكم عنه بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فتبسم الإمام عليه رحمة الله وقال: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، لكن لا يوجد في السنة جواب لحكم هذه القصة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي
وهذا الحديث الذي استدل به الإمام الشافعي عليه رحمة الله: (اقتدوا باللذين من بعدي )، حديث صحيح، كنت ذكرته في موعظة سابقة رواه الإمام أحمد والترمذي ، وسيأتينا في السنن إن شاء الله، ورواه الإمام ابن ماجه والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية وإسناده صحيح كالشمس، من رواية حذيفة بن اليمان ، وروي عن غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وبينت هناك أن منزلة أبي بكر وعمر من النبي عليه الصلاة والسلام كمنزلة السمع والبصر، كما ورد هذا في معجم الطبراني الكبير من رواية عبد الله بن عمرو ، ورواه الترمذي والحاكم في المستدرك من رواية عبد الله بن حنطب ، والحديث صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال عندما رأى هذين الصحابيين المباركين أبا بكر وعمر قال: (هذان السمع والبصر).
وورد في تاريخ بغداد بإسناد صحيح من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (
أن السنة وحي كالقرآن إلا أن لها حالات مع القرآن، هذه الأحوال يمكن أن تجمل في ثلاثة أمور لا تخرج السنة عنها، وانتبهوا لها، فمعرفتها ضرورية:
( أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليس بالذي تعنون )، هذه سنته الموضحة للمراد: ( ليس بالذي تعنون، إنما الظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح
إذاً: هنا السنة وضحت المراد وأظهرته، وأزالت الخفاء ودفعته، ودفعت اللبس ونفته، فظهر المراد من الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، يعني: بشرك، وهكذا قول الله جل وعلا: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:78-79]، فقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) من الذي سيشهده؟ الجواب: جاءت السنة وبينت من سيشهد صلاة الفجر، وهنا لفظ ورد لا بد من تفسيره، فسره نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد يتساءل الإنسان عند تلاوة هذه الآية: من يشهد صلاة الفجر؟ من يحضرها؟ (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[الإسراء:78]، ثبت في سنن الترمذي من رواية أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( عندما تلا نبينا عليه الصلاة والسلام هذه الآية: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار )، إذاً الملائكة التي تنزل لمراقبة العباد وضبط أحوالهم، ويتعاقبون عليهم ليل نهار، يجتمعون جميعاً في صلاة الفجر، فإذا نزلت ملائكة النهار الموكلة بحفظك في النهار، وتريد ملائكة الليل أن تعرج إلى الله لا تعرج إلا بعد صلاة الفجر، وملائكة النهار تنزل قبل صلاة الفجر، فتجتمع الملائكة بأسرها الموكلة عليك نهاراً وليلاً في صلاة الفجر.
إذاً: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وأصل الحديث ثابت في المسند والصحيحين وسنن ابن ماجه والنسائي وموطأ الإمام مالك من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم جل وعلا، فيسألهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون )، إذاً: كان مشهوداً تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وهذا كما قلت: حديث له صلة بالقرآن أنه وضح المراد من الشهود وأنه شهود ملائكة الليل والنهار لصلاة الفجر التي يقوم بها عباد الله الأبرار.
مثال آخر: قول الله جل وعلا: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، في سورة الزلزلة والزلزال: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم وشعب الإيمان للإمام البيهقي بإسناد صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتدرون ما أخبارها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها من خير أو شر )، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، يعني: تشهد بما وقع عليها وعمل على ظهرها، ورحمة الله على من قال:
العمر ينقص والذنوب تزيدُ وتقال عثرات الفتى فيعود
وهل يستطيع جحودٍ ذنب واحدٍ رجلٌ جوارحه عليه شهود
فالأرض تحدث أخبارها وتشهد بما عملت على ظهرها، وجوارحك التي باشرت المخالفة فيها وبها تشهد عليك، فكيف ستنكر وأين ستفر؟ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، إذاً وضح هذا التحديث بكلام نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الصحيح، وأزيل اللبس، ونفي الخفاء عن كلام الله جل وعلا الذي قد يستشكله بعض الناس ولا يظهر له المراد، وهذا كما قلت: يدخل في بيان السنة للقرآن، وهو من النوع الثاني من أنواع صلة السنة بالقرآن.
أما بالنسبة للآية التي في سورة لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان، هل نزلت بعد آية الأنعام؟
هذا الذي يظهر -والعلم عند الله جل وعلا- كما في رواية البخاري وفي أصح الكتب بعد كتاب الله: لما شق ذلك على الصحابة وعرضوا حالهم على النبي عليه الصلاة والسلام، يقول عبد الله بن مسعود : فأنزل الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
ولمزيد من الإيضاح أقول: لما نزلت آية لقمان وقرأها النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه فصارت معلومة عندهم، ثم نبههم إلى دفع الإشكال، فقال لهم: ( ليس الظلم بالذي فهمتموه )، وهو مطلق المعاصي والمخالفات، ( الظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] )، يعني: في الحالة التي بلغتكم إياها آنفاً، وقريباً وحديثاً، وتلوتها عليكم، يعني: فالجمع كما قال الحافظ: ألم تسمعوا، يشير إلى أنها نازلة، وقول عبد الله بن مسعود ، يقول: فأنزل الله، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: الجمع بين الروايتين: هم عندما شق عليهم وعرضوا أمرهم على النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: ( يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ )، فقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ( ليس بالذي تعنون )، فما ينبغي أن تشق عليكم هذه الآية، وتظنوا أنكم كلفتم ما ليس في وسعكم وأنه لن ينجو أحد منكم في الآخرة ولن يكون مهتدياً في الدنيا! لا، إنما الظلم هو الشرك، كما سمعتم مني آنفاً -قريباً حديثاً- في الآية التي نزلت، وهي: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هذا جمع الحافظ ابن حجر بين الروايتين، والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً: النوع الثاني من أنواع صلة السنة بالقرآن هو: تفسير وإيضاح وبيان لشيء قد يشكل، ولا يتضح لبعض الناس، فيوضح المراد منه، فيدخل في هذا النوع: تقييد المطلق وتخصيص العام، وتفصيل المجمل وغيرها.
فالسنة لم تخرج عن دائرة القرآن، بل وضحت المراد وأظهرته، فهي إما قصرت العام على بعض أفراده، وإما حددت المطلق ببعض أفراده، وأخرجت بعض أفراده، إلى غير ذلك فمثلاً: قول الله جل وعلا في سورة النساء بعد أن ذكر المحرمات من النساء في النكاح: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23].. إلى أن قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]، السنة جاءت إلى هذا الإطلاق فقصرته وأخرجت منه بعض الأفراد، فلم يذكر في الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، ولا الجمع بين المرأة وخالتها، إذاً: الذي ذكر في الآية تحريم نكاح المرأة وابنتها، وتحريم الجمع بين الأختين، إلى آخر المحرمات، ولا يجوز بالنسبة للأم وابنتها أن تتزوج بهما لا بحال الجمع ولا بغير الجمع، يعني: لو دخلت بالبنت حرمت عليك الأم، ولو عقدت على البنت حرمت عليك الأم، ولو دخلت بالأم حرمت عليك البنت، أما لو عقدت على الأم عقداً دون دخول فلا تحرم عليك البنت إلا بالدخول بالأم، ولو ماتت أو طلقت واحدة منهما لا يجوز أن تنكح الثانية، إنما ذكر الله الجمع بين الأختين: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، هذا الذي حرم الله علينا في آية المحرمات من النساء، ولم يذكر: وأن تجمعوا بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فإذاً: هذا الإطلاق وهذا العموم في قوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، يبيح لك أن تتزوج امرأة وعمتها، وامرأة وخالتها، وأن تتزوج امرأة وبنت أخيها، وامرأة وبنت أختها، هذا ظاهر القرآن، فجاءت السنة الصحيحة الصريحة وأخرجت هؤلاء النسوة الأربع وحرمت الجمع بينهن، فلا يجوز أن تجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها.
والحديث بذلك ثابت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة، ورواه الإمام مالك في الموطأ والدارمي في السنن، وهو في أعلى مراتب الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين أربع نسوة: بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها )، إذاً: هذا الإطلاق وهذا العموم يخص منه هؤلاء النسوة، وهؤلاء الأصناف فيخرجن، وما عدا هذا يبقى في قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، قال الإمام الترمذي في سننه: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم خلافاً، بأنه لا يجوز أن تنكح المرأة وعمتها بأن يجمع بينهما، وكذا المرأة وخالتها، مع أن هذا لم يذكر في القرآن، فهذا العموم وذلك الإطلاق كما قلت: خص بالسنة، فخرج منه هؤلاء الأصناف الأربعة: المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء التاسع صفحة: (190): وقالت طائفة من الخوارج والشيعة: يجوز أن نجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وهذا من ضلالهم وإفكهم، ومخالفتهم لما ثبت وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قول الله جل وعلا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، لفظ (السارق) من صيغ العموم كما قال أئمتنا، إذاً: دخل في هذا كل من سرق أي شيء فهو سارق، كل من سرق مهما سرق فهو سارق، حتى من سرق سواكاً مثلاً فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، هذا ظاهر القرآن، فجاءت السنة وبينت أن المراد من هذا العموم خصوص السرقة التي تبلغ نصاباً، فإذا سرق شيئاً لم يبلغ نصاباً محدداً فلا قطع عليه، فقد ثبت في المسند والكتب الستة ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، ورواه أبو داود الطيالسي والحديث مروي في أكثر كتب السنة كسنن الدارقطني والبيهقي وغيرها من المصنفات عن أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً )، وفي بعض الروايات: ( لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً )، إذاً: لا يكون القطع حتى يسرق مقدار النصاب، وهو ربع الدينار، والدينار يزن قرابة أربع غرامات ونصف، وربع الدينار تقريباً غرام ذهبي، والغرام الذهبي الآن يصل لحدود خمس وأربعين ريالاً، وعليه لو سرق خمسين ريالاً الذي هو ربع الدينار غراماً وشيء قليل، وربع الغرام أن يسرق بحدود خمسين ريالاً تقطع يده، وعليه من سرق ما دون ذلك فلا قطع عليه، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)، (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار).
وهكذا سرقة كل شيء قل أو كثر، سواء كان في حرز أو يدخل في عموم الآية، ولكن بينت السنة -كما سيأتينا عند مدارسة السنن للترمذي - أنه لا بد من كون المسروق في حرز، فإذا سرقت شيئاً ليس في حرز فلا قطع.
إذاً: هذا كله كما قلت: تخصيص لذلك العموم، هنا عموم السرقة ومطلق السرقة ينبغي أن يصان فيها هذا الحد وهو القطع، فجاءت السنة وخصت هذا بما قيمته نصاب، وهو ربع دينار فصاعداً، هذا كله من النوع الثاني من أنواع صلة السنة بالقرآن.
القسم الأول: موافقة مقررة مؤكدة.
القسم الثاني: موضحة مبينة مفسرة.
القسم الثالث: مضيفة زائدة، زادت حكماً على ما ورد في القرآن، كل هذا وحي من ذي الجلال والإكرام، وكما نعمل به إذا كان في القرآن فإننا نعمل به إذا ورد في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.
كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي في سننه، وسيأتينا عند مدارسة كتابه إن شاء الله، ورواه أبو داود في السنن أيضاً، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته في الجزء الثاني صفحة ست وخمسن، ورواه الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه، وأذكر الحديث ثم أبين درجته -فقد جرى حوله كلام- ثم أختم الكلام على هذا الحديث بإذن ربنا الرحمن.
لفظ الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( عندما بعثني النبي عليه الصلاة والسلام وأرسلني إلى اليمن قاضياً، فقال لي: يا
والحديث احتج به الإمام ابن القيم وأطال النفس في إعلام الموقعين في الجزء الأول صفحة: (202)، فذكر قرابة صفحة ونصف في تصحيح هذا الحديث وتقريره، وسأقرأ عليكم كلامه إن شاء الله، كما صححه الإمام أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي في الجزء السادس صفحة: (72)، فبعد أن حكى خلاف العلماء في تصحيحه قال: والدين القول بصحته؛ فإنه حديث مشهور.
وصححه الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه في الجزء الثاني: (190)، وأطال الكلام في تقريره وتصحيحه، ونقل ما يرد كل دندنة حول هذا الحديث فقال: هذا الحديث تلقاه الكافة عن الكافة، كأنه يشير بذلك إلى أنه لا يبحث في إسناده؛ لأن هذا منقول من قبل العلماء جيلاً عن جيل وطبقة عن طبقة، وجماً عن جم، فهو في غنية عن البحث عن إسناده، مهما كان هناك كلام حول الإسناد فلا قيمة له، تلقاه الكافة عن الكافة، وذكر أحاديث كثيرة نظائر لهذا الحديث جرى كلام حولها، لكن تلقاها الكافة عن الكافة فعمل بها، وما أثر كلام بعض الناس فيها، والحديث صححه الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تعلقيه على جامع الأصول، والشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على شرح السنة، ومال إلى قبوله وتصحيحه واعتماده شيخنا المبارك عليه رحمة الله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه في صفحة ثلاثٍ وثلاثين، فبعد أن ذكر أن في إسناد الحديث ضعفاً لوجود مجهول فيه كما سيأتينا، قال: ومثل هذا الحديث تلقاه العلماء بالقبول فلا حاجة إلى البحث عن إسناده.
والإمام السخاوي عليه رحمة الله في فتح المغيث يقرر قاعدة ينبغي أن ترسخ في أذهاننا فاضبطوها وعوها، في الجزء الأول صفحة: (268)، ولو رحل الإنسان إلى الصين كما كان يقول أئمتنا في تحصيل هذه القاعدة لما كان كثيراً!
يقول: الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول ينزل منزلة المتواتر، أورد هذا عند شرح كلام الإمام شيخ الإسلام عبد الرحيم الأثري في ألفيته:
وسهلوا في غير موضوع رووا من غير تبيين لضعف ورأوا
بيانه في الحكم والعقائدِ عن ابن مهدي وغير واحد
يقول الإمام السخاوي في صفحة: (268) في الجزء الأول: وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح، حتى إنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في حديث: ( لا وصية لوارث )، إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به، حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية، في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا وصية لوارث )، حوله كلام، وبعض العلماء يضعفه، يقول الإمام الشافعي : تلقته الأمة بالقبول، فيعمل به، وعليه ( لا وصية لوارث ) نسخ قول الله جل وعلا: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، فكان قبل ذلك يجوز للإنسان أن يوصي للوالدين، ثم نسخ هذا، فلا يجوز أن توصي لوارث، فكل من يرثك عند موتك لا يجوز أن توصي له بشيء من مالك، فلا يجتمع إرث ووصية.
إذاً: تلقي الحديث الضعيف بالقبول يعمل به وينزل منزلة المتواتر.
وهذا الحديث موجود في سنن البيهقي في الجزء العاشر صفحة: (114-115)، وأورد الإمام النسائي لهذا الحديث الموقوف على عبد الله بن مسعود نظيراً من كلام عمر رضي الله عنه: أنه كتب بذلك إلى شريح ، فكتب: عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله عن أمر القضاء، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض به بما قضى به الصالحون، وإن لم يكن في كتاب ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك، والسلام عليكم.
وكذا أورده الإمام البيهقي وأورد أيضاً في السنن أثراً آخر عن صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فيه هذه الدلالة؛ وهو أن الإنسان يقضي بما في كتاب الله، فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجد ينظر هل قضى الصالحون قبله بشيء؟ فذلك القضاء إذاً يقضي به، وإلا يجتهد رأيه ولا يقصر، ويقيس النظير بالنظير، وشريعة الله دلت على التسوية بين المتماثلين والتفرقة بين المختلفين، فيبحث إذاً عن المتماثلات ويلحقها بحكم واحدٍ فيما نص عليه، والعلم عند الله جل وعلا.
على كل حال، قال أئمتنا في الرد عليه: القياس الذي هو في معنى الأصل إذا كانت العلة متساوية لا ينكره إلا مكابر جاهل، وعندما تبنى ابن حزم هذا الأمر وقال: القياس جاء، وأراد أن ينسف هذا الحديث، وجد له من بعض الأئمة المتقدمين كلاماً حول هذا الحديث، كالإمام البخاري وغيره فيما يتعلق بإسناده، لوجود راوٍ مجهول فيه، وهو الحارث بن عمرو عن رجال، وهم أصحاب معاذ كما سيأتينا الحديث في سنن الترمذي عن معاذ ، فقالوا: أصحاب معاذ مجهولون، الإمام ابن القيم يقول: لا! هؤلاء هم من الشهرة بمكان، وهذا أعلى مما لو سميناهم بأعيانهم، فهم أئمة ثقات كثيرون عبر عنهم بهذه الصيغة.
أما الأمر الثاني: وهو أن الحارث بن عمرو كما قال الحافظ في ترجمته: من رجال أبي داود والترمذي مجهول، لكن في الإسناد شعبة ، وأئمتنا يقولون: إذا وجدت شعبة في الإسناد فاشدد يديك به، وإذا كان الحديث بانفراده فيه ضعف، إلا أنه وجد له شواهد تقويه وتدل عليه من كلام أبي بكر وعمر وعبد الله بن مسعود كما أن الحديث المرسل إذا أفتى بموجبه صحابي صحح المرسل مع أنه ضعيف في الأصل! فثلاثة من كبار الصحابة يخبرون بأسانيد ثابتة عنهم بمثل ما هو ثابت في هذا الحديث، فهو وإن كان على انفراده ضعيفاً فقد وجد ما يشهد له فيتقوى.
فهذا الحديث لا يفرق بين السنة والقرآن، فالسنة ينظر فيها كما ينظر في القرآن، لكن أقوى الأدلة كلام الله حتماً، يعني: إذا قال لك قائل وسألك سائل: هل يجوز نكاح البنت؟ ماذا تقول؟ يعني: هل يجب أن ترجع إلى السنة أم تقول مباشرة: قال الله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23]؟ أوليس كذلك؟ وإذا جاءك أمر ليس في القرآن كالجمع بين المرأة وعمتها، قل: هذا لم ينص عليه في القرآن نبحث في السنة: ( نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها )، لكن ما نص عليه في القرآن نأخذه من القرآن، فهذا دليل أقوى؛ لا لأن السنة غير معتبرة، ومن قال هذا فهو ضال لا يعظم النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمن بأحاديثه! بل حديثه معتبر، لكن الأدلة تتفاوت، ( فإن عرض لك القضاء فاقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فاقض بما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم تجد فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم تجد فاجتهد وألحق النظير بالنظير )، حول هذا الحديث شيء من الكلام، أقرأ تتمته إن شاء الله في أول الموعظة الآتية بعون الله، ومن كلام الإمام ابن القيم ، ثم أكمل هذا المبحث بعون الله جل وعلا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر